إنسانيات عدد 50 | 2010 | عدد متنوع | ص77-82| النص الكامل
َAbdelkader BOUASSABA : Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie.
أولا: إشكالية البحث
تتفق الأديان التوحيدية على أن ظاهرة النبوة والرسالة ضرورة إنسانية؛ حتى يؤدي ويبيّن الرسل لمن أرسلوا إليهم "كلام الله" الذي يعني للمؤمنين في كل زمان ومكان القسطاس المستقيم لقيم الفضيلة والخير والحق. ومن تمام هذا البيان أن أرسل كل رسول بلسان ولغة قومه. ولهذا كان من الطبيعي أن يفهم أهل كل كتاب كتابهم في إطار هذه اللغة وداخل حدودها، ولكن ورغم هذا الذي ذكرناه فقد اختلف أهل الإسلام في فهم القرآن على أي شيء تحمل نصوصه ـ تماما كما اختلف غيرهم في فهم كتبهم ـ. وكان السبب في اختلافهم أنهم وجدوا ألفاظا نقلت عن موضوعاتها في اللغة؛ جاء مثلا في قصة موسى والخضر في سورة الكهف:"فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا" (الآية77) ، غير أن الجدار جماد لا إرادة له. لقد أسست ـ بشكل أو بآخر ـ مثل هذه النصوص لمفهوم التأويل الذي يعني حمل الألفاظ ، مفردة كانت أم مركبة، على غير موضوعاتها في اللغة. ولكن هل يعني التأويل أن نحمل ما نشاء من الألفاظ على ما يحلو لنا من معان ؟ بعبارة أخرى هل التأويل مفهوم غارق في الذاتية أم أن له حدودا موضوعية ؟ وما هي وجهة نظر ابن حزم الأندلسي في هذه المسألة؟
ولكن لماذا ابن حزم الأندلسي موضوعا لدراستنا؟ نتصوّر أنّ معارف ابن حزم معارف موسوعية؛ كان شاعرا ومؤرخا وفيلسوفا وعالما بالأديان وفقيها، وسياسيا وزر للأمويين أكثر من مرة، وهو أكثر علماء الإسلام تأليفا يأتي بعده ابن جرير الطبري إلا أن أكثر مؤلفاته فقدت فلم يصلنا منها إلا القليل. وكانت أفكاره أكثر الأفكار إثارة للجدل؛ فقد رفض القياس الفقهي لأنه من وجهة نظره استقراء ناقص، ورفض تعليل الأحكام الدينية لأن الله يفعل ويحكم بما يشاء لغير علة وكل ما يفعله تعالى فهو حق وخير، ورفض الرأي ويعني به كل حكم لا دليل عليه، كما رفض الاستحسان كدليل على الأحكام لأن ما يستحسنه زيد قد لا يستحسنه بالضرورة عمرو. باختصار" لقد كان ابن حزم أحد أكبر عقول الحضارة العربية الإسلامية"[1].
ثانيا: منهج البحث
لنقف على وجهة نظر ابن حزم من التأويل، كان علي أن أجمع ما تفرق من كلامه حول الموضوع قيد الدرس في كتبه التي وصلتنا طبعا دون ما فقد منها و التي لم يعثر عليها إلى الآن، ثم تحليل كل ذلك وربما مقارنته بغيره ـ من باب بضدها تتميز الأشياء ـ، ولذلك لم يخرج البحث، عن منهج الاستقراء والتحليل والمقارنة وحتى النقد ، لكن الدراسة لم تتّخذ منحى النقد إلا نادرا.
ثالثا: هيكل الدراسة
لأن وجوه النقل ـ كما يراها ابن حزم الأندلسي ـ لا تخرج عن أربعة: نقل الاسم عن موضوعه في اللغة بالكلية وتعليقه على شيء آخر، ونقل الاسم عن بعض معناه الذي يقع عليه دون بعض، ونقل خبر عن شيء ما إلى شيء آخر اكتفاء بفهم المخاطب، ونقل لفظ عن كونه حقا موجبا لمعناه إلى كونه باطلا محرما[2]، فقد دفعتني طبيعة البحث إلى تقسيمه إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة.
ولقد ذكرنا في المقدمة: أسباب اختيار الموضوع وأهميته وخطة البحث والمنهج المتبع. لقد وقفنا في الفصل التمهيدي الموسوم بابن حزم الأندلسي ومنهجه في تفسير النصوص عند عصر ابن حزم الأندلسي الذي نعته بقوله: "هذا الزمان الذي قد ذهب خيره وأتى شره"، وترجمة مختصرة لحياته، ومنهجه في تفسير النصوص. و ذكرنا في الفصل الأول الموسوم بالحقيقة والمجاز اختيارات ابن حزم الأندلسي في الحقيقة والمجاز، و كيف تحمل الألفاظ على الحقيقة ابتداء وكيف تحمل الألفاظ على المجاز بدليل. وأشرنا في الفصل الثاني الموسوم بالعموم والخصوص إلى اختيارات ابن حزم الأندلسي في العام والخاص، وكيف يحمل الخاص – وهو جزئي اللفظ- على الخصوص، والعام – وهو كلي اللفظ- على العموم ابتداء، وكيف يحمل الخاص على العموم والعام على الخصوص بدليل. وذكرنا في الفصل الثالث الموسوم بالذكر والحذف: اختيارات ابن حزم الأندلسي في الزيادة والحذف، وكيف تحمل الألفاظ على الذكر ابتداء، و كيف تحمل على الحذف بدليل. وأما الخاتمة فقد ضمت بين جنباتها نتائج هذا البحث.
رابعا: نتائج الدراسة
يرى ابن حزم الأندلسي أن تحمل النصوص الدينية على ظاهرها وموضوعاتها في اللغة ابتداء؛ لأن الوحي نزل بلسان العرب وعلى قدر كلامهم. جاء في سورة إبراهيم: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ..." (الآية4)، حتى إذا ثبت ـ وبيقين ـ أن بعض هذه الألفاظ قد نقلت عن موضوعاتها في اللغة حملها على ما نقلت إليه. يتناول كل ذلك وفق منهج محدد ونظرية واضحة؛ حدد من قبل معالمها بذكره لماهية الدليل المحيل للألفاظ عن ظاهرها ووجوه النقل التي تصرف إليها. فهو يرى أن نقل الألفاظ عن ظاهرها لا يعدو وجوها أربعة: نقل اللفظ من الحقيقة إلى المجاز، ومن العموم إلى الخصوص-وكذلك من الخصوص إلى العموم-، ومن الذكر إلى الحذف، ومن الإحكام إلى النسخ. وفيما يلي أهم النتائج المتوصّل إليها في هذه الدراسة :
1.يرى ابن حزم أن تحمل الألفاظ على الحقيقة ابتداء، حملا للألفاظ على ظاهرها وأخذها على ما هي عليه في اللغة، إلا ما أخرجه عن الظاهر دليل حق من طبيعة أو شريعة ؛ يقول: "فكل خطاب خاطبنا الله تعالى به أو رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو على موضوعه في اللغة ومعهوده فيها إلا بنص إجماع أو ضرورة حس تشهد بأن الاسم قد نقله الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم عن موضوعه إلى معنى آخر فإن وجد ذلك أخذناه على ما نقل إليه"[3]. ولولا ذلك لعاد باطلا وقوع الأسماء على المسميات، ولاستحال بذلك التفاهم جملة.
2.يرى ابن حزم أن يحمل الخاص على الخصوص والعام على العموم ؛ حملا للألفاظ على ظاهرها وأخذها على ما هي عليه في اللغة، إلا ما أخرجه عن الظاهر دليل حق؛ يقول عماّ ذكره حول كلي اللفظ كلي المعنى وجزئي اللفظ جزئي المعنى ما نصّه:" وهذا النوع والذي قبله معلومان بأنفسهما جاريان على حسب موضوعهما في اللغة لا يحتاجان إلى دليل على أنهما يقتضيان ما يفهم عنهما- ولو احتاجا إلى دليل لما كان ذلك الدليل إلا لفظا يعبر عن معناه، فما كان يكون المدلول عليه بأفقر إلى دليل من الذي هو عليه دليل، وهذا يقتضي ألا يثبت شيء أبدا، وفي هذا بطلان الحقائق كلها، ووجود أدلة موجودات لا أوائل لها وهذا محال فاسد والمعلوم بأول العقل أن اللفظ يفهم منه معناه لا بعض معناه ولا شيء من معناه، ولذلك وضعت اللغات ليفهم من الألفاظ معناها"[4] . ويرى أن لا يحمل الخاص على العموم ولا العام على الخصوص إلا بدليل؛ لأنه ضرب من التأويل فلا يصار إليه إلا بدليل، يقول ـ وقد ذكر جزئي اللفظ كلي المعنى ـ:"وهذا لا يعلم من ذلك اللفظ الجزئي لكن من لفظ آخر وارد لنقل حكم هذا الجزئي إلى سائر النوع" [5]. ويقول أيضا ـ وقد ذكر كلي اللفظ جزئي المعنى ـ: "إلا أن هذا القسم والذي قبله [ يريد جزئي اللفظ كلي المعنى ] لا يفهم معناهما من ألفاظهما أصلا لكن ببرهان من لفظ آخر وبديهة عقل أو حس تبين كل ذلك أنه إنما أريد به بعض ما يقتضيه ذلك اللفظ. ولولا البرهان الذي ذكرنا لما جاز أصلا أن ينقل عن موضعه في اللغة ولا أن يخص به بعض ما هو مسمى به دون سائر كل ما هو مسمى بذلك اللفظ"[6].
3.الغرض من كل كلام أصالة البيان لا التلبيس والإبهام، ولذلك كان الأصل ذكر ما تتم به الفائدة بلا زيادة ولا حذف. ولهذا يرى ابن حزم أن تحمل الألفاظ على الذكر لا الحذف ابتداء؛ حملا للألفاظ على ظاهرها وأخذها على ما هي عليه في اللغة، إلا ما أخرجه عن الظاهر دليل حق. فلا تحمل الألفاظ على الحذف إلا بدليل؛ لأنه ضرب من التأويل فلا يصار إليه إلا بدليل. قال في هذا المعنى: "ولا يجوز لأحد أن يقول في القرآن حذف إلا بنص آخر جلي يوجب ذلك أو إجماع على ذلك أو ضرورة حس".[7]
4.أهم ما في الموضوع ـ على الأقل من وجهة نظري ـ أن ابن حزم لا يرى نقل الألفاظ عن مراتبها البتة إلا بدليل، وأن الدليل لا يعدو أن يكون دليلا من طبيعة أو شريعة أو بعبارة أخرى دليلا من عقل أو نقل. و هذا الذي ذكرت يدلنا على أمر مهم بل وفي غاية الأهمية؛ فإن ابن حزم والظاهرية وإن تمسكوا بالنقل فإنهم لم يلغوا العقل. بل دعا ابن حزم صراحة إلى التمسك بصريح العقل وصحيح النقل[8] منكرا على طائفتين ممن شاهد في زمانه ـ والحقيقة أن هاتين الطائفتين لم يخل منهما زمان ولا مكان ؛ طائفة تعدت صريح العقل إلى الظنون الواهية والشك الذي لا يغني من الحق شيئا، وطائفة تعدت صحيح النقل إلى ضعيفه وموضوعه وما لا خير فيه مما ولده أهل الكذب والباطل والتلبيس[9]. دعا ابن حزم، رغم انتقاده لأرسطو في بعض مسائل المنطق، المفكرين والمثقفين إلى تعلم علم المنطق والعناية به؛ لأن ابن حزم وخلافا للسوفسطائيين كان يرى أن في الدنيا حقا وباطلا، وأنه يمكن تمييز الحق من الباطل.
أخيرا: التأويل عند ابن حزم ـ على الأقل ـ ليس مفهوما غارقا في الذاتية ولا يعني أبدا أن نحمل ما نشاء من الألفاظ على ما يحلو لنا من معان بل هو مفهوم له حدوده الموضوعية بل والعلمية.
قائمة بأهم المصادر
الإحكام في أصول الأحكام، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، أبو محمد، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط1، 1400هـ/1980م.
الأصول والفروع: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، أبو محمد، مكتبة الثقافة الدينية، ط1، 1425هـ/2004م.
التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، أبو محمد، دار العباد، بيروت، د.ط.
رسائل ابن حزم الأندلسي الجزء الثاني: إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1981م.
الفصل في الملل والأهواء والنحل: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، أبو محمد، دار الجيل، بيروت، لبنان، د.ط.
النبذة الكافية في أصول أحكام الدين: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، أبو محمد، مكتبة الكليات الأزهرية، ط1، 1401هـ/1981م.
الهوامش
* آراء ابن حزم الأندلسي اللغوية وأثرها في التفسير، مذكرة لنيل شهادة الماجستير، عدد الصفحات 140، تخصص لغة ودراسات قرآنية، تحت إشراف أ.د. محمد زعراط، قسم العلوم الإنسانية والحضارة الإسلامية ـ وهران ـ،نوقشت بتاريخ 27 فبراير 2007.
[1] Lewis, B. V.L. Menage, CH.Pellat et J.Schacht, tome 3, Pays-Bas, Leyde E.J.Brill, 1990, réimpression, p. 814.
[2] أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي،الإحكام في أصول الأحكام، ج3، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط1، 1400هـ/1980م، ص.ص.135- 136.
[3] ابن حزم الأندلسي، الإحكام في أصول الأحكام، ج4، ص28.
[4] ابن حزم الأندلسي، التقريب لحد المنطق، ص.150.
[5] المصدر نفسه، ص.150.
[6] المصدر نفسه، ص.150.
[7] أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج3، دار الجيل، بيروت، لبنان، ط بدون، ص.298.
[8] وهذا يذكرنا بما كتبه آنفا أبو الوليد بن رشد؛ أعني كتابه: " فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، دراسة وتحقيق أحمد عمارة، الطبعة الثانية، دار المعارف، تاريخ الطبعة بدون.
[9] ابن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل, ج2، ص.ص.233- 238.