صناعة الكتاب في العالم العربي بين المنطق التّجاري والمبادرة الثقافية: مصر أنموذجا

إنسانيات عدد 34 | 2006 | الرياضة. ظاهرة وممارسات | ص49-60 | النص الكامل


Mohamed SAHBI : Université d’Oran, 31 000, Oran, Algérie


 

في البدء كان التوازن

من المعروف أن أيّ نشاط يقوم به الإنسان، سواء في حياته اليومية أو العملية، يخضع إلى نوع من المنطق. فالحياة، إذا لم تسر على خطى ثابتة, مدروسة، أو لنقل مسايرة للتوازن الذي تفرضه طبيعة الأشياء, فإن المحصّلة في النهاية ستكون منقوصة أو مشوهة.

بل إن الطبيعة ذاتها، إذا اختلّت إحدى حلقات سلسلاتها، اختلّ التوازن الطبيعي كلّه، و كانت ردّاته عنيفة على حياة البشر والحيوان والنبات... و الأمثلة عن ذلك عديدة منها على سبيل المثال لا الحصر ما يحدث في طبقة الأوزون (؟)

بناءً على هذا التوازن، أو بحثا عنه، أخذت العلوم و منهجياتها، تتبادل المصطلحات والمفاهيم، فأصبح علماء الاجتماع و النفس يتحدثون عن التوازن الاجتماعي و النفسي، و انتقل مصطلح "السلسلة الغذائية" من مجال الطبيعيات إلى مجال الوثائقيات ليُعبّر عن نوع من الترابط و التواصل فيما بين الإجراءات العلمية التي تتبعها السلسلة الوثائقية[1]. فإذا ما توقّف عنصر عن أداء مهمته، اختلّ التوازن الطبيعي للأشياء.

إنّ السلسلة "البيبليولوجية"، إذا صحّ هذا التعبير الّذي يقابل "Le schéma bibliologique" عند روبير إستيفال[2] هي أيضا خاضعة للتوازن، فوجود حلقة من حلقات السلسلة تدين بوجودها إلى التي سبقتها.

إذن، يمكن اختصار هذه الحلقات إلى ما يلي: المؤلف فالناشر، الموزّع، المكتبي (أو الوراق)، الناقد، فالقارئ. و على أساس هذه السلسلة ذات الحلقات المترابطة، يمكن فهم عملية طبع و نشر الكتاب سواء عندنا أي في دول العالم الثالث أو في العالم المتقدم.

إذن، إن الأسئلة الجوهرية التي تطرح نفسها علينا في هذا المضمار هي: هل لا يزال للمؤلف أو الكاتب - وهو إحدى أهم حلقات السلسلة - دور في عملية صنع الكتاب في العالم العربي ؟

- من هم المشتغلون في حقل الكتاب طباعة ونشرا وتوزيعا ؟ و كيف يعملون؟

- هل يوجد قراء بالمعنى العلمي للكلمة ؟ بمعنى هل لدينا في العالم العربي فئة القراء الدّوريين الذين يتابعون حركة النشر بشغف و عفوية ؟

1. طباعة الكتاب و نشره صناعة ؟

لكل صناعة من الصّناعات إنتاج معين، محدّد المواصفات، هو في حقيقة الأمر نتيجة لفكرة، فمشروع، فدراسة جدوى، إلى غير ذلك من الخطوات. و لكنّ، على الرّغم من ذلك، فإنّ لاستعمالات هذا المُنتج له مظهران: أحدهما إيجابي و آخر سلبي، أي حسب طريقة الإستخدام.

أما ما تنتجه صناعة الكتاب، فإنها أخطر ما تنتجه كل الصناعات بدون استثناء، ذلك لأنّ منتوجها لا يُسهم في الحركية الثقافية و الاقتصادية، أو في تطوير المعارف ونموها وحسب، بل في توجيه المعارف والمعلومات التوجيه الذي يتماشى والهدف الي يرسمه المؤلف أومجموعة المؤلفين، أو هذا اللّوبي أو ذاك الذي يكتب له الكُتاب و الموجّهون..

من أجل ذلك، يُنظر إلى الكتَاب في العالم المتقدّم باعتباره صناعة قومية، من واجبات السّاسة وضعُها ضمن أولى اهتماماتهم السّياسية و الإستراتيجية، مثلها مثل التسليح أو الأمن الغذائي و غيرهما من الملفات الحسّاسة..

  • الطباعة في مصر و العالم العربي

تُرجع بعض المصادر الأجنبية و العربية ظهور الطباعة في العالم العربي، إلى ماقبل القرن السابع عشر، حيث عرف المسلمون نوعا من الطباعة لم تصلنا تفصيلات وافية عنها، وتحفظ مكتبة باريس الوطنية بنص طبعه المانوية في تركستان قبل اختراع "غوتمبرغ" للمطبعة بستمائة عام[3].

ثم يشير "جاك س. ريسلر" من جهة أخرى، أن المنغوليين في إيران، قد أنتجوا في القرن الثالث عشر الميلادي، نوعا من الورق صالحا للطّباعة بواسطة بعض الشخوص المتحركة من البرنز[4].

لقد ظهرت أول مطبعة عربية في مدينة "فانو" بإيطاليا، كان قد أمر بإنشائها البابا " يوليوس الثاني" و بدأت العمل عام 1514م في عهد البابا "ليون العاشر"، وكان الغرض من إنشائها هو نشر الكتب الدينية للطوائف المسيحية، وكان أول هذه الكتب، كتاب " الأورلوجيون" المعروف بكتاب السواعية..

ثم قام رجل - حسبما يقول المستشرق " خوسي دي مونتيرو فيلا "- في مدينة البندقية يُدعى Baganino de Brescia بطبع القرآن الكريم لأول مرة عام 1530م، لكن البابا أصدر أمره بإحراق جميع النّسخ خشية تأثيرها في عقائد رعاياه من المسيحيين[5].

إلا أن دخول أوّل مطبعة إلى العالم العربي، كان في سنة 1610م في دير القديس أنطونيو الماروني في قزحيا شمال لبنان، و طبع فيها كتاب المزامير الديني، و لم يُطبع بعده كتاب آخر إلا في عام 1734م ...أمّا في مصر، فقد كانت أوّل مطبعة فيها هي التّي جلبها نابليون في حملته عام 1798، وقد رافق هذه المطبعة أكثر من خمسين عالما في جميع التخصصات. و لم تُجلب هذه المطبعة بقصد نشر المعارف كما ذهب إلى ذلك البعض، بل كان الغرض من ورائها هو طبع المناشير وتوزيعها على الشعب المصري من أجل الإستسلام...

ب- محمد علي يبدأ التحديث من خلال المطبعة

إنّ البداية الحقيقية للطباعة في مصر، كانت في 1821، عندما أنشأ محمد علي مطبعةً ببولاق، و عيّن لها مديرا هو نقولا المسابكي اللبناني الأصل.

و اعتبرت هذه المطبعة رمزا للتحديث في مصر والعالم العربي[6]. و قد نشرت هذه المطبعة في الفترة الممتدة بين عامي 1822 و 1842 أكثر من 240 كتابا موزعا على الميادين العسكرية والحربية والعلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية و الإجتماعية.

ولم يكتف "محمد علي" بهذه المطبعة فقط، بل فتح مجال الطّباعة و النشر واسعا أمام القطاع الخاص المصري و غير المصري. وكأنّه بذلك كان يطبّق ما أوحت به " السلسلة البيبليولوجية " التي استدعت، إلى جانب وجوب إحياء التراث العلمي العربي، ترجمة ما توصّل إليه الغرب من علم وتقنية، باعتباره مادة أولية؛ حمل لواءها، كما هو معروف، الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي. وكانت النتيجة إرواء عطش المئات بل الآلاف من المثقفين الإحيائيين في مصر و العالم العربي إذّاك.

لقد عرفت السّاحة، خاصة بعد موت "محمد علي" حركية و فعالية، لعب فيها السوريون و اللبنانيون، إلى جانب المصريين، دورا مهما في صناعة الكتاب والنشر، و تأسيس الصحف والمجلاّت، مثلما هو شأن أحمد البابي الحلبي، الذي أنشأ المطبعة الميمنية في سنة 1859، التي انقسمت فيما بعد إلى شركتين منفصلتين، ومطبعة المعارف التي أنشأها إبراهيم المويلحي، و المطبعة الأهلية القبطية التي بدأت عملها سنة 1870م.

و في الفجالة بمصر أيضا، أنشأ الأديب المشهور جرجي زيدان و نجيب متري، في عام 1894م مطبعة التأليف، لكنهما انفصلا في العام الموالي، ليؤسس كل منهما مطبعة خاصة به، فكانت مطبعة دار الهلال بالنسبة للأول ومطبعة دار المعارف للثاني[7].

والواقع أنّ هؤلاء وغيرهم ممن كان لهم الفضل في تحريك صناعة نشر الكتاب في مصر، كانوا قبل اقتحام هذا الميدان الحسّاس الذي فتحه أخلاف محمد علي، قد تحوّل عدد منهم من أصحاب مكتبات بيع ما كانت تنتجه مطابع بولاق المصرية، و حيدر آباد الهندية و الإستانة التركية إلى التزام النشر. وقد كانت بداياتهم اعتماد نشر الكتب القديمة، و ما يحتاجه طلاب العلم من أزهريين و غيرهم..

و مع نهاية القرن التاسع عشر، كان قد نُشر في مصر حوالي عشرة آلاف كتاب، منها 1762 كتابا في الدين، 2015 كتابا في الأدب، 1372 كتابا في العلوم الاجتماعية، 1092 كتابا في التاريخ، 705 كتاب في الفلسفة و 242 كتابا في العلوم الطبيعية، بالإضافة إلى 372 كتابا دراسيا..[8]

لقد أسهمت هذه الحركة المطبعية في مصر وفي غيرها من دول العالم العربي آنذاك مثل لبنان و سوريا، في بعث الروح العلمية و المنافسة الأدبية و الفكرية، فشهدت بروز أقلام أثرت بفكرها المتحرر على كل فئات المجتمع و خاصة في الفترة الممتدة فيما بين العشرينيات و بداية الخمسينيات من القرن العشرين.. غير أنّ الحال بالنسبة لصناعة نشر الكتاب لم تتغيّر كثيرا، إذ استمر الوضع العام، القانوني و التنظيمي الذي طبع حركة النشر خلال القرن التاسع عشر، و المتسّم بغياب قواعد تُنظم هذه الصناعة أو تحدّد العلاقة بين العاملين بها، "فالأمر فيها كان متروكا للإجتهاد الشخصي و لمهارة صاحب العمل (المطبعة) في تحقيق أكبر قدر من الرّبح.."[9].

لكن على الرّغم من ذلك، تمكّنت هذه الدّور من أن تزوّد سوق الكتب و المكتبات بعدد لابأس به من الكتب، قياسا لعدد سكان مصر آنذاك، الذي لم يكن يتجاوز 20 مليون نسمة، و تقنيات الطبع و النشر المتوسطة الحال، هذه الكتب لا تزال تشكّل لحد الآن أساسا ما في المكتبات العربية .

و لقد كانت إحصائيات الإنتاج المصري من الكتب، غير الروايات و الدوريات و الكتب المدرسية و كتب الأطفال، في تلك الفترة ما متوسطه 300 عنوانا في السنة.

- الجدول التالي يبيّن إنتاج الكتب في الفترة بين سنتي 1945 و 1952[10].

 1945

 1952

   –  200 عنوانا

–  300 "

– 470 "

–  290 "

- 38 عنوانا

- 325   "

– 315   "

– 369   "

المجموع = 2649 عنوانا

بمتوسط سنوي =12. 331 كتابا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

و بقراءة بسيطة لهذا الجدول يمكن استناج أنّ متوسط صناعة نشر الكتاب كان يساوي في هذه الفترة من تاريخ مصر: كتاب لكل 60 ألف مواطن ..

2. نشر الكتاب صناعة قومية

إذا كان الطابع العام الذي ميّّز صناعة نشر الكتاب قبل الثورة المصرية في 23 جويلية 1952، قائما على أساس عمليات فردية مردها إلى ملكية صاحب المكتبة أو المطبعة أو كليهما معا، فإنّه سيكون مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، متسما بمظهرين جوهرين هما:

- وضع صناعة نشر الكتاب ضمن استراتيجية نظام الثورة الجديد.

- تنظيم كافة الفاعلين الأساسيين في مجال الكتاب :المؤلفين، الطابعين، الناشرين، المكتبيين و غيرهم ممّن يشكّلون حلقات السلسلة البيبليولوجية - كما يطرح تصوراتها "بول أوتلي Otelet Paul - تنظيم هؤلاء الفاعلين في تنظيمات واتحادات قومية، تُسهم بآرائها و انشغالاتها في حلّ مشاكل مثل: غلاء الورق، الجمارك، حقوق المؤلفين، و غير ذلك.

لقد كان المظهر الأول صورة من صور الإستراتيجية الثقافية و"العقائدية" التي وضعتها سلطة الثورة "النّاصرية" باستحداث وزارة الثقافة والإرشاد عام 1952، ولكن هذه الوزارة تطورت منذ 1958، فأصبحت وزارة الثقافة، و كان من مهامها الرئيسة، وضع خطة للتنمية الثقافية، تسير جنبا إلى جنب مع الخطة العامة للدّولة. تم تأسيس مطابع ودور نشر حكومية، أوكلت إليها نشر المعارف والعلوم، بالتركيز على الفكر النهضوي، العربي، و الاشتراكي. و من أهم ما إستُحدث من مشاريع ومؤسسات نشر في هذه الآونة، يمكن ذكر ما يلي على سبيل المثال:

- المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة و الطباعة و النشر عام 1962، و قد مرت هذه المؤسسسة في تطوّرها بعدة مراحل، إلى أن صارت تسمى بـ "الهيئة المصرية العامة للكتاب"، بعدما تمّ إدماج، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر مع دار الكتب والوثائق القومية. و اتخذت هذه الهيئة تمثال "الكاتب المصري القديم" شعارا لها، توسم به جميع مطبوعاتها للدلالة على الحكمة و الفكر في الحضارة الفرعونية القديمة..[11].

- مشروع الألف كتاب الذي أنشأ في سنة 1955 لتشجيع الترجمة، وهو الآن في آخر الألف الثاني. و قد غطى المشروع إلى غاية الآن جوانب هامة من الناحية الموضوعية، بحيث أغنى المكتبة العربية بمراجع كانت في أمس الحاجة إليها.

فبعدما كان عدد الكتب المترجمة في سنة 1951 ثلاثين (30) كتابا، قفز في سنة 1967 إلى 455 كتابا. و بشكل عام، فقد كانت سنوات الستينيات، سواء من حيث التأليف والترجمة والتحقيق من أخصب السنوات..

وفي المقابل، لم يُهمَل القطاع الخاص في هذا المجال، بحيث لاقى تشجيعا خاصا، مكّنه من الإسهام في تحريك صناعة الكتاب في مصر، إلى أن بلغ الإنتاج مع نهاية الخمسينيات من القرن العشرين ثلاثة أضعاف ما كان يُنتج في السنة الواحدة خلال عصر ما قبل الثورة، كان نصيب القطاع الخاص منه أكثر من النصف.

أما بخصوص المظهر الثاني الّذي اتسمت به صناعة النشر في مصر، فقد سهر القائمون على هذه الاستراتيجية الثقافية، بالإضافة إلى ما ذكر آنفا، على تنظيم هذه الصناعة القومية، بسنّ قوانين وتشريعات تسيّرها، مثلما هو شأن قانون الإيداع "le dépôt légal" الصادر سنة 1954. إلاّ أن ذلك، لم يكن له تأثير كبير على البيانات الإحصائية حول الكتاب ونشره، التي لم تتقدّم كثيرا.

و بذلك لم تتمكّن دار الكتب مثلا، وهي التي كانت مشرفة على تنفيذ القانون من أن تُتابع الإنتاج متابعة دقيقة، لتخلّف عدد من الطابعين أو الناشرين عن إيداع مطبوعاتهم بالدار فور صدورها... و هو الأمر الذي صعّب من مهمة التعرّف على بيانات النشر في تلك المرحلة، و لكن، مع بداية الستينيات، بدأت مؤشرات و بيانات النشر تظهر للوجود، ممّا مكّن من التعرّف على اتجاهت النشر و نسبة نموها.

لقد كان إنتاج الكتب في مصر في الفترة الممتدة فيما بين سنتي 1960- 1962، ما بين كتاب مُؤلف و مترجم و مُحقّق، و مُنتَج من قبل المؤسسات المذكورة، بالإضافة إلى الهيئات و الجمعيات و الأندية، والمؤلفين الذين ينشرون أعمالهم لحسابهم الخاص (وتراوح عددهم في تلك السنوات مابين 90 و100 مؤلف).

الإنتاج

1960

1961

1962

تأليف

961- 76%

1320-76.3 %

1517- 75.5%

ترجمة

287- 22%

334- 18.8%

462- 22.5%

تحقيق

15-  2 %

63-4.9%

38- 2%

المجموع

1263

1716

2007

 

 

 

 

 

 

 

 

و بقراءة إجمالية لهذا الجدول، نستنتج إنّه على الرّغم من المجهود الكبير، الذي قام به المصريون في مجالي التأليف والنشر، فإن مجمل ما أنتج في ثلاث سنوات، و هو 4986 عنوانا، لا يصل إلى عُشر ما أنتجته ألمانيا الإتحادية في سنة 1960، حيث بلغ ما يفوق 60000 عنوانا[13]. وقد بلغ عدد ما نُشر في الولايات المتحدة في نفس السنة ما بين 4 ملايير و 4.5 ملايير من المجلدات، موجهة إلى 20 بالمائة من إجمالي السكان الذين بلغوا أذاك حوالي 200 مليون نسمة[14].

و رغم هذه الأرقام التي تبدو هزيلة الآن، فإنّ إنتاج الكتب بالنسبة إلى عدد السكان، في مصر قد قفز من كتاب لكل 60 ألف مواطن قبل الثورة، إلى حوالي كتاب لكل 15 ألف مواطن..

و مهما يكن من أمر، فإن صناعة النشر في مصر، قد عرفت مع مطلع التسعينيات تطورا ملحوظا، كان السبب الرئيسي من ورائها محاولة القائمين على نشر الثقافة و الوعي من خلال الكتاب والمجلات العلمية والفنية، سواء أولئك الذين ينتسبون إلى الهيئات الحكومية، أو المؤسسات الخاصة أو الأفراد مثل المؤلفين و المثقفين، وجمعيات محبّي الكتاب، رأب الصدع الّذي يفصل بين ماهو تجاري وماهو ثقافي في عالم الكتاب.

و يظهر أن هؤلاء قد وعوا جيدا مقولة "ديدرو" Diderot الشهيرة التي تقول: "إنّ القواعد التي تحكم صناعة الملابس، يجب ألا تطبّق على نشر الكتب.."[15].

3. مشروع "القراءة للجميع" : تجربة رائدة عمرها عشر سنوات 1994 ...

مع أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، بلغ الإنتاج العالمي من الكتب حوالي نصف مليون عنوان، ومن حيث عدد النّسخ فقد تراوح ما بين سبعة و ثمانية ملايير نسخة؛ أنتجت منها الدّول الأوروبية (ومعها اليابان و الإتحاد السوفياتي سابقا وأستراليا)، نسبة 81 %، مع أنّ شعوبها لم تكن تمثل سوى 30% من مجموع سكان العالم. ومعنى ذلك أن بقية دول العالم أو 70% لم تنتج سوى 19% من المجموع[16]، و كان نصيب العرب مجتمعين، يتعدّى قليلا 0.5% من العدد الإجمالي. و لم تكن هذه النسبة بعيدة كثيرا عمّا أنتجه المصريون في تلك الفترة.

و رغم كل النّدوات والمؤتمرات التي عقدت من أجل الحدّ من التبعية في مجال الكتاب في العام العربي، و إيمانا بأن هذا الموضوع يتطلب حلا عاجلا لا يأخذ بالحسبان الجانب الإقتصادي فقط، و لا الجانب الثقافي وحده، انطلقت فكرة القراءة للجميع أثناء انعقاد الندوة الدولية بالقاهرة حول "القراءة للجميع: آفاق المستقبل" ومن أجل تحقيق هدف القراءة للجميع بدون استثناء، والتحقّق من مواصلة المشروع أمدا أطول، إرتأت مجموعة مكوّنة من مثقفين و مهنيين وصناعيين، تكليف أو تشريف راع له، بيده السلطة المعنوية و السّلطة المادية، فوقع اختيارهم على عقيلة رئيس الجمهورية، السيّدة سوزان مبارك.

وتكاد تتلخص أهداف هذا المشروع الذي انطلق في سنة 1994 فيما يلي:

- التشجيع على القراءة على أوسع نطاق، أُطلق عليه لاحقا إسم مشروع كتب "مكتبة الأسرة" الذي يهدف إلى تشجيع الأسرة المصرية على اقتنائها، بما يؤدي إلى تنشيط حركة القراءة في المجتمع على كافة المستويات و التخصّصات..

- بعث الروح القومية والشعور بالفخر بالثقافة المصرية الحقيقية، بإشاعة التنوير و التسامح.

  • التواصل مع الحضارات من خلال الترجمة.
  • تقديم أحدث الإنجازات العلمية، بنشر أحدث مؤلفات العلماء.

- نشر الوعي بالتراث العربي الإسلامي، وذلك من خلال تقديم عيون التراث[17].

ومن أجل بلوغ هذه الأهداف النبيلة، و بأسعار معقولة، انطلق الجميع من فكرة أساسية، تَعتَبر أنّ نشر المعرفة مسؤولية الجميع، و لذلك، على الجميع المشاركة في هذا المشروع القومي، بدءا بالسلطة والدولة، مرورا بأصحاب المال و انتهاء بجمهور القراء.

ولقد اتُبعت في ذلك خطوات جوهرية، أهمّها:

- محاولة التغلّب على بعض المعوّقات السياسية و الاقتصادية.

  • إشراك الوزارات والهيئات و المنظمات بمساهماتهم المادية والمالية.
  • إسهام الصناعيين و رجال المال نقدا وعينا.
  • مشاركة المؤسسات الإعلامية مثل الأهرام والأخبار .
  • استخدام الورق المتوسط الجودة في عملية الطبع، وغير ذلك من هذه الخطوات..

والنتيجة أن قفز عدد طبع العنوان الواحد مع نهاية التسعينيات إلى حوالي مائة ألف نسخة في المتوسط، بعدما كان لا يتجاوز عشر هذا العدد. وصدر من العناوين في العام الواحد عدد كبير، إذ أصبح يلبي الاحتياجات القرائية للمراحل العمرية المختلفة.

إنّ أهم ما أسهمت به مكتبة الأسرة، بالإضافة إلى الديناميكية التي خلقتها، سواء في الجانب الثقافي أوالجانب الإقتصادي، هو إرتفاع عدد ما نُشر من عناوين في سنة 2001 إلى 14575، بعدما كان لا يتجاوز في الثمانينيات 6 آلاف عنوانا، و قفز المعدل من عنوان لكل 15 ألف في نهاية الستينيات، و عنوان لأكثر من عشرة آلاف مع بداية الثمانينيات، إلى عنوان لكل ستة آلاف مع بداية الألفية الثالثة..[18] والأهم من ذلك كلّه هو أنّ مشروع القراءة للجميع ضمن مكتبة الأسرة" قد دمقرط الكتاب في مصر، و لم يجعل المقروئية المصرية تتسع أكثر فأكثر بل ساهم بشكل غير مباشر في خلق تقاليد قرائية في المجتمع المصري، الذي يتابع باهتمام بالغ عشرات الآلاف من النسخ التي تُطرح في الساعات الأولى من الصباح عند باعة الصحف و المكتبات..

و من جملة ما استحدثت مكتبة الأسرة هو السلاسل، إذ خصّت لكل فرع أو تخصّص من المعرفة سلسلة خاصة، و منها على سبيل المثال ما يلي:

  • سلسلة روائع الأدب العالمي للناشئين، و تقدّم نماذج للمدارس المختلفة (الكلاسيكية-الرومنسية..) و قد صدرت في هذه السلسلة أعمال إلكسندر دوماس، شكسبير، ديكنز وغيرهم.
  • سلسلة الأعمال العلمية( العلم والمعلوماتية: في الذرة - قضايا الطاقة - الهندسة الوراثية..).
  • سلسلة تراث الإنسانية، وقد ظهرت في أولى سنوات المشروع، و هي كتيبات صغيرة، لم يزد عدد صفحات الواحد منها عن 60- 70 صفحة..

و في الختام، يمكن القول إن الإرتفاع الذي شهدته صناعة الكتاب من حيث عدد العناوين في مصر لا يرجع الفضل فيه إلى سلاسل مكتبة الأسرة و حدها، بل إلى كافة الحلقات التي تتشكّل منها سلسلسلة صناعة الكتاب، و على رأسها الكُتّاب والمؤلفون، الذين لايزالون يشكُون - كغيرهم من الكُتاب العرب - ضيق الحال، سواء من الناحية المادية أوالسياسية أو المعنوية..وكذلك الناشرون و غيرهم ممن اهتموا بقضايا الكتاب...

إنّ النتيجة التي توّصل إليها هذا البحث حول صناعة نشر الكتاب في مصر، و من ثمّ في العالم العربي، باعتبار مصر العيّنة الأهم - وإن كانت تبدو متفائلة - إلا أنّ الحقيقة غير ذلك، و السبب الرئيسي يرجع إلى أننا لا نزال بعيدين كل البُعد عن الحد الأدنى المقبول دوليا، فمصر التي يقارب عدد سكانها (البالغ الآن نحو 65 مليون نسمة) سكان فرنسا مثلا، لا تنتج صناعة النشر فيها سوى الرّبع ممّا تنشره فرنسا مثلا (51877 عنوانا سنة 2000)[19]، في حين لم يتجاوز في مصر في نفس السنة 12 ألف عنوانا.

أمّا الإنتاج من حيث كمية النّسخ للعنوان الواحد فيصل في فرنسا إلى 60 ألف نسخة، و لا يقترب في مصر من الخمسة (5) آلاف... فهل بإمكان مصر و العالم العربي الاستجابة لمتطلبات هذا العصر الذي بدأت عواصف "عولمته" تشتّد.


الهوامش

* جامعة وهران.

[1] من المعروف أن السلسلة الوثائقية ذات العشر إجراءات التي تبدأ مع "الاقتناء acquisition و تنتهي بالمراقبة contrôle ، إذا ما نقص إجراء حدث الاختلال ..انظر ذلك عند: - Jacques, Chaumier, travail et méthodes du / de la documentaliste: connaissance du problème, 2° ed. Paris, E S F, 1986, p 11.

[2] Le schéma bibliologique. le schéma de la chaîne est linéaire et chronologique .Il part de l’écriture et passe successivement par le manuscrit, l’éditeur , l’imprimeur , le livre imprimé, le distributeur, la bibliothèque et le lecteur.. Robert Estivals «la bibliologie » in encyclopédie de l’écrit. Paris: AIB, 1993, p58.

[3] الطاهر، أحمد مكّي، دراسة في مصادر الأدب.ج1. ط.2، القاهرة، دار المعارف، 1970. ص 93.

[4] المصدر نفسه، ص93.

Jacques, C Risler, la civilisation arabe. Paris : 1962 .p109.

[5] المصدر نفسه، ص98.

[6] راجع الدور الذي قام به محمد علي في هذا الشأن في: الكتاب في العالم الإسلامي، تأ. جورج عطية و تر. عبد الستار الحلوجي .الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون، 2003.

[7] لقد عُرف بالإضافة إلى هؤلاء كل من رشيد رضا مؤسس دار المنار و يوسف البستاني صاحب دار المكتبة العربية..

[8] راجع ذلك في :الفصل الخاص بالكتاب في العالم العلابي الحديث، لمؤلفه جورج عطية، وترجمة عبد الستار الحلوجي.

[9] حبيب، سلامة، مقدمة كتاب " نشر الكتب فن" لتشاندلر ب جرانيس. تر. حبيب سلامة، القاهرة، دار النهضة العربية، 1965، ص5.

[10] المرجع نفسه، ص14.

[11] الكاتب أو Scribe وهو نسبة لتمثال "الكاتب المتربع" أو الجالس القرفصاء الموجود في متحف اللّوفر بباريس. وهو يمثل الحكمة والمعرفة. راجع ذلك في: معجم الحضارة المصرية القديمة، جورج، بوزنر، تر.أمين سلامة. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الأعمال الفكرية، مكتبة الأسرة، 2001، ص 280.

[12] حبيب، سلامة، المرجع السابق، ص 20.

[13] شعبان، عبد العزيز خليفة، البيليوغرافيا أو علم الكتاب.ط 2. القاهرة، الدار المصرية البنانية، 1998، 522

[14] تشاندلر. ب، جوانيس، كيان صناعة مشعبة، ضمن: نشر الكتب فن.ص45.

[15] دونالد، باركر، روبير إسكاربيت.حركة نشر الكتب في الدول لنامية.تر.شعبان عبد العزيز خليفة، القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1978. ص48.

[16] المرجع نفسه؛ ص 9 و ص.16.

[17] راجع موقع الأنترت الخاص بمكتبة الأسرة :www.maktabatelosra.org.

[18] " الإحصائيات تؤكد تراجع حركة النشر في مصر خلال العام الماضي" جريدة الأهرام اليومية ،عدد 42755، الموافق للأحد 4/ ذي القعدة 1424هـ /28-12-2003.

[19] Bertrand, Legendre, les métiers de l’édition, 3° éd. Electre -Editions du cercle de la librairie, 2002, p 14.

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche