إنسانيات عدد 14-15 | 2001 | عدد خاص أبحاث أولى | ص 49-55 | النص الكامل
Mustapha RADJI : Université d'Oran, Département de sociologie, 31 000, Oran, Algérie
I. مقدمة
بداية هذا العمل كانت حوارا مع مجموعة من الشباب البطال تقدموا إلى الوكالة الوطنية لتدعيم تشغيل الشباب L'ANSEJ (الوكالة الوطنية لتدعيم تشغيل الشباب) فرع ولاية نعامة بغرض التعرف على الخدمات التي تقدمها هذه الهيئة للشباب من أجل مساعدتهم على الخروج من حالة البطالة
لكن ما فاجأني و حيرني و استعصى علي فهمه. هو أن هؤلاء الشباب في الوقت الذي يرغبون فيه تشكيل مؤسسة مصغرة بالاعتماد على دعم الوكالة يرفضون في الوقت نفسه الاعتماد على القرض البنكي بحجة أن ذلك غير أخلاقي و غير مشروع في الإسلام، أو على حدّ تعبيرهم "القرض البنكي حاجة حرام."
كان السؤال الذي طرحته على نفسي هو إلى أي حد يكون هذا الحكم الأخلاقي بعدم مشروعية القرض البنكي سببا لرفضهم القرض البنكي؟
هل يرفضون فعلا القرض البنكي سببا لاعتبارات معيارية و قيمية؟ و ما هي دلالة و معنى هذه المواقف الموجودة فعلا في الواقع؟ و ما هي نتائجها و انعكاساتها؟
هذه المواقف المتحفظة و المتخوفة تجاه القرض البنكي ليست خاصة بهؤلاء الشباب لوحدهم و ليست وليدة اليوم. فقد أشار المؤرخون إلى الصعوبات و المقاومة الأخلاقية التي أظهرها السكان المحليون في شمال إفريقيا و الشرق الأوسط تجاه مؤسسات التحديث الكولونيالي و من أهمها البنوك. و أكد فيما بعد ظهور البنوك الإسلامية في السنوات 1980 استمرار وجود هذه المواقف المحافظة تجاه القرض البنكي في العالم العربي و الإسلامي على الرغم من كل التحولات التي شهدها.
II. تعليق على الدراسات السابقة
كان الإطلاع على ما كتب حول هذا الموضوع مهما جدا لفهم جوانبه التاريخية و القانونية و الاقتصادية. لكن الدراسات السابقة لم تعطنا معرفة كافية بموضوع بحثنا الأمر الذي أجبرنا على الإجتهاد في الموضوع.
1. التناول القانوني
في البداية كان الاطلاع على ما كتبه القانونيون حول مكانة القرض البنكي في القانون الإسلامي الكلاسيكي ضروريا لفهم الأصول القانونية/الفقهية لهذه المواقف المحافظة تجاه القرض البنكي و التي تستند إلى الشرع الإسلامي و بهذه المناسبة لا بد أن أوضح طبيعة هذا العمل الذي لا يهدف للدفاع عن وجهة نظر محددة في إطار الخلاف بين المحافظين الذين يعتبرون الفائدة ربا و اللبراليين الذين يميزون بينهما. لقد حاولت أن أكون محايدًا حتى أتمكن من تفهم مختلف مواقف الفاعلين الاجتماعيين.
2. التناول الاقتصادي
يكشف لنا التاريخ الاقتصادي عن الكيفية التي تطور بها نظام القرض من القرض الربوي إلى القرض البنكي الحديث، و من الفائدة الربوية إلى الفائدة الحديثة. لكن العلوم الاقتصادية تجد صعوبة بالغة في تفسير استمرار وجود أشخاص مازالوا يعاملون القرض البنكي كقرض ربوي و الفائدة كربا و يرفضون القرض البنكي أخلاقيا.
هذه تصرفات يعتبرها التناول الاقتصادي خارجة عن نموذج السلوك الاقتصادي، و هي تصرفات غير اقتصادية و توصف بغير العقلانية في نظر المحلل الاقتصادي.
3. التناولات السوسيولوجية
هذا النوع من التصرفات التي تبدو غير عقلانية و غير مفهومة في نظر التحليل الاقتصادي هي فرصة ممتازة لإثبات مدى جدارة العلوم الاجتماعية و قدرتها على تقديم فهم أفضل للإنسان في المجتمع. أنّ الجواب على السؤال: كيف يمكن لفاعل إجتماعي رفض ما هو في مصلحته؟ هو امتحان عسير للعلوم الاجتماعية.
أ – التناول الماركسي[1]
إجابة على هذا السؤال تقول النظرية الماركسية أن الوعي الزائف / الإيديولوجيا وحدها قادرة أن تجعل الإنسان يعمى عن التعرف على مصالحــــه. و المؤلفون العرب الذين استعملوا هذه النظرية لتفسير التصرفات الرافضة للقرض البنكي لم يروا فيها إلا نتيجة التضليل الإيديولوجي و للوعي الخاطئ عن الواقع.
لكن هذا التحليل لا يقدم لنا معرفة عن الموضوع لأن ما يحتاج التحليل هو بالضبط هذا الوعي الزائف. و الصعوبة التي تعترض هذا النوع من التحليل هو أنّ الفاعل الاجتماعي يعتبر أن وعيه صحيح و الحكم عليه بالوعي الخاطئ هو حكم ملاحظ خارجي.
ب- التناول الثقافوي
و على عكس التحاليل الماركسية التي لا تحاول أن تتفهم المبررات التي تجعل الفاعلين الاجتماعيين يرفضون عروضا تبدو في صالحهم كالقرض البنكي مثلاً، فإنّ التناول الثقافوي يفهم هذه التصرفات كتعبير عن مـطـالـب ثـقـافـيـة و هوياتية و تعبير عن مخاوف من هوية إسلامية مهددة بالزوال و ثقافة توشك على الانمحاء. يعتبر في هذا المنظور سلوكات التخوف و التحفظ اتجاه القرض البنكي تأكيدات هوياتية أكثر منها تأكيدات معيارية.
في الواقع، تفترض هذه التحاليل الثقافوية وجود أزمة هوية في مجتمعاتنا الإسلامية، كما تفترض اللاتمايز و الانسجام داخل الإسلام المعاصر. لكن الملاحظة تكشف عن تباين المواقف داخل الفضاء الثقافي الإسلامي تجاه القرض البنكي، فإلى جانب المواقف المحافظة نجد مواقف ليبرالية متسامحة.
و تعبر في الأصل المخاوف و المطالب التي توصف بالهوياتية عن مطالب فاعلين اجتماعيين يؤكدون على ضرورة احترام القانون الإسلامي في الحياة العامة و تقوم هذه المواقف على قناعات لدى هؤلاء تتمحور حول صلاحية الإجراءات التي اتخذها القانون الإسلامي الكلاسيكي لتنظيم الحياة الاقتصادية و الاجتماعية الحديثة.
ج- التناول الوظيفي[2]
و إذا كانت التحليل الثقافوية و الماركسية تفترض وجود قوى خارجة عن سيطرة الفاعل الاجتماعي تجعله يتصرف بطريقة لا يتعرف بها عن مصالحه، سواء سميت هذه القوى وعيا زائفا و مخاوف هوياتية فإنّ التحليل الوظيفي على العكس من ذلك يبدي تفهما أكثر للفاعلين و لمبررات تصرفهم و يفترض أنهم يختارون ما هو في صالحهم حتى لو كان يبدو غير ذلك بالنسبة لملاحظ خارجي. و قد كشف هذا التحليل الوظيفي على أنّ الفاعلين الاجتماعيين في مصر لما يتحفظون تجاه البنوك الاتفاقية و يختارون التعامل مع البنوك الإسلامية، فإنهم يتصرفون بطريقة عقلانية حيث يختارون بذلك التعامل مع من يسهل أكثر و من يدفع أكثر.
و يعبر هذا التناول عن جزء كبير من الحقيقة لكن ضعفه الوحيد هو أنه يختزل كل المبررات التي يستند إليها الفاعلون (بنوك إسلامية، زبائن،...) إلاّ مجرد وسائل لتحقيق مصالح.
من الواضح أنّ قناعات الفاعلين حول مكان القرض ذي الفائدة في القانون الإسلامي تلعب دوراَ كبيرا في سلوك زبائن البنوك الإسلامية.
د- التناول التفاعلي[3]
أمام حدود هذه المنظورات الماركسية و الثقافوية و الوظيفية، كان لا بد من تبني منظور جديد لمعرفة هذا الموضوع معرفة جيدة و كافية.
و بالتالي تجاوز المنظورات التي تعتبر الإنسان في تصرفاته الاجتماعية غير قادر على السيطرة على أفعاله، و أحكامه و آراءه، و غير قادر على التعرف على ما يصلح له.
و أيضا الابتعاد عن النظرة إلى الإنسان بصفته فاعلاً نفعياً فقط كما تؤكد ذلك الوظيفة.
كان من اللازم في المقابل التسليم بأن الإنسان باعتباره فاعلا اجتماعيا قادرا على أن يسيطر على تصرفاته و أفعاله و تمثلاته و يعرف مصالحه في حدود السياق الذي يوجد فيه.
يفرض علينا هذا المنظور التفاعلي محاولة فهم هؤلاء الشباب البطال الذين على الرغم من حاجتهم الماسة للقروض البنكية، يرفضون القرض رفضًا أخلاقيًا.
إنه من الأكيد أنّ لهم مبررات قوية و مقنعة في نظرهم تجعلهم يختارون هذا النوع من التصرف الذي يبدو غير مفهوم لأول وهلة. و هذه المبررات مهما تكون فإنها تأخذ مصداقيتها و قوتها من السياق الذي يوجد فيه هؤلاء الشباب أنفسهم.
III. المنهجية
من أجل الوصول إلى معرفة أفضل بهذه المواقف المتحفظة أخلاقياً تجاه القرض البنكي كان لا بد من اختيار الوسائل المنهجية الملائمة لذلك.
1. كان ينبغي إجراء بحث ذي طابع كيفي يهدف إلى الوصول على نتائج نوعية. كان بناء النموذج المثالي بلغة "فيبر" و إعادة بناء معنى التصرفات كان هو سبيلنا الوحيد.
2. لأجل تحقيق هذا لم يكن أمامنا من سبيل أفضل سوى الحوار المعمق و المتنوع و الثري القائم على الثقة، لمعرفة الأسباب القوية التي تجعل هؤلاء الشباب يتصرفون بهذه الطريقة
3. و لتحليل نتائج المقابلات، استخدمنا تقنية تحليل المضمون مركزين على فئة الاتجاه بفئتيها الجزئيتين؛ الاتجاه المحافظ الليبرالي كفئات مناسبة لتحليل الموضوع.
4. و استعملنا جداول تكرارية بسيطة كوسيلة لمعرفة الأهمية الكمية لأي عنصر و لأي متغير أو اتجاه.
IV. النتائج
1. يتقاسم الشباب المبحوث مع الوسط الاجتماعي المحلي المكون من عائلتهم و من أئمة المساجد التفسير المحافظ للتحريم القرآني للربا و يطابق بين الفوائد الربوية في القرآن و بين الفوائد البنكية الحديثة، و هذا ما يجعل في نظر هؤلاء السباب استخدام القرض البنكي غير قانوني في الإسلام.
2. هذا التفسير المحافظ للتحريم القرآني للربا الذي يتبناه هؤلاء الشباب يجد أصوله القانونية في الفقه المالكي الذي يقدم نظريةً عامةً لتفسير أسباب تحريم القرآن للربا. و حسب المالكية، فإن سبب تحريم القرآن للربا هو حماية المقترض من مخاطر عدم تسديد القرض. و هذا الطابع المحمل بالمخاطر (أو المحمل بالغرر حسب لغة المالكية) هو الذي يضفي على القرض ذي الفائدة صفة اللاقانونية في الإسلام.
3. يتبنى هؤلاء الشباب نفس النظرية المالكية حيث يعتبرون أنّ القرض البنكي يتضمن مخاطر جمّة في حالة عدم التسديد، و هذا ما يجعله قرضاً ربوياً غير مشروع في الإسلام.
4. و على أساس نفس النظرية الفقهية يعتبر أنّ علاقة القرض يجب أن تتضمن شراكة تضامنية يتحمل فيها طرفا العقد النتائج الإيجابية و السلبية خلال عملية تنفيذ العقد. و يعتبرون أنّ عقد القرض البنكي هو عقد غير عادل لأن النتائج الإيجابية يستفيد منها البنك لوحده، بينما يتحمل المقترض النتائج السلبية لوحده.
5. و يجد هذا التصور التعاوني و التضامني أصوله في عقد المضاربة أو عقد القراض بلغة المالكية، و هو عقد قائم على توزيع تضامني للمسؤوليات بين طرفي العقد، و هو بمثابة العقد النموذجي في شرعيته حسب الفقه المالكي. و يمثل عقد "التسباب" المعمول به كعقد عرفي محلي نوعا من عقد القراض.
6. يحكم هؤلاء الشباب على عقد القرض البنكي انطلاقا من عقد القــــراض و مثاله الحي عقد "التسباب" و يعتبرونه نموذج العقد العادل و القانوني في الإسلام.
7. إن غياب إصلاح بنكي حقيقي لعب دورا سلبيا في تعزيز اقتناع هؤلاء الشباب بسلامة و صحة مواقفهم المحافظة تجاه البنوك الوطنية.
8. سجلت الدراسة وجود تيار صاعد في أواسط الشباب يرغب في الإعتماد على القرض البنكي و هو غير مشروع في الإسلام، بل يعتبرونه وسيلة ضرورية للخروج من البطالة و تجنب الآفات الإجتماعية.
9. في غياب إصلاح القانون الإسلامي الكلاسيكي و مراجعة لنظرية المخاطر التي اعتمد عليها الفقه الإسلامي في تفسيره لتحريم القرآن للربا فإنه من الصعب الدفاع عن مواقف ليبرالية و معتدلة اتجاه القرض البنكي. فالشباب الراغبون في الحصول على القروض البنكية و غير المقتنعين بالمطابقة بين الربا و الفائدة البنكية يبقوا في حاجة ماسة إلى دعم فقهي – قانوني يعطي معنى شرعياً لاختياراتهم و يجنبهم الصراع مع عائلتهم و مع الوسط الاجتماعي عموما. و هذا المعنى الشرعي و القانوني للاختيار لا يمكن أن ينتجه سوى المختصون و الخبراء الذين هم في هذه الحالة الفقهاء المسلمون.
الهوامش
* عرض حول الرسالة ماجستير في علم اجتماع التنمية.
[1] Rodonson, M, Islam etCapitalisme.- Paris, Seul, 1966.
[2] Galloux, M, Finance Islamique privée : le cas de l'Egypte.- Paris, PUF, 1997.
[3] Boudon, R, Le sens des valeurs.- Paris, puf, 1997.