إنسانيات عدد 13 | 2001 | أبحاث عمرانية | ص 3-8 | النص الكامل
إن تخصيص عدد أخر من المجلة للمدينة هو شكل من أشكال تقويم الحجم الذي اتخذته الظاهرة الحضرية في حياتنا اليومية و كذا الكشف عن لا رجعه هذا التوجه.
لقد برزت المدينة، منذ أكثر من سنة، تحت الأضواء الكاشفة للأحداث التي تجري بالجزائر بسبب الاحتجاج الاجتماعي المرتبط بتوزيع السكن الـحـضــري و بالتجهيز الناقص للأحياء. و هذا يعني أن تساؤلات هؤلاء و أولئك تظل قائمة و ضرورية بشكل دائم داخل الهياكل الجامعية و المؤسسات التقنية و الإدارية (الملتقيات التي نظمت خلال سنة 2001 حول "المدن الجديدة" بجامعة قسنطينة و حول "الدروس و الممارسات العمرانية" بمدرسة العمران بالجزائر العاصـمــــة، و حول "العمران و سياسة تسيير المدن الكبرى" بوهران تحت رعاية وزارتي السكن و الجماعات المحلية).
ففي أثر العدد المخصص "للمدن الجزائرية" نجد الموضوعات الأساسية التي عولجت، لكنها تتميز في هذا العدد الأخير بالتفتح على البحث المقارن مع الدول المغاربية الأخرى في هذا الميدان، و هذا يمكن الجزائريين من الاستفادة من هذه التجارب، و بخاصة و أن الجزائر قد سجلت منذ اثنا عشر سنة تأخرا جليا في ميادين التهيئة العمرانية (القضاء على السكن الهش، تمويل السكن الاجتماعي، إعادة الاعتبار للمبنى السكني، الدراسات العمرانية العامة...). و فضلا عن ذلك، فإن استمرار الأبحاث العلمية التي تتطرق للتحليل الحضري في حد ذاتــه و التي تسمح مقارباته المتعددة الاختصاصات، بتصنيف الحقائق المتنوعة للمدن، تشهد على قصور المعرفة بمدننا.
و هكذا تعالج التساؤلات المتعددة حول المدينة، الموضوعات المتعلقة بتهيئة المدائن (medinas) المغاربية. و في هذا الصدد، بالذات تعرض بيار سينيول (Pierre Signoles) في دراسة عميقة، لبعض عناصر التفكير المتعلقة "بالعلاقات المقامة – أو تلك التي يمكن أن تقام – بين البحث و المــمارسة و التـخـطـــيـط و التسيير الحضري للمدن المغاربية"، حيث أعتمد هذا الباحث على تحليل مجموعة من أطروحات الدكتوراه و الوثائق الدراسة للتهيئة العمرانية للمدن بالمغرب الأقصى و تونس.
و عليه لا بد أن يعاد النظر في مقاربة موضوع المدينة، في الحواضر المغاربـية، و في العالم العربي كذلك، من خلال مفهوم مركزية المدن، كما يجب طرح بشكل جيد "الكلية الحضرية".
و في هذا الإطار يلتقي المكلفون بالدراسات و السياسيون أحيانا مع بعض الباحثين الذين يملكون، عن مدينة تونس، خطابا "يتموقع تقريبا على المستوى الإيديولوجي فقط... كما تتأسس سياسات المحافظة دون الأخذ بعين الاعتبار النظام المعقد الذي تمثله المدينة اليوم، كما لو كانت المدينة دائما كلية مستقلة". و يتعلق الأمر بالتساؤل المرتبط بالمدن الكبرى التي مسها التوسع الحضري و بتلك التي تعرف انبثاق مركزيات جديدة في ضواحيها (الرباط، تـونـس، طنجــة...) و بوقوفه ضد الأسلوب المستعمل في معالجة تراث المدن، يقدم ب-سينيول حصيلة نقدية لمجموع الدراسات التي تتطرق لمركزية المدن (صفاقس، مكناس، سلا، الرباط، فاس...) و على الجزائريين أن يأخذوا هذه الحصيلة بعين الاعتبار تفاديا للوقوع في الأخطاء نفسها.
و في هذا الاتجاه يمكن للفاعلين الاجتماعيين، على غرار جمعية بورقراق (سلا) أن يقدموا أبحاثا نيرة تسمح بتفادي سوء التفاهم بين الباحثين و رجال الميدان و المسييرين.
"يجد المؤلفون صعوبة كبرى، في العديد من دراسات التهيئة، في الأخذ بعين الاعتبار و بشكل فعلي نظام الفاعلين في شموليته... و الذي لا يمكن أن يتضح إلا من خلال تفقير للتحليل و يبدو هذا مشوها بفعل تدخل مسؤولين يحملون خطاب إيديولوجيا جاهزا"، حيث لا يهم هؤلاء المسؤولين سوى فرض تسيير حضري من الأعلى.
و من بين الأسئلة التي تخضع للفحص في كل فعل للتهيئة، نذكر ذلك السؤال الذي يرتبط بالرهانات التي على الباحث أن يكتشفها و بخاصة تلك التي تراكمت عبر الزمن و في مختلف الأعمال المنجزة.
تحاول في هذا الاتجاه عمارة بكوش اختراق بعض الرهانات الكولونيالية المعتمدة خلال عملية إنشاء المدينة الجديدة لسيدي بلعباس، و عليه فقبل الشروع في أي مشروع لإنشاء تجمع سكاني حضري، لا بد من جعل تحديد المكان الجغرافي، و بنفس الدرجة تحديد الموارد الاقتصادية المحلية أو الجيوسياسية الجهوية و الوطنية معيارا جديرا بالاختيار لأجل تنمية هذا التجمع.
فإن مدينة سيدي بلعباس حسب المؤلفة هي "شكل متطور من المدن الجديدة... التي تطابق... طراز المدن الجديدة الفرنسية و المدن الكولونيالية الإسبانية ؛ حيث نجد بهذه المدينة الجزائرية كل ما يتعلق ببنية التصمـــيـــم، و الفن المعماري و توزيع الأحياء المطبوعة بالتمييز الاجتماعي حسب النموذج الأصلي للمدينة الكولونيالية. و عليه يبرز إدماج المدينة في التنظيم الحضري الجهوي تـأمينا للنجاح في عملية تأسيس المدن، و توزيع المجال الشبه حضري داخل قطر دولة ما ينبع من منطق الفعالية ذاته.
و تكتشف فانيسا روسو (Vanessa Rousseaux) فيما يتعلق بالمغرب الأقصى تونس و الجزائر أنه منذ الحصول على الاستقلال ظل كل ما يرتبط "بعملية تراكم الوقائع الحضرية في المنطقة الساحلية، و المتشكلة داخل الأقطار المغاربية الثلاثة، يعلن عن سياسات لم تقدر على جعل التوجهات الأساسية لنمط تنظيم المجال الثلاثة الموجهة بتأثيرات خارجية تنقلب كليا أو جزئيا على الأقل في اتجاه أخر.
و بناءا على وعيها بالأهمية التي يوليها المختصون لهذه الملاحظات وعلى تساؤلها حول ديمومة الهيكل الحضري لكل بلد، تقدم المؤلفة معطيات متعددة لتأكيد المعرفة المقارنة للشبكات الحضرية المغاربية الثلاث.
و في هذا الصدد لابد من توسيع معرفتنا بأقاليمنا، مدنا و أحياءا و جعل الأبحاث العلمية المخزنة داخل مراكز التوثيق الجامعية جلية أكثر. ولأجل بلوغ هذه الغاية حاول كل من عابد بن جليد و إدريس بن شهيدة تقديم عرض للإشكاليات المعالجة و للمناهج المستخدمة و للنتائج المتوصل إليها و للصعوبات التي واجهت الباحثين في حقل الجغرافيا من خلال دراسة تركيبية لمجموعة من الأبحاث التي تعرضت للحاضرة الوهرانية في مدة خمسة عشر سنة ؛ و لا شك أن مثل هذه الدراسة ستكون ذات فائدة و ستساهم في التراكم العلمي للأبحاث المشتتة.
يتوصل المؤلفان، من خلال تشريحهما اللإشكاليات المعدة بين سنوات 1975 و 1991، إلى تسجيل الإختلالات الوظيفية المعتبرة الأكثر حساسية و التي لا تزال قائمة منذ أكثر من عشرية. على "إن انسحاب الدولة، وضعف الطبقات الوسطى، و انتشار الفقر... تعلن فعلا، عن بعض ميادين البحث الخصبة مثل... تدهور البيئة، وقلة استجابة السلطات المحلية لشكاوي السكان...".
هذا بالإضافة إلى أن مدينة وهران هي مجال بحث يرتاده الكثير من الباحثين في التاريخ و علم الاجتماع و في العمارة إلى جانب الجغرافيين، يقدم كل باحث في اختصاص ما وجهة نظره الخاصة.
تتشكل المعرفة المجالية و الاقتصادية عن طريق الإنقطاعات المرتبطة مباشرة بالسياسات الحضرية التي تنفذها السلطات العمومية، و في هذا الصدد يعالج صادق بن قادة فترة نصف قرن من توسع الضاحية الحضرية الوهرنية، من خلال متابعته خطوة خطوة لكل الإنجازات العمرانية و كذا تباطؤها.
يسجل المؤلف "واقع الصعوبات التي يواجهها التسيير الحضري للضواحي (1988-1998)"... و كذلك التشتت الفيزيائي و الاجتماعي لهذا المجال، الذي يجد تجليه في قطاعات حيث تتمركز الفيلات الفخمة وكذلك المناطق الواسعة للإقصاء الاجتماعي و اللاقانون و للعنف ذي الطبيعة المتنوعة.
و قد قام عبد الكريم بن عمر باستغلال هذه الوضعية المنفجرة للمبني الموجود بالضواحي، للتنديد "بعملية تحضر غير متواصلة و المنتجة لمجالات حضرية جديدة فاقدة للبنية المنظمة و غير مندمجة". و بالنسبة للمؤلف، فإن الأمر يختص أيضا بإعداد دراسة مستقبلية حول المناطق المحيطة بالمدينة، ذلك بتعيين مهمة ذات أولية قصوى، و يتعلق ذلك بعملية التكثيف التي يمكنها "أن ترافق بالضرورة إعادة تقدير للمحيط الذي تتدخل فيه هذه العملية بأكمله".
يظهر أن المهارات المتوارثة عن السلف، المتأصلة بعمق في تاريخ الأقاليم المحلية، تعرف حيوية فريدة من نوعها في ميدان الاقتصاد و المجتمع المحليين. و انطلاقا من هذا يقوم أمزيان فرقان بوصف مطول للنظام الإنتاجي المحلي بمدينة صفاقس حيث يمثل "فعلا تطوريا معقدا أين تلتقي و تنتظم الحرف التقليدية، و الصناعة الصغيرة" التي تنتمي للقطاع القانوني، و النشاطات غير القانونية، التوفير العائلي و الشخصي، السوق الرسمي و الموازي.
و يدفع بهذه الحيوية "التجار و الحرفيون، و أصحاب المهن ذو و الإقـــدام و الجزأة و المتأصلون بشكل قوي في التقاليد و المتفتحون في ذات الوقت على العالم الحديث الذي لا يترددون في الاقتراض منه، كلما اقــتــضـت الضــــرورة و الإمكان، أساليب الإنتاج، المهارات و الابتكارات. وهذا دليل على جملة القدرات و إمكانيات التنمية المحلية التي تملكها المجتمعات الحضرية المتأصلة في الثقافة المحلية طبعا، لكنها غير مقدرة من طرف أصحاب النموذج المقنن للاقتصاد ؛ و على أية حال، فإن هذه المهارات تساهم بشكل كبير في الديناميكية الاقتصادية لبعض المدن المغاربية الكبرى.
و تجاه هذه المدينة الحقيقية التي تشتغل، و تنقل مهارتها و تجدد في هذه الميادين بحثا عن كيفية للتلاؤم مع الشوملة (globalisation)، فإنه يمكن للمدينة أيضا أن يضفي عليها صورة جميلة، و أن يحس بها وأن تعاش. و يبرز هذا التوجه من خلال مدينة قسنطينة، كما تخيلت ووصفت داخل الرواية التي درسها محمد داود حيث يدور الموضوع حول عودة، بعد غياب طويل، لمالك أراضي، للمدينة حيث يتسكع، لكن في "مدينة" مختلفة عن تلك التي عرفها خلال الثلاثينيات و الأربعينيات.
"إن مدينة قسنطينة العاصمة الجهوية للعالم الريفي رمز الثقافة كما يذكرها، أصبحت اليوم متهافتة و متدهورة..." بسبب اجتياحها من طرف النازحين من الريف الذين أحدثوا انقلابا شاملا في البنيات الاجتماعية و الاقتصادية. و يقلقه هذا الانزياح بين ذاكرته و بين الواقع الحضري إلى حد يحدث قطيعة في حياته النفسية. وضمن الحقل نفسه، يتساءل عبد القادر شرشار عن الدوافع الكامنة وراء شبه انعدام الرواية البولسية في الأدب العربي، على الرغم من التوسع المفرط للمجالات المحضرة داخل المدن الكبرى بالعالم العربي. و في الواقع فقد ظلت الرواية البوليسية هامشية في هذا الأدب "و لم تتبنها الحداثة العربية بخلاف التحويلات الغربية العديدة" الملتقطة في ميادين أخرى للحياة.
و أخيرا، يعد عابد بن جليد نوعا من عرض الحال لوضعية البحث الجامعي حول المدن يحاول من خلاله إبراز "هذه المجموعة الكبيرة من الدراسات المنجزة و المقدرة بمائتين و تسعة و ستين 269 مذكرة نوقشت بجامعة وهران خلال سنوات 1992 و 2001".
تحاول هذه الأعمال التي صنفت حول أربع موضوعات، أن تواصل التساؤل، بغية فهم آليات اشتغال عملية توسع المدن وكذا إمكانية دخول سوق العقار، وبالتالي تصور الاستراتيجيات المعتمدة من طرف الفاعلين العموميين و الخواص في تشكيل المبنى الحضري و الكشف على الإختلالات الوظيفية الملاحظة في محيط المدن الجزائرية.
إن هذا العدد المخصص للأبحاث العمرانية و الذي توسع لأول مرة للدراسات المتعلقة بالمغرب الأقصى و بتونس، يبين ببساطة مدى الإضاءات المقدمة التي يمكن أن تقدم من طرف مختلف الاختصاصات القائمة في حقل العلوم الاجتماعية لمعرفة الأوساط و الحقائق الحضرية الراهنة و السابقة بالمغرب العربي.
إن المدينة كما هي معاشة من طرف البشر، و التسيير الإداري و السياسي للمدينة، و إستراتيجيات الفاعلين و الصراعات، و السياسية الحضرية الممارسة... هي موضوعات من بين أخرى تستحق بمقدار مساو أن تخضع للتفكير و للسؤال المقدمين من طرف الباحثين في العلوم الاجتماعية و كذلك من طرف الممارسين المهنيين و السياسيين.
ترجمة داود محمد