تــقــديـم

إنسانيات عدد 21 | 2003 | المخيال الأدب - الأنثروبولوجيا | ص 05-09 | النص الكامل


 

قيل الكثير عن تلك المسألة القديمة، ألا وهي مسألة الأدب. فمن النقاش الذي أفتتحه جان بول سارتر بعد الحرب العالمية الثانية بقليل، تحت سؤال " ما الأدب ؟ " و واصله جون ريكاردو بسؤال " ما هي قدرة الأدب ؟ "، و مرورا بتساؤل إيف بيرجي " الأدب-ملجأ ؟ "، أعلنت هذه الأسئلة كلها عن المسار الذي سيتخذه هذا النشاط البشري في الأزمنة الآتية. لا يتعلق الأمر في هذا الملف* بمناقشة ذات الأدب، لكن بالتساؤل حول " الخطاب (...) الذي يحاول الحديث عنه "[1]، لأن أية محاولة لحصر جوهر الأدب يكشف عن ادعاء لا حد له. و في هذا الصدد سعى بعض منظري الأدب إلى الدخول في متاهات هذه الممارسة الفكرية دون جدوى. وإنما يتعلق الأمر في هذا المضمار بالتساؤل حول  " ماهية المعنى ؟ "، بسبب أن المعنى هو القاسم المشترك لكل الممارسات الدلالية، لأن الأدب لا يمكن أن يكون إلا " اختبارا لأية نظرية للدلالية  و للخطاب "[2]

و هكذا فإن اللغة بالنسبة لبعض الفلاسفة أو منظري الأدب، ليست إلا وسيلة للتواصل والإبلاغ، بينما هي في الأصل التعبير المتميز و النوعي للخطاب. فالأدب، بحكم تمرده و عدم خضوعه للطارئ، يستمر، من خلال اشتغاله على اللغة، في مواجهة فظائع القرن الماضي و أهوال القرن الحالي. تسمح اللغة للكاتب من تشكيل عالمه الخاص لأجل تجاوز روح الاستخفاف التي تنخره  و تسبب له الصدمات. إذا، فالأعمال الأدبية ليست مستقلة أو مرتبطة آليا بمرجعية ما، أو ببعض الحوادث المحتملة أو تختزل إلى إشكالية ما، لأن "بقدر ما يكون النص مجازيا، و بقدر ما يكون غامضا، يكون أقل مرجعية (حرفيا إذا شئنا، أي يتركز على الحقيقة)، ويضمن الأسلوب هذه المرونة في التنوع "[3].

يتفق كل مؤرخي الأدب على أن الأدب قد نشأ من الأسطورة، لكنه يبقى فضاءا للصراع بجدارة. و باستعارة موضوعاته من لأسطورة،و من التاريخ و  من علم النفس الجماعات و كل ما يتحكم في المجتمع من رموز ثقافية، يتجه الأدب بشكل كبير نحو امتلاك الوظيفة الأيديولوجية أكثر من توجهه للتعبير عن الوظيفة الشكلية المحضة.

و هكذا فالأسطورة التي يوظفها النص و بالمقابل توظفه هي بدورها، تتدخل في العلاقة التي يقيمها الكاتب مع قرائه و مع السياق الذي يتحرك ضمنه. فالأساطير البدائية هي إذا مثل النماذج، تملك علاقة اجتذاب مع المخيال، أما الأساطير الحديثة فإنها تشتغل مثل الكليشيهات المقولبة، بصفتها نقاط ارتكاز أو عكس ذلك فهي مستبعدة تقوم على توجيه الرغبة في امتلاك الواقع. فكل نص هو إعادة كتابة للعنصر الزمني أو الأسطوري، و هو في ذات الوقت استقطاب لهذا العنصر الذي لا يستنفذ و المتمثل في الأسطورة.

و المخيال، باعتباره مجموعة ديناميكية و بانية لتمثل الذات المنظمة للفضاء الأدبي، يحيل بالضرورة على قراءات متعددة تجد مرجعيتها في علوم مختلفة مثل علم النفس التحليلي و السوسيونقد و السوسيو-أنثروبولوجيا، و قد تكون قراءته موضوعاتية أو رمزية.

إن الآخر الذي هو محل رغبة تريد امتلاك محاسنه،و الراسخ في المخيال أو في الخطاب الأدبي، يعاين بصفته شيئا خارجيا مثقلا بالحضور و بصفته هوية مستحيلة و مختلفة، تعبر عن نفسها بألم و بعنف و ضمن المأساة.

ولتوضيح هذه الإشكالية المتمثلة في الغيرية، يعتمد محمد داود على دراسة موضوعاتية لثلاث روايات معرجا على النشأة التاريخية و الأيديولوجية  و التخيلية لهذا "الصراع" بين الغرب و الشرق الذي تم بناؤه في الخطاب الأدبي لأجل " قلب نظام الأشياء و ميزان القوى بتجنيس العلاقات الحضارية ". لكن مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة نحو الشمال هو الذي يمثل التصدع الكولونيالي أحسن تمثيل. و ضمن هذا التوجه يدرس عبدالمالك مرتاض العلاقة بين المعمر/المستعمر من خلال قصة فرانسوا و الرشيد التي نشرت في العشرينيات من القرن الماضي. إذ يكتشف الرشيد، بعد قضاء طفولة بريئة مع صديقه فرانسوا أن " قيم الحرية والمساواة والعدالة، وكذا الشعارات الأخرى التي لقنها له أساتذته في المدارس الفرنسية لا علاقة لها بالواقع و لا تعني إلا الفرنسيين لوحدهم ".

ضمن هذه العلاقة العدوانية كذلك أو بالأحرى ضمن من ينجر عنها من تداخل بين لغتين مختلفتين، تبتكر الكتابة الجزائرية باللغة الفرنسية لغتها الخاصة بها والتي ستظل بالنسبة لفاطمة الزهرة العلوي تعبير " ما بين لغتين ".

فيما يتعلق بعبد القادر شرشار، فإنه يعتبر أن الرواية البوليسية قد تسبب في نشأتها " التحضير المكثف للمدن الذي أسهم بشكل حاسم في نمو الجريمة، المادة الأولية " لهذا الجنس الروائي.

يستعير الجنس الروائي موضوعاته أيضا من المادة التاريخية لأجل تشكيل نصوصه التي تنخرط في " تجاوز الأسطورة الفردية " (مختار عطاء الله).

إن التاريخ الذي تحاول المؤسسة إخفاءه تضطلع به الكتابة الروائية المغاربية لتنوير القارئ حول بعض الحقائق.

" إن الاستغلال على بعث ما هو مكبوت له وظيفة تحرير لآليات الذاكرة " (زينب علي بن علي).

كما لفت الجنس الشعري انتباه مراد يلس الذي يطرح لموضوع الشعر النسوي ذي التقليد الشفوي باعتباره " جزءا لا يتجزأ من الذاكرة الثقافية و المخيال الجماعي المغاربيين ".

و ضمن هذا الأفق أدرجنا مجموعة من الدراسات في الأنثروبولوجية و أبحاث حول اللغات، ذلك الاختصاص الذي اكتسب سمعته الراقية بفضل باحثين لامعين في حقل الأنثروبولوجية من أمثال كلود ليفي ستراوس و جيلبير دوران  و ميرسيا إلياد وغيرهم كثيرين، إذ اشتغل هؤلاء على المخيال من خلال الاعتماد على نتائج علم النفس التحليلي الذي "أثرى قاموس بعض الكلمات المفتاحية مثل: الصورة، الرمز، الرمزية الذين أصبحوا منذ ذاك عملة رائجة"[4].

يبرز المخيال، باعتباره حقل يقع في ملتقى طرق العديد من الاختصاصات في العلوم الإنسانية، في الأوقات الراهنة ميدانا مفضلا لبحث جد نشيط. ففي هذا المجال يرى بلميلود عثمان أن صورة الصحراء التي تم تشكيلها من قبل المخيال الغربي (الديانة اليهودية-المسيحية) منذ القدم " قد اتخذت شكل التمثل الغامض، الكليشيه المقولب الذي تم الاستمرار العمل به في الأزمنة الحديثة " حسب المعنى المزدوج للمكان الملعون و المبارك في ذات الوقت.

كما يمثل علم الأنساب و ظهور الأولياء، أيضا حقولا للبحث في مجال الأنثروبولوجية الثقافية. فيما يخص هذا الموضوع، يلج بنا يزيد بن هونات في عالم الولاية المغاربية من خلال مثال سيدي أحمد المجذوب الذي " يمكن أن ترتبط ممارساته بشكل كبير بنمو و تطور الأيديولوجيا الفردية "، لكن على الرغم من الطابع المميز لهذه الصفة لم يمنع ذلك من تأثيرها على المستوى الجماعي.

و تثير، بشكل دائم، إشكالية اللغات بالمغرب العربي العديد من النقاشات الساخنة التي تتجنب الموضوعية و العقلانية في التكفل بمثل هذه المسألة. إن تداخل هذا الحقل من البحوث مع الإيديولوجيات و السياسات المؤسسة للوطنيات و الخصوصيات الثقافية دفع بالعديد من علماء اللسان و الباحثين للتوجه نحو طرق دروب هامة تمكن من التوصل إلى نتائج ذات فائدة حول وضع اللغات.

و يتعلق الأمر بالخليل الفراهيدي الذي استطع بفضل نبوغه، من تأسيس التصورات العلمية الأولى في دراسة الممارسات اللغوية في عالم إسلامي متعدد العرقيات، انطلاقا من الجانب الصوتي للغة العربية (جعفر يايوش).

كما أدى انتشار الديانة الإسلامية بالمغرب العربي إلى تشكيل وضع استثنائي يتمثل في امتلاك أغلبية سكان هذه المنطقة للغة العربية، أما الباقية فقد واصلت استعمال اللغة البربرية في حياتها اليومية.

و لرسم الحدود بين هاتين اللغتين اللتين تتعايشان في ظل التعارض أو التوافق بهذه المنطقة، يقوم كل من مصطفى بن عبو و بيتير بهنستيد من وضع خريطة لسانية لشمال المغرب الأقصى.

إن تعليم اللغات الأجنبية بالجامعات المغاربية، ضروري باعتباره وسيلة لا تعوض للتفتح على العالم، لكن تعلم اللغة العربية يبقى مهيمنا في هذا القطاع. إن سيدي محمد لخضر بركة الذي يدرس مختلف الإصلاحات التي عرفتها الجامعة الجزائرية و بخاصة جامعة وهران، يؤكد على أن عبارة "اللغة الوطنية" فرضت نفسها كمعيار لأقصاء باقي اللغات، و بخاصة اللغة الفرنسية، مما تسبب في خلق ميزان قوى بين اللغات لصالح مستعملي اللغة العربية.

كل هذا للتوصل إلى القول أن الأبحاث المقترحة في هذا العدد، و التي تختلف في موضوعاتها و مقارباتها و حقولها، يمكن لها أن تعطي لمحة عن اهتمامات الباحثين الذي أسهموا في هذا الملف. لكن على الرغم من هذا التنوع الذي يميز هذه الأبحاث، يمكن القول أنها تملك خيطا يربطها ببعضها ألا وهو العلاقة مع الآخر، الذي يظل دوما اللقاء به محل سوء تفاهم و غموض، و محل أمل كبير أيضا. 

محمد داود


الهوامش

* إن هذا العدد من المجلة الذي يمثل قطيعة في تصوره مع الأعداد السابقة لا يكتفي بملف واحد، بل يتكفل بأكثر من ملف، إذ سيمثل من الآن فصاعدا، اختيارا من بين الاختيارات التي سوف تعتمدها المجلة.

[1]- Todorov, Tzevtan : La notion de littérature.- Paris, Editions du Seuil, 1987.- p.5

[2]- Meyer, Michel : Langage et littérature.- Paris, Editions P.U.F, 1992.- p.1.

[3]- Op. cité.- p. 5.

[4]- Eliade, Mircea : Images et symboles.- Paris, Editions Gallimard, 1952 et 1980.- p. 9.

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche