إنسانيات عدد 95، جانفي–مارس 2022، ص. 128-117
مثّلت العودة إلى الاهتمام بموقع الديني الاجتماعي واحدة من أهم انعكاسات التحوّل السياسي الذي عرفته تونس في 2011. وقد تمظهرت هذه العودة في الوزن الذي اكتسبه الانتباه إلى أثر الظاهرة الدينية في توجيه الرأي العام وفي الشأن العام، وفي إعادة هندسة الصلات بين الفاعلين ضمن سيرورة المفاوضة الاجتماعيّة والسياسية حول مآل التغيير الحاصل (Morin, 2012, p. 454-455) في سياق نقض السيطرة شبه الكلّية للأجهزة الرّسمية للدولة ما بعد الاستعمارية على الشأن الديني (Ben Achour, 1995, p. 95).
ورغم الحاجة إلى فهم هذه الظواهر، لم يحظ علم اجتماع الدين بالاهتمام اللازم في دول يمثل الدين والتديّن جزءا مهما من هويتها وهوية شعوبها. فأغلب الدّراسات التي تناولت هذا المبحث اندرجت في سياق دراسات الخبرة، وركزت على ارتباط الخطاب الديني في السياق السّياسي "الثّوري" بتصاعد ظاهرة الإرهاب والعنف السياسي، وأثر العوامل الدولية في تنامي هذه الظاهرة وتوسّعها. وفي المقابل ندرت المعالجة الشاملة التي تدرس الحالة الدينية باعتبارها ظاهرة مركبة، جذورها متشعبة تاريخيا واقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وروحيا (حنفي، 2019، ص. 207)).
في إطار توجّه بحثي يسعى إلى دراسة الظاهرة الدينيّة في تعقيدها، يمثل كتاب الحالة الدّينية في تونس 2011-2015، الذي أشرف على إنجازه وتحريره أستاذ علم الاجتماع بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس (جامعة تونس المنار) منير السعيداني، ونُشر ضمن إصدارات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث سنة 2018، واحدا من أهم الإصدارات التي عرفتها الساحة البحثية العربية. وتكتسب هذه الدّراسة أهميتها من سعيها إلى "الإخبار بأكثر ما أمكن من تفاصيل المشهد الديني التونسي في محاولة للإلمام بجل مكوناته" (ج1، 2018، ص. 11). وقد حاولت الدّراسة تحقيق هذا الهدف من خلال تعديد وجهات النظر، إذ تميز فريق البحث بالتنوع على مستوى السن والجندر والمؤسسات الجامعية والخلفيات السياسية والاختصاصات العلمية، وضم الفريق باحثين أكاديميين وغير أكاديميين من اختصاصات علم الاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية والعلوم القانونية والعلوم الحضارية والثقافية...إلخ.
امتدت الدراسة على مدى 1416 صفحة، انقسمت إلى أربعة مجلدات عالجت مختلف مستويات الدين والتدين في تونس خلال الفترة 2011-2015: المؤسساتي والقانوني والتعليمي والبحثي والإعلامي والسياسي والمدني والمذهبي والسوسيولوجي. اندرج هذا التناول "القطاعي" لظواهر الدين والتدين في تونس في سياق تحليلي شامل ارتكز على رصد توجهات الرأي العام بالإضافة إلى التفاعلات والنقاشات والصراعات بين مختلف الفاعلين. وعلى الرغم من تركيز الدراسة على الفترة 2011-2015، فإن ما تناولته مختلف مكوناتها تابع آثار "الانتقالات التأسيسية" للبلاد التونسية، أي تلك المراحل التاريخية التي عرفت تغيرات اجتماعية عميقة، وارتبطت بسيرورات تفاوض اجتماعي وسياسي وقانوني حول واقع البلاد ونظامها السياسي ومستقبلها". (ج4، 2018،ص. 112) ،احتلّ خلالها الدين والتدين، موضوعا وحالة وظاهرة، جزء مهما من النقاش في الفضاء العام. وعلى هذا الأساس نؤسّس عرضنا للدراسة على تحقيبٍ يجاري هذه المراحل.
أوّلاً: مرحلة التأسيس الأولى: الجمهورية الناشئة ورهان العلمنة المدولنة
تناولت علاقة الدّولة بالدّين والتديّن في تونس ما بعد الاستعمارية. وبالفعل، ركّزت أغلب النصوص على تحليل موقع الدولة من الحقل الديني وتدخلاتها فيه، من خلال مؤسساتها الرّسمية، و"تسطير السياسة الدينية العمومية"(ج4، 2018، ص. 118) . كما ركزت النصوص على أهم مراحل هندسة وإعادة هندسة هذه العلاقة (دولة-دين) في سياق محطّات من المفاوضة المتتابعة بين النخب السياسية -الاجتماعية -الدينية حول مشروعية التصرّف العمومي في الشأن الديني. وقد عرّفت الدّراسة المفاوضة الاجتماعية باعتبارها "نشاطا اجتماعيا يُدْخِلُ في تفاعلاتٍ عددا من الفاعلين، الذين، وبفضل وجودهم في آنٍ معا إزاء تبايناتٍ تشقُّهم وترابطاتٍ تجمعهم، يختارون، أو يجدون من الأنسب البحث الطوعي عن، حلٍّ متبادل القبول (ج4، 2018،ص. 112.(عرفت تونس ما بعد الاستعمارية أوّل محطات هذه المفاوضة خلال الفترة الفاصلة بين إعلان الاستقلال في سنة 1956 والمصادقة على دستور سنة 1959. ميزت هذه الفترةَ مجموعةٌ من التغيّرات الجوهرية المرتبطة بمسار تأسيس الجمهورية الأولى والتي كان شعارها الأساسي "عقلنة البيروقراطية وعصرنة المؤسّسات وعلمنة الدولة" (ج4، 2018،ص 119). يشمل هذا الخطاب الذي تمّت ترجمته في مجموعة من القرارات ثلاثة مستويات أساسية:
- 1. المستوى المؤسّساتي: من خلال توحيد القضاء وفصله عن أيّة هيئة ذات صبغة دينية (1956)، وتوحيد التعليم (1958) الذي أفضى إلى إنهاء التعليم الزيتوني التقليدي وإدماجه وإدماج العاملين فيه في منظومة التعليم التونسية العصرية الرّسمية. كما تم تأسيس الكلّية الزيتونية للشريعة وأصول الدين (1961) بديلا لمرحلة التعليم العالي الزيتوني، وتصفية جمعيات الأوقاف وإلحاق مصلحة الشعائر الدينية برئاسة الحكومة.
- 2. المستوى القانوني: من خلال المصادقة على صيغة الفصل الأول من دستور 1959 الذي يحدّد موقع الدين الإسلامي من الدولة، في مناخ من تعدّد التأويلات القانونيّة والاختلاف بينها فيما يخص مفهوم "دين الدّولة"، وصولا إلى تبنّي التأويل القائل بأن الإسلام "دين الدولة" بمعنى تمتّعه بحمايتها وبموقع خاص في مرجعيتها الثقافية وليس باعتباره محدّدا لسياساتها" (ج2، 2018، ص. 51-54). كما نصّ الفصل الخامس من الدستور نفسه على أنّ الدّولة تضمن حرّية المعتقد وتحمي حرية القيام بالشعائر الدينية.
أما الجزء الثاني من الإجراءات القانونية فتجسّد في ترسانة القوانين الجديدة وأبرزها مجلة الأحوال الشخصية (1956) واعتماد الرزنامة العلمية مكان الرؤية في تحديد المناسبات الدينية (رمضان، العيد...) وإصدار المرسوم الضابط لمهام مفتي الديار التونسية الذي ينص على تعيينه من قبل رئيس الجمهورية (1957)، ما جعل وظيفة الإفتاء تابعة بشكل مباشر للسلطة السياسية.
حسب الدراسة، عكست هذه الخطوات نيّة واضحة من قبل الجمهورية الناشئة في تحجيم دور النخب الدينية من خلال ضرب شرعية اعتبارها المرجع الرسمي في الإدارة الحصرية للشأن الديني العام وحرمانها من الموارد (المادية أساسا) التي تمكّنها من الصمود وردّ الفعل تجاه هيمنة الدولة. وقد أشارت الدراسة في جزئها الرابع إلى أن هذه الخطوات فتحت مرحلة من النزاع المركّب تجاوزت ما روّج له باعتباره صراعا بين نخب حديثة صاعدة ذات توجهات علمانية ونخب تقليدية متديّنة آيلة للسقوط، إلى صراع شرعيات يدمج الديني-الفكري (من هو الأحق بتأويل المعلوم من الدين ووضع حدوده وتوجهاته؟) بالسياسي (الحزبان الدستوريّان الجديد والقديم، النخب الزيتونية وغير الزيتونية، البورقيبيون واليوسفيون...) وبالاجتماعي (صراع البِلْدِيَّهْ (نخب العاصمة) وغيرهم من نخب المراكز الحضريّة الأخرى) (ج4، 2018، ص. 118-121) .
وليس خافيا على أحد أن الغلبة في هذا الصراع كانت للشق الحداثي البورقيبي الذي تمكّن من جعل الدولة تهيمن على المجال الديني باعتبارها الفاعل المسؤول حصريا على رعاية الشأن الديني وتنظيمه وهندسة صلاته بباقي الشؤون العامة، وذلك ضمن نموذج علماني يعقوبي يحاذر في الوقت نفسه السقوط في اللائكيّة ويمتنع عن القطع الجذري مع الحضور الدّيني في الفضاء العام (ج2، 2018،ص. 222) .
ثانيا: ما بين تأسيسيْن: التحوّلات السياسية ورهان الاستقرار
رغم نجاح الخط البورقيبي داخل الحزب الدستوري في تثبيت رؤيته وتفعيل هيمنة الدولة على المجال الديني بمختلف مستوياته، عرفت هذه الهيمنة نوعا من التراجع النسبي في أواخر ستينات القرن العشرين. شمل التراجع المستوى التربوي، ضمن ما اعتبره عبد الباسط الغابري مرحلة الصدمة والتعريب (ج1، 2018، ص. 225)، والتي تزامنت مع آثار فشل المشروع التنموي للدولة ما بعد الاستعمارية ودخولها في أزمة نتيجة عجزها على احتواء التحركات الطلابية اليساريّة وتطلعاتها نحو مجال أوسع من الحرّيات.
فتحت هذه الأزمة الباب أمام المناوئين لمشروع توحيد التعليم (من داخل الحزب الواحد الحاكم) لطرح نظرتهم لمنظومة تعليمية "تراعي خصوصية البلد العربي المسلم" في ظل انفراج للعلاقات مع دول المشرق العربي. ولكن، لم تسمح حالة الارتباك والاستعجال برسم سياسات تعليم ديني بديلة شاملة، إذْ أشارت الدراسة إلى أنه تمّ الاكتفاء بدعوة المجلس الأعلى للتربية بصفة عاجلة ومرتجلة للترفيع في التوقيت المخصّص لمادة التربية الإسلامية وكذا في ضاربها في احتساب معدّلات التلاميذ (نتائجهم الدراسية) بالإضافة إلى ما سبق من تكليف أساتذة التربية الإسلامية بتدريس التربية المدنية (ج1، 2018، ص. 225-226).
وحسب الدراسة، عرفت هيمنة الدولة على الشأن الديني مرحلة ثانية من التراجع النسبي في أواخر ثمانينات القرن العشرين، وكان ذلك مع قدوم زين العابدين بن على إلى الحكم إثر انقلابه على الرئيس الحبيب بورقيبة سنة 1987. فقد عمد 'النظام الجديد' إلى تخفيف الضغط الذي ورثه من سابقه، والرهانات التي فرضتها مواجهته مع الإسلاميين، من خلال مجموعة من الإجراءات كان أبرزها الإقرار الرسمي بإعلان البدء في صوم رمضان بناء على رؤية الهلال مع الاستئناس بالحساب وبث الأذان في وسائل الإعلام الرّسمية وإعادة فتح جامع الزيتونة وفروعه في المدن الداخلية وترقية كلية الشريعة وأصول الدين إلى مرتبة جامعة سميت "الجامعة الزيتونية" وضمّت ثلاثة معاهد عليا (ج1، 2018، ص. 201).
أشارت الدراسة أيضا، في المجلّد الأول، إلى التحوّلات المؤسّساتية التي عرفتها هذه الفترة، وأهمّها تحويل إدارة الشؤون الدينية، التي كانت تابعة لوزارة الداخلية، إثر "تنامي أنشطة التيار الإسلامي في المساجد وتطوّر الصراع معه في الساحة الطلابية" (ج1، 2018، ص. 201)، إلى إدارة عامة للشعائر الدينية صلب رئاسة الحكومة (1987)، ثمّ إلى كتابة دولة للشؤون الدينية (1989)، ثمّ إلى وزارة الشؤون الدينية (1992) (ج1، 2018، ص. 47-48). كما شهدت هذه الفترة أيضا تأسيس المجلس الإسلامي الأعلى (1987) الذي حاول من خلاله النظام الجديد "إعادة تحديد العلاقة بين الدين والدولة تحت شعار "إعادة الاعتبار للدين الإسلامي"، في سياق محاولة كسب المشروعية واستقطاب النخب الزيتونية القديمة والجديدة من أجل تفعيل دورها في المجال الديني (ج1، 2018،ص. 93-94).
لكن هذا الانفراج النسبي سرعان ما انقلب إلى صدام بين الجيل الثاني من النخبتين (الدستورية وشق من اليسارية تم دمجها صلب التجمع الدستوري الديمقراطي) والنخب الإسلامية (وعلى رأسها حركة النهضة سليلة الإتجاه الإسلامي)، وذلك على امتداد تسعينات القرن العشرين والعقد الأول من الألفية الثانية (1990-2010). وقد شملت هذه الصدامات ثلاث مستويات:
- المستوى الفكري: من خلال تشديد قبضة الدّولة على قطاعي التعليم والإنتاج البحثي فيما يخص الظواهر الدينية وذلك خاصة من خلال إعادة إيقاف التدريس بجامع الزيتونة وملحقاته. وفي هذا السياق، وكما أشارت الدّراسة، شهد إنشاء الجامعة الزيتونية العديد من التحفظات من قبل النخب الدينية على مزج العلوم الدينية (الشرعية) بالعلوم الاجتماعية (علم الأديان، وعلم الاجتماع والإناسة والفلسفة وعلم النفس) واستقدام مدرسين من خارج المؤسسة الزيتونية وهو ما من شأنه، حسب رأيهم، التقليل من الحيز الزمني للعلوم الشرعية وإضعاف تكوين الطلبة (ج1، 2018، ص. 201) .
وقد كان وزير التربية والتعليم العالي الأسبق محمد الشرفي من أبرز شخصيات هذه المرحلة، إذْ اعتبر مهندس مشروع إصلاح التعليم الشامل لسنة 1991، ذلك المشروع الذي اعتبرته الحركات الإسلامية جزء ممَّا أمسته "سياسة تجفيف منابع الدين الإسلامي" ومحاولة " لإعادة إحياء مشروع العلمنة الأول الذي استلهم مشروع المسعدي-دوبياس" (ج1، 2018،ص. 226-227) . وتشير الدراسة إلى أنّ برنامج إصلاح التعليم العالي لسنة 1991، اتجه نحو كسر احتكار الجامعة الزيتونية لدراسة المسائل الدينية لفائدة الأقسام الجامعية المختصة في العلوم الإنسانية عموما والدراسات الحضارية خصوصا، والتي كانت تجمع، من بين مؤسّسيها، باحثين قريبين من سياسات ومواقف السلطة من الشأن الديني والإسلام السياسي بالخصوص (ج1، 2018، ص. 299-300).
- المستوى الأمني: من خلال التضييق على منتسبي التيارات الإسلامية بمختلف توجهاتها (سياسية، دعوية، فكرية، طلابية)، وملاحقة جميع مظاهر التدين في الفضاء العام. وقد وصلت هذه التضيقات إلى حد تجريم لبس الحجاب وإطالة اللحية بعنوان مكافحة المظهر غير اللائق أو اللباس الطائفي. كما تم فرض السيطرة الكلية للدولة على المساجد (قانون 1988) من خلال فرض إغلاقها بين الصلوات وعزل الأئمة المحسوبين على حركة النهضة (ج2، 2018،ص. 226).
- المستوى الإعلامي: من خلال ممارسة وزارة الاتصال رقابة صارمة على القطاع معتمدة على عدّة من الأدوات القانونية الردعية أهمها مجلة الصحافة (1975) التي شملت في بابها الرابع والخامس مجموعة من الفصول المقيّدة لحرّية الإعلام، زاد في تدعيمها قانون مكافحة الإرهاب لسنة 2003. وحتى مع فتح الباب أمام رأس المال الخاص للاستثمار في المجال الإعلامي بقيت رخص القنوات التلفازية والإذاعية وخصوصا منها ذات النفس الديني (إذاعة الزيتونة أو حنبعل هداية) حكرا على المقربين من السلطة (ج2، 2018، ص. 328).
ثالثا: المرحلة التأسيسية الثانية: الجمهورية الثانية ورهان الحرّيات الفردية
شهد هذا الوضع مجموعة من التغيرات الجذرية إثر سقوط النظام في 14 جانفي 2011 والإطاحة بزين العابدين بن علي، ما وفّر مناخا اتسم برفعٍ كلّي للحضر على حرّية التعبير وحرّية التنظّم لتبرز على الساحة قوى سياسية جديدة-قديمة (الأحزاب المحظورة سابقا) ولتخوض بدورها رهانا انتخابيا انتهى بفوز حركة النهضة بأغلبية المقاعد في انتخابات المجلس التأسيسي (أكتوبر 2011). وفي مقابل ذلك، عرفت النخب العلمانية، الدستورية البورقيبية واليساريّة، حالة من الاستنفار، إذ اعتبرت أن صعود الإسلاميين إلى الحكم وتصدّرهم المشهد التأسيسي تهديدا لمكتسبات "دولة الاستقلال" في مجال الحرّيات الفردية وحقوق المرأة بالأساس.
ولا يخفى على قارئ الدّراسة بأن بروز السلفية الجهادية على السّاحة وما صاحبها من ارتفاع لمنسوب العنف السياسي الذي وصل إلى حدّ الاغتيالات، زاد في تأجيج الصراع داخل المجلس التأسيسي وخارجه بين النخب السياسية المحافظة المتمثلة أساسا في حركة النهضة وما تبقّى من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والنخب اليسارية مصحوبة بقطاع واسع من الدستوريين والتجمّعيين الذين كانوا في الفترة الفاصلة بين نهاية 2011 وبداية 2012 بصدد إعادة هيكلة حزب سياسي جديد (نداء تونس). وكان الشأن الديني في علاقته بالفعل السياسي وبمنظومة حقوق الإنسان وبالحريات الفردية أبرز محاور دورة المفاوضة الاجتماعية الجديدة حول مآل التغير الاجتماعي، والتي تمظهرت في عدّة مستويات أهمها:
- المستوى المؤسساتي: الذي عرف ثلاث أزمات رئيسة، أولها ما عرف بأزمة المساجد. فبالإضافة إلى الإشكالات المتعلقة بالبنية التحتيّة والتصرف في النفقات والمطالب الاجتماعية للإطارات المسجدية، مثّل خروج قطاع كبير من المساجد عن سيطرة وزارة الشؤون الدينية وافتكاكها من قبل مجموعات سلفية متشدّدة، جعلت من فضاءاتها منابر للدعاية السياسية، أبرز التحدّيات أمام وزارة الشؤون الدينية. كما سجّلت الدراسة العديد من المؤشرات التي عكست عجز الوزارة ومن خلفها الدولة على التأقلم مع التغيرات الطارئة على "موقع المسجد وأدواره" وذلك في إطار ما اعتبرته الدّراسة "عسر الانتقال من إدارة سلطوية وتسلطية للفضاء المسجدي إلى إدارة مدنية حرّة ديمقراطية وتشاركية" (ج2، 2018، ص. 143)[1].
ثاني الأزمات، ما عرف بأزمة جامع الزيتونة، التي أعادت إلى الساحة التفاوضية مسألة توحيد التعليم وموقع الجامع الأعظم من المنظومة الدينية الرّسمية، وقضية أملاكه. وقد شهدت أبرز تطورات هذه الأزمة ادعاء الشيخ حسين العبيدي مشروعية الإدارة العامة للجامع الأعظم، ورفعه دعاوى دينية وسياسية وتربوية خلافية، ومباشرته بإجراءات قضائية لاسترجاع ما كان يعتبره ممتلكات الجامع (ج2، 2018، ص. 137)[2].
ثالث الأزمات، ما عرف بأزمة الجمعيات الثقافية ذات الطابع الديني، والتي حاولت الدراسة التطرّق إلى تشعّباتها المتداخلة رغم صعوبات حصرها وتكميمها. وتفيد أبرز الاستنتاجات التي توصل إليها البحث الخاص بهذه الجمعيات أنها فرضت تحديات ورهانات جديدة على المجتمع المدني التونسي وذلك في علاقته بمسار الانتقال السياسي وبسيرورة التغيّر الاجتماعي عامة. وقد مكّننا البحث من الوقوف "على مظاهر من إعادة تشكيل منطق الفعل وطرق التسيير ومنابع التمويل والأهداف المرسومة علانية والمقصودة فعليا" ضمن المجال الذي تنشط فيها الجمعيات الثقافية (ج1، 2018: 417)[3].
- المستوى الإعلامي والأكاديمي: رغم مناخ الحرّية الذي تميّزت به هذه فترة ما بعد 2011، وتنامي الخوض في الشأن الديني في الفضاء العام لم تسجل الدراسة نموا في نسق إنتاج البحوث الأكاديمية في مجال الدراسات الدينية (ج1، 2018، ص. 304)[4]. كما لم يرصد المحور المخصّص للإعلام تزايدا ملحوظا في عدد البرامج أو وسائل الإعلام المتخصصة في الشأن الديني وذلك رغم تنامي الخوض في هذا الموضوع على مستوى الحوارات السياسية (ج1، 2018، ص. 349)[5]. ومن من ناحية أخرى، لاحظت الدراسة أن الفضاء الافتراضي اكتسب موقعا مُهمًّا في المفاوضة الاجتماعية العامة حول الشأن الديني، رغم ما اعترى الخطابات المنشورة صلبه من هشاشة معرفية على المستوى المفهومي والمقولاتي وسيطرة الشقّين التكفيري والتبريري على أغلب منصاته (ج1، 2018، ص. 379-340)[6].
- المستوى القانوني: اعتبرت الدراسة أن مناقشة دستور 2014 مثلت أول فرصة تعرض فيها مسائل الدين والتدين للنقاش العام بشكل حر ومن دون هيمنة طرف معين. وقد راوح الدستور الجديد في تعاطيه مع المسألة الدينية بين المحافظة والتجديد. أما المحافظة فتبدو في الإبقاء على جزء مهم ممّا جاء به سابقه (1959)، ونقصد هنا الفصل الأول الذي ينص على أن الإسلام دين الدولة، والإشارة إلى أهمية الانتماء إلى الدين الإسلامي في عدّة مواقع من التوطئة بما يعكس موقعه مرجعا مؤسسا ولكن دون الإشارة إلى أي التزام بتعاليم الشريعة الإسلامية بمعناها الفقهي. وأما التجديد، فقد تجسد في ما يشهد به الدستور، في نسخته النهائية، من تعزيز للصبغة الديمقراطية في رسم العلاقات بين الشأن الديني وبقية الشؤون ذات الصلة. ومما يدلّ على ذلك، التنصيص على مبادئ حقوق الإنسان الكونية ومسؤولية الدولة في حمايتها في نص التوطئة، والتنصيص على مبدأ مدنية الدولة في الفقرة الثالثة من التوطئة وفي الفصل الثاني من الدستور، وتبنّي الفصل السادس، رغم ما يحمله من إشكالات تأويلية، تبنيا صريحا لحرّية الضمير وتنصيصه على تحييد دور العبادة ومنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف والتصدي لها. إلا أن الفصل نفسه نصّ، في سياق المراوحة التي يتسم بها الدستور بين المحافظة والتجديد، على رعاية الدولة للدين والتزامها بحماية المقدّسات ومنع النيل منها "وهي كلها عبارات غامضة وحمالة للعديد من التأويلات التي من شأنها أن تأدّي إلى خنق الحريات الفردية." (ج2، 2018، ص. 92)[7].
- المستوى السياسي: تُظهر الدراسة أن فهم هذه 'التناقضات' التي شابت نص الدستور يمر عبر فهم السياقات التفاوضية التي مرت بها صياغته، وتؤكّد على أنّ سياقات بناء العلاقة بين الدين والتدين والتشريع في تونس لا يمكن أن تفهم إلا في مجراها التاريخي العام[8]، ومن بين مكوناته خطاب الأحزاب السياسية فيما يتعلق بالشأن الديني. وقد بيّنت الدراسة أن ذلك الخطاب اتسم في المرحلة الأولى (المرحلة البورقيبية) بنوع من الراديكاليّة، تمظهرت من خلال تشريع/تبرير هيمنة الدولة على الشأن الديني ودفاع القوى اليسارية عن ضرورة علمنة المجتمع وتحرّره مقابل مطالبة الحركات الإسلامية بالعودة إلى الشريعة مرجعا لتنظم المجتمع. وتستعرض الدراسة أمثلة من هذه التباينات التي انحرفت في العديد من الفترات بسيرورة المفاوضة الاجتماعية عن طابعها السياسي السلمي نحو ممارسة العنف (من قبل الحركات الإسلامية في عدّة مناسبات) وتشديد التسلط (من قبل أجهزة الدولة).
وتشير الدراسة إلى أنّ هذه النّزعة نحو راديكالية المواقف عرفت تحولات نوعيّة مع دخول البلاد الألفية الثانية، إذْ حاولت العديد من القوى السياسية، في عدّة مناسبات، وبأدوات مختلفة أهمها 'هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات' (تشكلت 24 ديسمبر2005، وأخذت اسمها من تاريخ 18 أكتوبر 2005 الذي بدأ فيه إضراب جوع شنّه 8 معارضين من تيارات سياسية متباينة) خلق أرضية دنيا مشتركة لتصور إدارة مبتكرة لإدارة الشأن الديني، تجمع ما بين تصور يساري وتصور إسلامي، من أجل مقاومة مشتركة للنظام المستبد (ج2، 2018، ص. 229-230)[9]. وتشير الدراسة إلى أن هذا توجه تدعّم خلال ما بعد إقرار دستور 2014، لضرورة التوافق التي فرضتها تطورات الوضع السياسي. وقد اعتبر عبد اللطيف الهرماسي أن هذه التوافقات الدستورية تبقى محدودة رغم ما حقّقته من استقرار سياسي (نسبي مقارنة بباقي دول الربيع العربي) وتثبيت لمكتسبات المرحلة التأسيسية الأولى (ما قبل إقرار دستور 2014). فالصراع بين شقي النخب السياسية والثقافية، الحداثي والمحافظ، لم يخفت وإنما انتقل من مجال وضع المبادئ الدستورية إلى تكريسها العملي في مجريات تدبير الشأن الديني الذي تمثل إدارة الفضاءات المسجديّة أحد أبرز تمظهراتها (ج2، 2018، ص. 247)[10].
خاتمـة
تمكّن الباحثون في هذه الدراسة من تحقيق هدفهم المتمثل في "الإخبار بأكثر ما أمكن من تفاصيل المشهد الديني التونسي في محاولة للإلمام بجلّ مكوناته"، بل وتجاوزوا الإخبار عن راهن الحالة الدينية إلى الغوص في جذور هذا المشهد التاريخية. وبالفعل لم يمنع الالتزام بالإطار الزمني للملاحظة، المتمثل في الفترة الفاصلة بين سنتي 2011 و2015، الباحثين من العودة إلى الجذور التاريخية للظواهر الدينية التي تطرّقت إليها الدراسة. فلا يكاد مقال يخلو من تأطير تاريخي يأصل للإشكالية المخصوصة التي يتناولها. هذه المنهجية التاريخية في التعامل مع الظواهر كانت ضرورية، خصوصا في أول موجة من دراسة يطمح المشرفون عليها إلى جعلها عملا طوليا يعاد تطبيق بروتوكوله ليعاين التغيرات الطارئة على الحالة الدينية في تونس بين فترة وأخرى. مع العلم أن الدراسة لم تشمل الدين الإسلامي فحسب بل ضمّت نصوصا عن المسيحية والمسيحيين وعن اليهود واليهودية في تونس.
لقد مكّن التأطير التاريخي من ربط الحالة الدينية الراهنة بسياقاتها الاجتماعية المتحولة، واشتغل على متغيّرات ذات دلالة تفسيرية مهمة. كما لم تخل النصوص من تأطير نظري تناول أهم المفاهيم المفاتيح من خلال العودة إلى أمّهات النصوص والمصادر. ولئن لم نتناول بالتفصيل، في عرضنا هذا، نتائج البحث الميداني الكمّي (أكثر من 100 سؤال، 1800 مُسْتَجْوَب) التي يستعرضها المجلد الرابع من الدراسة، فقد سعى الباحثون إلى تثمينها على مختلف الأصعدة مازجين بينها وبين نتائج مختلف البحوث الكيفية التي اهتمت بمتابعة تحرّكات الفاعلين وسلوكاتهم وتموقعاتهم واستراتيجياتهم ومضامين تصريحاتهم وأدبياتهم ومحتويات مواقعهم وصفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بهم. وقد وفّر هذا المزج قاعدة بيانات واسعة حول الدين والتدين في تونس المعاصرة.
الطرابلسي صفوان، نادية الشاوش آية بن منصور ،نجمة القمجي، رابعة القاسمي
المراجع
مجموعة من الباحثين، (2018). الحالة الدينية في تونس 2011-2015. دراسة ميدانية تحليلية. إشراف منير السعيداني واحميدة النيفر ونادر الحمامي، الإشراف العام ورئاسة التحرير منير السعيداني. بيروت: مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع.
حنفي ساري، (2019). الحالة الدينية في تونس 2011-2015: دراسة تحليلية ميدانية. إضافات، العدد 46.
Ben Achour, Y. (1995). « Politique et religion en Tunisie ». Revue de l’Académie des sciences morales et politiques, 42(1).
Morin, O. (2012). Tunisie : le vertige démocratique. Études, 4(416).
الهوامش :
[1] نفس المصدر، ص. 143.
[2] نفس المصدر، ص. 137.
[3] نفس المصدر، ص. 417.
[4] نفس المصدر، ص. 304.
[5] نفس المصدر، ص. 349.
[6] نفس المصدر، ص. 379-380.
[9] المصدر نفسه، ص. 229-230.
[10] المصدر نفسه، ص. 247.