الديني في محكّ التمثّلات الهوياتية : منطقة القبائل و الشيخ محند نموذجين

 إنسانيات عدد 54| 2011 |  تيزي وزو و منطقة القبائل: تحولات اجتماعية و ثقافية | ص 27-42 | النص الكامل  


The Religious Objects to the Test of the Identity Representations: the Kabylia Region and the Cheikh Mohand as Examples

َAbstract: From an anthropological point of view, this article comes out of a religious reading that is to say through its social expressions that the individuals adopt in order to demonstrate their faith. It seems that, from the analysis of the social practices and representations of religion in the Kabylia region, the amazigh culture is in a situation of distance with regard to the culture that Islam holds. The amazigh, as any human and cultural population who embraced Islam, did not completely abandon their culture but on the contrary they draw on from it tools that enable them to refine their social practices of religion and more particularly is the case of different rites that go with the rite of passage or the ways how are celebrated the local saints. The career of Cheikh Mohand l’Hocine is the one of an unusual religious figure in the kabyle religious and the social field. The Cheikh is a striking example of the amazigh culture vivacity which he expresses the values with a great freedom and that he articulates with the central religious values in the modalities which are analyzed in this article.

Keywords: religion, Kabylia region, social reality of religion.


Mohamed Brahim SALHI : Université Mouloud Mammeri de Tizi Ouzou, 15000, Tizi Ouzou, Algérie
Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31000, Oran, Algérie.


مقدمة

أود في البداية أن أتطرق بشكل سريع إلى الخطوط العريضة الخاصة بمقاربة الممارسات و التمثّلات المتعلّقة بالدين، ستكون بمثابة واجهة خلفية و دعامة لموضوع هذا الإسهام.

يمكن دراسة الدين، من وجهة نظر أنثربولوجية، عبر تعابيره الاجتماعية التي يمكن الإحاطة بها أساساً من خلال الممارسات الاجتماعية للأفراد من أجل التعبير عن إيمانهم.

هذه الممارسات ليست ممارسات ثابتة أو مستقرة، بل هي خاضعة للسياقات التي تدعم هذا النمط من التعبير أو ذاك. تأخذ القراءة الأنثربولوجية للممارسات الاجتماعية للدين، بما في ذلك الإسلام، بعين الاعتبار تاريخانية المعطى الديني، ليس فقط من حيث بعده السياسي الوحيد و لكن أيضا بوصفه يشارك في صناعة تاريخ المجتمعات و الثقافات التي ينتشر فيها وعليه، فإن الممارسات الاجتماعية للدين هي عرضة للتغيرات. و يبقى مرجع هذه الممارسات مستقرا، كما هو الأمر على سبيل المثال، في النموذج الذي نحن بصدده و المتمثل في الإسلام أو الكتاب تحديدا. فالمقاربة الأنثروبولوجية للدين ليست مقاربة معيارية تبحث عن التمثلات أو التطابقات بين المعطى المعياري الدوغمائي للدين و الحقائق الإمبريقية، و إنما هي ممارسة تتجه بشكل أساسي نحو ما يسمح الميدان والملاحظة برصده عبر مختلف الدعائم و الوسائط المنهجية.

يمكن صياغة السؤال الإشكالي العام على المستوى الأنثربولوجي بالكيفية التالية: كيف يمكن للأفراد، أثناء الملاحظة، الإقبال على ممارسات ما حتى يبدو إيمانهم صادقا، انطلاقا ممّا هم عليه في مختلف الأوقات و في سياقات مختلفة؟ كيف يمكن للهوية الثقافية للأفراد التي تمَّ بناؤها تاريخيا و عصفت بها ريح التغيير، أن تدعّم إنتاج الممارسات الدينية و التمثّلات حول الدين و التي من شأنها التجدد كليّا أو جزئياً؟

ستسفر ملاحظة الحقل الديني الجزائري، لا محالة، عن وجود ممارسات كانت مجهولة خلال القرنين الثامن و التاسع عشر، ظهرت مع حركة الإصلاح في غضون القرن العشرين، في حين نزعت ممارسات أخرى إلى الانتشار بشكل أوسع في صفوف الجماهير أواخر القرن العشرين.

لا تحيل هذه الممارسات لدى الأفراد إلى أزمة نزاهة مقارنة مع المعطى الذي يعدُّ مركزياً، إذا ما اعتبرنا أنه في كلّ الفترات المذكورة ليس ثمّة إنتاج ديني أو إصلاح يدعى مخالفة تعاليم القرآن، بل بالعكس، هناك حركات متكررة للتأكيد على الولاء لهذا الأخير و هي تشكل لبّ الحركات الدينية المعاصرة في الجزائر. مع هذا، فإن ما يدعَم هذه الحركات في الواقع هو شيء مختلف تماما، لأن فهم الممارسات الجديدة لا يتعلق بطرح السؤال المعياري الذي يكمن في معرفة من هو الأكثر ولاء لإيمانه و لصفاء مرجعه بقدر ما يتعلق بالتساؤل حول المعنى الذي تتمثله الحركات الدينية حول الدين بوجه عام. لقد تم الاشتغال فعلا بشكل مستمر على المجتمعات سواء على المستوى الجماعي أو الفردي من خلال البحث عن معنى لوجودها.

تشتغل كل الأديان بوصفها إطارا سيميائيا يفهم في سياق اجتماعي و ثقافي مترسب و مبني تاريخيا. و من خلال الإحاطة بإطار سيميائي معين، فإن هذا الأخير يضبطه أيضا، أي يدخل معه في حوار. من هنا تظهر أشكال رمزية      و ممارسات تبدو على المستوى التجريبي كلاّ واحداً. أما على المستوى التمثيلي، فلا تسمح هذه المقاربة الدينية بالتطرق وبشكل أفضل إلى بعض الأمثلة التي تمت دراستها في حالة منطقة القبائل و التي يمكن في رأيي الخاص تعميمها على وضعيات أخرى و مجموعات مشكّلة للمجتمع الجزائري.

تدعم هذه المقاربة التحليل المقترح في هذا المقال، كون أن "دين المعتقد المحلي" الذي سأتحدث عنه في هذه التمثّلات يبيّن بشكل واضح كيف أن الأفراد، و من خلال تأكيد هويّتهم يصنعون تمثّلا حول الدين. و من جهة أخرى، و في منطقة مثل منطقة القبائل، تدخل على المستوى التاريخي شخصيات دينية من أمثال الشيخ محند أولحسين في تناغم مع هذه التمثَلات و تدعمها. يبدو لنا هذا الأمر قابلا للنقاش و ثريا على مستوى المادة الفكرية.

التمثَلات و الممارسات الاجتماعية للدين بمنطقة القبائل

لقد تطور التمثَل الحالي حول الدين في الحركة الهوياتية الأمازيغية منذ فترة تأسيسها سنة 1980، فالثقافة الأمازيغية حين ذاك اعتبرت مستقلة ذاتيا      أو تفصلها مسافة معينة عن تلك الثقافة التي يحملها الإسلام وتيار الأسلمة اللذان يعتبران عاملان من العوامل المتسببة في حلّ أو تذويب اللغة المحلية. و تجدر الإشارة أيضا أن المقاربات الإثنوغرافية في القرن التاسع عشر هي التي استخدمت بشكل أساسي كأداة لدراسة الدين في المجتمع القبائلي. فتمخّضَت الوضعية التي منحت له سواء في التمثلات الفكرية أو على صعيد أشكال التعبير الاحتجاجي عن باراديغم مجتمع لا يلعب الدين فيه دورا، لا في صناعة المعايير و القيم، و لا في طرق تنظيم السكان المحليين. يمكن تعريف الفاعلين الدينيين و من بينهم المرابطين بشكل أساسي كوسطاء. لقد تحفّظت "الجمهوريات" القبائلية          أو البربرية لماسكوري (Masqueray) بكيفية معينة على ممثلي الإسهام الخارجي المتواجد على بعد مسافة، و قد أضاف الفولكلوريون في بداية القرن العشرين لمسة لتلك المسافة من خلال الزيادة في إظهار الممارسات السحرية و إحياء العقائد الدينية القديمة، و التي هي في الواقع المعقل الديني الحقيقي للبربر، الذين اعتنقوا الإسلام بشكل سطحي[1].

مما لا ريب فيه هو أنّ تقديس الأولياء الذي يعود الأصل فيه إلى ملاحظة الطقوس الوحدانية في المجتمع المحلي قد نمَى هذه المقاربات. في الوقت ذاته،  و طيلة القرن التاسع عشر وصفت المقاومات التي حرَكتها و قادتها الطريقة الرحمانية أو شخصيات دينية أخرى بـالمقاومات "التعصبية" للتفريق بينها و بين المعتقد المحلي الأكثر تجريدا على المستوى العقائدي، و الأكثر ابتعادا عن المرجعيات العالمية. في الواقع، يتوافق هذا الإجراء مع صناعة قوقعة عمياء ذات سيروات حية لتملّك الدين الجديد و صناعة رموز دينية تمّ تعديلها وفقا للثقافة القبائلية المحلية. في هذه التمثّلات، يعدّ كلّ من "المعتقد المحلي" و ما يشار إليه بـ "التعصب الديني" في كل الأحوال، وجهان لواقع مؤخّر بالمقارنة مع الثقافة المهيمنة التي تتجه نحو أفولها. غير أن التعصّب يعتبر الأكثر "خطرا" كونه يعدّ عامل تعبئة من الناحية السياسية. و لن أسهب هنا كثيرا، فيما تعرضت إليه في أبحاثي السابقة[2] أو ما تعرض إليه غيري من الباحثين حول الحقل الأمازيغي.

من الواضح أن الأمازيغ، شأنهم شأن كل المجموعات البشرية و الثقافية التي اعتنقت الإسلام، لم يتخلوا عن ثقافاتهم، بل بالعكس استمدوا منها الأدوات التي تصقل ممارساتهم الاجتماعية للدين[3]. من جهته، يعمل الإسلام بوصفه ديانة جديدة في اتجاه إعادة بناء المتخيّل الديني المحلي حول هذه الفئات.    و عليه، هل يمكن الاعتبار أن الكوسموغونيا قد أعيد بناؤها، تماما كما هو الحال بالنسبة لتراتب اللغات حول اللغة الطقسية. لكن الأمر يبدو هنا بوصفه تنافذا  أو تشابكا قويا أكثر من كونه ثنائية غير قابلة للاختزال، ذلك أنّه من الصعب بناء مقاربة تميز بشكل واضح بين هذين الجانبين الاثنين و بين الاعتقاد. ما يمكننا أن نؤكده دون أدنى شك إنما يخص التسامي، وتبقى الأنطولوجيا أو باختصار مجال الإلهي مرجعا للكتاب المستقر بشكل شبه تام و الذي يتحرك كعنصر للدين الجديد. إنها حالة مبدأ التوحيد و الصفات الإلهية المتردّدة في الأغاني الدينية القبائلية[4]. بالمقابل، فإن الطريقة التي يتم بها الاحتفال الديني  و الرموز التي تجسّد مظاهره اجتماعيا هي متحركة و تسمح بمرور تاريخ الجماعات البشرية عبرها. ليس من الغريب، إذن، أن يكون القبائل قد استمدوا من ثقافتهم عناصر لصناعة رموز دينية و لإعادة إحياء طقوس بغية منح معتقدهم الديني معنى وممارسة مرئية.

هذا هو ما يتجاهله الأدب الإثنوغرافي أو يتغاضى عن رؤيته. يبدو لي بديهيا أن هذه النظرية أثرت في البداية على القبائل المتعلمين ليتعداهم فيما بعد إلى عامة الأهالي المطلعين على هذا الأدب. و لا أظنّ أن هذا من قبيل الصدفة و لا يمكن أن يكون نوعا من أنواع الاستعدادات المسبقة أو الارتداد الفكري. يتعلق الامر في الواقع بقلادة للإنكار الهوياتي و بفرض تعريف للانتماء يربط بين الإسلام والعروبة، و هو بمثابة مقاربة إثنو– دينية للانتماء.

لقد وضع المصلحون الدينيون الجزائريون هذا التعريف الإثنو-ديني للانتماء وذلك في قالب يعقوبي بمعنى أنه انتماء تفرض عناصره نفسها على الجميع، حيث يتم إنكار كل تنوع ثقافي، لغوي و ديني. لذا نجد الجهات الأخرى في الحركة الوطنية تستخدم تعريف الانتماء لحسابها. فكل ما يمثل تعبيرا خاصا أو اختلافا اعتبر بمثابة عنصر من عناصر التمرّد بعد سنة 1962، حيث قامت الدولة الوطنية الجزائرية باستخدام و تعزيز هذه المقاربة اليعقوبية و الحصرية للانتماء إلى الوطن. فالعروبة و الأسلمة هما عنصران لا انفصال بينهما. و لذا فقد قام المطلب الهوياتي الأمازيغي ضد هذا التعريف للانتماء. تمثّلت الحجّة التاريخية الأساسية لهذا المطلب في المصير الذي كان ينتظر محتجيَ حزب الشعب الجزائري – الحركة من أجل الحريات الديمقراطية (PPA-MTLD) سنة 1949 الذين وصفوا بـ "أصحاب النزعة البربرية" و الذين تعرّضوا للعنف بشكل كبير من قبل الهيئات المركزية لهذا الحزب الوطني. كما تشرب هذا المطلب من الواقع السياسي لسنوات الستينيات و السبعينيات، و من الرفض العنيف للدولة الجزائرية لكل مرجع آخر غير الإسلام و اللغة العربية في تعريف الهوية الوطنية. و رغم ذلك كان لا بدّ من إعطاء شرح لوجود الدَين في صناعة الرابط الاجتماعي.

أظن أن المقاربات الإثنوغرافية للقرن التاسع عشر هي التي كان لها أثر في تجسيد النموذج التفسيري قبل أن يتمّ خلال سنوات الثمانيات اكتشاف النظرية الانقسامية[5]، و التي قدّمت مفتاحا استخدم بعيدا عن الحقل العلمي. إنه الشيخ محند أولحسين الذي أصبح دليلا على العلاقة الموجودة بين الدين و المجتمع بعيدا عن الصبغة "الشرقية" أو العالمية، و ذلك في أعقاب الدراسة التي خصه بها مولود معمري. و باختصار، فقد أصبح مثالا حيّا عمّا يمكن أن يعتبر دين الأمازيغ (أمازيغ منطقة القبائل تحديدا). مع صدور كتاب مولود معمري تمّ الانتقال من مستوى التمثَيل إلى مستوى المعرفة. لا بُد من الاعتراف بفضل هذا المؤلف في فتح المجال لتحليل الديني في منطقة القبائل. و حتى إن قمنا بقراءة نقدية للمقاربة التي يتبناها معمري إزاء هذه الشخصية القبائلية الدينية القوية، يبقى إسهامه ذا أهمية بالغة بالنسبة لتلك الفترة من خلال تلك الأفكار التي يعرضها في مقدمة "القصائد الشعرية القبائلية القديمة"[6]. أظنّ أنه يجدر الاهتمام بالتملك اللاحق، لأفكاره و أبحاثه بعد رحيله.

الشيخ محند: سيرة و مسيرة

تعد مسيرة الشيخ محند أولحسين من آيت سيدي أحمد، بالنسبة للكثيرين، مسيرة شخصية دينية فريدة من نوعها في الحقل الديني و الاجتماعي القبائلي، عاشت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بدأ الشيخ أولى خطواته و نمّى موهبته في أحضان الطريقة الرحمانية. كما تمكن من التفرّد و فرض سلطتة الدينية التي طالت منطقة القبائل برمتها بعد مواجهته للتنظيم الهرمي لهذه الجماعة والدخول في مناقشة مع ممثليها في منطقة جرجرة. من المحتمل أن يكون من القلائل، إن لم نقل الشخصية الدينية الوحيدة، المعترف بها التي تحظى باحترام خارج الحدود القبلية، ذلك أن مواقفه الدينية في غضون أزمة النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تحديدا حوالي سنوات 1870، تكشف عن نزعة براغماتية أثارت استياء الكثير من معاصريه. ففي الوقت الذي تجنّدت فيه كل الشبكات و كل المقدّمين الرحمانيين انطلاقا من أفريل 1871 للقيام بإحدى الانتفاضات الفلاحية في القرن التاسع عشر ضد الاحتلال الفرنسي، تماطل الشيخ محند عن الإقدام على ذلك و حثّ أتباعه و الأهالي الذين كانوا تحت إمرته بعدم المشاركة في ما كان يبدو له حربا غير متعادلة و ذات عواقب وخيمة على الأهالي[7]. كان منطلقه الخاص هو أن القضاء الذي كتبه الله للغزو الاستعماري لم يحن وقته بعد، و في كل الأحوال، عندما يزيد الظلم عن حدّه، ويصعب احتماله فإن الفرنسيين سيغادرون لا محالة[8]. و لكن الخلاف لم يتوقف عند هذا الحدّ، فالحرية التي تعامل بها الشيخ مع قواعد الانخراط في جماعته و بالرغم من الكاريزما التي لا ينازعه فيها أحد، جعلت منه شخصية مثيرة للجدل في أوساط مقدّمي الرحمانية الذين نددوا بهذه الاستقلالية[9].

وعندما قرر الشيخ الحداد، مذهولا بما وصله من أخبار الشيخ محند، دعواه إلى الانضباط و مطالبته بالاعتراف بقادة الجماعة، اصطدم بالحقيقة اللاذعة للشيخ الجديد. فحين سأله الشيخ الحداد "من جعلك مقدَما يا محند؟" (و كان يتوقع أن تكون الإجابة ب "أنت يا شيخ")، أجاب محند: "الله"[10]. عندما نكون على دراية بسلطة الشيخ الكبير للطريقة الرحمانية القبائلية، فإننا ندرك وطأة مثل هذه الإجابة التي هي بمثابة عصيان حقيقي و خطير يقوَض اليقين المكتسب من خلال الكتابات الأساسية بما فيها الكتابات المؤسسَة للطريقة الرحمانية، حيث تعتبر تلك الكتابات الطاعة و الخنوع للشيخ قاعدة أساسية لا يجوز تخطيَها أو تجاوزها.

تجدر الإشارة، أن المشكل عند الشيخ محند، هو أن يكون الخلاف عضويا  و روحانيا في الوقت ذاته. لقد قرر نظرا لإيمانه بامتلاك الحقيقة و مضيّه وفقا لحدسه الخاص، الاكتفاء بما فهمه أثناء بداياته وفترة وحدته الطويلة و تحسّنه في طريقه دون وساطة من قادته. لقد أسَس مقدمون آخرون في تاريخ الرحمانية، فروعهم الثانوية الخاصة بهم كما هو الحال بالنسبة لمحمّد الجعادي في الجنوب الغربي لمنطقة القبائل الكبرى قبل سنة 1871. في حين تخلىَ آخرون بعد 1871، عن كل ولاء لقطب الطريقة الرحمانية، حتى عندما اعتبر هذا الأخير خلفا لسلطة الشيخ الحداد. و من المعروف أن سلطة الشيخ بلقاسم من بوجليل (تيقرين، آيت عباس) الذي خلف الشيخ الحداد، لم تلق دوما الترحاب الجماهيري الذي كان يدَعيه. صحيح أن زوايا و شيوخ المنطقة كانوا يكنّون له الاحترام، و لكن دون الاعتراف بشكل مطلق بالسلطة الهرمية لشيخ الطريقة الرحمانية القبائلية. و إذا كانت ثمّة فضيحة قد وقعت، فإن أصلها يكمن في خاصية النبوءة لأفعال و ملامح شخصية الشيخ محند الحسين. فهذه النبوءة المنافسة تعيد بناء حقل الولاء في منطقة جرجرة بأكملها. حيث انشطر الصرح المرابطي الذي كان في شكل فسيفساء، من وجهة نظر الولاءات بين الصورة الدينية الجديدة و المقدّمين الآخرين للطريقة الرحمانية. غير أن ملامح هذه الشخصية المنعزلة للشيخ محند، لم تتمخّض بطبيعة الحال عن خلف له، وفي غياب نسله أو تلاميذ من مستواه انتهى وعظه مع موته. لقد استمرت أخته لالا فاطمة نالحسين في تلقي حسنات المخلصين لكن دون أن تكون خلفا حقيقيا له.

كيف نقرأ ملامح شخصية وليّ قبائلي ذي وزن تاريخي

إن مسيرة و أفعال الشيخ محند، بالنسبة لمولود معمري هي تعبير و انبعاث للمعتقد المحلي، المتمرد على تقاليد علماء الدين. فهذه التقاليد، بوصفها عاملا خارجيا ليس لها تأثير على الواقع المعاش في منطقة القبائل. حول هذه النقطة، لا بدّ من الإشارة أن رجال الدين ليسوا مستحوذين على المعرفة الدينية الشرعية بشكل حصري، و لكنّهم ينتجونها و ينشرونها بطرق تختلف عن تلك الطرق التي يتّبعها نظراؤهم الريفيين، دون أن يعني ذلك بالضرورة أن هؤلاء ينشرون  و ينتجون شيئا آخر غير المعرفة المستوحاة من القرآن. هناك اختلافات على مستويات الصياغة الخاصة بطرق نقل المعرفة. ومما لا شك فيه أيضا هو أن ممارسات علماء الدين الحضريين أكثر عقلانية من تلك الخاصة بالريفيين الأكثر تكيّفا مع النزعة الطقسية للجماعات و عمقها الثقافي الخاص.

لقد خلصنا من تحليل طرق التنشئة الدينية للقبائل و الطريقة التي انغمست من خلالها الأركان التي يحملها الكتاب إلى تشابك قوي بين هذه الأخيرة وأخلاقيات المجتمع القبائلي. و مع هذا، فإنه من الواضح أن التعابير والممارسات الاجتماعية للدين يمكن أن تغطي على طرق تقترض من الأنماط الثقافية المحلية، و هي تحديدا حالة الطقوس المختلفة التي تصاحب عمليات العبور أو كيفيات الاحتفال بالأولياء المحليين.

إنّ استخدام "الإخوان" (روَاد الطريقة) للغة القبائلية هو أمر لا يحيل في معناه إلى نقل عمق ديني فريد و لكن إلى الشرح الوافي للقرآن. فلغة المعتقد والإسلام ليسا حصرا على أحد، و ليس هناك ما يشير مثلا في شعر الإخوان أو الشعر الذي تردَده العامة، من ميل هرطقي أو فاضح بالنسبة للأرثذوكسية. لقد سبق و أن شرحنا هذا الأمر في دراسات سابقة بشكل مستفيض[11]، فهذا الانتاج الرمزي والديني مبني أساسا حول المعاني الجوهرية للوحي.

لا بد من قراءة استخدام اللغة القبائلية من وجهة نظر ترتبط بتفسير القرآن بوصفه قدرة تاريخية للإسلام على التكيَف مع واقع الجماعات التي تعتنقه. وبنفس الطريقة، من الواضح أن العمق الثقافي البربري القديم يضفي لمسة خاصة على أساليب التعبير الديني. و من ثمّ، فإن اللغة القبائلية سمحت كما تبيّنه الأدعية و ممارسات "الإخوان" و لكن أيضا الأشعار الدينية، بالتفاعل أكثر مع الحساسيات الثقافية المحلية. و عليه، فإن هناك نوع من التنافذ، غير أن تقديم مولود معمري لشخصيه الشيخ محند و ممارساته الدينية يمكن أن يكون محل نقاش. يجرّد مؤلف كتاب "الشيخ محند قال"، من خلال تحايل خطابي، هذه الشخصية من صفتها الدينية، فبالنسبة لمعمّري يتعلق الأمر بمحند الشخص (في الكثير من الأحيان) وليس بمحند الشيخ[12]. بالنسبة للكاتب يعدَ "محند"، "الأمي" و "الريفي"، شخصا منقطعا عن ثقافة علماء الدين و منطلقا من القطب المركزي الإسلامي. "محند" هو حامل للثقافة الشفهية "الحية للجماهير" و التي لا يمكن أن يكون لها سوى "علاقة خارجانية تامة" مع ثقافة علماء الدين الذين يمارسون الروحانية و لغة الطقوس. و إذا كانت هناك صلة بين الشيخ و هذه الثقافة و القيم التي تحملها: "لن يكون أبدا غير نوع من الاعتراف الرمزي، لأن اللغة التي يستخدمها هي لغة مختلفة، و لأنه و في غضون قرون خلت، ترسبَت عنده مفاهيم و قيم حية، ليتشكَل لديه إحساس بنوع من الحرية تجاه تطويبات ثقافة ولدت في سياق آخر، تمّ استيرادها و تكييفها إلى حدّ ما مع القالب الموجود سلفًا[13]. هذا يعني، وبشكل أكثر دقة، أن هذه الشخصية الدينية المرتبطة بالمعتقد المحلي تربطها علاقة بعيدة بثقافة الكتاب و أن اللَغة الأمازيغية هي أداة لاستبعادها عن هذه الأخيرة في الصيغة التي تتجسد فيها منذ القرن الخامس عشر أي "في عزّ الانحطاط". و هذا في حدّ ذاته يعدّ أكثر إثارة، حسب مولود معمري، حيث أن هذا البعد عن ما هو مكتوب أي ذلك "المضمور" و "المضمر" هو من حسن حظ الثقافة المحلية التي تحتمي من مثل هذه العدوى. (ثقافة العقيدة الشفوية أو التضاد بين كتابي- كوني- خارجي و محلي- شفهي).

و من ثمّ فإن "محند" هو مثال حي عن انتشاء حيوية هذه الثقافة التي يعبَر عن قيمها بكثير من الحرية حتى فيما يتعلق بما هو اقتراض ديني خارجي. وبتعبير آخر، يمكن القول أن ثقافة المعتقد المحلي أو الثقافة البربرية هي ثقافة مركزية، في حين أن الثقافة الدينية التي يحملها الإسلام هي ثقافة جانبية. تحمل أفكار مولود معمري على الاعتقاد أن هذا الفصل الواضح بين ثقافة المعتقد المحلي و الثقافة الدينية المتمخّضة عن وجود الإسلام لا تبدو أنها تتطابق مع الواقع التاريخي و الواقع المعاش للمجتمع القبائلي. فقد أعيد بناء شخصية الشيخ محند بشكل يسمح بترسيخ "دين محلي" فاتر نوعا ما بالمقارنة مع أركان الإسلام الأساسية، ففي جلّ الحالات لا يعترف به إلا بصفة رمزية شأنه شأن "محند" الذي يتحدث عنه الكاتب. هناك عقيدة للشفهي يمثَلها "محند" نفسه، غير أن الفصل بين الشفاهة / الكتابة لم يحسم في أمره أيضا. فالكتابة، أي كتابة القرآن أولا، أعادت بالفعل تشكيل حواف الثقافة و المجتمع المحليين.

إن المتخيل الديني القبائلي متأثر بعمق، و من المثير للدهشة أن يستخفّ مولود معمري بوزن المؤسسات الدينية و سلطتها، تحديدا في الفترة التي عاش فيها الشيخ محند أولحسين في منطقة جرجرة. فقد كانت المعرفة التي أنتجتها و نشرتها هذه المؤسسات "محصورة في نطاق ضيق"، و لكن، و لكون الأشياء هي ما هي عليه، كانت في تلك الفترة العديدة من المؤسسات الدينية الكتابية القبائلية في حالة جيّدة، و كانت تستجيب إلى مطالب اجتماعية ملحة. و من تلك المؤسسات التي كان يتردَد عليها الشيخ محند في الفترة الممتدة بين سنوات  1840 و 1850، نذكر بالخصوص زاوية الشيخ أجوادي من آيت– خليلي و هي مؤسسة تعليم ديني ذات مستوى مقبول. فعودة هذا النوع من التعليم إلى الواجهة جاء بعد سنة 1850 و بالتأكيد بعد مرور زمن على وفاة الشيخ محند.

وفيما يتعلق بالانفتاح على البيئة الإسلامية الواقعة خارج حدود منطقة القبائل، فقد قدمت أزمة سنوات 1860/1870 مؤشَرات جدّ قوية على ذلك. فعلى سبيل المثال، كانت سمعة القوة العثمانية (التي تمثل القوة الإسلامية) جدّ حقيقية عند سكان القبائل.

لقد سبق و أن أشرت في رسالتي للدكتوراه إلى متمرَدي سنة1871، و كيف كانوا في انتظار مساعدة من الباب العالي (الإمبراطورية العثمانية) و السرعة التي كانت تنتشر من خلالها الأخبار القادمة من الحجاز، خاصة مع عودة الحجاج. فمنطقة القبائل ليست منطقة منقطعة عن العالم الإسلامي حتى و إن احتفظت بسلوكياتها الجماعاتية الخاصة بها، على اعتبار أن هذا الأمر لا ينجر عن الآخر. لا يوضح مولود معمري كثيرا هذه الجوانب و هذا في حدّ ذاته يبعث على الدهشة كونه كان يعرف جيدا الوسط المحلي و البيئة السائدة في الفترة التي عايشها الشيخ محند. كما يهدف معمري من خلال إشارة أخرى إلى علمنة الشيخ محند[14] بمهارة فاجأتنا فعلا إذ نلمس ذلك في محتوى هذه الفقرة : "العائلة (عائلة الشيخ) فقيرة، لكن من دون شك بسبب الأم التي تنتمي إلى عائلة مرابطية، فهي تهتم بالأمور الدينية"[15]. فهذا التأكيد، بغض النظر عن كونه خاطئا يعزّز فكرة اتهام هذه الشخصية بالعلمانية مع الإصرار على ذلك :

  • فالصفة المرابطية لا تورث عن الأم و إنما عن الأب، على اعتبار أن الجماعات الدينية القبائلية جماعات ذات نسب أبوي و عصبي. و المقترح هنا هو أن الأم وحدها هي ذات الانتماء المرابطي و من ثمّ فهي من ورَثت الشيخ محند هذه الصفة.
  • بالمقابل، ليس هناك أي مؤشر حول جماعة آيت سيدي أحمد و التي تعد إحدى سلالاتها سلالة أحمد أمزيان ، أي سلالة الشيخ محند أولحسين، حيث تمتد هذه السلالة إلى سيدي أحمد غومزيان أو أمزيان سليل سيدي نعمان[16]. وعليه، فإن الشيخ اكتسب هويته الدينية عن هذه الجينيالوجيا المقدّسة و التي كان لها دور في ولادة رسالته و بالتأكيد أيضا تقربه من "أمور الدين". ففي سياق قبائل القرنيين الثامن و التاسع عشر، سبق هذا الانتماء الديني، وصاحب و دعّم مهام الشيخ. فمن الصعب التخيّل أن الشيخ محند قد صنع نفسه بنفسه، بمعزل عن الهوية التي اكتسبها جرَاء انتمائه الديني.

هذا الانتماء الديني هو ما أغفله مولود معمري بشكل واضح و بيّن ضمنيا أنه من غير المفهوم اعتبار الشيخ محند مرابطا، إلا إذا كان الكاتب يعتقد أن أصوله المرابطية المزعومة تمثَل مشكلا بالنظر إلى العناصر التي ليست بحوزته[17].

إذا افترضنا أن أصل سلالة انتماء الشيخ محند هو محل شك (نجهل فحواه)، فهو في كل الأحوال أصل معترف به، و يعمل بهذا الشكل في المجتمع المحلي منذ قرون و عليه فهو شرعي بالصيغة التي هو عليها. فمن المستبعد بشكل كبير أن ينظر إلى الشيخ محند على المستوى المحلي على أنه علماني بشكل نسبي و عليه، فهو ذو شرعية دينية مشكوك فيها (انطلاقا من أصوله العائلية).

لا تسمح العناصر التي بحوزتنا بالحديث عن مثل هذه الفرضيات، و إنما هي عناصر تدعم الخصوصية الدينية لسلالة آيت سيدي أحمد. مع هذا، فإذا كان لا بدّ من تأكيد هذه الفرضية من خلال حجة قوية فمن الممكن أن يتم تقييم التحليل الذي أقترحه من جديد.

أما حاليا فلا بدَ من الاكتفاء بملاحظة أنه خلال سنوات الثمانينيات دخلت هذه القراءة الجديدة لجينيالوجيا الشيخ و مكانته بشكل جيد في إطار إعادة تأهيل لديانة المعتقد المحلي.

انطلاقا من منظور مولود معمري، قام الشيخ محند بـ "ثورة" صغيرة من خلال الوصول إلى درجة راقية[18] في التراتبية الهرمية للرحمانية مع أنه كان "أميًّا". فالدخول في هذه الجماعة ليس مرتبطا بأي شكل من الأشكال بمسألة التحكم في الكتابة، حتى و إن كان يفترض أن يصاحب "المقدّمة" و "الشيوخة" في الطريقة الرحمانية نوع من الكفاءة الكتابية. و في هذه النقطة، نحن بالتأكيد أمام حالة استثنائية. و لكن لا بدّ على الأقل من معرفة ما إذا كان قد حصل فعلا أي اتصال بين الشيخ محند لحسين و اللغة الطقسية و بالخصوص بينه و بين القرآن و الثقافة الدينية للكتب (الكتابية)، و هو أمر لا يوضحه أي عنصر. بالعكس، كل شيء يبعث على الاعتقاد أن المسيرة التمهيدية الطويلة التي قام بها و التي رفعته في سلم التراتبية الرحمانية جعلته لا محالة، في اتصال مع علوم الكتاب. فقبل الحصول على مبايعة الشيخ "محند أو على من تاقابه"... (عصيف الحمام)، أقام بالترتيب عند الشيخ شريف من تمليلين (إفليسن) و "سيدي حند أو طيب" (جرجرة) أين قضى سبع سنوات في خلوة تامة، ثم عند سيدي حند أجوادي (آيت خليلي) و في الأخير توجَه إلى سدوق عند الشيخ الحداد[19]. باختصار، بعد اتصاله الأول و دخوله إلى الرحمانية عند الشيخ "محند أوعلي من تاقابه" واصل مسيرته في سبيل تحسنه في هذا المسار المطابق لتعاليم الطريقة الرحمانية. كشفت له هذه الإقامة التي قضاها في الزوايا القبائلية بالتأكيد عن واقع القرآن و الكتب التي تشرحه. بالمقابل، من الممكن القول أن الكيفية التي يترجم من خلالها توجه ممارساته، زهده و إرادته في البحث عمّا يقرّبه من الله و ثقل وزن السلالة التي ينتمي إليها تمخضت فعلا عن كاريزما امتدت بجذورها إلى أعماق المجتمع المحلي و دفعه إلى الدخول في نزاع مع التراتبية الهرمية لجماعته. و قد ساعدت فطرته الشعرية، هيبته و براغماتيته بأن تجعل منه شخصية لها صيتها و مكانتها في زمنه و في الجماعة التي احتضنت أفعاله.

فالزهد النابع عن آراءه و منهجه و كيانه الاجتماعي[20]، بالإضافة إلى تضخيم و إعادة قراءة جديدة في ضوء المتخيل الديني الاجتماعي المحلي جعل منه وصيّا، علاوة على ذلك، أسند إليه المتخيّل المحلّي معجزات و رؤى عززت مكانته الاستثنائية. و على عكس الكثير من الأولياء المحليين، يتمتع الشيخ محند بعمق تاريخي و بمسيرة لا يمكن أن تعد إلاَ ضربا من ضروب الأسطورة. فأقواله، شأنها شأن أقوال "سي محند أو محند"، معاصره و نظيره في الشعر، هي أقوال تتم استعادتها في محضر الشهود و أحيانا في محضر الجموع ممن ينقلونها إلى مستويات واسعة.

تعدّ خلق الشيخ محند ثابتة بشكل جيد على مبادئ الزهد الأخوي للجماعات التي تصل بينه و بين ما هو كوني يمثله التصوف[21]. يمكن تلمس ذلك من خلال أقواله[22] و لكن أيضا عبر الكيفية التي يصوره من خلالها المتخيَل الجماعي.

و عن سؤال حاج يطلب من الشيخ تخمين المشكل الذي يشغل باله، يجيب الشيخ قائلا "يا غبي! أنا مثل الجميع، أو حتى أقل من آخرين ! ما أفوق فيه الكثيرين، هو أنني لا أتدخل فيما لا يعني غير الله"[23]. "ليس هناك غير الله من يعرف كل شيء و لا يمكن لأحد أن يضاهيه"، و معنى هذه الإجابة موجود في قلب البناء الإسلامي المهيمن. فتوصيات الشيخ بخصوص العمل في سبيل الله تكمن في أقواله و تترجمها من جديد مدائح الثناء التي خصّه بها المجتمع المحلي من خلال الشعر الديني:

و من ثمّ، يعرف الشيخ محند السلوك الديني[24] كالتالي:

استجر (بالله)

قل (صحيحا)

أعط (من خيراتك)

أهرب من (السيئات)

ولا تتحدث مع الموتى[25]

كما تردد أن الشعر الذي رفضه أتباع و مريدي الشيخ[26] يتناول هذه الوضعية الأخوية و هي مشبّعة بكنه الكتاب:

الشيخ محند أو لحسين

حمام أنت على الحصير

كنت توصي أتباعك:

أبنائي، إن في صلاتكم لخيرا

فمن لم يتأخر عنها في الحياة الدنيا

لقي جزاها في الآخرة

الشيخ محند أو لحسين

حمام الكعبة الأبيض أنت

كنت توصي إخوانك:

لنسعى للصلاة مساء

و نؤدي لله ما علينا من دين

فما الحياة الدنيا إلاَ متاع لحين

الشيخ محند أو لحسين

حمام الكعبة الأبيض أنت

كنت تصلي بكرة وعشية

و أنت ترقب الشمس تنطفأ شيئا فشيئا

اجعلني ربي بين العارفين، و هبنَي

من خير بذلِكَ و حلال عطائك

من خلال كل هذه العناصر[27]، أعتقد أنه لا يجب أن تكون هناك رغبة لخرق صورة ولي محلي في منطقة القبائل، مرتبط بشكل كبير بثقافة الكتاب من خلال طريق تبنّي مبادئها. مما لا شك فيه هو أن هذا الجانب هو الجانب الذي يتم من خلاله الاختراق الأفضل للبعد الديني عند هذه الشخصية.

غير أنه مع مرور الزمن تم إعادة تملك هذه النظرة عن الشيخ محند من منظور تيارات المطالبة الهوياتية التي تهدف إلى إرساء قطيعة بين المكنوز المحلي المعلمن و المكنوز المرتبط بالكتاب و المتغلغل سطحيا و المتدخل نسبيا في تحديد مصير المجتمع المحلي الذي ينظر إليه بوصفه مجتمعا متقوقعا على ذاته.

لا يعدّ هذا النوع من الانزياح صادرا عن مولود معمري، و إنما عن الاستنباطات المستخلصة من كتاباته، و التي ليست هي، من وجهة نظري، أفضل الشبكات للوصول إلى الحقائق الدينية القبائلية. فملاحظة الممارسات الدينية المحلية منذ عشرية من الزمن هي ملاحظة عرضية لمقاربة دينية أخرى.

إن إعادة التأهيل الحقيقي للمؤسسات الدينية المحلية، و الأولياء المحليين ولجماعة الرحمانية، بالإضافة إلى كونه أمر يدل على عملية بحث عن مرجعيات دينية داخلية، يشهد أيضا على إعادة إدماج للدين في مقاربة الهوية.

يبقى على الباحثين مساءلة هذا الواقع بجدية من أجل سبر أغواره و دلالته. ومع هذا، تبقى فرضية دين المعتقد المحلي فرضية هشّة في طبعة سنوات التسعينيات و الثمانينيات إذا ما انفصلت عن سيرورة تمَلك الإسلام و قدرة هذا الأخير على إدماج الوقائع المحلية التي تصادفه في توسعه التاريخي و قدرة المجتمع المحلي على تنمية ديناميات تهدف انطلاقا من هذه الأماكن الثقافية والفكرية إلى تأويل معطى ديني جديد و ترجمته إلى ممارسات اجتماعية للدين الداخلي.

المترجم: صورية مولوجي-قروجي


الهوامش

 [1] ينظر بهذا الخصوص:  Doutte, Edmond, Magie et religion en Afrique du Nord, Alger, Jourdan, 1909. 

[2] Voir Mohammed Brahim Salhi, Etude d’une confrérie religieuse algérienne : la Rahmaniya. Paris, EHESS, 1979, en particulier chapitre introductif. Et Confréries religieuses, sainteté et religion en Grande-Kabylie. Eléments de bilan d’une recherche sur un siècle (1850-1950), Correspondance, Bulletin scientifique de L’IRMC –Tunis, n° 12-13, 1993, pp. 3-7.

[3] Ibid et Mohammed Brahim Salhi, Société et religion en Kabylie. Thèse de Doctorat d’Etat Es Lettres et Sciences Humaines, Paris, Sorbonne-Nouvelle, 2004.

[4] Mohammed Brahim Salhi. Lignages religieux et sainteté….op.cit. et Youcef Nacib. Chants religieux du Djurdjura, Paris, Sindbad, 1980.

[5] ينظر بهذا الخصوص : Gellner, Ernest, Les Saints de l’Atlas, Paris, Bouchène.

[6] Mammeri, Mouloud, Poésies kabyles anciennes, Paris, Maspero, 1980.

[7] Rapport Pervieux de Laborde, Enquête sur les confréries religieuses, 1895. Rapport de la Commune mixte du Djurdjura. Et Mohammed Brahim Salhi, thèse de 3ème cycle, op. cit., pp. 228-234.

[8] ينظر إلى كل مظاهر هذا الاستعداد الفكري لدى الشيخ في مولود معمري، المرجع السابق.

[9] برفيودي لا بورد (Pervieux de la Borde) يشير في المرجع المذكور إلى رفض المقدمين النزهاء للتنظيم الهرمي للجماعة.

[10] معمري، مولود، المرجع السابق، ص.24.

[11] Voir Salhi, Mohamed Brahim, « Les usages sociaux de la religion en Kbylie. Dela spécificité à l’universalité », in Awal, Cahiers d’études berbères, Paris, Editions de la maison des sciences de l’homme, N° 34, 2006, pp. 71-91.

[12] معمري، مولود، المرجع السابق، ص.ص. 11-49.

[13]المرجع نفسه، ص.20.

[14] لا بدّ من الإشارة أنه من غير اللائق و من غير المقبول، من منظور القيم القبائلية نعت الشيخ، كما يفعل مولود معمري، أي بـ "محند"، و أيضا نعت أي ولي محلي، أيّا كانت الظروف، بدون صفة "سيدي"، لأن ذلك يعدّ في عرف القيم فضيحة.

[15] المرجع السابق، ص.22.

[16] لتفاصيل أكثر عن هذه الجينيالوجيا ينظر دكتوراه الدرجة الثالثة التي قدمناها، المرجع المذكور، ص.215.

[17] يبدو، بالفعل، أن هناك رأيا غير مؤكد و غير موضح يتحدث عن أصل علماني للسلالة التي ينتسب إليها الشيخ محند: و لكنه ليس الرأي الذي يحتفظ به الاعتقاد المحلي أو تحتفظ به الذكرة الجماعية في منطقة القبائل. بل بالعكس، تعد الأصول الدينية للشيخ أمرا بديهيا في هذه المنطقة.

[18] ينظر بخصوص مجال تأثير و انخراط أتباع الشيخ محند: Pervieux De la Borde, op.cit., Salhi, Mohamed Brahim, Thèse de 3ème cycle, op.cit, pp. 216-218. et Légende d’un saint : cheikh Mohand L’houcine. FDB, N° 96, 1967.

[19] Pervieux De la Borde, op. cit. et Légende d’un saint : cheikh Mohand L’houcine. FDB, N° 96, 1967.

[20] بقي الشيخ محند أعزبا متفرغا كلية لخدمة الله، و هي صفة مستحسنة بل صفة يوصى بها "كتاب هبات الله" Livre des Dons de Dieu  و هي النص المؤسس للرحمانية، ينظر صالحي. دكتوراه دولة، المرجع السابق.

[21] يكن إيجاد ملاحظات و انتقادات لمنهج مولود معمري في: Benaissa, Hamza, Cheikh Mohand l’Hocine. Témoin de l’islam, Alger, Dar El Maarifa, 2002. من وجهة نظري الكثير من ملاحظات الكتاب تعد مهمة لتكوين فكرة عن شخصية الشيخ محند.

[22]يذكر مولود معمري عددا مهما في كتابه، و لكنه لا يعلق إلا على القليل منها في تقديمه. ينظر  ص.ص. 46-194.

[23] In FDB, No 96, op.cit., p.15.

[24] In Mammeri, Mouloud, op. Cit, p.152.

[25]لقد شرح هذه الفقرة من نقل هذا القول، بمعنى أنه "يدل مع ذلك الشخص المتجرد من الحب و الحقيقة و الحكمة".

[26] على سبيل المثال، هناك تلك القصائد التي تغني أثناء زيارة ضريح الشيخ: In Un pèlerinage à la tombe du Cheikh Mohand Ou L’Hocine. FDB, N°98, 1968.

[27]ينظر المعطيات التكميلية في رسالتي للدكتوراه، المرجع السابق.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche