(مدخل إلى دراسة بعض الظواهر التداولية في اللغة العربية (الخطاب المسرحي نوذجا

إنسانيات عدد 14-15 | 2001 |  عدد خاص أبحاث أولى | ص 101-125 | النص الكامل


Omar BELKHEIR : Université de Tizi Ouzou, Département de langue arabe, Faculté des arts, 15 000, Tizi Ouzou, Algérie


 

تقديم

يندرج تناولنا لهذا الموضوع في إطار تطبيق النظريات اللسانية المعاصرة على اللغة العربية، و ذلك لاقتناعنا بإمكانية تناول الخطاب العربي، القديم منه والحديث، انطلاقا من تصور إبستيمولوجي مشحون بمجموعة كبيرة من الأفكار والمبادئ و التصورات التي قد تبدو مخالفة، للوهلة الأولى للتصور العربي، إلا أننا إذا أمعنا فيها، استطعنا أن نكتشف عددا من الظواهر التي تشكل، في نظرنا، امتداد للمعرفة الإنسانية و إستمراريتها عبر القرون و الحضارات. فنحن لا نؤمن بالقطيعة الإبستيمولوجية في مجال استمرارية العلوم و الفلسفات، بل إن الأسس الإبستيمولوجية للنظرية اللسانية الحديثة، ما هي إلا تطور للمبادئ التي وضعتها بعض الأمم القديمة (الإغريق، الهند...) و طورتها النظرية المعرفية العربية على يد علماء اللغة و الفلاسفة و علماء الأصول، الذين شكلوا همزة وصل بين التراث المعرفي الإنساني القديم و الحديث. و قد تطرقنا في إحدى المقالات التي نشرناها في مجلة التبيين، إلى بعض الإشارات و التصورات التي تناولها بعض علماء اللغة و الفلاسفة العرب و التي تبين بوضوح التصور العربي للغة كنشاط تتحكم فيه مجموعة من العناصر اللغوية و غير اللغوية و التي تقترب بوضوح من التصور الأوروبي الحديث للغة باعتبارها نشاطا تداوليا (Pragmatique) و هذا ما سنبينه باختصار في أحد أركان هذه المساهمة.

التعريف بالتداولية

إن المتتبع لتطور البحث اللساني الحديث يمكن له أن يلاحظ أن العديد من التساؤلات التي كان يطرحها الباحثون اللسانيون و فلاسفة اللغة، على أنفسهم، لم تتمكن النظريات البنيوية (Structurales) من الإجابة عنها، و قد استطاعت هذه التساؤلات أن تجد سبيلها في اتجاه جديد، هو أصلا مجموعة من الأفكار والملاحظات اللسانية و الفلسفية، صادرة هنا و هناك، كانت الغاية منها الإجابة عن مجموعة الأسئلة من نمط: من يتكلم؟ من يقع عليه الكلام؟ ماذا نفعل حينما نتكلم؟ ما هي قيود الحديث؟ لماذا التلميح أبلغ من التصريح؟ لماذا نقول أشياء ونصرح مباشرة بعدم قولها؟ متى يكون إقناعا؟...

و قد دفع ذلك بعض النقاد و اللغويين إلى إطلاق تسمية (Poubelle Espagnole) عليها، لأنها استطاعت أن تحتوي على مجموعة كبيرة من الأفكار و التصورات ذات مستويات و مشارب مختلفة و متفاوتة. و في سبيل ذلك استعانتها و توسلها لمختلف العلوم الاجتماعية و الإنسانية الأخرى، و هو أمر أنجر عنه اتساع أفقها المعرفي و النظري، و جعلها قادرة على تناول مختلف الخطابات الصادرة عن الإنسان، دون أن يشكل ذلك عائق للخروج بنتائج معتبرة.

يعتبر تحديد (شارل موريس Charles Morris) أول محاولة لضبط ماهية التداولية، و قد حصرها ضمن مجال السيمائية و أسند إليها دراسة العلاقة بين العلامات و مستعملي هذه العلامات و ذلك بعدما بين أن تفاعل العلامات فيما بينها يشكل ما نسميه علم التراكيب، و تفاعل العلامة بما تل عليه يفضي إلى علم الدلالة.

فالتداولية إذن هي دراسة للجانب الإستعمالي للغة. و هنا تحدد (أوركيوني Orecchioni) وظيفة التداولية  "في استخلاص العمليات التي تمكن الكلام من التجذر في إطاره الذي يشكل الثلاثية الآتية: المرسل – المتلقي – الوضعية التبليغية. إن أي تحليل تداولي يستلزم بالضرورة التحديد الضمني للسياق التي تؤول فيه الجملة.[1] و هنا يتجلى العنصر الرابط بين مختلف النظريات والتوجهات التي شكلت ما نسميه التداولية، و هو السياق Contexte. فاختلاف الزاوية التي ينظر من خلالها إلى السياق، هو الذي جعل تلك النظريات تختلف فيما بينها في تحديد ماهية التداولية. فمنهم من يرى أنها هي الأقوال التي تتحول إلى أفعال ذات صبغة و امتداد اجتماعيين، بمجرد التلفظ بها وفق سياقات محددة و منهم من يلخص التداولية في دراسة الآثار التي تظهر في الخطاب، و يدرس هؤلاء أثر الذاتية في الخطاب من خلال الضمائر و الظروف المبهمة (Déictiques). و منهم من يلخصها في مجموعة من قوانين الخطاب Lois du discours أو أحكام المخاطبةMaximes contersationnelles على حد تعبير الفيلسوف جرايس – التي تضفي على الخطاب صيغة ضمنية أو تلميحية و ذلك من خلال دراسة الأقوال الضمنية Les énonces implicités كالافتراضات المسبقة Présupposes و الأقوال المضمرة.

إن التداوليين ينظرون إلى اللغة على أنها لعبة Jeux de langage، و يقصد بها الصبغة المؤسساتية للغة أثناء الاستعمال. فعندما يتكلم الإنسان، فقد يخضع أقوله لمجموعة من القواعد الضمنية تجعله يميز بين الكلام "السوي" و غيره، مثلما هو الحال بالنسبة للاعب الشطرنج، و هذا ما يفسر استخدام مصطلح إستراتيجيات الخطاب. و قد اختصر منقونو (Mainguneau) التداولية وفق هذا التصور في أنماط ثلاثة: القانون و المسرح و اللعبة. إن الكلام باعتباره فعلا متحققا لا ينفصل عن المؤسسة إذ مجرد التلفظ بالأمر، يضفي على المتكلم مرتبة الأمر، فيضع غيره في مرتبة المأمور، و هذا قابل للتحقيق وفق شروط تحددها أعراف كل لغة. و هذا يجرنا إلى الحديث عن التعاقد الذي يمكن المتكلمين من التعارف على الصيغ الكلامية المناسبة لكل حال من أحوال الخطاب.

و نشير هنا إلى أن النمط القانوني للغة هو ذو صبغة ضمنية، فالذين لا يحترمون هذه القوانين لن يتعرضوا للسجن، إنما العقاب يكون ضمنيا، كأن نجيب شخصا قد تجاوز حدود الحديث: لم نرع الغنم معا، احترم نفسك حينما تتحدث معي... إلى غيرها من الإجابات التي يسعى المخاطب إلى إعادة مخاطبه إلى صوابه "اللغوي."

و بالنسبة للقانون، يقول منقونو[2] إنه من السهل الانتقال من النسق القانوني إلى "الدور" (Rôle) ذلك أن المسرح هو صورة مصغرة للعالم و الحياة، حيث توزع الأدوار على كل شخص، و بالتالي فإن خطاب الممثلين و الشخصيات المسرحية هو نفسه خطاب المتكلمين في الواقع. فالمؤلف أو المخرج المسرحي لا يخرج إلا نادرا عن الأعراف الخطابية و الإجتماعية للغة التي يكتب فيها.

الدرجات الثلاث للتداولية

أشرنا أعلاه إلى الدور الأساسي للسياق في تحقيق النمط التداولي للغة، فقد أضحى هو العامل المشترك بين مختلف النظريات المشكلة للتداولية، إلا أن درجة تدخل السياق في كل نظرية هو الذي يحدد ميزات كل منها، و أضحى هذا التصور الخطوة الأولى في تنظيم و هيكلة النظريات التداولية. و يعد "الهولاندي هانسون" أول من جرب التوحيد بطريقة نظامية و تجزئة مختلف المكونات التي تطورت لحد الآن بطريقة مستقلة:[3]"

أ- التداولية من الدرجة الأولى أو نظرية الحديث

إن أشهر من نظر لهذه النظرية العالم اللغوي الفرنسي إميل بنفنسيت (E.Benveniste) الذي أكد على ضرورة التمييز بين اللغة كسجل من الأدلة ونظام تتركب فيه هذه الأدلة و اللغة كنشاط يتحقق من خلال وقائع الخطاب التي تخصصها علامات خاصة، تلك العلامات التي يسميها بنفنيست "المؤشرات"، يكمن دورها في تصيير اللغة خطابا فعليا. هذا التعبير يسميه الحديث Enonciation وهو إجراء اللغة و تحقيقها من خلال فعل كلامي فردي.

و يعكف الدارسون في هذا المستوى على دراسة البصمات التي تشير إلى عنصر الذاتية في اللغة.

ب- التداولية من الدرجة الثانية أو نظرية قوانين الخطاب

و هي تتضمن دراسة الأسلوب الذي يرتبط بقضية مطروحة، حيث تكون هذه الأخيرة متباينة عن الدلالة الحقيقية للقول، و هي تدرس كيفية انتقال الدلالة من المستوى الصريح إلى مستوى التلميح،  بالسعي وراء استنباط و معرفة العمليات المتسببة في ذلك فهذه النظرية تنظر إلى اللغة باعتبارها مجموعة من الاقتراحات المسبقة و من الأقوال المضمرة و الاحتجاج...

ج- التداولية من الدرجة الثالثة أو نظرية أفعال الكلام 

La théorie des actes du langage

تنطلق هذه النظرية من مسلمة مفادها أن الأقوال الصادرة عن المتكلمين، ضمن وضعيات محددة، تتحول إلى أفعال ذات أبعاد اجتماعية.

و ترجع هذه النظرية في أول عهدها إلى الفلاسفة التحليليين الإنجليز أمثال أوستين (Austin) و تلميذه سيرل اللذان بينا أن اللغة ليت بنى و دلالات فقط، بل هي أيضا أفعال كلامية ينجزها المتكلم ليؤدي بها أغراضا، فهو عمل يطمح المتكلم من خلاله إلى إحداث تغيير معين في سلوك المخاطب بالفعل أو بالكلام. تقول أوركيوني في هذا الإطار: "إن الكلام هو بدون شك، تبادل للمعلومات، ولكنه أيضا إنجاز لأفعال مسيرة وفق مجموعة من القواعد (بعضها كلية، حسب هابرماس (Habermas) من شأنها تغيير وضعية المتلقي و تغيير منظومة معتقداته و/أو وضعه السلوكي، و ينجز عن ذلك أن فهم الكلام و إدراكه يعني تشخيص مضمونه الإخباري و تحديد غرضه التداولي، أي قيمته و قوته الإنجازية[4] "

و يتكون الفعل الكلامي، حسب أوستين، من:

- فعل لغوي acte locutoire: لا تدخن

- فعل إنجازي acte illocutoire: و هو النهي في المثال السابق

- الفعل التأثيري acte perlocutoire: و يتمثل في رد فعل المخاطب بالاستجابة أو الرفض.

و قد وسع نظرية سيرل نظرية أفعال الكلام، فأوضح لكل فعل شروط إنجازه، ووضع مجموعة من القواعد تتحول بها الأفعال الكلامية المباشرة إلى أفعال غير المباشرة إضافة إلى هذه التقسيمات الثلاثة، هناك أخيرا، مجموعة من التحليلات اللغوية تندرج ضمن الدراسات التداولية و تهتم بالخطاب بصفته نصا تحدده قواعد معينة سواء أكنا نهتم بالمحادثة أو بالمحاجة أو بالنصوص بمختلف أنواعها، حيث تطورت منذ سنوات قليلة دراسات يمكن إدراجها فيما يسمى اليوم اللسانيات النصية (La linguistique textuelle).

اختيارنا للنص المسرحي كمدونة للدراسة

لم يكن اختيارنا للخطاب المسرحي في هذه الدراسة اختيارا عشوائيا، إنما انطلقنا في ذلك من نقطتين.

- إن النظرية التداولية تنظر إلى اللغة باعتبارها نشاطا، و البنية التي يتجسد فيها هذا النشاط هو الحوار، ضمن ما يسميه البعض بالخطاب العادي Le langage ordinaire، و الخطاب المسرحي يتشكل في بنية حوارية تشبه إلى حد بعيد البنية الحوارية للخطاب العادي.

- إن المسرحية، كما يذهب إلى ذلك بعضهم، هي "نسخة من الحياة و مرآة للعادة و صورة تعكس الحقيقة[5]" فإذا كان المسرح صورة صادقة لما يجري في هذا العالم، فإن الاهتمام الذي يثيره في متتبعيه يكون وثيق الصلة بالطريقة التي ننظر بها إلى الحقيقة. فالمسرح هو تجسيد حقيقي لما يحتويه العالم من ظواهر و مظاهر طبيعية و اجتماعية و نفسية... و خطابية "الآن إذا كنا نأخذ بهذا الرأي في أدق تفسيراته، فإن المسرحية تكون فترة مقتبسة من الحياة، معنى هذا أن هدف الكاتب المسرحي يجب أن يكون إعطاءنا من فوق منصة المسرح صورة طبقا للأصل... لمشهد في الحياة، و يجب أن يكون حوار تلك المسرحية أحسن أنواع الحوار الذي يكسبها صورة مطابقة للأحاديث الحقيقية التي تجري بين الناس في حياتهم العادية، و لا بد أن يكون أعظم ما في المسرحية من جمال هو مطابقتها لواقع الحياة[6]."

يبدو أن هذا الكلام مبالغ فيه لأنه لا يمكن لمسرحية مثل: "أوديب ملكا" أو "أونتيجون" أن تشتهر و أن تخترق القرون بشهرتها، لو غدت مجرد تصوير لوضع طبيعي أو اجتماعي موجود بصفة حقيقية في الواقع. إن الجمهور الذي يعتبره الجميع الأساس في أي بناء مسرحي لا يمكن له أن يتمتع بمشهد إعتاد على مشاهدته في الواقع. و بناء على ذلك، و على غرار الشاعر الإنجليزي (كولردج) (Coleridge) نعتبر أن المسرحية هي محاكاة للواقع بما يحمله من تناقضات.و تذهب الباحثة و الناقدة أن أوبرسف[7] (Ubersfeld)، في دراستها للخطاب المسرحي من وجهة نظر التداولية إلى الأهمية التي يكتسبها التحليل التداولي للمسرح و المتمثل في تبيان كيف أن جزءا مهما من النص المسرحي هو صورة للكلام العادي الحي في جميع أبعاده، و يشمل ذلك البعد الشاعري الذي يتحكم ديناميكيا في العلاقات الإنسانية. و بالتالي فإن المسرح هو تشخيص لتجربة في الواقع بما يحمله هذا الأخير من تناقضات صارخة، و الخطاب المسرحي هو تمثيل للكلام في العالم، بما يقوله الإنسان عن نفسه و عن العالم، وبالإحساس الذي يثيره في غيره. باختصار شديد نقول إن الخطاب المسرحي هو أفضل وسيلة تعبيرية عن أفكار و إيديولوجيات قد يتعذر على المؤلف التصريح بها.

أخيرا نقول أن الكاتب المسرحي، بعمله ذلك يسعى إلى إقامة علاقة بينه وبين الجمهور أو القارئ، إذ يجعل الخطاب بينه و بين الجمهور ممكنا في:

- علاقة مباشرة بين الشخصيات و الممثلين، حيث يكون الخطاب مباشرا.

- علاقة غير مباشرة بين المؤلف و الجمهور، و يكون الخطاب في هذه الوضعية غير مباشر، و يصاغ غالبا بطريقة تلميحية.

أسباب اختيار النصوص المسرحية الموظفة في البحث

أثناء اختيارنا للمسرحيات التي وظفت في البحث، حاولنا أن نراعي مجموعة من الشروط تتعلق بما يحتويه البحث من معالم. فقد أخذنا بعين الإعتبار الأبعاد المختلفة للإطار التداولي الذي يتجلى عليه الخطاب العربي في بعض مستوياته، حيث تناولنا المسرحيات باعتبارها خطابا تهيكلت فيه منظومة من الأفعال الكلامية، برزت في مستويات تعكس للقارئ، أبعادا ثقافية و نفسية و معرفية للخطاب البشري عموما و الخطاب العربي بصفة خاصة.

و قد راعينا أيضا فكرة أن هذه المسرحيات تندرج ضمن نوع أدبي خاص، يحتوي على خصوصيات لا نكاد نجدها في الأنواع الأدبية الأخرى، و بالتالي فهي تنم عن إطار تواصلي قريب من الكيفية التي تتم بها العملية التواصلية أثناء الحديث الجاري بين شخصين في الأحوال العادية. و على هذا الأساس، راعينا كونها تنطوي على عنصر الذاتية في اللغة الذي يصبغ كل خطاب صادر عن شخص و موجه لشخص آخر. فهذا المستوى يظهر – في رأينا- في المستوى الرابط بين المؤلف و القارئ المستهدف. إضافة إلى ذلك، إرتأينا أن نبرز للقارئ طبيعة بعض العناصر اللغوية التي تشكل واسطة بين الخطاب باعتباره منظومة من الأدلة و مجموعة من المحاور التركيبية و بين العالم الذي تندرج ضمنه الثقافة والفكر و السياسة و الحضارة و الأحاسيس...

الـمدونة

تتكون مدونتنا من خمس مسرحيات لمؤلفين عرب مشهورين بهذا النمط من الكتابة. فقد وقع إختيارنا على ثلاث مسرحيات للكاتب المسرحي المشهور توفيق الحكيم، أولها مسرحية "أهل الكهف" التي إشتهرت لكونها إقتبست من القرآن الكريم و الكتب المقدسة، و قد أضفى عليها طابعا فنيا خاصا بإبرازه التأثير الفعال للعلاقات الإنسانية في سيرورة الأحداث من جهة، و علاقة الإنسان بالزمن و الدهر من جهة أخرى.

تبدأ المسرحية بإستيقاظ الفتية الثلاث من سبات في الكهف دام أكثر من ثلاث قرون، و هو : مرنوش و ميشلينا، وزيرا الملك دقيانوس و الراعي يمليخا بمعية كلبه قطمير.

أما النصان الآخران، فقد نشرا في كتاب واحد باسم: رحلة الربيع والخريف، فالمسرحية الأولى التي عنوانها: رحلة صيد، فهي تروي قصة طبيب أوروبي يعيش في إفريقيا و يعمل بها، قرر أن يقوم برحلة صيد في الأدغال مع جماعة من أصدقائه، أثناء ذلك ابتعد عن الجماعة فأرهقه التعب و الأسد يقترب منه ليفترسه مترقبا حركاته و سكناته، و كانت تدور في ذهنه أفكار عديدة توحي إلى حالة الهذيان.

أما المسرحية الثانية: رحلة قطار، فهي مسرحية من فصل واحد تجري أحداثها في قطار يقوده سائق بمعية مساعده الوقاد، حيث اختلفا في تحديد لون إشارة المحطة، فالأول كان يتصورها حمراء، و الثاني خضراء، فوقعا في جدال اضطرهما للاحتكام إلى بعض الركاب، ففوجئا بانقسام هؤلاء فتحول الحديث إلى هلوسة، و بعد الإقتراب من المحطة اكتشف أنه لا وجود أصلا لمحطة أو إشارة، و الأدهى من ذلك أنه في نفس الفترة كان القطار يهدده قطار آخر آت من خلفه.

أما المسرحية الرابعة: فهي مسرحية سياسية و رمزية من تأليف الكاتب المسرحي السوري: سعد الله ونوس، المعروف بأدبه الملتزم بالقضايا السياسية والإجتماعية للمجتمع العربي.

تروي المسرحية أحداث انقلاب سياسي بمملكة خيالية، و قد تسبب في انقلاب ملك مترف و باذخ، و اعتلى عرشه "أبو عزة" التاجر الفاشل الذي أثقلته الديون بعدما تسبب شهبندر التجار و الشيخ طه و تجار الحرير في إفقاره.

و تعكس المسرحية الوضع الحقيقي للمجتمعات العربية و ما أصابها من انحطاط بسبب فساد حكامها و فساد سياستهم. و هي تشبه في أسلوبها وصياغتها أسلوب القصص الشعبي و لكن لا وجود لملك و لا لبطل يسعى إلى حماية المظلومين.

و النص الأخير من مدونتنا هو مسرحية فكاهية نسجت في حكايتين، ترويان مغامرات أبي "الفضول" و هو رجل – كما يشير إلى ذلك اسمه – كثير الفضول يعمل حلاقا في مدينة "بغداد الخيالية" و الحكايتان تعالجان الوضعية الإجتماعية للمرأة العربية في علاقتها بالرجل و بالمؤسسات السياسية و الإقتصادية التقليدية. الحكاية الأولى بعنوان: "يوسف و ياسمينة" و الثانية "زينة النساء."

استهل الكاتب الحكاية الأولى بوصف المكان الذي تجري فيه أحداث المسرحية، أما الحكاية الثانية فقد استهلها بمدخل هو تناج لأبي الفضول.

أما عن اللغة، فقد مزج صاحب المسرحية بين المستوى الفصيح و المستوى الدارج و عن موضوع الحكاية الأولى فإنه مستوحى من إحدى قصص ألف ليلة وليلة و الحكاية الثانية مستوحاة من إحدى قصص الجاحظ في كتابه "محاسن الأضداد."

العملية التبليغية و الخطاب المسرحي

تناولنا بالدراسة الأسس العامة التي بنيت عليها العملية التبليغية كما وصفها ياكبسون في كتابه Essais de linguistique générale، و حاولنا أن نبين عيوب التصور السكوني لياكبسون (Jakobson) لهذه العملية، حيث تعرضنا إلى انتقاد مفهوم الوضع أو السنن Code باعتباره قائمة مغلقة من العلامات، يختار منها ما يناسب احتياجاته، و هو تصور غير مقبول لأن اللغة في الواقع هي نشاط تتحكم فيه مجموعة متداخلة من القواعد الاجتماعية. و من خصائص تصور ياكبسون للعملية التبليغية ما يلي:

- يتم التحديد فيه في إتجاه واحد حيث يتوقف التلقي على محتوى الإرسال لا غير.

- تتوزع التحديدات في محور خطي: فالأحداث الملاحظة في الزمن 1، تتحكم في الأحداث الملاحظة في الزمن 2

- يسري الخطاب بين مرسل فاعل و متلقي سلبي.

- يصيغ المرسل خطابه عن طريق "مفتاح"، على المتلقي أن يستعمل نفس المفتاح لتأويل خطاب المرسل.

و قد حاولنا اقتراح تصور آخر راعينا فيه تصور ياكبسون و التعديلات التي اقترحتها أوركيوني  و بنفنيست على التصور السابق.

- انطلاقا من ذلك وجدنا أن الإرسال و التلقي يخضعان لعلاقة التحديد المتبادل بمعنى أن التلقي يتحكم في الإرسال، إذ أن العمليات التأويلية تتحقق انطلاقا من الدليل الذي أنتجه المرسل، و على أساس مجموعة من الافتراضات فيما يتعلق بعملية الإستيضاع Encodage، و كذا نوايا المرسل.

في الوقت نفسه يخضع المرسل خطابه حسب تصوره للمتلقي، إذ يأخذ بعين الإعتبار بعض الافتراضات حول تأويلات المخاطب.

إن الاعتبارات المتبادلة تتحقق بطبيعة متتابعة و متزامنة في آن واحد، فالأحداث في العملية التبليغية ليست خطية تماما، إنها تحمل في طياتها آليتا التوقع و الاستدراك. تكمن آلية التوقع في أن ما يحدث في الزمن 1 يتوقع على ما سيحدث في الزمن 2. أما آلية الإدراك فتكمن في أنه ما يحدث في فترة لاحقة من الخطاب، يحول إدراك المتكلم للأحداث السابقة.

خلاصة القول، أن التصور الذي يبني العملية التبليغية انطلاقا من القواعد الصوتية و الصرفية و التركيبية، يظل غامضا إذا لم تدرج ضمن هذه القواعد معطيات تتعلق بالسياق.

بعد عرضنا هذا المختصر لمفهوم العملية التبليغية، حاولنا أن نحدد الكيفية التي تتجلى فيها هذه العملية في المسرح.

إن المرسل في المسرح هو المؤلف و المخرج المسرحي و الممثلون و أشخاص آخرون كالتقنيين  و المهندسين... و المرسل إليه هو القارئ أو المتفرج.

يرى جورج مونان (G. Mounin) أن شروط العملية التبليغية لا يمكن لها أن تتحقق تماما في المسرح، فالتواصل الحقيقي ينبغي أن يبنى على أساس تبادل الوظائف بين المرسل و المتلقي عبر نفس السنن، فيتحول المتلقي نفسه إلى مرسل و المرسل إلى متلق، و لكن ذلك كله- كما يرى جورج مونان- لا يتحقق في المسرح حيث أن المرسلين يظلون دائما ممثلون، و إذا افترضنا وجود تواصل أحادي الاتجاه، فإنه يستحيل على المتفرجين التواصل مع الممثلين، أو الإجابة- أحيانا- عن أسئلة يطرحها هؤلاء، إذ يتعذر على المتفرج الدخول في حوار مع الممثل أثناء العرض أو أن يصعد إلى الخشبة و يتحول إلى ممثل، و العكس صحيح. و لكن ذلك لا يعني أبدا أن للجمهور في أي عرض مسرحي طبيعة سلبية، إن للمتفرج دورا لا يستهان به في إنجاح العرض عن طريق الملاحظات والمواقف الصادرة عنه بعد كل حركة أو كلمة للممثلين. هذه الملاحظات قد تبدو ضعيفة و لكن تأثيرها على المؤلف لا يستهان به. تقول أوركيوني: "في المسرحيات الإيطالية، المتفرج هو الذي يصنع العرض (بدل المخرج)، فهو يعيد تركيب مجمل العرض في محور أفقي و آخر عمودي في آن واحد، فهو ليس مجبرا فقط على تتبع القصة (المحور العمودي)، إنما يعيد تركيب مجمل العرض في محور أفقي و آخر عمودي في آن واحد، فهو ليس مجرا فقط على تتبع القصة (المحور العمودي)، إنما يعيد تركيب العلامات في العرض، و هذا في كل لحظة، فعليه أن يخوض غمار العرض أحيانا (التعرف) و الابتعاد عنه (من حيث المسافة) أحيانا أخرى، و لا يوجد عرض آخر يحتاج من الجمهور إلى مثل هذا المجهود المادي و النفسي[8]...).

إن تعدد المرسل و المتلقي في الخطاب المسرحي ينتج عنه عائق اللاتناظر التبليغي بين الإرسال و التلقي. فالتواصل بين المؤلف و الجمهور باعتبارهما أشخاص حقيقيون يكون لاتناظريا، لأن مؤلف المسرحية لا يظهر للجمهور.

و اللاتناظر نجده أيضا بين شخصيات المسرحية (المكتوبة)، لأنها ذوات متخيلة و التناظر موجود بين الممثلين، و يبين كل هذا الشكل التالي:

بعد استعراضنا لطبيعة العملية التواصلية للخطاب المسرحي، سنعمل على تبيان الطبيعة التبادلية له. إن المسرح كما تشير إلى ذلك آن أويرسفيلد، هو فن المفارقة. L'art du paradoxe فهو في الوقت نفسه، خطاب أدبي و عرض يشبه الواقع، فالنص باق بعد تأليفه أو عرضه، أما العرض فهو يختلف من فترة لأخرى، فهو دائم التغير. و هنا تتبادر إلى أذهاننا الأسئلة التالية؟ من هو المتكلم في المسرحية؟ من هو المتلقي؟

إن الذي يميز المسرحية عن باقي الأنواع الأدبية الأخرى هو كثرة المتكلمين والمستمعين، لذلك يمكن أن نتحدث عن مستويين من الإرسال:

- المستوى الأول: المتكلم في هذا المستوى هو المؤلف، و يتجلى ذلك في الملاحظات التي يصنعها، و لا تدخل في صلب خطاب الشخصيات أو الممثلين، مثل ما يقوله سعد الله ونوس في بداية مسرحيته: "البلاط في قصر الملك، مرأة مكسوة بمخمل ثمين ينتهي إلى مصطبة يتربع فوقها العرش، كرسي ضخم من الأبنوس و العاج، مشبك بالذهب و المرجان"...

أما المستوى الثاني: فهو المستوى الذي تكون فيه الشخصية (س) متكلما و الشخصية (ع) مخاطبا. تؤكد أوبر سفيلد في هذه النقطة على ضرورة دراسة الاستعمال اللغوي للذوات المتكلمة في هذا المستوى انطلاقا من أسس و معالم نظرية لسانية خاصة.

إن المونولوج في المسرحية يعكس ذلك الصراع الأبدي بين مختلف مكونات الكيان البشري الداخلي، فهو صراع بين القيم الإجتماعية و الثقافية و الفلسفية... من جهة، و بين الرغبات و الميول و الأحاسيس و الغرائز من جهة أخرى.

البعد التلميعي للخطاب في المسرح

إن أي قارئ لأي عمل مسرحي تستوقفه بعض الأقوال التي لا يجد لها معنى ضمن السياق الذي وردت فيه أفواه الشخصيات المسرحية، إذ قد نتساءل عن مضمون قول عبيد لعزة في مسرحية الملك هو الملك: "تروي كتب التاريخ عن جماعة ضاق سوادها بالظلم و المجاعة و الشقاء، فاشتعل غضبها و ذبحت ملها ثم أكلته."

أو قول بريكسا لغاليس، في مسرحية أهل الكهف:

بريكسا: و مهمة أخرى يا غاليس، إذا علمت الناس قصتي و تاريخي، فاذكر لهم كما أوصيتك.

غاليس: (و هو يهم بالخروج): إنك قديسة.

بريسكا: كلا...كلا أيها الأحمق الطيب، ليس هذا ما أوصيتك به.

غاليس: إنك امرأة أحبت.

بريكسا: نعم... و كفى.

ألم يكن ذلك خطابا أراد من خلاله المؤلفان جعل القارئ يصل إلى نتائج غير مصرح بها في العمل المسرحي؟

ثم، ما فائدة إخبار شخصية أخرى علما أنها كائنات خيالية؟ إن في النص أو في العرض؟ في أي مستوى تكمن الفائدة، هل على مستوى خطاب الشخصيات أو على مستوى خطاب المؤلف الموجه للقارئ؟

تجدر الإشارة إلى أن الخطاب المسرحي هو غالبا عبارة عن مجموعة من الأقوال ذات أبعاد تلميحية تتشكل في الإفتراضات المسبقة والأقوال المضمرة، و هي تشكل على حد تعبير منقونو: سلم من المتضمنات المتحققة: مثال ذلك: حينما يقول الملك في مسرحية "الملك هو الملك":

ألا يتعبون في صياغة الآراء؟

نفهم من قوله أنه قد ضجر من صياغة حاشيته للآراء، إنها آراء لا تهمه و لا يعبأ بها، فهو يتصرف في مملكته حسب ما تمليه عليه ميوله و نزواته، و هذا قد يجعل القارئ يستنتج أشياء، غير مصرح بها:

إن الملك حينما قال ذلك فقد أراد من وزيره أن يفهم تماما ما يريد قوله و المؤلف في كتابته –قوله- ذلك أراد منا أن نفهم أشياء غير تلك التي صرح بها الملك للوزير، و أعمال المؤلف، باعتبارهما أعمالا ملتزمة تشير إلى ذلك و تريد منا أن نتبين حقائق مرتبطة بالأنظمة الفاسدة.

و المسرحيات العربية و العالمية من هذا القبيل قد تشير إلى ذلك أو تريد منا أن نتبين حقائق مرتبطة بنظام عالمي فاسد يرفض آراء الآخرين (الديموقراطية).

هذه كلها افتراضات، و بإمكاننا أن نورد عددا لا متناهيا منها، استنتجناها من خلال عبارة تتلفظ بها شخصية مسرحية ما، و هو المقصود "بسلم الافتراضات المتحققة.

آليات انتقال دلالة الأفعال الكلامية عند سيرل و السكاكي[9]  

حينما طور سيرل نظرية أفعال الكلام، التي كان لأوستين الفضل في إبرازها إلى الوجود، كان أول من تناول بالدراسة الأقوال المسمات بـ: الأفعال الكلامية غير المباشرة، فقد لاحظ أن التأويل الكافي لجمل اللغات الطبيعية يصبح متعذرا إذا إكتفينا بما تحتويه الصيغ من أخبار. و أبرز مثال على ذلك، عبارة "هل يمكنك أن تناولني الملح" فظاهرها يوحي إلى استفهام، و لكن دلالتها لا تشير البتة إلى ذلك، فالمقصود بها هو الطلب. و من هنا نتساءل: كيف للمتكلم أن يقول شيئا و يقصد به شيئا آخرا؟ كيف يتم الانتقال من المعنى المصرح به إلى المعنى المراد أو المستلزم خطابيا؟ كيف يمكن ضبط و معرفة المعنى الذي تخرج إليه صيغة معينة كالاستفهام و النداء و الطلب و الأمر؟

لاحظ سيرل أن مثل هذه الأساليب أضحت أعرافا في لغات عديدة، و قد حاول تفسير ذلك انطلاقا من دراسة أفعال الكلام و المعلومات المشتركة بين المتكلم و المستمع، و قدرة المستمع على القيام باستنتاجات: مثال ذلك:

(س): لنذهب معا إلى المسرح.

(ع): يجب أن أراجع لامتحان الغد.

القول س يشكل دعوة للذهاب إلى المسرح، ورد (ع) هو رد سلبي لدعوة (س) و لكنه جاء في شكل صيغة إثبات، و السؤال المطروح هو كيف تمكن (س) من فهم رد (ع) على أنه رفض للدعوة؟

يسمي سيرل رفض (ع) للدعوة بالفعل الكلامي الأولي، و لكن رفض (ع) جاء بفعل كلامي ثانوي و هو إدعاؤه مراجعة الامتحان، و بالتالي فالفعل الثانوي يحمل دلالة حقيقة، أما دلالة الفعل الأولي فهي دلالة غير حقيقية. و هذا يدعونا إلى طرح السؤال السابق بأسلوب آخر: كيف يمكن الانتقال من الفعل الكلامي الثانوي الحقيقي إلى فعل كلامي أولي غير حقيقي؟

قسم سيرل تحليله لما جرى بين (س) و (ع) إلى عشرة مراحل، و هي بمثابة نسق من القواعد الإستدلالية لوصف قدرة المخاطب على استنتاج و إدراك الفعل غير المباشر المنجز في مقام معين.

تقديم الدعوة ل (ع)، يجيب هذا الأخير بأنه يراجع الامتحان

2- نعتقد أن (س) متعاون في المحادثة، و ملاحظته تبدو في محلها (قوانين الخطاب).

3- الإجابة قد تكون بالإيجاب أو بالرفض أو بدعوة أخرى مخالفة أو بمواصلة الحديث (نظرية أفعال الكلام).

4- كن قوله لا يشكل أي شيء مما ذكر، فإجابته إذن في غير محلها

5- من المحتمل إذن أنه يريد أن يقول أكثر مما صرح به، فغايته الأولية مخالفة لغايته الثانوية.

يشير سيرل أنه في هذه المرحلة التي يعتبرها أخطر المراحل، لا يمتلك المستمع أية وسيلة لفهم الأفعال الكلامية غير المباشرة، إذ تنعدم لديه إستراتيجية استنتاجية تمكنه من اكتشاف الحالة التي تغاير فيها الحالة الأولى للكلام، الغاية الثانوية.

6- ندرك مسبقا أن التحضير للامتحان يدوم أكثر من أمسية، و الذهاب إلى المسرح قد يدوم تقريبا نفس هذه المدة (معلومات خلفية).

7- لا يمكنه بطبيعة الحال الذهاب إلى المسرح و التحضير للامتحان في نفس الأمسية.

8- أحد الشروط الأولية لقبول أية دعوة، هو القدرة على إنجاز ذلك الفعل في ظل شروط المحتوى الإسنادي (نظرية أفعال الكلام).

9- لذا فإننا نعلم أنه قال شيئا، و هذا يستلزم احتمال رفض الدعوة.

10- غايته الكلامية هي رفض الدعوة.

انطلاقا مما سبق، يكون سيرل قد وضع تفسيرا شموليا للأفعال الكلامية غير المباشرة و لآليات تأويلها. هناك عوامل كثيرة هي بمثابة "محفزات للامباشرة الأقوال "أهمها الأدب و الاحترام. كما يذهب إلى ذلك سيرل.

إلا أنه حينما نقرأ المنطق الذي سلكه السكاكي في تفسير الأسلوب الذي تنتقل فيه الدلالة من قول للآخر، في كتابه "مفتاح العلوم"، نندهش للتقارب الموجود بينه و بين سيرل.

عندما قسم السكاكي الكلام إلى خبر و إنشاء، فقد وضع لكل قسم منهما شروط مقامية تتحكم في إنجازه، أي في إجرائه لمقتضى الحال، و يتفرع عن هذه الأنواع نفسها أغراض تتولد في حال إجراء الكلام على ما يقتضي المقام.

يمكن للخبر إذ أجري الكلام على غير أصله، أي على خلاف مقتضيات الحال أن يخرج عن قصد إلى أغراض مختلفة كالتلويح و التجهيل إلخ... أما بالنسبة للطلب (الإنشاء) فإن أنواعه الأصلية تخرج على الأصل في المقامات التي تتنافى و شروط إجرائها.

و يمكن أن نشرح الآليات –مثلما فعلنا لسيرل- التي تتولد بها المعاني الفرعية[10] فيما يلي:

1- تخرج معاني الطلب الأصلية الخمسة، حيث يمتنع، مقاميا، إجراؤها على الأصل إلى معان أخرى كالإنكار و التوبيخ و الزجر و التهديد و غيرها...

2- يحصل في حال عدم المطابقة المقامية أن يتم الانتقال من معنى إلى معنى داخل معاني الطلب الأصلية نفسها، إذ يمكن أن يتولد مقاميا، عن الاستفهام، التمني أو عن التمني الاستفهام مثلا.

3- أما عملية الانتقال ذاتها، فهي تتم حسب السكاكي، بالطريقة الآتية:

- في إجراء معاني الطلب الخمسة على أصلها، أي في مقامات مطابقة لشروط إجرائها على الأصل، يتعذر الانتقال، و تحمل الجملة المعنى الذي تدل عليه صيغتها دون زيادة.

- في إجراء معاني الطلب الخمسة غير مطابقة لشروط إجرائها على الأصل يحصل الانتقال، و يتم في مرحلتين متلازمتين:


المرحلة الأولى:

يؤدي عدم المطابقة المقامية إلى خرق أحد شروط إجراء المعنى الأصلي، فيمتنع إجراؤه.

المرحلة الثانية:

يتولد عن خرق شروط المعنى الأصلي، امتناع معنى آخر يناسب المقام، يقول السكاكي: "إذ قلت "هل لي من شفيع" في مقام لا يسع إمكان التصديق بوجود الشفيع، إمتنع إجراء الاستفهام على أصله، وولد بقرائن الأحوال معنى التمني-... "كما إذا قلت لمن تراه يؤذي الأب: أتفعل هذا؟ إمتنع توجه الاستفهام إلى فعل الأذى لعلمك بحاله و توجه إلى ما لا تعلم.... "(مفتاح العلوم/ ص132)، فيتولد عن ذلك الإنكار و الزجر.

دراسة الخطاب المسرحي انطلاقا من نظرية أفعال الكلام.

إن المسرح باعتباره فنا يعتمد الحوار، أساسا، قد يتوقف فيه الكلام على توظيف المؤلف للأعراف الاجتماعية و أعراف الكلام. تشير أوبرسفيلد في هذا الإطار إلى أن الكتابة الحديثة تولي الاهتمام أكثر لصراع الأفكار و العواطف التي تنتج عن التعارض بين الأفراد و المؤسسات، و للحروب الكلامية التي تعتمد مختلف استراتيجيات الخطاب التي يعتمدها المخاطبون من خلال استغلال وضعيتهم: إن المسرح المعاصر يعتمد بصفة غالبة الخطاب العادي (واستراتجياته) لإظهار الحركية الخاصة بالعلاقات الإنسانية بالطريقة التي تتجلى عليها إستراتجية أفعال الكلام[11]

هناك من يذهب إلى القول أن الأفعال الكلامية في المسرح هي مجرد تمثيلات الفعل الكلامي في الواقع، و بالتالي فإن الحوار المسرحي هو حوار خيالي لا يمت بصلة إلى الحوار في واقع الخطاب، بمعنى أنه يفتقد إلى وضعية خطابية حقيقية و واقعية تتكلف بتحقيق أفعال الكلام. و لكن ذلك لا يمكنه أن يكون رأيا صائبا، إذ أن الفعل الكلامي قابل للتحقيق بمجرد التلفظ به و لو كانت الوضعية الخطابية غير حقيقية، فحينما يقول أحد للآخر: توقف عن القيام بذلك الشيء، و يتوقف ذلك عن القيام بما نهي عنه، فإننا نقول أن الفعل الكلامي قد تحقق من جراء ذلك، رغم الصبغة الخيالية للمقام الخطابي.

إن الحديث عن الإطار التداولي للخطاب من خلال أفعال الكلام في المسرح، هو حديث عن مفهوم سيرل للقواعد التأسسية Règles Constitutives و هي مجموعة من الشروط تضمن نجاح المتكلم في تحقيق أفعال الكلام بمجرد التلفظ بها.

إن أي كلام يصدر عن متكلم فهو كلام صادر من مؤسسة تضمن له التحقيق و هذه المؤسسة هي التي تزود الأفعال الكلامية بالقوة التي تضمن تحقيقها عن طريق التأثير في سلوك المخاطب و معتقداته، إضافة إلى ذلك تحديد مراتب المتكلمين الاجتماعية و التخاطبية: إن تلعثم شفيقة، حلاق بغداد" و هي جارية ابنة القاضي، و أبو الفصول، جاء نتيجة إدراكهما لمرتبتيهما أمام القاضي ولموقفها من جراء ذلك:

القاضي: لا أكاد أصدق....... ماذا تفعلين هنا يا شفيقة، أين سيدتك؟ تكلمي.

شفيقة: (تتلعثم) لست أنا..... ليست هي......يا خرابي (تسقط على الأرض)

القاضي: تكلم، ألست أنت حلاق السوق؟ ماذا تفعل مع جارتي يا شيطان، هه؟ في ساعة الصلاة تتطارحان الغرام!؟

أبو الفضول: (يتكلم) لست أنا! لا أعلم .... ضاعت حياتي هذه المرة، يادي المصيبة.!

إن استفهام القاضي جعلهما يتلعثمان، و يغمى على شفيقة، بسبب ما أصطحب هذا الاستفهام من توعد. إن القاضي لم يتوعدهما بصراحة، إن وضعيته هي التي جعلتهما يفهمان ما لم يصرح به. فقد فهمت أن القاضي قد أدرك أمر يوسف و ياسمينة، ووجودهما هناك يهني مشاركتهما في الجريمة و هذا يعني أنها ستعاقب، نتيجة لذلك أغمى عليها.

أما أبو الفضول، فقد كانت له تجربة سيئة مع القاضي الذي انتزع منه رخصته كحلاق، و ها هو الآن في وضع المتلبس.

أما أبو الفضول، فقد له تجربة سيئة مع القاضي الذي انتزع منه رخصته كحلاق، و هاهو الآن في وضع المتلبس.

إن تأثير المؤسسة في مثل هذه المواقف يكون شديدا على المتخاطبين، فأفعال الكلام في ذلك تتحقق لا محالة، و هذا التأثير يتجلى في كلامهم و في سلوكاتهم، و لكن ظروف قد تخفف من هذه الشدة و تجعل المتكلمين يلينون من كلامهم، بل و يمحي تأثير المؤسسة على خطابهم، و هي غالبا ظروف من نوع خاص، مثلما هو الحال بالنسبة لما قاله الملك في مسرحية أهل الكهف:

الملك: إن قصري إن شئتم، منزلكم و مأواكم، و كل حوائجكم مجابة، و كل أوامركم مطاعة، ليس لنا من مطمح غير خدمتكم و رضاكم.

إن الراسخ في ذهن الملك أن القداسة أقوى من المؤسسة التي تواضع عليها البشر، إن هؤلاء القديسين الثلاثة تجب مخاطبتهم بما يليق بهم و بشأنهم.

هناك قضية أخرى و هيأن تغيير مرتبة الأشخاص الاجتماعية و السياسية... سيؤدي حتما في نمط و أسلوب الحديث و في صياغة أفعال الكلام، بل إن الشعور بتغير وضعية الأشخاص، يتسبب في تغير أسلوب صياغة الأفعال الكلامية مثلما هو الحال في مخاطبة محمود (و هو الوزير المتنكر) و مصطفى (الملك المتنكر).

محمود: تريث يا حاج مصطفى.

مصطفى: (بحدة) لا تقاطعني يا محمود......

رغم إدراك الوزير بأنه مشارك في اللعبة، إلا أنه أحس للحظة أنه ليس وزيرا و أن مصطفى ليس ملكا، الأمر الذي غاب عن بال الملك الذي كان يشعر في قرارة نفسه أنه مهما تغير الوضع، فإنه سيظل دائما ملكا، و بالتالي جاءت إجابته لمحمود، كإجابة الملك لوزيره.

بدأت شكوك الوزير تتأكد في أن مصطفى ضاع منه العرش، و أن الملك الجديد أصبح مسيطرا بالقوة على العرش، و قد تبين ذلك في لهجة خطاب الملك الجديد لمقدم الأمن:

الملك: و في الخفاء، ماذا يحاك في خفاء هذه البلاد

مقدم الأمن: مع رجالي لا يوجد خفاء

الملك: إنك مفرط في الثقة أيها المقدم، و الثقة المفرطة تلك تقلل من الاحتراز واليقظة.

مقدم الأمن: (بحدة) هذه اللهجة لم أتعود سماعها.

الملك: على الملك أن يغير لهجته بين حين و آخر إن كان لا يريد أن يلتهم الخفاء عرشه.

إن مقدم الأمن لم يدرك أنه يخاطب شخصا غير ذالك الذي اعتاد مخاطبته من قبل، زيادة على ذلك، أنه لم يكن يراعي تلك القواعد التي يتعين على موظف الملك احترامها في خطابه له، أي لم يكن يراعي مرتبته كمقدم أمن ومرتبة الملك، فقد اعتاد على هذا الخرق لأنه في واقع الأمر كان يخاطب مؤسسة ضعيفة لكن واجهته قوة لم يعهدها، أعادته إلى وضعه، و منحته دوره الحقيقي و اللائق به كمقدم أمن تحت أوامر الملك.

و نفتح قوسين في هذا السياق لنعيد ما قاله منقونو، في أنه من السهل الانتقال في المسرح الذي يشكل أحسن وسيلة لفهم التداولية، من مفهوم النسق القانوني إلى الدور، و أن المسرح هو صورة مصغرة للعالم و الحياة:

الملك: ملك بلا ريبة كملك بلا عرش

مقدم الأمن: إنها لفعلة دنيئة! من وشى إلى مولاي؟

الملك: (يفعمه الإحساس بالسيطرة على المعركة) أنت هنا لتقدم تقديرك لا لتستوجبني (ثم يعلو صوته!) أتسمى الإخلاص للملك وشاية.

مقدم الأمن: (ينهار) لم أقصد يا مولاي.

إن انهيار مقدم الأمن عند علو صوت الملك لدليل على الأهمية التي تنظوي عليها النبرات و الإيماءات في تحقيق أفعال الكلام.

ملاحـظة

يلاحظ بعض النقاد و الباحثين أن الأفعال الكلامية قد تتحقق و لو لم تتوفر كل شروط النجاح، التي تسمح لها بالتأثير على المتخاطبين. إن مجرد التلفظ بها يستلزم توفر الشروط و لو في ذهنه، فحين يتوعد "يوسف" أبا الفضول بالذبح، فإن ذلك لا يهني أن فعل الذبح لن يتحقق إلا إذا حدث في الواقع، لقد تحقق الفعل، و لم يذبح أبا الفضول:

يوسف: (هائجا) أرأيت لن تخرج من هنا حيا.

أبو الفضول: (مذعورا) الله! يا سيدي.

يوسف: سأذبحك.

لقد أثر فعلا، كلام يوسف في أبي الفضول، و هذا كافي لنقول أن الفعل قد تحقق.

يقول منقونو: " من جهتنا: نعتبر أن الفعل الكلامي قد يتحقق حتى و إن لم تثبت نتيجة (في الواقع)، إن مجرد إصداره يضفي عليه مشروعيته، بمعنى آخر إن الذي يصدر منه فعلا كلاميا، لا ينتظر حتى تتوفر جميع الشروط ليقوم بذلك، إن مجرد التلفظ به يعني أن تلك الشروط قد اجتمعت[12]".

إن المتكلم قد يعتمد على شروط سابقة لم يعد لها وجود أثناء الخطاب ليصدر أفعالا كلامية مناسبة لتلك الشروط، و هذا ما قد يضفي بعض الضبابية على العملية التبليغية، الأمر الذي قد يبطل تأثير القوة الكلامية Force Illocutoire للأفعال الكلامية على المخاطب:

مرنوش: ما إسمك أيها الراعي؟

يمليخا: إسمي يمليخا يا مولاي.

مشلينا: لماذا تدعونا دائما بـ يا مولاي؟

يمليخا: و بما أدعو صاحب يمين الملك و يساره؟

ثم يشرح يمليخا أين عرفهما و كيف عرف أنهما هربا من مذبحة الملك، ثم يقول مشلينا: يمليخا ......كلمة (مولاي) تؤذي سمعي، إنا هنا إخوة مسيحيون فلا مولاي و لا عبيد.

و هما يعيد مشلينا الأمور إلى مجاريها، و يتوقف يمليخا عن استعمال صيغ الاحترام لفترة، و لكن الشروط السابقة كانت قد رسخت في ذهنه، و ظل يردد لفظة (مولاي).

إن التقليد الأدبي عموما و المسرحي بصفة خاصة، يسمح للمؤلف بالتلاعب بالأدوار التي يضفيها على شخصياته، و إن جاءت هذه الأدوار مغايرة لما هي عليه.

المؤسسات و الأعراف في الواقع، و المقصود بذلك تلك الأعمال التي تنقلب فيها الأدوار، فيصير الأمر مأمورا و الملك عبدا و العبد ملكا........مثلما هو الحال في جزيرة العبيد" لماريفو Marivaux، التي صار فيها العبيد ملوكا والملوك عبيدا، حيث أضحى هؤلاء يصدرون الأوامر و النواهي للملوك، أو تلك المرافعة التي قدمها ساتير في "أسطورة القرون la légende des siècles لفيكتور هوجو V.Hugo، أمام الآلهة، أين قال:

أبقوا أماكنكم، أنا بان، أنت يا إله زحل إركع لي.

الصبغة التفاعلية للأفعال الكلامية

إن اللغة ليست وسيلة للتعبير عن الأفكار و توصيل المعلومات، بل هي نشاط يتسبب في تحويل الوضعيات بجعل الآخر يعترف بالنوايا (التداولية) للمتكلم، وبما أن الحديث هو عملية مؤسسة على مشاركة أطراف الخطاب فإن الأساس فيه هو المتكلم و المستمتع.

إن هذا التصور مبني على التصور القائل بأن اللغة هي مؤسسة تتحكم في ثباتها استمرارية التبادلات الكلامية. انطلاقا من ذلك تلعب الأفعال الكلامية دور تحويل معتقدات المتخاطبين من جهة، و استمرارية الخطاب بين أطرافه من جهة أخرى، إن أقوال المتكلم تنبني على ما قاله المخاطب، فلا توجد هناك أفعال قوالب، كل قول السابق، و للافتراضات و التأويلات التي يحتويها:

مشلينا: (يعود إلى القعود في قنوط) : يا إلهي، ماذا أستطيع لك إذن؟

يمليخا: دع الأمر للمسيح.

مشلينا: ليت المسيح يعلم بما يوقر ضميري.

يمليخا: أو تشك في أنه يعلم؟ أستغفر الله، أعتقد أنه يعلم و أنه سيخفف عنك.

مشلينا: متى؟

يمليخا: متى! اللهم رحماك إننا لا نملك حق سؤال كهذا، ينبغي لنا أن نعتقد.

مشلينا: إني أعجب بإيمانك يا يمليخا.

يمليخا: إني أومن بالمسيح لأنه حق، و لا يمكن أن تكون هذه البشرية قد بذلت أرواحها و سفكت دماءها من أجل شيء غير الحق

مشلينا: أولدت مسيحيا أم اعتنقت الدين على كبر؟

يمليخا: بل ولدت مسيحيا.

مشلينا: مثلي إذن.

يمليخا: نعم، لكن الإيمان الحقيقي إيمان اليقين و الاقتناع لم يضئ لكل نفسي إلا من يوم سمعت ذلك الراهب يتكلم تحت أسوار طرسوس.

بدأ الحديث بينهما بالشكوى، فتطور إلى استفهامات و تقريرات .... كان مشلينا يعتمد على ما جاء في حديث يمليخا ليضمن استمرارية ما يقول و الغرض من كل هذا هو أن يبعد القلق من مشلينا و يروح عنه.

في مثل هذه السياقات، يعمد المتخاطبون إلى مجموعة من الحيل والاستراتجيات يعتبرها البعض ثانوية، و يرى فيها البعض الآخر الأساس في تحقيق التفاعل الكلامي و ضمان استمرار الخطاب، و عدم انفصال الطرف الآخر في المشاركة فيه.

إن المتكلم ينطلق من كلمة أو عبارة أو فكرة احتواها كلام الآخر لصيانة كلامه بطريقة يعمل فيها على توجيه الخطاب مع ترك المخاطب في وضع يعتقد فيه أنه لم يخرج عن موضع الحديث، و التفاعلية تتوقف على مدى إدراك المتخاطبين للأرضية المشتركة بينهما.

التفاعل الكلامي يتم غالبا في الاستعمال المتناوب للأفعال الكلامية من قبل المتخاطبين، سواء المباشرة أو غير المباشرة، إن الحوار كله يتوقف على التناوب ضمنيا.

زينة: عفوك مولاي.

الشبندر: إن أذن لي مولاي، و سمح سيدي الوزير و سيدي القاضي.

الخليفة: (غير ملفت إليه) اشرحي لنا هذه الواقعة.

الشبندر: مولاي......

الخليفة: (ضيقا به) ماذا أيها الشبندر؟ ألا ترى أن صاحب البيت أولى بفتح الحديث؟ ألا ترى أن المرأة أضعف من الرجل؟ أفأولى بنا أن نبدأ بسماع حجتها..........إقترب يا وزيري، افتح أذنيك جيدا تسمع كي تفسره لنا.

كشف هذا المثال عن حقائق عديدة و مفيدة:

- أن الحوار هو مجموعة من الأفعال الكلامية.

- أن للمرتبة دور رئيسي في صدور هذه الأفعال.

- تدخل عنصر الجنس في توجيه عملية التفاعل الكلامي، و يتجلى ذلك في سماح الخليفة للمرأة (زينة) بالكلام/ و منع الشبندر من ذلك رغم كونه (الخليفة) أعلى مرتبة منها أكثر من ذلك، فإن توبيخه للقاضي أبرز بعض تلك القواعد التي يستقيم بها الكلام في ذلك السياق، و لا تسمح لأي شخص تجاوزها مهما كانت مرتبته، و هي تتمثل في:

- إن صاحب البيت هو أولى بفتح الحديث إن للبيت حرمته و لصاحب البيت حرمته أيضا،و الحديث قبله يعد تعدي على حرمة البيت و حرمة صاحبه.

- إن المرأة أضعف من الرجل و هذا يسمح لها بأسبقية الحديث لأن الرجل قد يوظف قوته في تغطية الحجج التي قد تسيء إليه، و إعطاء منحى للمسار الحجاجي للخطاب بعدا في غير صالح المرأة، و أخيرا أن المرأة هي صاحبة البيت و بالتالي لم يبق للشبندر إلا أن يسكت و ينتظر دوره للكلام.

خـاتـمـة

أفضت بنا هذه الدراسة التي أردنا من خلالها التعريف بمنهج جديد في البحث اللساني و محاولة تطبيقه على اللغة العربية، و هو منهج نؤمن بقدرته على حل إشكاليات لغوية عالقة، نتيجة تصورات ابستيمولوجية ضيقة إلى تحديد و تثبيت بعض الأسس التداولية اللغوية التي تأسست وفق شبكة معقدة من المعطيات اللغوية و غير اللغوية، و هي معطيات كفيلة بالتحديد الدقيق للمعنى و إبراز البعد الحقيقي لبعض التصورات التي تعد جوهرية إذا نظرنا إليها من زاوية الماهية الفعلية للغة و هي الاستعمال بكل أبعاده و هذا من شأنه أن يميط الحجاب عن حقائق جوهرية للبعد الحقيقي لبعض العناصر التي تعد الحجر الأساس في العملية التواصلية تتمثل في إعادة الاعتبار للمتكلمين الذين يتفاعلون من خلال ما يفرضه عليهم حال الخطاب من معطيات اجتماعية وثقافية و نفسية و لغوية. إن المتكلم، كما يذهب إلى ذلك بعضهم لم يعد عنصرا مهمشا في علاقة اللغة بالكلام، إنه يكتسي وضعية مركزية في إنية الخطاب.

و تجدر الإشارة إلى ما زاد من مصداقية الطروحات التي تبناها الفلاسفة واللغويون التداوليون، هو ارتباطها الوثيق بمختلف العلوم الإنسانية من علم اجتماع، و إناسة و علم الأجناس و تاريخ.......لارتباط هذه العلوم بالإنسان ذاته و بعلاقته بغيره و بالعالم، بكل ما يحتويه من تناقضات و تعقيدات و هو ما زاد في اتساع نظرتها للغة، الأمر الذي أبعدها عن مأزق التضييق الذي وقع فيه البنيويون.

و نشير أيضا إلى أن النافذة التي فتحناها على التراث و النظرية المعرفية العربين، استطاعت أن تكشف لنا عن أبعاد معرفية لم تكن بالحسبان قبل أن نتناولها بالبحث، و هو الشيء الذي أكد قناعتنا المعبر عنها في مقدمة هذا المقال في عدم وجود قطيعة فعلية بين الحضارات الإنسانية بصفة عامة و الحضارة العربية الإسلامية و الحضارة الأوروبية الحديثة بصفة خاصة. إلا أن البحث الفكري و اللساني العربي الحديث لم يتمكن – نستثني في ذلك بعض الجهود المتفرقة هنا و هناك بين المشرق و المغرب- من الحصر العلمي و الدقيق لمعالم النظرية العربية القديمة، و بالتالي استغلالها من أجل السير قدما نحو حل المشاكل التي تعانيها الشعوب العربية و الإسلامية و الإسهام في الإثراء الفعلي للحضارة الإنسانية.

إن استخدامنا للخطاب المسرحي في هذا البحث و إن كنا قد بررنا هذا الاستخدام في بداية هذا المقال قد يجعلنا نتساءل عن إمكانية تعميم النتائج على جميع الخطابات انطلاقا من خطاب واحد. نقول في هذا الإطار أننا أردنا لهذا البحث أن يكون حيا و أن يبرز بعض الظواهر التي قد تبدو غامضة إذ تطرقنا إليها من الناحية النظرية فقط، فأثرنا لبحثنا أن يكون تطبيقيا، مع الإشارة في ثنايا هذا البحث إلى بعض الدراسات التي شملت خطابات أرى غير الخطاب المسرحي.


الهوامش

*  مذكرة ماجستير، ديسمبر 1997، جامعة الجزائر.

[1] Orecchioni, C. K : Enonciation de la subjectivité dans le language.- Paris, Armand Colin, 1980.-p. 185.

[2] Maingueneau, D : Nouvelles tendances en analyse du discours.- Paris, Hachette, 1987.-p. 19.

[3] أنظر مداخلة الأستاذة خولة طالب الإبراهيمي في: "ندوة الأستاذ" بمعهد اللغة العربية و آدابها بجامعة الجزائر في فبراير من عام 1998.

[4] Orechioni,C.K: Op.cité.-p.185.

[5]  الإرديس، علم المسرحية (ترجمة: دريني خشبة).-ط.2، الكويت، دار سعاد الصباح.- ص.26.

[6]  الإرديس، نيكول: المرجع السابق.- ص.28.

[7] Ubersfeld, Anne : Lire le théâtre.- Paris, Editions sociales, 1981.-p 234.

[8] 1- Dreechioni,C.K: Pour une approche pragmatique du discours théâtral.- In Pratiques, n° 41, Mars 1984.-p48.

[9]  في هذا المجال، أنظر المقالة التي نشرناها في مجلة التبيين، العدد 16، عام 2000.

[10]  أنظر في ذلك: المتوكل، أحمد: اقتراحات في الفكر اللغوي العربي القديم لوصف ظاهرة الاستلزام التخاطبي.- أعمال الثالثة في البحث اللساني و السيميائي.- الرباط، كلية الآداب و العلوم الإنسانية، 1981.

[11] Ubersfeld, Anne: Op.cité.- p.282.

[12] Maingueneau, D.m Pragmatique pour le discours littéraire.- Paris, Bordas, 1990.-p. 9.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche