إنسانيات عدد 34 | 2006 |الرياضة. ظاهرة وممارسات | ص07-13 | النص الكامل
كتب المرحوم جمال بولبيار1 ضمن الإشكالية الممهدة لإعداد هذا الموضوع المخصص للرياضة قائلا " إن الرياضة، و كرة القدم منها على وجه الخصوص، هي كذلك إحدى الممارسات السوسيوثقافية التي تسهم في إعداد و إبراز أشكال التلاحم الاجتماعي و الوطني". و هكذا و دون أن يكون النشاط الرياضي مجرد واقعة من الوقائع المفارقة، نجد أن الحياة اليومية مطبوعة به باعتباره ظاهرة اجتماعية و ممارسة في ذات الوقت. و الجدير بالذكر أن الرياضة بوصفها موضوعا لم تدرس و لم تبحث بما فيه الكفاية من قبل العلوم الاجتماعية و علم الأنثروبولوجيا في بلدان المغرب العربي، مع أنها تستحق أن تدرس و تحلل بشكل واسع بسبب الديناميكية التي تعيشها الزمر الاجتماعية المختلفة منذ حصول هذه البلدان على الاستقلال الوطني، و هي ديناميكية متميزة بطبيعة الحال، بالانقطاعات الزمنية.
إن إعادة تشكيل النشاط الرياضي الذي تم إعداده في بداية القرن العشرين من قبل الحركة الرياضية الدولية و التي يعود الفضل في المبادرة بإقامة هياكلها إلى مجموعة صغيرة من الدول الأوربية، تتأسس على أفكار بسيطة تتعلق بالسلم و بالمشاركة في المنافسات و بالأخوة، حتى و إن ظلت العديد من البلدان التي كانت تزخر تحت الهيمنة الاستعمارية مبعدة بشكل آلي.
و بالتزامن مع التحولات السياسية التي نتجت عن الحرب العالمية الثانية، تم إنشاء هيئات رياضية دولية جديدة أدمجت بالفعل مجموعة كبيرة من الدول المستقلة، الأمر الذي جعل مجال مشاركتها يتسع و يشمل المنافسات ذات الحجم الدولي (الألعاب الاولمبية، البطولة العالمية لكرة القدم، البطولة العالمية لألعاب القوى، الخ...) و ذات الحجم القاري ( الألعاب الأمريكية، الألعاب الأسيوية، الألعاب الإفريقية، الخ...) و ذات الحجم الجهوية ( ألعاب البحر الأبيض المتوسط، الخ...).
و هكذا يبرز البعد الجيوسياسي، في كل المنافسات الرياضية المهمة، باعتباره كان و لا يزال معطى بديهيا يأخذ بعين الاعتبار ضمن السياسات الرياضية المقررة من قبل أصحاب القرار لدى الأمم العظمى و لدى الأمم الصغرى على حد السواء، هذا بالإضافة إلى أن التأكيد على الشعور الوطني الملتهب قد يتجاوز أحيانا النزعة الانتصارية المعلن عنها بوضوح. لقد أصبحت الرياضة، بهذا المعنى، نوعا من البارومتر يقاس به تطور المجتمعات البشرية، و يستدعي مجموعة من التساؤلات المتعلقة بالنشاطات الجسمانية و الرياضية ضمن الهيئات التربوية، و الزمر الاجتماعية و الجمعيات و النوادي الرياضية.
تطرح الرياضة في المغرب العربي تلك المسألة الشائكة، أي تلك المتعلقة بالأصالة و الحداثة، و هي مسألة خلافية، إذ أنها طرحت في الجزائر خلال التسعينيات من القرن الماضي، تلك العشرية المأسوية حيث تم حذف النشاط الرياضي المدرسي بالنسبة للفتيات بسبب التأويلات المفروضة من قبل تيارات دينية متطرفة. و بطبيعة الحال، لا تزال إلى حد الآن مقاربة الجسد الأنثوي في مجتمعنا موضوعا حساسا. و حتى و إن أحرزت بعض الممارسات للرياضة اللواتي يمتلكن مستوى عالي، على مراتب مشرفة في المنافسات ذات الحجم الدولي، فإنهن يوسمن بنعوت غير لائقة و تتعرض انجازاتهن للانتقاص ضمن التعاليق التي تقدمها مختلف وسائل الإعلام.
يظل التداخل الفعلي بين الرياضة و السياسة في جميع أنحاء العالم ثابتا يعطي للفاعل الذي تمثله الدولة دورا رئيسيا، من حيث إعداد السياسة الرياضة و انجاز الهياكل الرياضية في ذات الوقت ( ملاعب، المسابح، القاعات المتعددة الرياضات، فضاءات اللعب، الخ...) الضرورية للممارسة الرياضية من قبل الفئة الشبانية المنخرطة في الجمعيات الهاوية أو المحترفة. و تبرز الرياضة، بالإضافة إلى ذلك، على أنها مادة تربوية تضمن على حد السواء التنشئة الاجتماعية للأطفال و إدماج الأشخاص الذين يواجهون صعوبات متعددة في حياتهم اليومية (العاطلون، المعاقون، و المسنّون، الخ...).
في ظل الوضع الراهن حيث تهيمن الليبرالية، تأخذ مهمة الدولة ذات الاقتصاد في طور البناء دور العامل المنظم الذي تقع على عاتقه مسؤولية توفير كل الشروط المادية من اجل ممارسة رياضية ذات طابع جماهيري، و هو أمر حيوي لتسهيل بروز نخبة ذات مستوى عال. و مع ذلك، هناك العديد من الأسئلة التي هي في عداد المسكوت عنها إن قليلا أو كثيرا، تحتاج إلى معالجة، في مثل هذه البلدان، و منها تلك المتعلقة بالتداول الهائل للموارد المالية في الأوساط الرياضية، و هجرة الرياضيين ذوي المستوى العالي من بلدان الجنوب إلى بلدان الشمال - بما في ذلك من إفريقيا الواقعة جنوب الصحراء إلى بلدان المغرب العربي- و تراجع الرياضة النسوية و العنف بالملاعب أو الجانب الصحي لممارسي الرياضة.
قام جمال بولبيار و هو من الباحثين الناذرين في الاهتمام و الانشغال بهذا الحقل منذ عشر سنوات ضمن مسعى معادي للتقليد في عزلة تامة و عمل طليعي حقيقي. و قد توجت جهوده بمناسبة لقاء علمي كان منطلقا لمشروع بحث جماعي و متعدد لوضع المعالم الأولى لتعاون علمي جزائري- فرنسي و لتنظيم ندوة دولية.
و يدخل مشروع انجاز عدد لمجلة إنسانيات حول موضوع الرياضة ضمن إستراتيجية محددة تتمثل في جعل هذا الموضوع أكثر تداولا و بروزا قدر الإمكان.
ذهب جمال دون أن يتمكن من رؤية بلوغ المشروع منتهاه. و قد تمسكنا بانجازه قبل كل شيء لأجل جمال تكريما لذاكرته و تقديرا لجهوده و معاناته و صبره، لنقول له أن هذا الموضوع الذي كان يشعر أنه ملتزم به عن قناعة عميقة و شغف كبير سيظل حيا و سيتولاه كل من عمل معه خلال مدة أربع سنوات.
و إن كانت كرزابي- استيتن مريم تقرّ بأن الرياضة عموما و منها ذات المستوى العالي تقع تحت تأثير النموذج الذكوري، فإنها تقوم بالتحري في المفاهيم المتعلقة بالرياضة في البلد. و تدرس الباحثة المكانة القانونية للجسد الأنثوي، باعتباره "محلل" للقيم الاجتماعية و كذلك للحوافز و التمثلات و مواقف البطلات.
و يقوم باسكال جييون، من خلال معاينته لممارسة الرياضة في إمارات الخليج العربي حيث توظف هذه لتحسين صورة البلاد، مؤكدا وظيفتها باعتبارها واجهة. و هكذا ينخرط الاستثمار في المجال الدولي ضمن سياسة وطنية تجند لها اكبر مؤسسات الدولة، إذ يتجسد ذلك من خلال الانتماء إلى الهيئات الرياضية و تنظيم المناسبات الرياضية و المنافسات ذات النتائج العالية التي ترتبط هي أيضا بممارسة غير مقبولة أي بتجنيس الرياضيين ذوي المستويات الرفيعة.و إذا كانت البحبوحة المالية تسمح لإمارات الخليج العربي بتلميع صورتهم بواسطة الرياضة، ستمكنهم في المستقبل أيضا من وضع معالم و أسس لتنمية رياضية حقيقية.
و في هذا الصدد يؤكد حسني بوكرزازة، من خلال الإحالة على نموذج "المقام الرياضي" على وجود تراتبية قوية في كرة القدم لصالح المدن الكبرى. إذ تبدو هذه الرياضة بوصفها "تجهيز حضري" لهذه المدن يدعم وظائفها القيادية و وزنها التجاري و نفوذها.
بينما تعبر كرة عن وجود تجلي هوياتي قوي في المدن الوسطى، تتحول بفضله إلى رمز و وسيلة. و يبرز وجود "كرة قدم المدن" و "كرة قدم الحقول" الفوارق التي تمتد و تنعكس على انجازات الفرق، و تمويل النوادي و حركية اللاعبين.
و ضمن هذا الاتجاه يقدم عابد بن جليد صورة عن الملعب بوصفه فضاء للتعايش الاجتماعي و الإدماج بالنسبة للشباب المنحدر من الضاحية الوهرانية. إذ يتحول هذا الفضاء، بسبب فقر التجهيزات الثقافية و وسائل التسلية بالضواحي، إلى نقطة التقاء و تقارب بين هؤلاء الشباب، كما يسمح لهم من بسط معالمهم الفردية في الفضاء الحضري و بناء محيط اجتماعي. و على الرغم من الوسم السلبي و الريبة اللذين يتعرض لهما هؤلاء الشباب، فإن انخراطهم في مجموعات المناصرين و في الطقوس الناجمة عن ذلك، و ترددهم على أمكنة و أقاليم النادي المدعم و "رغبتهم في المدينة" بالإضافة إلى مواقفهم المعارضة و المحتجة على أوضاعهم، تبين في ذات الوقت عن إرادة الانتماء إلى المدينة و عن صعوبة اندماج شباب الضاحية الذي يعاني من صورته المشوهة، و الباحث عن صورة بديلة.
كما يبين كل من المرحوم جمال بولبيار و الطيب رحايل من خلال تطرقهما لكرة قدم الحقول كيفية ترسيخ الهوية المحلية و تمكين الشباب من التسلية و التميز، على الرغم من ضعف الوسائل و قلتها. و قد رسم بعض الأكابر الطريق أمامهم، بحيث أصبحت كرة القدم لديهم سبيلا للنجاح، أي الانتقال إلى أحد نوادي المدينة الكبرى. و تسمح كرة قدم الحقول بإبراز ذلك التناقض الذي يقوم على تأكيد الهوية المحلية مع القبول، بصفة فردية، بجعل هذه الهوية تذوب في الطقوس الساحقة للفرق الكبرى.
إذا كان الفوز و التأكيد الهوياتي ناتجين بطبيعة الحال عن المنافسة الرياضية، فإن الفضل يعود إلى بوبكر يحياوي في إبراز مختلف الدوافع المرتبطة بالممارسة الرياضية سواء كانت حرة أو مرتبطة بالمؤسسة، إذ يلاحظ بدءا أن عدد الأشخاص الذين يترددون على قاعات الرياضة يتجه نحو التكاثر.
و لما يسأل الباحث هؤلاء الرياضيين، فإن أجوبتهم كثيرا ما تكون غير مكترثة بالمصلحة الآنية بل هي مثمنة للفرد. و يتعلق الأمر بالنسبة لهم بالمحافظة على الصحة و محاربة الضغط النفسي و القلق و تنمية القدرات الجسمانية و الذهنية، تحسين جمال الجسد، أو ممارسة الرياضة من اجل المتعة الشخصية و كذلك لتجنب العادات السيئة. و من جهة يركز ستانيسلاس فرينكيال على التمثلات التي تقدمها جريدتان فرنسيتان في تلك الفترة الكولونيالية و يتحدث عن التأرجح الإعلامي الذي تعالجان به صورة لاعب كرة القدم المغربي العربي بن بارك، "الجوهرة السوداء" لكرة القدم الكولونيالية، إذ يقدم هذا اللاعب للقراء بشكل تناوبي مرة "أهليا" و مرة "بطلا". و يتساءل صاحب الدراسة عن دلالات هذا الخطاب المتناقض و يعتبره نوعا من إرادة إعادة بناء "الوطني" بواسطة " الكولونيالي". إن إدماج هذا اللاعب و إخضاعه لمقولات التحليل و للقيم الثقافية الفرنسية تدفع بستانيسلاس فرنكيال إلى القول بأن حالة بن بارك تتأرجح بين التغريب (التثاقف) و التطفيل ( من الطفولة) و التوجيه لمذهب.
و في حديثه عن النخب المسلمة في العشرينيات من القرن الماضي، يشير جمال بولبيار إلى تطور مسار التثاقف بواسطة النشاطات الجسمانية الحديثة، حيث يطرح السؤال المتعلق بكيفية الجمع بين القيم التقليدية التي يهيمن ضمنها عدم الاختلاط بين الجنسين و إخفاء المظاهر الجسدية، و بين القيم الجديدة حيث تسيطر الجوانب المتعلقة باللهو و المتعة و نشوة الجسد في زمن الحفلات الراقصة و الفضاءات العامة المؤنثة. و في هذا الصدد يعبر المؤلف بوضوح عن التناقض المرتبط بممارسة الرياضة من قبل الأهالي، أي الخضوع للإدماج أو للإقصاء. و عليه فإنه يحلل بعمق ذلك الانتقال من ممارسة النشاط الرياضي لأجل تنمية "صورة متداولة لأجل نفسه أولا" و إلى التداخل بين الرياضة و السياسة ضمن الجمعيات الرياضية المسلمة التي ستصبح دعامة أساسية لمطالب التحرر السياسي. و يوضح ذلك مثال كرة القدم الكولونيالية، المدروس من قبل ديدييه راي، سوء التفاهم بين السلطات الإدارية التي تعتبر أن "الرياضة هي الرباط الذي يؤلف و يوحد بين الفرنسيين و المسلمين و "يقضي" على كل خصومة بين الديانات و العرقيات" و بين الجمعيات الرياضية المسلمة التي لا يمكن ضمنها "بالاكتفاء و بممارسة الرياضات لوحدها" و حيث يأخذ انتصار ما على الأوربيين دلالة أخرى. كما يبين المؤلف من خلال نموذج الجهة الوهرانية (غرب البلاد) كيفية الطرح الحاد لإشكالية مراقبة نشاط كرة القدم لدى السلطات الكولونيالية و كيفية تطبيقها على الميدان و ما نتج عن ذلك من تشنجات و أعمال عنف و تناقضات، وكل ذلك لم يمنع بتاتا من انتشار النزعة الوطنية الجزائرية، بل بالعكس فقد وجدت في بعض الإجراءات العنصرية ميدانا خصبا لنموها و توسعها.
أما ألكسندر موان، فإنه يعرض تجربة تملك بعدا منهجيا حقيقيا و إجرائيا، و يتعلق الأمر ب"مرصد ينجز باعتباره وسيلة للإسهام في أخذ القرار"، إذ يعين له مهمة تتعلق بالخدمة العمومية و يعرض الكيفية التي تتم بواسطتها إقامته في محافظة الجورا (Jura) الفرنسية و يعطي أمثلة عن طريقة استغلاله و عن النتائج التي قد يحققها، الأمر الذي بفضله يُمكّن السلطات العمومية من "الإحاطة بالتنظيم المجالي لأقاليمها في تعقيداتهم و شموليتهم". لا يمكّن للمرصد من إيجاد العلاقة بين المعلومات المتعددة و المتنوعة عن المنطقة و تحليلها فحسب، بل يسمح للفاعلين المعنيين بالأمر من إقامة العلاقات و التعاون لاستصلاحها.
و في نص آخر ذي طابع منهجي، يعرض لوويك رافنال خمسة عوامل التي تنتج عن مسعى مزدوج للجغرافية، يقتضي المسعى الأول تدخل العلوم الاجتماعية (التحديد المجالي للوقائع الاجتماعية) و يساءل المسعى الثاني على وجه الخصوص التخصص الجغرافي (التموضع المرتبط بخصائص المجال).
و ينطلق المؤلف في حديثه عن خانة تحليل للرياضة و عن رسم بياني لفهم المناطق الرياضية، من أمثلة فرنسية. و من جهته يتطرق أحمد مورو في مساهمة حول الجوانب القانونية للنشاط الرياضي، لعالم القواعد و القوانين التي تجعل من القوة الرياضية الفيدرالية جوهر نظام المنافسات.
و هكذا يولد النظام الرياضي تنظيما يحدد المعايير المشتركة و يتضمن أقلمة القانون الرياضي، مثل باقي الأنظمة القانونية بالدرجة نفسها. و بغض النظر عن المنافسة، فإن القانون الرياضي يدعونا للتفكير حول قضايا تمتلك الأهمية ذاتها مثل تنظيم نشاط التسلية أو المكانة و الدور اللذين يتمتع بهما فاعلوا الرياضة.
عابد بن جليد و حسني بوكرزازة
ترجمة محمد داود
الهوامش
1 ارتأينا أن نكرّم و نثني على جهود جمال بولبيار، المتوفى بتاريخ 30 أفريل 2006 بقسنطينة، باعتباره رفع التحدي لضمان نشر هذا العدد للمجلة المخصص للرياضة و الذي تعود مبادرة التفكير فيه.