تعد الهوية من الموضوعات التي حظيت بكثير من الاهتمام في كثير من الدراسات وعبر عدة مجالات في العلوم الاجتماعية. و قد طرح في هذا السياق الالتباس في تحديد مفهوم الهوية، هذا المفهوم الذي يبقى غامضا من الاستخدام بين القوى الوطنية و المنظمات الأجنبية. جاء كتاب سالم لبيض كمحاولة لإثراء هذا النقاش و لتقديم مضامين الهوية في تونس، و تحديد موقعها بين ثلاث ثوابت أساسية في المجتمع التونسي و هي الإسلام، العروبة، التونسة.
قسَم المؤلف كتابه إلى ستة فصول، استهل أولها بتقديم محددات منهجية، و مبررات الدراسة انطلاقا من السياسات والتحولات العالمية و توسع النفوذ الأمريكي، أو ما عبر عنه بالرأسمالية الحديثة، التي تسعى إلى تحقيق هدف الهوية بدل الدولة، بالتركيز على الدين و اللغة، والعمل على تحويرهما نحو المصالح والمتطلبات الراهنة. نتجت كل هذه التغيرات بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث عمدت الإدارة الأمريكية إلى تبني مشروع الهوية في سياساتها اتجاه الشرق الأوسط، و أخذ بذلك الصدارة في مختلف النقاشات الأكاديمية والسياسية حول المنطقة، ليضعنا الكاتب أمام سؤال أساسي هو : هل نجحت الحداثة في شكلها الغربي المشاع؟ أم انتصرت الهوية في تونس بمضامينها المختلفة و المتمايزة عن مضامين تلك الحداثة، إذا قبلنا بأن الثانية تناقض الأولى؟
فيما يتعلق بمعنى الهوية تحدث الكاتب عنها كمفهوم خلافي، كلّ يعرّفه حسب زاويته، وبهذا قدم لنا عدة تعريفات، منها المفهوم الإجرائي للهوية الذي اعتمده في هذه الدراسة. لا يُعْنَى المفهوم بالهويات الجزئية المهنية و الإثنية والقبلية و الطائفية، و إنما يُعْنَى بما هو مشترك بين أبناء المجتمع الواحد، و يقدم لنا الكاتب عنصري الدين واللغة على أنهما العنصر المشترك بين أفراد المجتمع الواحد. كما يطرح الهوية كإشكال تاريخي في تونس، منذ العهد الاستعماري إلى الحكم البورقيبي حيث يعرض لنا أهم مواقف بورقيبة من الإسلام و اللغة العربية.
أما الفصل الثاني الذي ابتدأه بدراسة خطاب الهوية في النصوص المؤسسة و التشريعات القانونية، ويقصد بها مجموع القوانين الأساسية التي تنظم حياة المجتمع و الدولة ( الدستور والميثاق)، قدم لنا الكاتب فيه موقف هذه النصوص من الهوية، و كيف حاولت أن ترضي كل الأطراف سواء كانت النخب التقليدية أو الحزب الدستوري القديم أو ما يعرف بالديوان السياسي مع الحفاظ على توجه الحزب الحاكم. أشار كذلك إلى مفهوم الهوية في خطاب الأحزاب السياسية، بمختلف اتجاهاتها وتياراتها، والتي حددها في أربع قوى رئيسة تمثلت في أولا القوى الدستورية و الليبرالية بمختلف حركاتها و أحزابها، ذات التوجه "الحداثي الغربي"، ثانيا القوى القومية العربية ببعدها العروبي القومي، وتليها القوى الإسلامية التي تمثل التيار الإسلامي ذي الامتداد الإخواني (الإخوان المسلمين) المتأثر في نظره بالثورة الإيرانية، و أخيرا القوى اليسارية الماركسية التي عبرت عن موقفها من الهوية من خلال التوجه العربي القومي الناصري
انتقل الكاتب في الفصل الثالث إلى مفهوم الهوية في الخطاب النقابي ليعرض لنا مختلف الحركات النقابية التي ظهرت في العهد الاستعماري إلى الوقت الحاضر، وتمثلها للهوية في تونس. بدأ العمل النقابي سنة 1924، تحت اسم "جامعة عموم العملة التونسيون "، التي بدت من خلال انطلاقها أنها ذات طابع وطني قومي إسلامي مع غياب البعد الإفريقي، لتتغير مواقفها بعد تحولها إلى الاتحاد العام التونسي للشغل. و الذي يعد بدوره أهم تجربة للعمل النقابي المواكب للحزب الحاكم وقائده ورئيس الدولة بعد الاستقلال. في هذه التجربة تحددت معالم أخرى في خطابه اتجاه الانتماء والهوية، والتوجهات التي تبناها خلال مختلف الفترات التي عرفتها المنطقة العربية. و من أهم القضايا التي اهتم بها الاتحاد " مسألة التعريب" لكن المؤلف ركز على فترة الاستعمار و لم يتطرق إلى الفترة البورقيبية. أما مواقف الاتحاد اتجاه القضايا العربية، فمرت بثلاث مراحل متباينة مرحلة "الدعم و المساندة" في الأربعينات، مرحلة "المواقف السلبية " في الخمسينات، ومرحلة العودة إلى "التضامن والمساندة" من 1967 حتى اليوم. أما الإسلام في خطاب الاتحاد فإنه لم يحظ بأي اهتمام، ويرد الكاتب ذلك إلى أن أغلب نخبه من ذوي التوجه اليساري أو القومي العروبي.
خصص الفصل الرابع للخطاب حول للهوية في النظام التربوي، حيث أبرز المسار التاريخي لهذا النظام، باعتبار أن تونس عرفت أول مشروع إصلاح تربوي سنة 1958 و الذي سار على خطى الرئيس الداعي إلى توحيد التعليم مع الحفاظ على الهوية القومية التونسية. و لم تعرف أي إصلاح آخر حتى سنة 1991، حيث حدد الانتماء العربي الإسلامي في إطار الهوية التونسية، لكن هذا الإصلاح حمل كثير من التناقضات أثناء التطبيق. جاء بعد ذلك إصلاح 2002 حيث ركز على تدعيم اللغة العربية، وتوسيع الاهتمام باللغات الأجنبية. أما التعليم العالي فإنه لم يخرج من نطاق ازدواجية اللغة الوطنية اللغة العربية و الفرنسية.
و لارتباط الهوية بالخطاب الطلابي عالجه الكاتب في الفصل الخامس متتبعا لمسيرة الحركة الطلابية من العهد العثماني إلى الاستقلال. هذه الحركة التي تزعمها طلبة جامع الزيتونة، حيث جعلت من أولوياتها المحافظة على اللغة العربية وانتمائها الإسلامي. ومع فرض الحماية الفرنسية تماشت الحركة الطلابية مع مسار الحركات الوطنية والأحزاب السياسية و توجهاتها و مطالبها حول اللغة والانتماء والدين.
و في الفصل السادس قدم لنا الكتاب آراءه حول فكرة بناء الهوية، حيث ناقش بعض الكتاب التونسيين من خلال قراءة نقدية لكتبهم[1]، فقد رد على التيمومي مدافعا عن اللغة العربية والإسلام. وانتقد كتاب غياض عاشور – الهوية القومية التونسية- الذي انطلق من فكرة أن الدولة هي التي تصنع الهوية، و بين أنه مهما حاولت الدولة صناعة الهوية، فإنها ستتصادم مع الهوية المحلية.
أما خاتمة الكتاب فكانت عبارة عن عرض لكل ما تم تقديمه ملخّصا لمشكل الهوية بين قطبين، القطب الأول يمثّله أنصار"الهوية التونسية"، و الذين يعتبرونها خليطا من عدة هويات مرت عبر التاريخ التونسي، و هم من تولوا زمام الحكم في الدولة منذ الاستقلال. و أما القطب الثاني فهم أنصار جدل الهوية، الذين يمثّلون المجتمع بأكمله حسب وجهة نظره. لينتهي إلى التعرض لخطر العولمة على الهوية، ذلك الحصن الذي تأوي إليه المجتمعات للحفاظ على ذاتها و تواجدها.
هوامش
[1] الكتاب الأول للهادي التيمومي، تونس 1956-1987، صفاقس، دار مجمد علي الحامي، 2006، و الكتاب الثاني لصاحبه عياض بن عاشور،الهوية القومية التونسية،تونس، المعهد التونسي للدراسات الإستراتجية، 1995.
حمزة بشيري