العمال الصناعيون في الجزائر: ممارسات و تمثلات. دراسة ميدانية بثلاث مؤسسات صناعية بمنطقة طرارة*

إنسانيات عدد 34 | 2006 |الرياضة. ظاهرة وممارسات | ص61-73 | النص الكامل


Mourad MOULAY HADJ : Université d’Oran, 31 000, Oran, Algérie
Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie


 

I. المقاربة النظرية والبعد الإشكالي للدراسة

كان من المفيد في المقام الأول تقديم النظرية التي كانت سندنا العلمي في أبحاثنا السابقة في إطار دراستنا الأكاديمية. وقد عُرفت هذه النظرية باسم "حداثة الفرد"Individual Modernity) )، والتي قامت على الاعتقاد بأن المؤسسة الصناعية لها القدرة على تلقين القيم الجديدة والتمثلات الحديثة للعمال الصناعيين لتحل محل القيم الثقافية لبيئتهم الاجتماعية لتصنع منهم "أفراداً عصريين". لقد طور هذه النظرية كل من ألكس إنكلس (Alex Inkeless) ودافيد سميث (David Smith) في الولايات المتحدة الأمريكية على ضوء البحوث الميدانية التي أجراها في ستة دول من الدول السائرة في طريق النمو. وكان هذان الباحثان يعتقدان أن للتصنيع نفس التأثيرات على حياة العمال مهما كانت بيئتهم الجغرافية والاجتماعية والثقافية، تعمل على تدمير خصوصياتهم القديمة (التقليدية).

لقد ساهمت مقاربات هذه البحوث في تطوير نظرياتهما حول المؤسسة منظوراً إليها كمدرسة للتحديث في البلدان السائرة في طريق النمو، باعتبار أن هذه المؤسسة ستعمل على إجبار العمال على احترام عدد من معايير وقواعد العمل الصناعي، وهذا يوميا ولمدة خمسة إلى ستة أيام في الأسبوع ولفترة تمتد إلى سنوات عديدة مما يجعل العامل نفسه مضطراً للتكيّف معها.

وفي محاولتنا لاختبار هذه النظرية في المؤسسة الصناعية الجزائرية في نطاق دراستنا لآثار التصنيع في منطقة الغزوات توصلنا إلى نتائج مخالفة للرؤية الميكانيكية للتغيرات التي كانت تحملها هذه النظرية. ومن جملة المآخذ التي نسجلها على هذه النظرية هو إغفالها لظروف البيئة المحيطة بوجود المؤسسة الصناعية، وأن الوسط الاجتماعي بما يحمله من ثقافة وتاريخ ونمط العيش وأسلوب الحياة سيؤثر على المؤسسة في الاتجاه المعاكس، وأنه غير مستعد للتخلي بصورة آلية، عن مكانه ليحل محله منطق آخر وثقافة أخرى بديلة.

غير أن هذه الخلاصة لا تعني أن المجتمع كيان ثابت، لا يلحقه أي تغيير، بل بالعكس من ذلك تماماً، إنه عاش تغيرات وتحولات مست خصائصه وبعض عناصر مكوناته بهذا القدر أو ذاك، ولكن ليس إلى حد الذوبان وفقدان الهوية. كما أن المؤسسة الصناعية عرفت هي الأخرى تغيرات أثرت على بعض جوانبها. و لذلك نرى أنه من المفيد دائما مراجعة فرضية التعلم الثقافي في ظل العمل الصناعي برؤية جديدة. إن العودة إلى هذه الأطروحة يقودنا إلى الاستعانة بالمقاربة التي طورها سان سوليوR. Sainsaulieu)) في دراسته لثقافة المؤسسة.

تعتبر المؤسسة في تصور سان سوليو R. Sainsaulieu)) فضاء لتغيير الهويات الفردية وخلق هوية جماعية يتأسس انتماؤها على هوية مهنية حيث تُكتسب فيها القواعد والقيم والتمثلات التي ستعمل على هيكلة أشكال التضامن بين أعضاء المؤسسة وعلاقاتهم في العمل على حد سواء. إن هذه الخلاصة لا تختلف في شيء عن تلك التي قدمتها نظرية الحداثة الفردية، أو تلك التي شرحها وتوسع فيها كلود دوبار C. Dubar)) حول دور المؤسسة الصناعية في التنشئة الاجتماعية.

غير أن هناك فريقا من الباحثين يعترض على مفهوم ثقافة المؤسسة، ومن بينهم إيفت لوكYvette Lucas) ) الذي يرى أن هناك عدداً كبيراً من العناصر الخارجية التي تعمل على هيكلة الحياة الاجتماعية للعمال والتأثير عليها، ويمكن اعتبار تلك العناصر كأدوات مولّدة لثقافة خاصة داخل المؤسسة، مثل التشريعات والانتماء الطبقي، والنضال العمالي.

 تتيح لنا مناقشة هذه الأطروحة، تسجيل عدد من الملاحظات التي نعتبرها متناقضة مع تصورات لوكا (Y. Lucas) . إنه من الصعوبة بمكان تبني مفهومي الثقافة العمالية والصراع الطبقي اللذان يدخلان في نزاع مع ثقافة المؤسسة، ذلك أنهما لا يكشفان عن حقيقة التغيرات البارزة التي تحدث في عالم الشغل بصفة خاصة، والمجتمع بصفة عامة. تشكل معدل البطالة وندرة العمل والنزوع نحو الفردانية، كلها عوامل تفرض على العامل اكتساب تمثلات جديدة حول العمل والمؤسسة. فمؤشرات العمل الجديدة هذه تولّد لدى العامل إحساساً بالتبعية تجاه المؤسسة. ومن الواضح أن هذه التغيرات ستتفاقم بفعل توسع النظام الرأسمالي بفعل العولمة وتطور النزعة الفردية.

لقد عملت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي عرفها المجتمع على جعل المؤسسة الاقتصادية تبدو كقيمة ذات دلالة كبيرة في حياة الأفراد في مجال تشكيل تمثلات ورؤية جديدة للذات وكذا تصورات جديدة لوقت العمل ووقت الفراغ. "إن من النتائج الواضحة للأزمة هو تعزيز مكانة المؤسسات الصناعية في الحياة اليومية، في حين أن النمو يسمح بإبراز أكثر لقيمة عناصر الحياة الاجتماعية خارج مجال العمل"[1].

تبرز لنا هذه القراءة المكانة الهامة لمفهوم ثقافة المؤسسة في بحوث أنثروبولوجيا العمل، وأنه من المفيد، تبعا لذلك، إجراء المزيد من الدراسات والبحوث الميدانية حول المجتمعات السائرة في طريق النمو، لمعرفة وفهم آثار المؤسسة على أعضائها ودورها في خلق تمثلات جديدة حول عملهم داخل المؤسسات التي يشتغلون في كنفها ومجتمعاتهم التي يعيشون فيها.

فمسألة التعلم الثقافي أثناء العمل تسمح لنا بتوضيح عدد من المفاهيم الكفيلة بحصر موضوع بحثنا. ومن ضمن هذه المفاهيم مفهومي التمثلات الاجتماعية والمهنية، ومفهوم الممارسات كمثال عن الاهتمامات الرئيسية للعمال والتي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار في هذه الدراسة.

ليس هناك وجود بشري بدون وجود تمثلات ملازمة لهذا الوجود. فالتمثلات تقود أعمال وممارسات البشر وتوجهها. وترى جودليJodelet ) ) في هذا السياق أن التمثلات "هي شكل من أشكال المعرفة، منتجة اجتماعياً ومقتسمة، تستهدف غاية عملية وتسعى إلى بناء واقع مشترك لمجموعة اجتماعية "[2]. فهي تلعب دوراً أساسياً في ديناميكية العلاقات الاجتماعية وفي الممارسات الاجتماعية للأفراد، تنطوي على وظيفة معرفية وإدراكية، ذلك أنها تمكننا من إدراك وفهم الواقع. فهي تعكس صورة وخصوصية الجماعة الاجتماعية. "تسمح بتشكيل هوية اجتماعية وشخصية مبنية على تقدير الذات، أي متوافقة مع منظومة القيم والمعايير المحددة اجتماعياً وتاريخياً"[3].

من هنا تبرز أهمية وفائدة تحليل تمثلات وممارسات العمال الصناعيين، مع الأخذ بعين الاعتبار عاملين اثنين سيكون لهما تأثير على التمثلات، ونعني بهما محيط الحياة الاجتماعية وتأثير التنشئة الاجتماعية الأولية، ودور التعود أو الهابتيس ·Habitus)). ويعني هذا المفهوم وجود عادات مكتسبة اجتماعياً متجذرة في أعماق الوجدان الاجتماعي تعمل على توجيه خيارات الأفراد في أذواقهم ومعاملاتهم، وبصفة عامة تعمل على تشكيل تمثلاتهم، ولكن حسب ذهنية وخصوصية المسارات الخاصة بكل فرد. ومن هنا فإن لكل عامل خصوصية بيوغرافية، ذاكرة وشخصية، يستعين بها أو تكون دليله أثناء تواجده داخل المؤسسة الصناعية أو خارجها.وبالتالي عندما ينتقل الفرد ليعمل في المؤسسة فإنه ينقل معه ممتلكاته السوسيو ثقافية أو ما يسمى (Habitus)[4].

غير أن التعلم الثقافي، كما تصوره (Sainsaulieu) هذه المرة، يمثل عاملاً آخر سيؤثر على تمثلات العمال وممارساتهم ويوجهها، بفعل عملية تلقين معايير وطقوس وقواعد جديدة للعمل الصناعي[5]. أخذنا بعين الاعتبار في بحثنا هذا، مجالين من الحياة الاجتماعية: المجتمع والمؤسسة لفهم تمثلات وممارسات العمال الصناعيين في الجزائر، مع اعتبارهما مجالين متغيرين وليس ثابتين.

لقد عرفت نهاية الثمانينات بروز نظام سياسي جديد، شهدت فيه انفتاحاً سياسياً عن طريق إقرار مبدأ التعددية الحزبية والإعلامية، وتبني الإصلاحات الاقتصادية تمثلت في إعادة هيكلة المؤسسات وإدخال مبدأ استقلالية التسيير لمواردها. لقد عبّر العديد من العمال والإطارات من مخاوفهم من الإصلاحات التي مست مؤسساتهم الصناعية من أن يروا مصيرها الغلق ومعها تسريحهم من مناصب عملهم، بحجة الخصخصة وتطبيق قواعد المنافسة و المردودية التي يقتضيها خيار اقتصاد السوق الحر. وقد تولدت عن هذه المرحلة علاقات عمل جديدة داخل المؤسسة وممارسات و تمثلات جديدة لدى العمال الصناعيين.

وعلى الرغم من هذه التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي عرفها المجتمع، فإن المؤسسة العمومية بقيت شكلاً سائداً في بعض مناطق البلاد محاولة أن تلعب دوراً جديداً في المنظومة الاقتصادية للسوق المبني على المنافسة والمردودية ونوعية العمل وفعاليته.

في تقديرنا أن هذه التغيرات تحتاج منا إلى عناية خاصة، لما تحمله من نشر قيم جديدة لم تكن موجودة في المجتمع إبان فترة المؤسسات العمومية التي كانت تهيمن فيها الوظيفة الاجتماعية على حساب الوظيفة الاقتصادية. فالبطالة وندرة مناصب العمل وتدني مستوى المعيشة ستشكل العوامل الأساسية في إعادة النظر في نظريات الماركسية وبالأخص مفهوم "الطبقة العاملة"، وستعمل على نشر وتعميم نوع معين من الثقافة ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي اللصيقة بالنزعة الفردية لدى العمال. فكل القيم المرتبطة بمفهوم "الجماعة" التي صنعت الهوية الجماعية وما تحمله من معاني التضامن صارت، في ظل سيادة منطق اقتصاد السوق، مشبوهة ومفككة[6].

ومن هنا وجب القيام ببحوث سوسيولوجية و أنثروبولوجية لتعميق فهمنا لآثار التحولات على العمال الصناعيين كفاعلين أساسيين في منظومة المؤسسات الصناعية العمومية. وفي هذا السياق، تفرض التساؤلات التالية نفسها:

هل لا زالت الفئات العمالية تحمل خصائص ومواقف و تمثلات قديمة التي كشفت عنها البحوث السوسيولوجية السابقة؟ ما هي المواقف والممارسات والتمثلات لهؤلاء العمال الصناعيين الذين عايشوا هذه التحولات في المجتمع وداخل مؤسساتهم تجاه مظاهر الحياة اليومية (العمل، المؤسسة الصناعية، الاقتصاد والمجتمع)؟

تشكل المؤسسات الصناعية وعمالها في منطقة طرارة مثالاً مصغراً لما يحدث في المجتمع. تسمح لنا هذه الدراسة بمعرفة تأثير النسيج الصناعي على الحياة الاجتماعية والثقافية للعمال بمنطقة طرارة. تستهدف، من خلال عينة من العمال الصناعيين، معرفة المسار المهني والاجتماعي للعمال كفاعلين شاهدين ومشاركين في الخيارات السياسة الاقتصادية منها القديمة (ما بعد الاستقلال) والجديدة منها (نهاية الثمانينات)، بما أنهم يعتبرون فاعلين أساسيين داخل المؤسسة الصناعية وفي التغيرات التي عرفها المجتمع. يقولBouvier ) (:"بالأمس مثل اليوم، وإن كان هناك اختلاف في الزمن، تأثير العامل الإنتاجي لا يتوقف عند بوابة المصنع، بل يواصل في تحديد ممارسات وتمثلات اجتماعية للحياة المدنية"[7]. إلى أي حد كان العمل الصناعي عاملاً أساسياً في تغيير المواقف والممارسات والتمثلات الاجتماعية؟

هذه التساؤلات أدت بنا إلى طرح فرضيتين أساسيتين:

ستقوم التغيرات التي شاهدتها المؤسسة الصناعية العمومية في الجزائر على تطوير علاقات عمل جديدة: فالتجربة التي اكتسبها العمال في مجال الصناعي ستسمح لهم باتخاذ ممارسات جديدة في بيئة العمل وتطوير مواقف جديدة تجاه العمل والفئات الاجتماعية والمهنية داخل المؤسسة الصناعية بصفة عامة.

إن العمال الصناعيين يقومون بتطوير تمثلات اجتماعية جديدة في حياتهم اليومية تجاه المجتمع المدني: إن هؤلاء يملكون تمثلات جديدة تجاه التغيرات السوسيو-ثقافية في مجتمعهم المحلي ويطورون تمثلات اجتماعية وممارسات جديدة التي تسمح لهم أن يكونوا فاعلين اجتماعيين في المجتمع.

2. المنهجية المتبعة في الدراسة

قد فرضت مقاربة العمل الصناعي ومصير العمال الصناعيين بعد التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي عرفها المجتمع الجزائري علينا الرجوع مرة أخرى إلى حقل بحثنا السابق·. وعليه، من الضروري مراجعة هذا المجال ومحاولة تحليل قوة المنظمات الصناعية في المنطقة المدروسة، لدراسة تغير المواقف والممارسات والتمثلات الاجتماعية للعمال الذين عايشوا هذه التحولات في مجتمعهم.

ومن أجل حصر موضوع دراستنا، ارتأينا القيام ببحث ميداني بمنطقة طرارة التي عرفت تحولات اقتصادية واجتماعية ظلت موضوعا خصبا في بحوث العلوم الاجتماعية. و هكذا قمنا باختيار ثلاث مؤسسات صناعية عمومية بهذه المنطقة، والتي تعد من أكبر وأحدث المؤسسات بالمنطقة نظرا لخصوصيتها الإنتاجية، وهي: مؤسسة الزنك (Alzing) و مؤسسة الخزف الصحي (سيراميغ Ceramig)، وهما مؤسستان تقعان بدائرة الغزوات وتشغلان 620 و 520 عاملاً على التوالي، أما المؤسسة الثالثة فهي مؤسسة (Soitine) التي تشغل 250 عاملاً والموجودة بدائرة ندرومة.

إن تجربتنا البحثية في نفس هذا المجال وترددنا المستمر على المؤسسات الصناعية بهذه المنطقة سهل لنا مهمة جمع المعطيات التي نحن بحاجة إليها، كما أن معظم الفئات العمالية أصبحت تعي المهمة التي نسعى من وراءها مما أتاح لنا فرصة تجاوز إلى حد ما عقبات ملء استمارات البحث أو إجراء المقابلات. و من هنا ونظرا لتمدد دراستنا خلال حقبة معينة من الزمن، فقد قمنا بزيارات عديدة لمجال البحث وإجراء مقابلات وتوزيع استمارات على العمال المنفذين على فترات.

فأول مجال بحث يتمثل في مؤسسة (Alzing) بالغزوات، وقد دام هذا التحقيق الميداني مدة أربعة أشهر من شهر مارس إلى جوان من سنة 1999، حيث تم اختيار عينة من المبحوثين تتكون من 131 مبحوث اختيرت بطريقة عشوائية وهي تعادل نسبة 25 بالمائة من مجموع العمال المنفذين بالمؤسسة المدروسة (أي 524 عاملاً منفذاً). ونظرا لمحدودية المستوى التعليمي للمبحوثين قد تمت عملية ملء الاستمارات عن طريق مقابلة المبحوثين. و هكذا وبعد مراجعة هذه الاستمارات قمنا بعزل عدد منها والتي رأيناها لا تفي بهدف بحثنا واكتفينا ب 114 استمارة قابلة للدراسة.

المجال الثاني لبحثنا يتمثل في مؤسسة(Ceramig) ، دام التحقيق ثلاثة أشهر من شهر مارس إلى شهر ماي من سنة 2001·. تم توزيع 114 استمارة على عينة اختيرت بطريقة عشوائية، بنسبة 30 بالمائة من مجموع العمال المنفذين بالمؤسسة والذي يعادل 380 عاملاً. وفي الأخير، استقر اختيارنا على 96 استمارة لمعالجتها في بحثنا هذا.

أما المجال الثالث لبحثنا فيتمثل في مؤسسة Soitine)) والمتواجد بمنطقة ندرومة، وقد تم إجراء بحثنا في مدة شهرين (أبريل و ماي 2003). وقد قمنا باختيار عينة عشوائية بنسبة 30 بالمائة من مجموع العمال المنفذين (180 عاملاً)، لنتحصل على العدد 54 وهو ما يمثل عدد الاستمارات التي قمنا بتوزيعها، وفي الأخير تم اختيارنا ل 50 استمارة قمنا بمعالجتها.

ومن هنا فإن مجموع العينة العشوائية التي قمنا بمعالجتها، والتي تمثل مجتمع العمال المنفذين بمنطقة طــرارة، والتي تعادل 260 مبحوثاً. فهذه الاستمارات احتوت على عدد كبير من الأسئلة ما يعادل 78 سؤالاً بنوعيه المفتوح والمغلق. و هكذا قمنا بمعالجة المعطيات الكمية المحصل عليها، باستعمال البرنامج الإحصائي الخاص بالعلوم الاجتماعية (SPSS) والذي سهل لنا مهمة المعالجة الإحصائية والتي كانت معالجة بسيطة وغير معمقة نظراً لطبيعة ونوعية هذه الدراسة. إلا أن هذا البرنامج يبقى أحد التقنيات المهمة جداً من حيث التدقيق في النتائج والسرعة في انجاز الجداول الإحصائية سواء تلك الجداول البسيطة أو المركبة.

 و لإتمام جمع المعطيات اللازمة لبحثنا قمنا بالاستعانة بتقنية المقابلة كتقنية مكملة لتقنية الاستمارة، حيث قمنا بمقابلة 15 مبحوث موزعين على المؤسسات الثلاث المدروسة. وهذه المقابلات هي شبه موجهة تدور محاورها حول نظرة العمال تجاه عملهم، ومؤسستهم وتغيرات المجتمع، وكذا تمثلاتهم لعمل المرأة خارج البيت ومشاركتهم السياسية والجمعوية وجوانب أخرى تتعلق بالتغيرات السوسيو- ثقافية والسياسية.

و بالإضافة إلى هاتين التقنيتين، كانت تقنية الملاحظة تلازمنا في كل خطوات بحثنا الميداني، لما لهذه التقنية من أهمية منهجية في تفسير وتأويل بعض المعطيات المحصل عليها. "ففي المجتمعات الحديثة المسافة بين الملاحِظ والملاحَظ قصيرة جداً : الباحث السوسيولوجي يشارك المبحوثين المدروسين نفس المجتمع"[8]. كما أن طبيعة الموضوع جعلتنا نحرص على جمع وثائق خاصة بمجال البحث والتي لا شك أنها أفادتنا في تحليلنا.

ومحاولة منا الإحاطة بجوانب الموضوع المدروس، ومن أجل الاقتراب من التمثلات والممارسات الجديدة للعمال الصناعيين، رأينا أنه من الضروري معالجة بحثنا هذا في ثلاثة أبواب، وكل باب يحتوي على ثلاثة فصول.

3. النتائج المتوصل إليها

سعينا إلى دراسة التحولات في التمثلات والممارسات عند العمال الجزائريين بمنطقة طرارة والتي تمثل وجهاً من أوجه حياة وتاريخ المجتمع الجزائري. فالمقاربة الميكروية (المصغرة) لهذا المجتمع المحلي أغنت دراستنا من حيث المعطيات المحصل عليها في ميدان ظل محل اهتمام العديد من الدارسين في العلوم الاجتماعية قبل وبعد الاستقلال. وما يهمنا في هذا المضمار تلك التحولات التي عرفتها المنطقة من منطقة جبلية وريفية ذي أراضي زراعية، صغيرة، وغير سخية -مما أجبرت العديد من سكانها على الهجرة داخل البلاد وخارجها- إلى منطقة صناعية استقبلت مؤسسات صناعية استطاعت أن تقلب موازين القوى في هذا المجتمع.

و من بين الخصائص الاجتماعية للعمال المبحوثين التي توصلنا إلى معاينتها تتمثل في أن أغلبية المبحوثين تركت مقاعد الدراسة في وقت مبكر من حياتها، وهذا ما يفسر المستوى التعليمي المتدني لأغلبهم. فهذه الظروف دفعت بعمالنا إلى الالتحاق بسوق العمل المحلية من أجل إعالة أسرهم. إن أغلبيتهم متزوجون و لديهم أبناء وهذا ما شجعهم على الاستقرار في مناصب عملهم والاستفادة من إيجابيات العمل الصناعي، والذي كان بالنسبة لأغلبية المبحوثين عاملاً أساسياً في الحصول على نوع من الحراك الاجتماعي وكذا نوع من الترقية المهنية والاجتماعية.

يعد التحول الذي عرفه العمال في مسارهم المهني انقلاباً جذرياً في حياتهم، فأغلب المبحوثين منحدرين من وسط جغرافي مهني مرتبط بالعالم الريفي، و أصبحوا يمثلون العمالة الصناعية بالمنطقة. فذاكرتهم وتاريخهم المهني مرتبطان بأنشطة المحيط الريفي التقليدي من فلاحة وحرف تقليدية، إلا أن حصولهم على مناصب عمل في القطاع الصناعي جعلهم يحققون نجاحاً مهنياً لما يوفر لهم هذا القطاع من دخل قار وحياة اجتماعية أرقى.

لم تصبح تلك المؤسسات الصناعية قادرة على توفير مناصب عمل جديدة للفئات المقبلة على سوق العمل، فالعمال الذين تركوا عملهم بسبب التقاعد أو التسريح لم يعوضوا من طرف أولئك الشباب العاطل عن العمل والذين اتسع عددهم، في ظل ندرة العمل وتقلصه. و نظراً لهذه الظروف التي آل إليها سوق العمل الجزائري، فإن المبحوثين يسعون إلى الاحتفاظ بمناصب عملهم، فهم يدافعون عن استمرارية إنتاجية وتواجد مؤسستهم على الساحة الاقتصادية. فهذا التمسك بالمؤسسة لا يعني دائماً نوعا من الرضا عن العمل الذي يقومون به ولا يعبّر عن رضاهم بظروف العمل التي يعملون فيها، ولا على المستوى الأجور المحصل عليها، وإنما يعبّر عن هاجس الخوف من خطر البطالة والطرد من العمل.

فالمؤسسة الناجحة في نظر المبحوثين هي تلك المؤسسة التي تستطيع أن تحافظ عن مناصب عمل عمالها. ومن هنا فإن تمثلاتهم لعملهم مرتبطة بمدى استطاعة هذه المؤسسات على تلبية حاجاتهم ومتطلباتهم المهنية. فهم يشعرون بنوع من الاستقرار الاجتماعي نظرا للواقع الاقتصادي والاجتماعي التي تمر به البلاد من تفشي ظاهرة البطالة والفقر. و يربطون مصير مستقبلهم المهني بمصير مؤسستهم الصناعية، فتحسين وضعهم المادي وضمان الاستقرار في مناصب العمل أصبح، أكثر من أي وقت مضى، مرهونا بتحسين النتائج المالية لمؤسستهم. وعندما تعجز المؤسسة الصناعية، في نظر المبحوثين، على ضمان أجر يغطي متطلبات الحياة، فإن هناك قناعة عند المبحوثين بأن يقوموا بممارسة أعمال موازية من أجل تلبية حاجاتهم المتنامية.

ظهرت تمثلات جديدة، في ظل اقتصاد السوق، مرتبطة بتحول القيم الثقافية في المجتمع. فلم يعد اليوم، عند عمالنا، مجال للاختيار بين المهن والمفاضلة بينها، بل أصبح الهاجس الرئيسي هو الحصول على مصدر دخل مالي مهما كانت الأنشطة ومجالاتها (الفلاحة، الصناعة، الخدمات...).

أما إذا رجعنا إلى تمثلات عمالنا حول الفئات المهنية المشرفة عن عملية التسيير فنلاحظ أن المبحوثين يؤكدون على تلك الفوارق التي تتلخص في رأيهم في ظروف العمل والامتيازات المادية كالراتب الشهري. إلا أن هناك وعي عند العمال على أن للإطارات تكوين كاف يهيئهم لتحمل مسؤوليات كبيرة داخل المؤسسة الصناعية. وبالتالي فإن لهؤلاء الإطارات، حسب رأي المبحوثين، التجربة والمعرفة التقنية الضرورية للدفع بالمؤسسات الصناعية إلى الأمام وخروجها من أزمتها. فالنظرة الإيجابية للإطارات تبقى مرتبطة بمدى استطاعة هذه الفئة المهنية على إيجاد حلول للمؤسسة والرفع من إنتاجيتها وتسويق منتجاتها. ومهما كانت هذه التمثلات إلا أن المبحوثين يؤكدون دائماً عن وجوب احترام الإطارات للعمال المنفذين والدفاع عن حقوقهم.

تبقى تمثلات عمالنا للهيئة النقابية مرتبطة بالتحولات التي شاهدوها في مؤسستهم الصناعية، فالانضمام الفعلي للمبحوثين إلى النقابة يظهر في أيام الأزمات وهذا ما لاحظناه خلال إضرابات 1988 ونلاحظه في أيام تقلص مناصب العمل أو غلق المؤسسات الصناعية وطرد عمالها. وما عدا هذه الأزمات تبقى مشاركة العمال في النقابة قائمة على حسابات ضيقة تتمثل في الحصول على بعض المزايا المادية والاجتماعية. بينما تمثلاتهم للتمثيل النقابي تنحصر في كون أنه ليس هناك تمثيل فعلي، وهذا ما يجعل المبحوثين يشعرون بأن التمثيل النقابي والمؤسسة النقابية في الجزائر ظلت ضعيفة وغير مقنعة ما دام أنها حليفة السلطة والنظام السياسي.

وبناء على ما سبق نستطيع أن نستنتج أن أغلبية العمال المبحوثين بمنطقة طرارة تأثروا بالتحولات التي شاهدتها كل من مؤسساتهم الصناعية ومحيطها الاجتماعي. فنظراً للتجربة المهنية التي اكتسبوها في العمل الصناعي، استطاعوا أن يتبنوا ممارسات جديدة في ميدان عملهم من أجل الدفاع عن استقرار مناصب عملهم والحفاظ على مؤسستهم، وأن يطوروا مواقف جديدة حول الإطارات الصناعية والهيئة النقابية داخل مؤسساتهم.

أما التحولات التي طرأت على الوضعية الاجتماعية للمبحوثين فقد اعتبرت من طرف بعض من المبحوثين على أنها تشكل نوعا من الحراك الاجتماعي والمهني، فيشعرون بأن وضعهم المعيشي وحياتهم المهنية عرفت تطوراً مقارنة مع نمط الحياة الاجتماعية والمهنية لآبائهم وأجدادهم. أما البعض الأخر من المبحوثين لم يستطع أن يتقبل ذلك التحول فهم يحنون إلى تلك الحياة البسيطة المتصفة بالتضامن والقناعة في العيش. كما يؤكد طرف ثالث من المبحوثين على أن الحراك الاجتماعي صاحبه تغيرا في العلاقات الاجتماعية، وغياب الاحترام والرحمة بين الناس والتي كانت تعتبر من ميزات المجتمع التقليدي.

أما تمثلاتهم للتحولات في العلاقات الاجتماعية العائلية تجد مرجعيتها في عالم الآباء والأجداد، فيشعر المبحوثون بأن غياب الرحمة والتضامن وظهور النزعة الفردانية في المجتمع أثرت على درجة الملاقاة وتبادل الزيارات بين أفراد العائلة الواحدة. كما شكلت مسألة العلاقات بين الأبناء والآباء مجالا لاختلاف الرؤى بين المبحوثين، فهناك فئة استطاعت أن تجعل قطيعة بينها وبين تلك القيود القيمية ذات المرجعية التقليدية. فترى في أن التحولات التي شاهدها المجتمع فرضت ممارسات و تمثلات جديدة حول مسألة العلاقات بين الآباء والأبناء. أما الفئة الثانية من المبحوثين فلم تستطع أن تتجاوز تلك القيم التقليدية والتي ترى فيها السند الرئيسي الذي يتحكم في العلاقات ما بين الآباء وأبناءهم. والفئة الثالثة من المبحوثين عرفت تأرجحاً في مواقفها نحو هذه التحولات في العلاقات بين الآباء والأبناء.

كما شهدت تمثلات المبحوثين للمرأة العاملة خارج البيت نوعا من التحول، إذ أصبح العمال المبحوثين يرون أنه لا مانع في مشاركة المرأة في سوق العمل، وهذا نظراً لصعوبة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أصبحت تعاني منها الأسر الجزائرية. ولكن يبقى ثقل سلطة القيم والثقافة التقليدية للمجتمع، الموجه والمهيكل لعمل المرأة خارج البيت، حيث يشترط المبحوثون بعض الشروط التي تحد من مشاركتها في سوق العمل. فهناك تفضيل لبعض المهن والتي أصبحت لصيقة بالمرأة الجزائرية كمهن التعليم والصحة، فالاعتبارات الاجتماعية والثقافية ما زالت لها تملك وزنا في هذه التمثلات والاختيارات للعمل النسوي في المجتمع الجزائري.

وإذا رجعنا إلى الممارسات السياسية و الجمعوية للمبحوثين، فنجدها شبه غائبة. فالتحولات السياسية و الجمعوية التي شاهدها المجتمع الجزائري لم يكن لها أثر على مشاركة عمالنا، بل هناك تخوف من الانضمام أو التصريح بالانضمام إلى المؤسسة السياسية وهذا نظراً للمآسي التي شاهدها المجتمع الجزائري خلال العشرية الحمراء. إلا أن هذا لم يمنع عمالنا أن يتفقوا على أن هناك أهمية للجمعيات السياسية والثقافية والتطوعية في المجتمع، أما تمثلات المبحوثين للممارسة الديمقراطية في الجزائر فقد عُِرفت بعدم الرضا، بينما الخطوة التي خطتها الجزائر في المسألة الديمقراطية، اعتبرت خطوة جد مهمة في الحياة السياسية في المجتمع الجزائري، فهم يباركون التعددية الحزبية والانتخابات الحرة.

وهكذا ومن خلال ما ورد في مناقشة تمثلات العمال للتحولات الاجتماعية، الثقافية والسياسية للمجتمع المدني، نلاحظ أن فئة قليلة من المبحوثين طوروا تمثلات جديدة في حياتهم اليومية، إلا أن ثقل السلطة والمرجعية التقليدية كان لها وزنا في هذه التمثلات. ونظراً للظروف السياسية التي مرّ بها المجتمع الجزائري، نلاحظ عدم استطاعة المبحوثين اكتساب تمثلات جديدة للممارسة السياسية و الجمعوية مما جعلهم غير فاعلين اجتماعياً وسياسياً.

وأخيراً، يمكن الإشارة إلى أن هذا العمل استطاع أن يكشف لنا على حقيقة مفادها أن عمالنا لم يطوروا مواقف وتمثلات جديدة مغايرة عن تلك التمثلات التي عُرف بها العمال الصناعيين في الجزائر. إلا أنه تبقى هذه الدراسة الركيزة الأساسية، التي تنير الطريق لتطوير دراسات مستقبلية للفئات المهنية في المؤسسة الصناعية بمنطقة طرارة، التي أصبحت محلاً لنقاشات واسعة حول خصخصتها.


الهوامش

* دكتوراه الدولة، إشراف الدكتور أحمد العلاوي، جــــامعة وهران، 2005.

[1] Hierle, Jean-Pierre, Pour une approche éthno-historique du travail, Paris: l’Harmattan, in, 2000, p. 132.

[2] Jodelet, D., «Représentations sociales: un domaine en expansion», in Jodelet, D. (ed.), Les représentations sociales, ouvrage collectif [Paris], PUF, 1989, p. 36.

[3] Mugny, G. et Carugati, F., l’intelligence au pluriel: les représentations sociales de l’intelligence et son développement, Consset, Del-val, 1985, p. 183.

  • Concept utilisé par Mauss et Durkheim repris et enrichi par Pierre Bourdieu, cf. P. Bourdieu, Le sens pratique, Paris, Les éditions de minuit, 1980, p.88.

[4] Strategor, Stratégie, Structure, Décision, Identité: Politique générale d’entreprise, Paris, Inter-édition, 2ème édition, 1993, p. 509.

[5] Saisaulieu, R., Sociologie d’organisation et de l’entreprise, Paris, Dalloz, 1987, p.206.

[6] Dubar, Claude, La crise des identités: l’interprétation d’une mutation, Paris, PUF, 2000.

[7] Bouvier, Pierre, Le travail au quotidien, une démarche socio-anthropologique, Paris, PUF, 1989.

  • يتمثل حقل بحثنا في المؤسسة الصناعية بمنطقة طرارة والتي تشكل مجاله خلال إنجازاتنا الأكاديمية مثل شهادة الماستر الفلسفة في علم الاجتماع (مصدر سبق ذكره) و موضوع بحث في برنامج تعاون ما بين جامعةPau et Bordeaux وجامعة وهران السانيا ، تحت عنوان : طرارة مابين الحداثة والتقليد. وكان لنا الشرف لإدارة والإشراف هذا المشروع خلال 4 سنوات (99-2002).
  • تم القيام بالتحقيق الميداني بالتعاون مع الطلاب الذين كنت أشرف على عملهم في إطار تحضير مذكرة التخرج لنيل شهادة الليسانس.

[8] Mendras, H., Oberti, M., Le sociologue et son terrain, Paris, Armond Colin, 2000, p. 59.

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche