ثقافة المؤسسة و أثر العولمة في المغرب العربي: مثال تونس

 إنسانيات عدد 22 | 2003 | ممارسات مغاربية للمدينة | ص 39-63 | النص الكامل

Enterprise culture and Globalization Impact on the Maghreb. The Tunisian Example

Abstract: This article studies the type of relationship between globalization in so much as a system of values and symbols presented as universal, and of enterprise culture concretized in a creation number of organization values.
The author presents several definitions of culture from occupational culture to enterprise culture considering that cultural action concretizes individual integration  in a group and organizes relationships in society, he puts forward the notion of enterprise culture which is related to integration policy and workers motivation in the search for a sense of meaning for human action.
This being done, the searcher tackles the central problem which relates to the local effects of globalization through the Tunisian experience while giving the globalization definition in its French and English concept.
Globalization is determined by four principal operations, competitivity between world powers, new technology acquisition, world productivity expansion, and the barter of modernization.
Then he does a historical account of the Tunisian economic experience, which has gone for nationalization to private enterprise. Subject to serious complex problems the public authorities were obliged to sigh several agreements with I.M.F and the world Bank, and to back up the privatization process of the public sector, which supposes a reorganization of enterprise culture.

Key words : Enterprise culture – Globalization – Organizational values – Culture – New technologies


Salem LABIADH : Professeur, Département de sociologie, l'Institut supérieur des sciences humaines, Tunis, Tunisie.


 

يهدف هذا العمل إلى دراسة طبيعة العلاقة بين العولمة - بما هي نظام من الرموز والقيم والعلاقات التي تشكلت ضمن منظومة مفاهيمية توصف بالكونية، تقفز على مقولات الأمة والدولة والوطن وكل أشكال الانتماء التقليدية - و ثقافة المؤسسة مجسدة في مجموعة من القيم التنظيمية. ويهدف الاقتصاد المعولم إلى تعديل كيفية اشتغال المؤسسات بما يستجيب إلى كونية هذه الأخيرة وبالتالي ثقافتها دون الإخلال بما اكتسبته من قيم تنظيمية ومعايير تسيير محلية.فإلى أي مدى يمكن أن يصدق ذلك؟

I. في معنى ثقافة المؤسسة

1. في معنى الثقافة

للثقافة عدّة دلالات ومعان وتعريفات، وهي بمثابة النسق من القيم والقواعد والتمثلات المستنبطة التي توجه السلوكات الفردية والجماعية، وتأسس الأنساق التنظيمية والاجتماعية وتعطي دلالة قيمية ومعيارية لكل موضوع مادي أو اجتماعي[1]. و حدّد "حليم بركات " معنى الثقافة بمفهومها الشامل فيما يلي :

هي مجمل القيم والرموز والأخلاق والسجايا والمعتقدات والمفاهيم والأمثال والمعايير والأعراف والتقاليد والعادات والوسائل والمهارات التي يستعملها الإنسان في تعامله مع بيئته، أو بلغة ابن خلدون " آداب الناس في أحوالهم في المعاش وأمور الدنيا ومعاملاتهم وتصرفاتهم في الحياة اليومية "، وهي الفكر من علوم وفلسفة ومذاهب وعقائد ونظريات[2]. وتتداخل هذه المكونات وتشكل معا الثقافة العامة لشعب ما. ولكل شعب ثقافته مهما كانت درجة حضارته أو درجة تقدّمه. ومن أهم خصائص الثقافة أنها تنتقل من جيل إلى جيل ومن شعب إلى شعب عن طريق الرموز أو اللغة. والثقافة ليست مجموعة مكونات ثابتة وجامدة ومطلقة ومغلقة تصلح لكل مكان وزمان، بل هي متطورة ،متغيرة، مرنة، نسبية، منفتحة و ديناميكية [3]. خلاصة القول إن الثقافة هي جملة الأحوال الاجتماعية والمنجزات الفكرية والعلمية والتقنية وأنماط التفكير والقيم السائدة، أي كل ما يتداوله الناس في حياتهم الاجتماعية من مكتسبات تحصل بالتناقل والتعلم [4]، كل ذلك يؤكد ما تذهب اليه الإنثروبولوجيا الثقافية من تأكيد على أهمية العامل الثقافي في تنمية شخصية الفرد وتحديد سلوكه عبر ما يعرف بالعادة والتعلم، ذلك أن الثقافة هي فعل مكتسب وهي التمثلات السلوكية المكتسبة والمنقلة من قبل عناصر مجتمع معين، وهي بالتالي عبارة عن "حالة نفسية" بموجبها يتمكن الفرد من الإحساس بالراحة داخل البيئة التي يعيش فيها على حد تعبير لنتن [5].

ويستهدف الفعل الثقافي تحقيق اندماج الأفراد داخل الجماعة وتنظيم علاقتهم ببعضهم البعض، وكما ينطبق هذا على المجتمع ككل، ينطبق على الجماعات داخل هذا المجتمع، أي على مختلف المؤسسات والتنظيمات والبني التي يتكون منها هذا المجتمع.

2. في ثقافة العمل

تعتبر مقولة العمل من أقدم المقولات، فقد فصل "أرسطو" قديما بين العمل اليدوي والعمل الذهني فرأى أن الأفكار تنتمي إلى عالم العقل والكمال في حين ربط العمل بعالم المادة، أي بعالم النقص والفساد. لهذا اعتبر أرسطو في كتابه "السياسة" العمل ممارسة مهنية لا يقوم بها إلاّ العبيد [6]. وقد استمرّ هذا التصور للعمل الذي تزامن وجوده طيلة فترة سيادة الفلسفة اليونانية القديمة إلى أن برز المفهوم الإسلامي الذي يقوم على قاعدة "أعطي الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه" باعتبار أن العمل هو نوع من العبادة.

وقد بدأت تسود المجتمعات الغربية رؤية جديدة للعمل بداية من عصر التنوير، فقد اعتبر آدام سميث أن العمل هو المصدر الحقيقي للثروة وأن الإنسان هو الأداة القادرة على تحقيقها. كما أخذ مفهوم العمل مكانة هامة في الفلسفة الهيقلية التي تربط بين الإرادة الإنسانية وفكرة العمل لأن الإنسان هو الذي يصنع الأدوات لأنه عاقل ولأن هذا الصنع هو التعبير الأول عن إرادته.

ويحتل مفهوم العمل مكانا واسعا لدى ماركس الذي استعاد في مخطوطات 1844 مقولة العمل الهيقلية وأعطى العمل من التمجيد بقدر ما وصم استغلاله بالفضيحة، فالعمل الذي هو عملية خلق للانسان يصبح في شروط الاستغلال سببا لاغترابه عن جوهره[7].

إن العمل هو عملية يقوم الإنسان فيها بتحويل موضوع محدد إلى إنتاج محدد بواسطة جهده الشخصي وبواسطة أدوات عمل في حقل معين من العلاقات الاجتماعية. وهنا لا بدّ من أن يرتبط مفهوم العمل بالتاريخ الاجتماعي أو بشكل تقسيم العمل بحسب عبارة "دوركايم" الذي يرى أن الشغل لا يمكن أن يكون مجرد نشاط فردي معزول وإنما هو نشاط اجتماعي ينظمه نسق جماعي ثقافي[8].

إن هذا التعريف الأخير للعمل يحقق للإنسان هويته ومكانته الاجتماعية ويخرج مفهوم العمل من طابعه الفردي والبرغماتي. وبقدر الاتفاق على أهمية العمل كقيمة تحقق للإنسان كينونته واندماجه الاجتماعي بالقدر نفسه يوجد تعدد في الآراء حول أصناف العمل، فالقيم السائدة في مجتمعنا اليوم تعطي أهمية كبرى إلى ما يسمى بالعمل النظيف وهو عمل فكري بالأساس في مقابل العمل الوسخ، والعمل المتخصص في مقابل العمل اليدوي غير المتخصص، والعمل التقني والصناعي في مقابل العمل الحرفي والتقليدي. لقد أصبح مفهوم العمل يرتبط بمعايير جديدة لها علاقة بالكسب وبالربح السريع أكثر من علاقتها بتحقيق كينونة الإنسان واندماجه الاجتماعي.

3. في معنى ثقافة المؤسسة

أ. نشأة المؤسسة

لم تحظ المؤسسة الإقتصادية باهتمام الدارسين والباحثين الاجتماعيين مقارنة بالمؤسسات التقليدية الأخرى مثل العائلة والمدرسة والدين، وربما الاستثناء الوحيد شكلته دراسات عالم الاجتماع الألماني "ماكس فبير" التي تناول فيها المؤسسة كمحور جوهري للحياة الاقتصادية، إذ عن طريق هذه الدراسات اكتشف بداية ظهور النظام الرأسمالي.

وفي تناوله للمؤسسة كموضوع بحث منذ سنة 1762، جاء في إحدى الدراسات المتعلقة بعلم اجتماع العمل [9]، أن عبارة المؤسسة تجسم نوعا من التلقائية الاجتماعية وأن المؤسسة الاقتصادية تمثل بناءا اجتماعيا مستقلا لكنه لم ينضج بعد لأن المؤسسة الاقتصادية وقع تناولها بالدرس في إطار بحث عام هو علم اجتماع العمل [10]. لقد ساعدت عدة عوامل على بروز سوسيولوجيا المؤسسة من أبرزها الأزمة الاقتصادية التي عاشتها فرنسا وانتشار ظاهرة البطالة حيث وقع التفكير في المؤسسة على أنها الفاعل الوحيد القادر على توفير مواطن الشغل وبالتالي تصبح المؤسسة تمثل قيمة رئيسية في التنشئة الاجتماعية داخل المجتمع مما أضفى على دورها الاقتصادي المحض دورا اجتماعيا وهو المساهمة في توفير الاستقرار الاجتماعي.

- بداية بروز مبادئ ثقافة المؤسسة المتعلقة بسياسة الاندماج وتحفيز العمال والبحث عن المعنى والدلالة للفعل البشري.

- التقارب الذي أصبح يبرز بين المؤسسة والمجتمع مما يسهل بروز علم اجتماع المؤسسة الذي أنهى مرحلة من الدراسة السوسيولوجية وصفت بالمرحلة التايلورية جعلت من المؤسسة الاقتصادية نظاما للإنتاج منفصلا عن النظام الاجتماعي.

- بروز علم اجتماع التنظيم منذ أن نشر "كروزيي" كتابه " الفاعل والنسق " سنة 1977 والذي يمثل انطلاقة حقيقية لعلم اجتماع التنظيم والمؤسسة.

لقد تمكن علم اجتماع التنظيم من تقريب المسافة التي تفصل بين عالم الباحثين وعالم الذين يباشرون العمل في المؤسسة إذ وقع تبسيط نتائج الأبحاث النظرية حول المؤسسات والتنظيمات وجعلها قابلة للتطبيق[11].

ب. مفهومها

لقد ساعد بروز علم اجتماع التنظيمات على معالجة المؤسسة كموضوع سوسيولوجي قادر على الاستقلالية والإبداع الاجتماعي بكل ما في الكلمة من دلالة، أي ما يساعد على ربط الأفراد وخلق المجتمع[12]، وهي تمثل في نفس الوقت تنظيما شكليا وثقافيا ومجموعة من الفاعلين يشكلون نسقا من العلاقات الاجتماعية ومكانا للتدرب على التعاون ومن ثمة فإن مفهوم المؤسسة قد تعدد بحسب المراحل التي مـرت بـها دراسة الظاهرة، فعالم الاجتماع الفرنسي توران كتب سنة 1969 وصفا للمؤسسة بأنها "مركز مستقل يخضع لإدارة تنظيم ذو طبيعة اقتصادية" [13]. وتعتبر لدى بعض الدارسين" حقيقة اجتماعية قوية "يفترض تحليلها السوسيولوجي ربط مستويين من القراءة، الأول هو علاقة المؤسسة بالنظام الاجتماعي والثاني هو علاقتها بنسقها الداخلي. هذان المستويان من القراءة يفضيان إلى القول بأن المؤسسة هي كل مترابط عبر ثلاثة أنساق مستقلة: نظام الإنتاج والبناء التنظيمي ونسق المؤسسات والتشريعات، أي النظام القانوني، وذلك في ترابط كبير مع بيئة المؤسسة [14]. وهنا يلاحظ تجاوزا للطرح الكلاسيكي الذي يتعامل مع المؤسسة كفضاء للإنتاج فحسب ذلك أنها تمثل مجموعة أفراد أو جسما اجتماعيا مشكلا يعكس الملامح الرئيسية للمجتمع الذي يحيط بها، يربطها ما يسمى بالتنظيم وهو الشكل الذي تبدعه المؤسسة باجتماع الأفراد، فلا وجود للمؤسسة خارج الاعتراف المتواصل بوجود مجموعة تربطها علاقات تفاهم أو تناقض بين أفرادها.

ج. ثقافتها

لقد ظهرت ثقافة المؤسسة بالتوازي مع تطور الثقافة التنظيمية داخل المؤسسة، فهو مفهوم حديث نشأ في سياق التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي برزت خلال النصف الثاني من القرن الماضي وخاصّة أثناء العشريات الثلاث الأخيرة التي تلت ثورة الطلاب بفرنسا سنة 1968. يرمز ظهور ثقافة المؤسسة إلى "طفرة مفاهيمية" شهدها مجال التصرف في الموارد البشرية على أرضية أن ما يشكل ثقافة المجتمع يتسلل إلى ثقافة المؤسسة. فهذه الأخيرة تحدد هوية المؤسسة وميزاتها من طقوس وتقاليد وعلاقات عمل مما يكسبها بعدا تأسيسيا في مستوى القيم المرجعية حيث يتولد مفهوم الأمن الاجتماعي وقيم الهوية الاجتماعية [15]. تشكل ثقافة المؤسسة نموذجا معقدا من المعتقدات والتوقعات التي يتقاسمها أعضاء المؤسسة الواحدة، وبصفة أدق فإن ثقافة المؤسسة مكونة من الفلسفات والايديولوجيات والقيم والمعتقدات والمسلمات والتوقعات والمواقف والمعايير الجماعية للمشتغلين ضمن المؤسسة الواحدة، وتتضمن العناصر التالية :

- بعض السلوكات التي تلاحظ بانتظام ضمن العلاقات بين الأشخاص (الفاعلين) مثل الطقوس والمظاهر الإحتفالية الخاصة بالمؤسسة وكذلك بعض الرموز المستخدمة جماعيا.

- الضوابط المتفق عليها بين فرق العمل داخل المؤسسة والتي تبرز في بـعـض العـبـارات مـثـل يـوم "عادي من العمل يقابله أجر يوم عادي".

- توجد قيم متفق على صلاحيتها داخل المؤسسة مثل أهمية جودة المنتوج والأسعار المتميزة.

- وجود فلسفة توجه سياسة المؤسسة بالنسبة إلى كل من العمال والحرفاء.

- لكل مؤسسة أساليب تشتغل بواسطتها وعلى كل منتم جديد أن يتقنها[16].

يعتقد المختصّون من علماء اجتماع أن المؤسسة تدافع عن ثقافتها لأنها الأساس الذي يمكن من تقنين نماذج السلوك ومن ترسيخ القيم المتعارف عليها داخلها، إذ أن ثقافة المؤسسة تمكن الفاعلين من تبرير مواقفهم وإكساب آرائهم بعدا منطقيا. وتحتوي ثقافة المؤسسة على كلمات سر وشعارات ومحاور تعبئة. ومن ثمة تستطيع المؤسسة تحقيق ثلاثة أهداف وهي رفع معنويات الفاعلين ودفعهم إلى العمل وخلق تضامن داخلي في رسم هوية المؤسسة بكل وضوح.

تشكل تنشئة الفاعلين داخل المؤسسة مسارا طبيعيا، وبصورة عامة فإن التنشئة هي الطريق الذي يمكن الأعضاء السابقين في مجتمع ما من نقل كفاءاتهم ومهاراتهم ومعارفهم إلى الجيل اللاحق حتى يقوموا بأدوارهم على أحسن وجه في مجتمعهم وهذا ينطبق على التنشئة داخل المؤسسة.

ينقل الفاعلون القدامى للأجيال القادمة الثقافة التي تضمن لهم المعارف الاجتماعية التي يحتاجونها للقيام بأدوارهم ووظائفهم داخل المؤسسة بنجاح. إن التنشئة توفر للفاعلين الأدوات التي تمكنهم من مواكبة ما يجري في المنظومة التي ينتمون إليها، وهذا ما يجري أيضا داخل المؤسسة لأنها تعلم آليات العمل ضمن الفرق والأقسام وتؤسس العلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل كما تطور الكفاءات والمعارف الضرورية للقيام بالمهام الجديدة.

وتتشكل الثقافة الداخلية للمؤسسة من القيم والرموز والطقوس والأساطير والبطولة :

- القيم : تسمح قيم المؤسسة للأفراد بإصدار أحكام كما أنها توجه وتشكل سلوكاتهم، وهي تنبع من التجارب التي عاشها الأفراد ويمكن أن تكون ضمنية أو معلنة، كما أن المؤسسة عادة ما تحافظ على هذه القيم وتحترمها ضمن لوائحها وقوانينها الداخلية.

- الرموز : هي علامات لها دلالات ثقافية من ذلك شكل اللباس واللغة….الخ.

- الطقوس : يمكن أن تتعلق بأحداث يومية أو استثنائية داخل المؤسسة، ويمكن أن تكون لها أبعاد رمزية تدعم هوية المؤسسة، منها ما يتعلق بالاجتماعات أو بإصدار النشريات أو بإدماج المنتدبين الجدد أو بتوديع المتقاعدين... .الخ.

- الأساطير : للمؤسسة أساطيرها الخاصة التي تنبع من أحداث هامة عاشتها وخاصة المتعلقة منها بأزمات كبرى أو تحولات عميقة مرت بها.

- الأبطال : هم الأشخاص الذين لهم علاقة مباشرة ومكانة مميزة في ماضي المؤسسة أو في حاضرها والذين ترك بصماتهم واضحة مثل مؤسس المؤسسة ذاته [17].

II . الآثار المحلية للعولمة من خلال التجربة التونسية

1. مفهوم العولمة و العولمة الاقتصادية

إن مصطلح العولمة هو ترجمة للـمـصــطــلــح الفرنسي (Mondialisation) ولـلمـصطـلـح الأنـجلـيزي (Globalisation). والعولمة مفهوم عولج في دراسات العلوم الاجتماعية كأداة تحليلية لوصف عمليات التغير في كافة المجالات. وهو ما يعني أن هناك خطا جديدا وعلاقات اجتماعية مادية ونفعية تستبعد كل المفاهيم القومية والعرقية والعائلية والدينية. ومن ثمة يرى بعض الدارسين أن العولمة ترتبط بأربع عمليات أساسية وهي المنافسة بين القوى العظمى والوصول إلى التقنية الجديدة وشيوع عولمة الإنتاج والتبادل والتحديث[18].

على هذه الأرضية تعددت وتنوعت تعريفات العولمة، منها الاجتهاد الذي قدمه أحد أساتذة ورموز الخارجية الأمريكية ومفاده أن مفهوم العولمة "يقيم علاقة بين مستويات متعددة للتحليل وهي الاقتصاد والسياسة والثقافة والإيديولوجيا وإعادة تنظيم الإنتاج وتداخل الصناعات عبر الحدود وانتشار أسواق التمويل وتماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول ونتائج الصراعات بين المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة"[19]. وبالرغم أن للعولمة مظاهرها السياسية المتعلقة بمدى قدرة الدولة القومية الحديثة على الاستقرار والحفاظ على سيادتها في ظل الوسائل الجديدة للاتصال وما يعنيه ذلك من نفي للحدود والحواجز، ومظاهرها الثقافية التي تهدف إلى إيجاد ثقافة عالمية واحدة منفتحة ،على أنقاض الثقافات والحضارات المتعددة والمتنوعة التي تميل إلى الانغلاق والانكماش، فإن المظاهرات الأكثر بروزا هي ذات طابع اقتصادي. إن العولمة في هذا المجال تعني اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة وانتقال الأموال والقوى العاملة والتقانة وحتى الثقافات ضمن الإطار الرأسمالي، وكذلك خضوع العالم لقوى السوق العالمية مما يؤدي إلى اختراق الحدود القومية وإلى الانحسار الكبير في سيادة الدولة. أما العنصر الأساسي في هذه الظاهرة فهي الشركات المتعددة الجنسيات أو عابرة القوميات [20].

وهذا المفهوم يختلف عن مفهوم الاقتصاد الدولي الذي يرتكز على علاقات اقتصادية بين دول ذات سيادة، وبينما تشكل الدولة العنصر الأساسي في مفهوم الاقتصاد الدولي تشكل الشركات الرأسمالية المتعددة القوميات العنصر الأساسي في مفهوم العولمة. وهذه الشركات من الضخامة بحيث أن قيمة المبيعات السنوية لإحداها تتجاوز قيمة الإنتاج المحلي الإجمالي لعدد من الدول المتوسطة الحجم. ونظرا لحجم استثماراتها المباشرة وغير المباشرة في كثير من الدول، فإنها قادرة على الحد من سيادة هذه الدول. فإذا رغبت دولة ما في إتباع سياسة معينة تؤثر سلبيا على أرباح أحد فروعها، قامت الشركة الأم بإغلاق الفرع ونقله إلى مكان آخر، وهذا بحد ذاته يشكل رادعا للدولة المضيفة عن اتباع سياسة غير مناسبة للشركة .

كما تقوم الشركات عابرة القارات كالمصارف وبيوت المال و شركات التأمين وصناديق التقاعد بدور الشرطي الذي يؤمن التزام الدول المضيفة لهذه الاستثمارات غير المباشرة بمعايير أداء معينة في سياستها الاقتصادية. فإذا لم تلتزم الدولة بهذه المعايير نزحت عنها الاستثمارات غير المباشرة و التوظيفات الأخرى، مما يؤدي إلى انخفاض أسعار عملات وأسعار أسهم وسندات الدولة وانخفاض احتياطات مصرفها المركزي من العملات الأجنبية وحدوث إفلاسات مالية عديدة فيها ما يضطرها إلى الاقتراض الخارجي[21]. و من ميزات العولمة الاقتصادية هو ما يلي :

- انتشار إزالة القيود على حركة الراسميل وإزالة الضوابط الأخرى المفروضة عليها في الدول الرأسمالية المتقدمة و في عدد من الدول النامية في أمريكا اللاتينية و إفريقيا وجنوب شرق آسيا.

- قيام عدد كبير من الدول النامية ودول ما كان يعرف بالكتلة الاشتراكية منذ منتصف الثمانينات بإزالة القيود النقدية عن المدفوعات الخارجية وهو ما يساعد على تحسين نسبة نمو التجارة الدولية وبالتالي نمو الاستثمارات المباشرة.

- تبني اتجاه خوصصة المؤسسات في الدول المتقدمة وفرض هذا الاتجاه على الدول النامية وبالتالي عرض منشآتها التابعة للدولة للبيع لفائدة شركات الاستثمار المحلية والأجنبية [22].

- لا شك أن مسار العولمة الاقتصادية سيؤثر بصفة مباشرة على المؤسسة عامة و المؤسسة الاقتصادية بصفة خاصة، كما سيؤدي برنامج خوصصة المؤسسات العمومية وتأهيلها وإعادة هيكلتها إلى بروز منظومة مفاهيمية وعلائقية جديدة تستجيب لشروط العولمة، وتعطي أهمية للمظهر الخارجي والداخلي للمؤسسة وتعمل على تطوير العقليات والسلوكيات والكفاءات وتكوين الأعوان والتدخل لكسب الحرف عبر اختيارات استراتيجية محددة.

2. التأثيرات الاقتصادية المحلية للعولمة في تونس

أ. المسار الاقتصادي في تونس : من الدولنة إلى الخوصصة

لقد نشأ الاقتصاد التونسي، بالرغم من انطلاقته شبه الليبرالية[23]، في أحضان الدولة. وقد تدعم هذا التوجه منذ بداية الستينات، عندما قررت الدولة التدخل المباشر في بناء المؤسسات الاقتصادية وإدارتها فكان قرار تأميم الأراضي من أيدي المعمرين وإرساء نظام التقاعد وبعث العديد من المشاريع الاقتصادية التابعة للقطاع العام[24]. لقد جاء هذا التوجه رغم إقرار الدولة باحترام القطاع الخاص والإبقاء عليه مع إلزامه باحترام السياسة العامة للدولة ودعوته إلى التحول من التجارة والمضاربة العقارية إلى الأنشطة المنتجة، وهو ما أطلق عليه البعض تجديد القطاع الخاص[25]. أدى هذا التوجه إلى بروز مركزية دور الدولة وتحولت إلى ما أصبح يعرف فيما بعد برأسمالية الدولة القائمة على مبدأ التخطيط الاقتصادي أو سياسة التعاضد [26].

لقد تجسد خيار دولنة الاقتصاد في مستويين إثنين :

- المستوى الصناعي : فبالاضافة إلى الموروث الصناعي الذي تركته الدولة الاستعمارية (الصناعة المنجمية أساسا) والتي وقع تدعيمها من طرف الدولة الحديثة، برزت بعض الصناعات الجديدة مثل الصناعات البتروكيميائية والصناعات الغذائية (زيت، سكر، سميد…الخ) وصناعة الجلود ومواد البناء وصناعة النسيج مع تمكين هذه الصناعات من احتكار الأسواق الداخلية ومنحها امتيازات ضريبية لمدة معينة. لكن توزيع هذه الصناعات على الجهات قد دعم اختلال التوازن الجهوي بالرغم من محاولة "أحمد بن صالح" الحيلولة دون ذلك. فقد توزعت المنشآت الصناعية المحدثة ما بين 1962-1971 كالتالي: تـونـس 25%، بنزرت 23%، الساحل 15%، قابس 14%، الدواخل 23% [27].

- المستوى الفلاحي : لقد أضافت الدولة إلى الإجراءات التقليدية في المجال الفلاحي المتمثلة في حل الأحباس وإرجاع أراضي الأحباس الخاصة إلى أصحابها واستعادة أراضي المعمرين ضمن ما يعرف بالأراضي الدولية التي تضم أيضا أراضي الأحباس العامة (مثل حبس سيدي مهذب، وحبس عزيزة عثمانة…)، إنشاء مجموعة من الوحدات الانتاجية وإصلاح الهياكل الزراعية، وفي هذا الإطار تم بعث 200 وحدة إنتاج تضم 500.000 هكتار في الشمال والوسط والجنوب و أنشأت الدولة 300 تعاونية غطت 600.000 هكتار. وقد اشترطت الدولة للدخول في الوحدة التعاضدية[28] خمسة هكتارات من الأراضي فما فوق في البداية، إلا أن ذلك يقصي 80% من النشطين في القطاع الفلاحي، ثم عادت لتخفض شرط الانتماء إلى هذه الوحدات إلى 0.25 هكتار و0.50 هكتار وهو ما ساعد على دخول جمهور عريض من الفلاحين إلى هذه التعاضديات[29].

إن خيار الاقتصاد الموجه لم يدم طويلا، فمع بداية عشرية السبعينات أقرت الدولة مبدأ الليبرالية الاقتصادية على أرضية نتائج مؤتمر المنستير للحزب الاشتراكي الدستوري الذي أقر :

- حل العديد من التعاضديات التجارية،

- التفويت في حصص من الأراضي المؤممة،

- بروز شعار تطهير المؤسسات الصناعية بتحويلها من القطاع العام إلى القطاع الخاص.

وقد تلا ذلك إصدار مجموعة من التشريعات مثلت الإطار القانوني الذي ساعد على التحول نحو الليبرالية الاقتصادية لعل أبرزها قانون أفريل 1972 المتعلق بفسح المجال أمام الاستثمار المحلي وخاصة الأجنبي، وذلك بتوفير إغراءات وتشجيعات جبائية للمستثمرين الأجانب والتونسيين. كما تم اصدار قانون ديسمبر 1973 المتعلق بخلق صندوق للتنمية واللامركزية الصناعية وما تلا ذلك من إحداث وكالة النهوض بالاستثمارات والوكالة العقارية الصناعية ومركز النهوض بالتصدير. لقد ساعدت هذه الإحداثات على إنشاء 800 مؤسسة وفرت 100 ألف موطن شغل[30]. إلا أن هذه المسار قد صاحبه نزوح ريفي نحو مراكز المدن وتوسع الأحياء القصديرية وما يعنيه ذلك من تهميش وتفقير للطبقات الشعبية، وبالتوازي مع ذلك تفاقم حركة إضرابية وصلت أوجها في ما يعرف بأحداث جانفي 1978 [31].

وبالرغم من تفاقم هذه الأزمة في بداية الثمانينات وما انتهت إليه من أحداث أصبحت تعرف بانتفاضة الخبز، التي جاءت كنتيجة مباشرة لرفع الدعم عن أسعار المواد الأساسية بسبب الاملاءات الاقتصادية للبنك العالمي وصندوق النقد الدولي، فقد اتجهت الدولة إلى تبني مشروع الإصلاح الهيكلي الذي فرضته هذه المؤسسات المالية الدولية بداية من سنة 1986، والمتمثل في التقليص من تدخل الدولة في المجال الاقتصادي ودعم القدرة التنافسيى للمؤسسات وإيلاء هذه المهمة إلى القطاع الخاص الذي يستند إلى معايير الجدوى الاقتصادية[32].

ب. اتفاقيات الشراكة و تأثير المؤسسات المالية العالمية

تمتد جذور التبادل التجاري التونسي الأوروبي إلى نهاية الستينات[33]، إلا أن أبرز بروتوكولات التعاون الاقتصادي هي اتفاقية الشراكة التي تم توقيعها مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995. تهدف هذه الاتفاقية بصورة رئيسية إلى إنشاء منطقة للتبادل التجاري الحر مع تونس. ويذهب بعض الدارسين إلى أن هذه الاتفاقية تمكن من اقتحام سوقا واسعة أمام الاقتصاد التونسي قوامه 350 مليون نسمة، وهي بالإضافة إلى ذلك تمثل فرصة للمؤسسات الاقتصادية التونسية لبلوغ اقتصاديات تمكن من تخفيض كلفة الإنتاج ورفع نسق النمو وما يتطلبه ذلك من تعامل مع محيط تنافسي يعتمد تكنولوجيا حديثة [34]. وبالمقابل فإن عقد الشراكة يتصف بالمعاملة بالمثل في تبادل التنازلات واختلاف درجات مستوى الحماية الجمركية دون اعتبار لتفاوت المستوى الاقتصادي والتكنولوجي بين الطرفين. ومن العناصر الرئيسية في تطبيقات اتفاقيات الشراكة هو عملية التفكيك الجمركي وهو ما سيلغي عائدات الدولة المتأتية من المعاليم الجمركية الموظفة على الواردات.

هناك اعتقاد سائد مفاده أن تجاوز هذه التأثيرات يتطلب القدرة على المرور من الحماية الجمركية الاصطناعية إلى حماية ذاتية قوامها رفع قدرة المؤسسة التنافسية بتحسين المنتوج كما وكيفا[35]. إن هذه الوصفة تحتوي فكرة مثالية ذلك أنه ليس من السهل بالنسبة إلى الاقتصاد التونسي أن يبلغ مقاييس الاقتصاديات المنافسة التي تتميز بها دول الاتحاد الأوروبي. كما يتميز هذا الاقتصاد بنقص التقاليد الصناعية في مجال التكنولوجيا المتطورة، يضاف إلى ذلك ضيق السوق الداخلية رغم الطابع التصديري للإستراتيجية الصناعية التونسية. كما يمكن أن نشير في نفس الاتجاه إلى العراقيل الكبرى التي يتعرض لها المنتوج الفلاحي والبحري التونسي في أوروبا بسبب اشتراك هذه الأخيرة في إنتاج نفس المواد [36].

لا شك أن استجابة المؤسسات الاقتصادية التونسية للشروط التي وردت في اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي يستدعي عمليات تمويل ضخمة عادة ما تتكفل بها المؤسسات المالية الدولية مقابل تنفيذ سياستها وما تقدمه من "وصفات إصلاحية جاهزة".

- صندوق النقد الدولي : لقد جاء تعامل الدولة مع هذه المؤسسة متأخرا نسبيا بسبب انخراطها في اتجاه "اشتراكي" طيلة الستينات، تميز بالعمل على تحقيق تنمية مستقلة بواسطة تدخل الدولة. ولم يقع الأخذ بسياسات الصندوق إلا في فترة السبعينات حين تفاقمت الأزمة الاقتصادية وتزايدت الديون الخارجية وارتفعت فوائدها إلى أن وصل الأمر إلى العجز عن دفع أعبائها، وما ترتب عن ذلك من المطالبة بجدولة الدفوعات واهتزاز ثقة الأسواق النقدية ووقف القروض والاضطراب المتزايد للأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية …الخ، وهو ما أدى إلى قبول شروط صندوق النقد الدولي، باعتبار ذلك يساعد على الحصول على قروض جديدة وعلى إعادة جدولة الديون القديمة.

ويرى صندوق النقد الدولي أن البلدان المدينة ومنها تونس في حاجة إلى إصلاحات هيكلية لاقتصادياتها، وهي ليست في حاجة إلى هذا الكم الهائل من القروض وإنما هي في حاجة إلى رأسمال محلي وأجنبي، وأن هروب هذا الأخير ناتج بالأساس على السياسات المتعلقة بالتشريعات التي تهم المسائل الجبائية وقوانين الضمان الاجتماعي وغيرها.

إن الوصفة الجاهزة لصندوق النقد الدولي التي قدمت إلى تونس وإلى كثير من الدول الأخرى تتمثل في ما يلي :

- تخفيض قيمة العملة وإلغاء الرقابة على الصرف الأجنبي ورفع القيود على حركة الاستيراد،

- خفض العجز بالموازنة العامة للدولة بخفض الإنفاق في المجالات الاجتماعية مثل التعليم والصحة والسكن ودعم المواد الأساسية والضمان الاجتماعي والزيادة في أسعار العديد من المواد مثل النقل والمحروقات والاتصالات والضرائب غير المباشرة كالأداء على القيمة المضافة [37].

البنك العالمي : هو تجمع لثلاث مؤسسات دولية، هي البنك الدولي للإنشاء والتعمير، ووكالة التنمية الدولية، ومؤسسة التمويل الدولي. يقوم البنك بمراكمة الفوائض المتأتية من رؤوس الأموال بالدول الرأسمالية والتي تبحث عن الربح المضمون من خلال المؤسسات المالية الدولية العملاقة. لقد تراوحت سياسات البنك الدولي بين إسناد قروض إلى الدول الفقيرة في السبعينات الهدف منها تمويل مشروعات التنمية الريفية ومشروعات السكن الشعبي وإشباع الحاجيات الأساسية للسكان والدعوة إلى حرية التجارة وأهميتها في تحقيق النمو ووضع شروط مجحفة لإسناد القروض، لعل أهمها التخلي عن النزعة الحمائية للسلع المحلية واعتماد المنافسة كصيغة تعامل في التجارة الدولية. كما تقوم اتجاهات البنك العالمي على ضرورة تشجيع القطاع الخاص والمبادرة الفردية بعد أن عجز القطاع العام في تحقيق التنمية.

لقد استجابت الدولة في تونس إلى البرنامج الذي ابتكره البنك العالمي منذ منتصف الثمانينات الذي أطلقت عليه تسمية " الاقتراض الخاص بالتكيف الهيكلي " والذي ينطلق من أن القروض الخاصة بتمويل البرامج القطاعية لم تنجح في تسديد تمويلها، لذلك يجب إدخال تعديلات جوهرية على السياسات الاقتصادية للبلد المدين وإصلاح للمؤسسات والانفتاح على الخارج وتنمية صادراته وتحرير التجارة وتشجيع الاستثمار الأجنبي وإبعاد الدولة تدريجيا عن التدخل في آليات السوق [38].

ج. تدعيم مسار الخوصصة

إن خوصصة المؤسسات هو مسار قديم نسبيا تعود جذوره إلى منتصف الثمانينات عندما قدم صندوق النقد الدولي وصفة الإصلاح الهيكلي. فقد برز برنامج خوصصة المؤسسات العمومية ضمن اتجاه الانفتاح الاقتصادي غير المشروط على السوق العالمية للأسباب التي بيناها سابقا. وبقطع النظر عن مدى صحة هذا الاتجاه فإن الهدف من الخوصصة هو تمكين البلدان المدينة من تسديد ديونها عبر بيع مؤسسات القطاع العام إلى القطاع الخاص ونقل ملكيتها لصالح الدائنين وهي أخطر مراحل المديونية الخارجية [39]. ولم يقتصر برنامج خوصصة المؤسسات على تلك التي تعيش صعوبات مالية أو المفلسة منها أو الصغيرة، بل شمل كافة مؤسسات القطاع العام، كما ورد ذلك في المخطط التاسع للتنمية[40]. ويمكن حصر أبرز أشكال وتقنيات الخوصصة فيما يلي :

- البيع عن طريق طلب عروض،

- البيع المباشر للأجزاء التي تملكها الدولة لشركائها الخواص،

- التفريط التدريجي في ممتلكات المؤسسة التي ستخضع للخوصصة،

- البيع عن طريق البورصة،

- التفريط في الأراضي الدولية للخواص،

- فتح بعض الأنشطة التي تحتكرها الدولة عبر بعض الدواوين للخواص مثل تجارة الزيت،

- منح التصرف في الخدمات العمومية للخواص، مثل الطرق السيارة، التطهير…الخوصصة[41].

وتبين بعض الإحصائيات أن الخوصصة شملت 136 مؤسسة عبر 294 عملية بيع بقيمة 1340 مليون دينار تونسي. منها 142 عملية أدت إلى خوصصة 54 مؤسسة بقيمة 1023 مليون دينار تونسي بين سنتي 1997 و 2000. وتتوزع مداخيل الخوصصة حسب القطاعات كما يلي :

جدول توزيع مداخيل خوصصة المؤسسات العمومية ما بين 1997 و 2001[42]

القطاع

المداخيل(مليون دينار)

النسبة‍‌%

السياحة والصناعات التقليدية

271

18

النقل

69

6.1

الصناعات الكيميائية والميكانيكية

92

4.6

التجارة

137

9.1

الفلاحة والصيد البحري والصناعات الغذائية الفلاحية

57

3.8

مواد البناء

825

54.8

النسيج

19

1.3

الخدمات

512

34

قطاعات أخرى

35

2.3

المجموع

1505

100

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لقد تعثرت عملية الخوصصة في البداية بسبب ضعف الإمكانيات المالية للقطاع الخاص وضعف الدور الذي تقوم به البورصة في هذا المجال، وعدم اهتمام المستثمرين الأجانب، إلا أن تدخل صندوق النقد الدولي قد ساعد على دفع الدولة إلى الإسراع في خوصصة كثير من المؤسسات من ذلك بعض المؤسسات التي توصف بالإستراتيجية،وهو ما دعم الاستثمار في القطاع الخاص. فقد بينت الإحصائيات وجود 96 ألف مؤسسة منها 13 ألف تشغل أكثر من 5 أفراد ومنها 4291 مؤسسة تشغل أكثر من 10 أفراد، نصف هذه الأخيرة ينتمي إلى قطاع النسيج والجلود، و40% منها ينتمي إلى القطاع غير المقيم، ويتم تمويل هذه المؤسسات خاصة بواسطة قروض بنكية وبصفة استثنائية بواسطة الموارد الداخلية[43].

د. برنامج تأهيل المؤسسات

يمثل هذا البرنامج استجابة للشروط التي حددتها اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي المتمثلة في التبادل الحر للسلع والخدمات. و يهدف إلى تمكين المؤسسة من القدرة التنافسية في مستوى السعر والجودة. ويخضع تأهيل المؤسسة إلى:

- الاستثمارات غير المادية وتهم تحسين وضع المؤسسة في مجال التصرف في الموارد البشرية من تنظيم وخبرة وتكوين وغيرها …إلخ

- الاستثمارات المادية : وهي مجموع العمليات المالية والمادية لتحسين إنتاجية المؤسسة في مستوى تجديد التجهيزات وتطوير التكنولوجيا.

ويهدف برنامج التأهيل إلى تعصير الإنتاج وتكوين اليد العاملة والمحافظة على التوازنات المالية، ويشمل أيضا تأهيل المحيط و البنية التحتية والإدارة والخدمات [44]. لقد عملت الدولة على سن التشريعات ومراجعة القوانين التي تساعد على نجاح برنامج التأهيل والمتعلقة ببعث المؤسسات والاستثمارات والمبادلات التجارية عن طريق إصلاح جذري لقطاع التجارة وللنظام الجبائي وتنمية سوق الأوراق المالية بالبورصة والتخفيض من نسب الربح وجعل الدينار قابلا للتحويل وتحرير تحويل العملة في شكل استثمارات، يضاف إلى ذلك وضع إطار تشريعي عام يهم تزويد المؤسسة بزاد بشري وكفاءات مهنية قادرة على التأقلم مع حاجيات السوق[45]، وعلى استيعاب التكنولوجيا والتعامل وفق الأساليب الحديثة، وهي رهانات مفروضة على المؤسسة خاصة الصغرى والمتوسطة منها. إن الهدف النهائي لهذا البرنامج هو تطوير الإنتاج والتحكم في كلفته وإحكام التصرف في الموارد البشرية والمادية للمؤسسة[46].

3. الانعكاسات الاجتماعية

بالرغم من أن الشغل من الحقوق المكفولة أخلاقيا وقانونيا، كما نص على ذلك الدستور التونسي، إلا أن مسار العولمة ومن خلال ما نصت عليه اتفاقيات الشراكة وبرامج التأهيل، قد أدى إلى تسريح عدد كبير من العمال سواء كانوا منتمين إلى القطاع الخاص أو إلى القطاع العام، وذلك من أجل الحد من التكاليف والأعباء المادية للمؤسسة .

وقد بينت إحدى الدراسات الميدانية أن أصحاب المؤسسات المخوصصة لا يستطيعون الملاءمة بين المحافظة على حقوق العمال وضمان النجاعة الاقتصادية [47]. وعادة ما ينتهون إلى اتخاذ قرارات حمائية تعطي الأولوية للجانب الاقتصادي. وكثيرا ما يتجسد ذلك في تسريح العمال أو التقليص من حقوقهم الاجتماعية (أجور، ضمان اجتماعي، صحة…)، هذا علاوة على حقهم في النشاط النقابي. إن هذه الإجراءات التي تتماشى مع المنطق الرأسمالي كثيرا ما تجد معارضة من العمال، بل إن هؤلاء كثيرا ما يعبرون عن معارضتهم لعملية الخوصصة. ويمكن أن نذكر هنا بخوصصة بحيرة البيبان التي أبدى عمالها معارضة شديدة معبرين عن ذلك في اجتماع عقدوه بمقر الاتحاد الجهوي للشغل بمدنين في 15 أكتوبر 1997، فقد ورد في اللائحة التي أصدروها ما يلي :"نؤكد على مطالبتنا بالإبقاء على الديوان القومي للصيد البحري كمؤسسة عمومية وعدم التفويت في البحيرات باعتبارها ثروة وطنية يجب حمايتها من عبث الخواص. ولم تنته هذه الحركة حتى بعد التصويت في المؤسسة بل تحولت إلى إضراب امتد من 22 ماي إلى 3 جوان 2000 مطالبين بالحفاظ على المكاسب التي كانوا يتمتعون بها في ظل الديوان القومي للصيد البحري إضافة إلى المطالبة بالتأمين الجماعي وترسيم المتعاقدين واحترام حق العمل النقابي [48].

لقد ساعد على تدعيم هذا التوجه ما عرفته المؤسسات من حرية تصرف في الموارد البشرية بناءا على تآكل قانون الشغل، فهناك قواعد ألغيت وقيود قد زالت وأشكال من الحماية قد عدلت[49]. وقد حلت محل ذلك تشريعات جديدة تعطي الأولوية لأصحاب العمل استجابة لخيار دعم القدرة التنافسية للمؤسسة، ولعل ذلك يبرز في التشريعات المتعلقة بالمناطق الحرة. فقد ورد في الفصل 23 من قانون 3 أوت 1992 ما يلي : " اعتبار جميع عقود الشغل داخل المناطق الحرة من صنف العقود المبرمة لمدة محددة بقطع النظر عن أي نص مخالف…، فجميع الأجراء داخل المناطق الحرة يعتبرون عمالا وقتيين أو عرضيين حتى لو اتفق المؤجر والأجير على عكس ذلك ". ولا يستفيد الأجير فيها من القواعد الحمائية الدنيا لفائدة العمال الوقتيين التي أقرتها مجلة الشغل في فصل 6-4 من ذلك أن شرط إبرام العقد كتابيا لا ينطبق على العقود المبرمة داخل هذه المناطق[50]. لا شك أن ملاءمة التشريعات للتحولات في عالم المؤسسة قد كان له انعكاس اجتماعي هام في مستوى هشاشة العلاقات الشغلية، فقد تدعمت ظاهرة البطالة بطريقتين :

- طريقة مباشرة مثل تسريح العمال،

- طريقة غير مباشرة بسبب عجز بعض المؤسسات وكذلك القطاع الفلاحي عن المنافسة في الأسواق الأجنبية.

وكثيرا ما تتفشى ظاهرة البطالة في أوساط الذين يقع تسريحهم من مؤسسات القطاع الخاص حيث ينعدم العمل النقابي المرفوض من قبل المشغل، أو في حالات الطرد التي تقع في حق النقابيين في المؤسسات المخوصصة. إن ذلك يقود إلى إعادة النظر في دور النقابات في ظل التحولات التي تعيشها المؤسسة الاقتصادية بفعل تأثيرات العولمة. إذ يذهب بعض الدارسين إلى أن دور النقابات الرافضة والمطلبية قد انتهى وقد حل ما اصطلح عليه زمن النقابة المساهمة التي لا تضع نصب أعينها مصالح العمال الفئوية بل مصالح المجموعة الوطنية المتمثلة في كسب رهان المنافسة والقدرة على غزو الأسواق الخارجية. هذا ما يستدعي إعادة تأهيل النقابات وحصرها في القيام ببعض الأنشطة التثقيفية والترفيهية. ولكن هذا التوجه لم يلق قبول الكثير من النقابيين الذين يعتقدون في ضرورة تمسك النقابة بثوابتها النضالية المتمثلة في مواجهة الاستغلال. إن دور النقابة حسب هذا التمشي هو العمل على توحيد العمال تحت لوائها وإقناعهم بالانخراط ضمن أنشطتها من خلال طرح القضايا المتعلقة بوضعهم المهني عبر الاحتجاج والتفاوض[51].

III. إعادة تشكيل ثقافة المؤسسة في ظل العولمة

1. حسن التصرف في الموارد البشرية وتغيير مفهوم العمل

ساعدت العولمة الاقتصادية على بلورة أهمية التصرف في الموارد البشرية داخل المؤسسة بما ينسجم مع أهداف المؤسسة ومدى قدرتها على المنافسة، وهذا يتطلب تحديد الإمكانيات الحقيقية التي تحتاجها المؤسسة خاصة في ظل الثورة الرقمية التي ساعدت على تغيير استراتيجيات اقتصادية وهياكل تنظيمية لتحقيق إنتاجية وقدرة تنافسية عالية. إن ذلك يتطلب تخصصا كبيرا في مستوى التكوين[52] وتطويرا للعقليات داخل المؤسسة وتدعيم مبدأ الاعتماد على الذات وإعطاء قيمة للعمل وللمسؤولية والانضباط والواجب وللحفاظ على ممتلكات المؤسسة وصولا إلى تحسين العلاقات مع الحرفاء، وهي جزء من الثقافة التقليدية للمؤسسة التي تستدعي المحافظة والتطوير.

إلا أن حسن التصرف في الموارد البشرية وتغيير مفهوم العمل يستدعي الأخذ بعين الاعتبار لثقافة العامل وخصوصياته خاصة بالنسبة إلى المؤسسات الاقتصادية التي تطبق توصيات المنظمات المالية العالمية (العمل المفتت بدل العمل بالسلسلة)، ذلك أن ثقافة العامل الخارجية لها تأثير كبير في مستوى مردوديته وطبيعة علاقته داخل العمل، وبما أن العامل قد يتأثر بثقافته الخارجية أثناء العمل فإن ذلك قد يتناقض مع الثقافة التنظيمية المستوردة القادمة مع الرأسمال الأجنبي والقائمة على عقلانية التكنولوجيا المطلقة مقابل اللاعقلانية المحلية. مما يؤدي إلى بروز كثيرا من التوترات والصراعات داخل المؤسسة تستدعي التدخل لإكساب العمال ثقافة تنظيمية جديدة.

2. خيار التكوين والرسكلة

يرجع بروز هذا الخيار إلى سببين :

- السبب الأول ذاتي يعود إلى طبيعة النظام التعليمي والتربوي في تونس الذي لفظ في العشريات الأخيرة أعداد كبيرة من الشباب ممن لا تكوين يذكر لهم.

- السبب الثاني موضوعي يرتبط بمواكبة تطور نسق التكنولوجيا بهدف التحكم في الجودة الذي يفرض تعميم التكوين وإدماج التقنيات الحديثة.

على هذه الأرضية برز في تونس اتجاه داعي إلى وضع خيار التكوين والرسكلة ضمن الأولويات للاستجابة لضغوطات الاقتصاد المعولم. وقد تجسد هذا الخيار في مستويين :

- الأول هو المستوى التشريعي حيث برز قانون التكوين المهني الذي يمثل فرعا جديدا من قانون الشغل ويرمي بالأساس إلى مجابهة العولمة عن طريق تكوين يد عاملة ماهرة ومواكبة للتطورات التكنولوجية. لقد تعددت النصوص القانونية ابتداء من عشرية التسعينات المتعلقة بالتكوين المستمر والتكوين بالتداول وعلاقته بتأهيل المؤسسة [53].

- الثاني يتعلق بإحداث مؤسسات تتولى الإشراف على التكوين والرسكلة لعل أبرزها وزارة التكوين المهني والتشغيل ووكالة التكوين المهني وبعض الصناديق مثل صندوق الإدماج والتأهيل المهني (1990) الذي يهدف إلى تأهيل الأفراد قصد إدماجهم داخل المؤسسة 56. وقد تمكنت هذه الأطر من توفير طاقة اسـتيـعـاب تقدر بـ 110 ألف موطن تكوين وطاقة تخرج سنوية بـ 60 ألف متكون بداية من سنة 2002[54].

إن جدوى خيار الرسكلة والتكوين يمكن أن يتجلى فيما يلي :

- تمكين العامل من المشاركة في أعمال كانت في السابق حكرا على إطارات المؤسسة وأصحاب الشهادات العليا فيها، وبالتالي تمكينه من الإطلاع على ظروف اشتغال المؤسسة واستراتيجيتها

- تنمية قدرات ومهارات الفاعلين وهو ما يساعد على الشعور بالانتماء والأمان داخل المؤسسة

- ضمان المساواة في التكوين يساعد على إنشاء علاقات متوازنة بما ينمي الثقة بالنفس ويقلص الحواجز التراتبية ويدعم النسيج الاجتماعي.

3. المؤسسة البريدية : نموذج لإعادة تشكيل ثقافة المؤسسة

أ. تقديم الوثيقة

سنعتمد في هذا الجزء من الدراسة على وثيقة تحمل عنوان " التحفيز و ثقافة المؤسسة "، من إعداد مركز صــدى التــكوين للدراسات والاستشارة والتنظيم والتكوين لفائدة موظفي البريد التونسي سنة 2001[55]. تشير الوثيقة منذ البداية إلى أن المؤسسة البريدية كغيرها من المؤسسات تعيش في واقع يتسم بالعولمة والانفتاح الاقتصادي وثورة الاتصال، من ضمنها الاتصال البريدي، التي غيرت وجه الحياة بنفس الطريقة التي غيرته الثورة الصناعية من قبل وهو ما يجعل من العالم قرية صغيرة.

في هذا الإطار تحولت المؤسسة البريدية في تونس من إدارة في وزارة المواصلات إلى ديوان للبريد، أي إلى مؤسسة اقتصادية لها استقاليتها المالية والإدارية وما يعنيه ذلك من ارتباط بالدولة يأخذ شكلا تعاقديا يرتبط فيه التمويل الحكومي بمدى نجاح المؤسسة في تحقيق الأهداف الموكلة لها. وهذه الأهداف مرتبطة بمثلث النجاعة والمردودية والجودة شأنها في ذلك شأن كل المؤسسات العمومية التي تعيش في حالة تحول من الدولنة إلى الخوصصة [56].

ب. محتويات الوثيقة ؛ بعض النماذج التطبيقية

لقد احتوت الوثيقة على قسمين رئيسيين، يتعلق الأول بالتحسيس والتحفيز لمشروع المؤسسة البريدية ومن أبرز ما ورد فيه أن عون البريد هو ممثل للمؤسسة وبالتالي يمكنه أن يساهم في تحقيق مشروعها من خلال الانخراط والإبداع المهني وكسب ثقة الحرفاء وتسويق صورة المؤسسة لدى المتعاملين معها. أما القسم الثاني فيتعلق بتفعيل الثقافة في خدمة إهداف المؤسسة البريدية وتضمن نقاط تتعلق بثقافة الجودة والمردودية والانتاجية واستخدام مكونات الثقافة التجارية مثل الحريف الشريك والسوق والخدمات، هذا علاوة على المواصفات الثقافية التجارية مثل قيمة المنافسة وقيمة الثقة والأمان.

من النماذج التطبيقية التي احتوتها الوثيقة ما يلي :

- كسب ثقة الحرفاء : وتعني جعل الحرفاء شركاء في البريد التونسي إلا أن ذلك لا يتم إلا إذا تحققت الإحاطة بهم وغرس فكرة إيجابية عن البريد لديهم. وتتجسد الإحاطة في تحسين مظهر مكاتب البريد وتعصير ظروف الاستقبال وتحسين ظروف العمل والخدمات المقدمة إلى الحرفاء والمراهنة على الرفع من كفاءة الأعوان ومهاراتهم بالتكوين والرسكلة [57].

- تسويق صورة المؤسسة : تؤكد الوثيقة على أن عون البريد هو رسول المؤسسة وواجهتها الحية، لذلك فهو يتأثر بها ويؤثر فيها، وهو ما ينعكس في الانطباعات التي يحتفظ بها الحرفاء عن العون وعن المؤسسة في حالتي الرضا والسخط. إن الصورة الإيجابية التي يحتفظ بها الرأي العام عن المؤسسة البريدية و الآفاق التي تفتحها هذه الأخيرة من ترقية وتعصير الوسائل تترجم الصورة الجيدة التي يمكن أن تعلق في ذهن الحرفاء. وللحفاظ على ذلك يستوجب على عون البريد تأكيد انتمائه إلى المؤسسة وأن يكون واعيا بالتحديات التي تحف بها في ظل المتغيرات الاقتصادية حتى يتحرر أداؤه من السلوك الإداري وينحو منحى السلوك المحتكم إلى عقلية تجارية 62.

- قيمة المنافسة والجودة : وتعني حسب الوثيقة إخضاع كل الأنشطة الاقتصادية لقانون السوق بمعنى قانون العرض والطلب ومن أبرز خصائصها رفع جميع الحواجز أمام تبادل السلع والخدمات وحركة رؤوس الأموال والمعلومات عبر إرساء شبكة تستجيب للتقدم العلمي في مجالي التكنولوجيا والاتصال، كأرضية مناسبة تعطي قيمة للسوق الذي يستوجب على المؤسسة البريدية أن تدرسه وفق احصائيات وبيانات دقيقة لإكتساب القدرة على المنافسة.

عموما يمكن الإشارة، إلى أن المؤسسة البريدية تتحول في ظل الاقتصاد المعولم من مؤسسة ذات طابع إداري إلى مؤسسة ذات طابع تجاري تبحث عن الربح وتعمل على كسب الحرفاء وتحقيق استقلالية مالية وتتعرض إلى المنافسة الداخلية والخارجية، وهو ما يستدعي مرونة في التصرف والعمل.

خاتـــــــــمـــــة

تشكل العولمة منظومة مفاهيمية شاملة برزت بالتوازي مع التحولات العميقة التي شهدتها الإنسانية بداية من عشرية الثمانينات من القرن الماضي. وكانت أبرز تمظهراتها الاقتصادية إعادة إنتاج النظام الرأسمالي كنظام كوني تلغى فيه كل الحواجز والقيود أمام تدفق السلع والأموال والمعلومات. وقد جاءت خوصصة مؤسسات القطاع العام وتدعيم دور القطاع الخاص كتتويج لهذا المسار الذي برزت تجلياته في البلاد النامية ومنها تونس في اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والانخراط في منظمة التجارة العالمية. هذا علاوة على السياسة المملاة من طرف صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. لقد أفرز هذا التوجه منظومة معيارية وقيمية أطلق عليها تعبير "ثقافة المؤسسة" تستطيع بموجبها المؤسسة الاقتصادية الاستجابة لشروط السوق المتمثلة في القدرة على المنافسة والجودة والنجاعة والمردودية. وبقدر ما استطاعت بعض المؤسسات الاستجابة لشروط النظام المعولم بالقدر نفسه طمست العولمة الاقتصادية معالم السوق الداخلية وضربت المنتوج المحلي بعد أن تدعم دور الشركات المتعددة الجنسية بصفة شبه مطلقة، كما أدى هذا التمشي إلى تهميش دور الدولة الاقتصادي بعد أن كانت تشكل الفاعل الرئيسي في العملية التنموية، وهو ما ساعد على تفاقم سوء توزيع الثروات والدخول و انتشار الفقر والبطالة وتفشي الانحرافات الاجتماعية وبروز الأزمات المالية الحادة.


الهوامش

[1] - Zghal, R. : Culture et comportement organisationnel.- Thèse de doctorat d‍‌‌’état 1982.- p. 83.

[2] - بركات، حليم : المجتمع العربي المعاصر.- بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، سنة 1984.- ص.321

- يعرف الجابري، محمد عابد : الثقافة بأنها " ذلك المركب المتجانس من الذكريات و التصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات التي تحتفظ لجماعة بشرية تشكل أمة أو ما في معناها بهويتها الحضارية، في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل ديناميتها الداخلية و قابليتها للتواصل والأخذ والعطاء ". وهي بعبارة أخرى " المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم، عن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده". أنظر الجابري، محمد عابد : العولمة والهوية الثقافية : عشر أطروحات ضمن العرب والعولمة.- بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، أفريل 2000.- ص.ص.297 - 298

[3] - بركات : مرجع سابق.- ص.ص.321-322

[4] - أنظر الموسوعة الفلسفية العربية، بيروت، معهد الإنماء العربي، 1986.- ص.310

[5] - Linton, R. : De l’homme.- Edition de Minuit, 1968.- p.p. 123-124

[6] - الموسوعة الفلسفية …مرجع سابق.- ص.623

[7] - Marx, K. : Les manuscrits de 1844, éditions sociales.

[8] - Durkheim, E. : Les formes élémentaire de la vie religieuse, 1925.- p. 609

[9] - Friedman, G. et Naville, P. : Traite de sociologie du travail.- Librairie Armand Colin, 1970.

[10] - لرقيق، منية : عمل المرأة في القطاع السياحي.- أطروحة دكتوراه كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، سنة2000.- ص.54.

[11] - نفس الرجع ….- ص.55

[12] - Bernoux, P. : Sociologie des entreprises.- Paris, éditions points, 1995.- p. 13

[13] - Touraine, A. : La société post industrielle.- Paris, collection meadiations, 1969.

[14] - Piotet, F. : De quelques contributions récentes à une sociologie de l’entreprise.- Sociologie du travail n 1998.- p. 104.

[15] - الزغلامي، حسني : تأثير العولمة الاقتصادية على ثقافة المؤسسة التونسية مذكرة ختم الدروس للحصول على الأستاذية في الدراسات الاجتماعية.-تونس، المعهد الوطني للشغل و الدراسات الاجتماعية، 1999 ـ 2000.- ص.ص. 35-36

[16] - Schein, E. : Organizational culture and leadership.- San-Francisco, Jossey-Bass, 1985.- p. 5.

[17] - أنظر في هذا الإطار الوثيقة التي أصدرها مكتب صدى التكوين بعنوان التحفيز و ثقافة المؤسسة- ص.17 والتي سنتعرض لها بشيء من التفصيل ضمن الجزء الأخير من هذه الدراسة.

[18] - ذياب، مها: تهديدات العولمة للوطن العربي المستقبل العربي.-بيروت، عدد 276، مركز دراسات الوحدة العربية، فيفري 2002 .- ص.152

[19] - روزناو، جيمس : ديناميكية العولمة : نحو صياغة عملية.- مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، 1997؛ نقلا عن يـسـين، السيد : في مفهوم العولمة ضمن العرب و العولمة.- ط3، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، أفريل 2000.- ص.26

[20] - الأطرش، محمد : العرب و العولمة :ما العمل ضمن العرب و العولمة … المرجع السابق.- ص.412

[21] - الأطرش …نفس المرجع.- ص.ص.413 – 414

-ينطبق هذا المسار على العديد من البلدان من ذلك المكسيك في نهاية 1993 وبلدان جنوب شرق آسيا سنة 1997 و الأرجنتين سنة 2002

[22] - نفس المرجع.- ص.416

[23] - من أبرز الإجراءات التي قام بها بورقيبة تدعيما لتوجهه التحديثي الليبرالي حل جمعية الأحباس التي كانت تعتبر من أهم المؤسسات الاقتصادية في البلاد، و تحويل مؤسسات الإسلام الطرقي إلى مدارس ومراكز حزبية و إلغاء المحاكم الشرعية و إقرار مجلة الأحوال الشخصية التي تمنع تعدد الزوجات و إلغاء التعليم بجامع الزيتونة، هذا علاوة على بعض الإجراءات الاقتصادية مثل تجميد أجور العمال و الموظفين، و الدعوة إلى ضرورة الإقبال على الادخار والإعلان عن قرض وطني موجه للتصنيع في شهر فيفري سنة 1957 تم على إثره إنشاء أول بنك تونسي "الشركة التونسية للبنك". أنظر في هذا الشأن الهرماسي، عبد اللطيف :الدولة و التنمية في المغرب العربي.- سراس للنشر، 1993.- ص.ص. 60-61

[24] - الهرماسي، محمد عبد الباقي : المجتمع و الدولة في المغرب العربي.- بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1987.- ص.60.

[25] - الهرماسي، عبد اللطيف : الدولة و التنمية… مرجع سابق.- ص.61.

[26] - إرتبط هذا التوجه بآسم "أحمد بن صالح "الذي إشتغل في منصب وزير في حكومة الباهي الأدغم ، جمع من خلاله مسؤوليات وزارات التخطيط و الإقتصاد الوطني و التربية و التعليم ، كما تولى منصب الأمين العام المساعد للحزب الإشتراكي الدستوري ما بين عامي 1965 و 1969 وهو أحد مهندسي مقولة الإشتراكية الدستورية هذا علاوة على أنه أحد أبرز قادة الإتحاد العام التونسي للشغل قبل أن يتولى المناصب المذكورة .

[27] - الشارني، عبد الوهاب : من أجل مقاربة سوسيولوجية لأحداث جانفي 1984.- شهادة الكفاءة في البحث كلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية بتونس، 1987.- ص.ص.10-11

[28] - تم الإقرار بتبني مقولة " الاشتراكية الدستورية "في مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري ببنزرت سنة 1964، فقد خطب بورقيبة معرفا التعاضدية بقوله: "هي وحدة منظمة حسب مبدإ ديمقراطي يحقق الاستعمال الجماعي لأدوات الإنتاج و بعض الخدمات وتعمل من أجل مصلحتها ومن أجل المصلحة العامة "

[29] - الشارني …نفس المرجع.- ص.12

[30] - Signoles, P. : Industrialisation, urbanisation et mutation de l’espace tunisien.- In annuaire de l’Afrique du nord, Paris, CNRS, 1983.- p. 288.

[31] - أنظر مقالنا الحركة النقابية في تونس :أزمة 1978 و موقف السلطة منها ضمن بورقيبة و البورقيبيون و بناء الدولة الوطنية مؤسسة التميمي للبحث العلمي و المعلومات سبتمبر 2001 ص152 ، لقد بينت بعض الإحصائيات أن الحركة الإضرابية في تونس قد نمت من 144 إضراب بما يقابل 368496 ساعة عمل سنة 1974 إلى 377 إضراب بما يقابل 594573 ساعة عمل ثم إنحدر الرقم إلى 372 إضراب بما يوافق 1207482 ساعة عمل سنة 1977 .

[32] - يلخص عبد اللطيف الهرماسي في دراسته السالفة الذكر ص89 ملامح الخيار الليبرالي الاقتصادي في تونس في "التفويت في قسم كبير من أراضي الدولة و نزع احتكار التجارة الخارجية و الإشراف المباشر على التجارة الداخلية و توسيع مصادر القرض ومساعدة الرأسمال الخاص واستغلال صفقات الدولة و مراكز النفوذ ونمو أنشطة المضاربة وتوجيه استثمارات أكبر إلى الأنشطة ذات المردود المرتفع إلى جانب إخراج الثروات المجمدة خلال الستينات من أجل استثمارها و اللجوء إلى التحايل الجبائي وغيرها من المظاهر التي سمحت بنمو سريع لمداخيل الملكية والمقاولة ووسعت صفوف رجال الأعمال و الباعثين و السماسرة و المضاربين و عمقت الفوارق الاجتماعية ".

[33] - كان أول اتفاق تعاون وقعته الحكومة التونسية مع البلدان الأوروبية سنة 1969، أي بعد التخلي عن تجربة التعاضد .أما الاتفاقية الثانية فقد وقع توقيعها مع بلدن الاتحاد الأوروبي سنة 1976 بعد أن توسع هذا الاتحاد من 6 إلى 9دول، وتضمنت الاتفاقية بعض الشروط المتعلقة بالصادرات الفلاحية التونسية.

[34] - بن عزيزة، عبد العزيز : نسق النمو في ظل الشراكة ضمن اتفاق الشراكة بين تونس و الاتحاد الأوروبي وتأثيراته الاقتصادية والاجتماعية الجامعة النقابية الثالثة للاتحاد العام التونسي للشغل المهدية، 19 - 23 نوفمبر 2000.- ص.174

[35] - نفس المرجع والصفحة

[36] - بن سعد، عبد الله : تركيز منطقة التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي وتأثيره على الفلاحة التونسية ضمن المرجع السابق.- ص.209

[37] - المرساني، عبد الرحمان : الأبعاد الاجتماعية لتأهيل المؤسسات الصناعية في تونس بنزرت نموذجا شهادة الدراسات المعمقة كلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية بتونس، 1998-1999.- ص.ص. 44 - 45

[38] - نفس المرجع صندوق النقد الدولي 47

[39] - زكي، رمزي : أخطر مراحل المديونية الخارجية بيع مشروعات القطاع العام تسديدا للديون وعودة السيطرة الأجنبية لوموند ديبلوماتيك الطبعة العربية، عدد 17، مارس 1990.

[40] - المخطط التاسع للتنمية المحتوى القطاعي الجزء الثاني 1997 – 2001.- ص.35

[41] - المقدم، منجي : آفاق الاستثمار و الخوصصة في تونس ضمن اتفاق الشراكة …مرجع سابق.- ص.164

تتولى عملية الخوصصة في تونس :

- هيئة إعادة هيكلة المؤسسات ذات المشاركات العمومية يرأسها الوزير الأول وتضم وزراء المالية و الشؤون الاجتماعية و التنمية الاقتصادية وهي ذات طبيعة إستشارية

- اللجنة الفنية للخوصصة تم بعثها في فيفري سنة 1997 ويرأسها كاتب الدولة المكاف بالمساهمات العمومية وتضم ممثلي الوزارات المعنية و تتولى دراسة ملفات و عمليات الخوصصة من الناحية الفنية، اختيار المؤسسات التي ستخوصص ، إعداد كراس الشروط ، متابعة المؤسسات المخوصصة.

[42] - وزارة التنمية الاقتصادية، موقع الإنترنات 2002

[43] - المقدم ، آفاق الإستثمار …مرجع سابق.- ص.165

[44] - الزيادي، جمال : تأهيل المؤسسات و آنعكاساته ضمن إتفاق الشراكة …مرجع سابق.- ص.222

[45] - أنظر القانون عدد 127 لسنة 1994 المؤرخ في 26 ديسمبر 1994 المتعلق بقانون المالية لسنة 1995

[46] - المرساني : الأبعاد الاجتماعية مرجع سابق.- ص.37

[47] - أنظر الدراسة الميدانية التي قام بها المرساني …مرجع سابق حول مجموعة من المؤسسات الاقتصادية بجهة بنزرت

[48] - لبيض، سالم : نشأة مؤسسة إقتصادية محلية و آنتقالها من الدولنة إلى الخوصصة. دراسة بصدد النشر

[49] - طرشونة، المنجي : العلاقات الشغلية وآفاق التشغيل في ظل إتفاق الشراكة ضمن إتفاق الشراكة …مرجع سابق.- ص.99

[50] - مزيد، النوري : المناطق الحرة :مفهومها، أبعادها و آنعكاساتها الإجتماعية ضمن إتفاق الشراكة … مرجع سابق.- ص.155

[51] - الهمامي، عبد الرزاق : أي دور للنقابات في ظل واقع اليوم ضمن إتفاق الشراكة …مرجع سابق.-ص.243

[52] - الزغلامي، تأثير العولمة …مرجع سابق.- ص.85

[53] - طرشونة، العلاقات الشغلية و آفاق التشغيل …مرجع سابق.- ص.106

[54] - الندوة الوطنية للتشغيل الإطار والأهداف منشورات وزارة التكوين المهني و التشغيل جوان 1998- ص.25

[55] - أنظر نص الوثيقة… مرجع سابق

[56] - نص الوثيقة.- ص.4

[57] - نفس المرجع.- ص.9.

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche