أهمية الوثائق المحفوظة في أرشيفات رئاسة الجمهورية التركية في كتابة تاريخ الجزائر الحديث


خيرالدين سعيدي : Université Mohamed Lamine Debaghin Sétif 2, Département d'histoire
et d'archéologie, 19 000, Sétif, Algérie.


Télécharger le PDF


لا جرم أنّ قيمة أي بحث تاريخي تتحدَّد أولا بنوعية المصادر المعتمدة فيه، ولعلنا لا نحيد عن الصواب إن قلنا أنَّ على رأس المصادر الأساسية لأي بحث علمي رزين الوثائق الأرشيفية المستخدمة فيه، سواء منها المخلفة بطريقة مباشرة أو غير، ولا يكون للبحث نصيب مِن الجدية والصرامة العلمية إلاَّ باعتماده على ما سلف.

نسعى في هذا البحث إلى تعريف الباحثين في تاريخ الجزائر خلال العهد العثماني، بأهمية أحدِ الأرصدة الأرشيفية المعرفية الكبرى، الذي مازال إلى اليوم مطيَّ الإهمال، ولم يلتفت له إلاَّ بعض الباحثين. وهو رصيد مِن المراسلات الأرشيفية، يخص المرحلة ما بين (1827-1837مـ).

هذا الرصيد الأرشيفي موجود بشكل أساسي على مستوى رئاسة الجمهورية بتركيا، وضمن أقسامه نقف على قسم غني يخص المسألة الجزائرية خلال التي حددناها آنفا. ينقسم هذا الرصيد إلى وثائق متباينة من حيث النوع والكم والمواضيع، فمن ضمنها: تقارير استخباراتية وتقارير المهام السرية ومُراسلات رسمية مِن سفراء الدولة العثمانية في أوروبا إلى الباب العالي بخصوص الجزائر ومراسلات ودية بين أعلام مختلفين مثل مراسلات مصطفى رشيد باشا السفير العثماني في باريس بخصوص المسألة الجزائرية ومراسلات حسونة الدخيسي الذين كان لهم تأثير هام فيما يخص المسألة الجزائرية. إضافة إلى وثائق تحمل معلومات عرضية بخصوص ما كان يحدث في الجزائر مصادرها الرحالة أو التجار في الدولة العثمانية. ولهذا فإنَّ عملية التقميش (رستم، 2002، ص. 16) أي جمع المادة الأصلية وترتيبها وتصنيفها- هي عملية أساسية في إعادة بناء الواقعة التاريخية.

وقد قام بعض الباحثين أمثال: مصطفى ايراوجى (Mustafa Eravci) وعبد الجليل التميمي بمحاولة تقديم نماذج عن الوثائق العثمانية التي تخصّ الجزائر في الأرشيفات العثمانية والمواضيع المختلفة التي تطرقت لها، لذا رأينا أنّه علينا أن نشير إليها أولا قبل ولوج صلب الموضوع، على أننا أثناء إشارتنا للوثائق الأرشيفية المختلفة ضمن الدراسة حرصنا على استخدام الأصول الفعلية لهذه الوثائق الموجودة في الأرشيف العثماني، وعدم الاكتفاء بما ذكرته المصادر التي استخدمت هذه الوثائق في الدراسات المختلفة، ولعل في مقدمة هذه الأعمال دون شك كتاب؛

الجزائر في الوثائق العثمانية: وهو كتاب صادر عن رئاسة الأرشيف العثماني بتركيا سنة (2010) بعنوان (Osmanlı Belgelerinde Cezayir) أي: (الجزائر في الوثائق العثمانية) جاء الكتاب في 416 صفحة مُقسَّمة إلى أربعة أبواب.

خُصِّص الباب الأول منه لإيراد الوثائق المُتعلِّقة بـ: الجزائر تحت الإدارة العثمانية، ورد فيه ذكر ثلاث وثلاثين وثيقة في مواضيع مختلفة تخص الإدارة والعلاقات العامة للإيالة مع دول الجوار والدول الأوروبية ومع الباب العالي. في حين خُصِّص الباب الثاني لقضية الاحتلال الفرنسي والمسألة الجزائرية، وجاء بعنوان الاحتلال الفرنسي والعلاقات السياسية بعد الاحتلال ورد في هذا الباب سبع وعشرون وثيقة ترصد موقف الدولة العثمانية من أخبار الاحتلال ومراسلاتها في هذا الشأن مع فرنسا، ومع الأطراف المختلفة. وحاول هذا الكتاب رصد الوثائق المتعلقة بالجزائر والجزائريين بعد الاحتلال الفرنسي وبالأخص حول موضوع "هجرة الجزائريين إلى مختلف الأراضي التي تتبع الدولة العثمانية"، وجاء بعنوان الوضع القانوني للمهاجريين الجزائريين بعد الاحتلال الفرنسي. تناولت الوثائق المعروضة في هذا الباب الوضع الذي استفاد منه الجزائريون المهاجرون إلى مختلف أراضي الباب العالي، إضافة إلى عملية توطينهم في مختلف الإيالات التابعة للباب العالي، وحرص الأخيرة على تقديم كل التسهيلات لأجل مساعدتهم على الاستقرار. وقد تمت الإشارة في هذا الباب إلى واحد وعشرين وثيقة أرشيفية

أما الباب الأخير مِن هذا الكتاب فقد خُصِّص لشخصية محورية في تاريخ الجزائر، وهو "الأمير عبد القادر"، حيث أورد الباحثون اثنتي عشرة وثيقة تتعلَّق بالأمير وعائلته واستقراره في تركيا وما صُرف لهم مِن معاشات مِن الدَّولة العثمانية.

ينطوي هذا العمل على قدر كبير من الأهمية، بحيث جمع رزمة مِن الوثائق المهمة التي تُسلِّط الضوء على مراحل تاريخية مختلفة تخص الجزائر خلال العهد العثماني والمرحلة الأولى مِن الاحتلال الفرنسي. غير أنَّ عيب هذا العمل أنه مُوجَّه، حيث إنَّ مُعظم الوثائق الموجودة انتقيت بشكل دقيق وتصبّ في اتجاه واحد وهو إظهار الترابط التاريخي القديم في المرحلة الأولى ثمَّ التعاطف الإسلامي في المرحلة الثانية والتكاتف الإنساني في البابين الثالث والرابع. وتظهر الوثائق مساعي الدولة العثمانية في السعي لأجل استعادة الجزائر وتحريرها من الغزو الفرنسي ومن جهة إظهار وقوف الدولة العثمانية بجانب المهاجرين من الجزائر مِن خلال توطينهم ومساعدتهم على الاستقرار في الأراضي العثمانية. وما سلف يبدو أمرا منطقيا إذا عرفنا أنَّ الكتاب جاء أساساً ضمن مشروع تركي للاستفادة من المعطى التاريخي لتوطيد العلاقات مع الدول العربية. ولهذا فمع أهمية ما ورد في هذا العمل فإنّه لا يمكن الاعتماد على ما فيه فقط من وثائق للبحث في بعض المسائل الدقيقة في تاريخ الجزائر. فلو أخذنا نموذجا واحداً على سبيل المثال لإحدى الوثائق في الباب الثاني وتحمل الرقم (42) وهي تحمل عنوان باشوية أحمد باي القسنطيني في صيغتها التركية وضمن هذا العنوان نجد عنوانا آخر هو: "منح أحمد باي رتبة الباشوية وتحرير مرفأ عنابة من الفرنسيين"، وهي عبارة توحي بأنَّ الباب العالي قد منح رتبة الباشوية التي كان يطلبها أحمد باي في مراسلاته مع الباب العالي1. في حين نجد أنّ تلك المراسلة في الأصل هي مُلخص لتقرير عن المهمة التي قام بها الميرالاي كامل باي إلى قسنطينة سنة 1836 وليست صادرةً عن الباب العالي كما قد يُوهَّم العنوان2. بمعنى أنّ هذه المراسلة لا تحمل أي موافقة أو منح مِن الباب العالي لرتبة الباشوية لأحمد باي كما قد يتوهَّم القارئ.

وما ذكرناه بخصوص هذه المراسلة يمكن سحبه أيضاً على مراسلات أخرى في الكتاب بعنوانBey’e "تقديم المعونات إلى أحمد باي المعروف بإخلاصه للدولة العثمانية" في حين أنَّ موضوع المراسلة يتعلق بما كان يجري في الأساس في مجلس النواب الفرنسي بخصوص الخلاف القائم حول إرسال قوات عسكرية فرنسية داعمة لجيش الاحتلال إلى قسنطينة بغرض الاستيلاء عليها.

ممَّا سبق عرضه، تتَّضح لنا أهمية العمل الذي قدَّمته مصالح الأرشيف العثماني بخصوص الوثائق الخاصة بالجزائر والموجودة على مستوى الأرشيف العثماني، وهي توضح العديد مِن الجزئيات التي لم تتناول بعد البحث التخصصي بالشكل الكافي، لكن هذا العمل الذي ضمّ هذه الوثائق يبقى عملاً رسمياً مُؤسساتياً، يعمل وفق سياق معين وهدف محدد. وما اختِير مِن الوثائق هي في الحقيقة وثائق نموذجية، أو عينات غير عشوائية لما يوجد في الأرشيف العثماني من وثائق تخص إيالة الجزائر.

الجزائر مِن خلال أرشيفات المهمة دفتري3:

نقف هنا أمام دراسة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها قدَّمها مصطفى ايراوجى (Mustafa Eravci) حول الجزائر مِن خلال أرشيفات المهمة دفتري بعنوان (Mühimme Defterlerine Göre Osmanlı Cezayir-i Garp) أي: (جزائر الغرب العثمانية حسب دفاتر المهمة) بحيث استهدف الباحث تسليط الضوء على مسالك ظلت خفية أو مسكوت عنها في المرحلة الأولى من إلحاق الجزائر بالباب العالي بناء على ما ورد من أحكام في دفاتر المهمة، كما يحاول هذا العمل إيضاح الأهمية الكبيرة للأحكام الواردة في "المهمة دفتري" بغية معرفة طبيعة العلاقات التي كانت تربط الباب العالي بأوجاقات الغرب عموما (طرابلس، تونس، الجزائر) وفيها تحتل الجزائر خصوصا مكانة بارزة..

ينطلق الباحث مِن تحقيق اسم "جزائر الغرب" وكيف كان يُطلق عليها في الوثائق العثمانية والإيالات المعنية بها في بادئ الأمر، ثمَّ كيف انحصرت التسمية على "إيالة الجزائر" تحديدا.

ينتقل بعدها في المبحث الأوَّل إلى الحديث عن نظام الحكم الإداري المحلي في الجزائر خلال العهد العثماني أي: البُنى الإدارية في الجزائر خلال العهد العثماني وحالة الحكام المحليين. لم يُشِر الباحث في هذا المبحث كثيراً إلى المصادر الأرشيفية التي كان ينبغي الحديث عنها، وهذا بسبب ندرتها في الدفاتر المذكورة، حيث أنَّ مُعظم ما ورد في هذه الوثائق كان في إطار المساعدات العسكرية والتجنيد، وهذا بسبب أنّ الجزائر كانت "دار جهاد" أو "دار الحرب" Darü’l harb » « كما ترد في الأدبيات العثمانية. ما يجعل معظم ما يُرصد حولها مِن وثائق في المهمة دفتري يكون ذا طابع عسكري (Eravci, 2017, p. 84).

لكن سرعان ما اختلف الأمر عند حديثه عن المراسيم المختلفة الخاصة بالتعيين أو الاستدعاء أو التحويل من المناصب السياسية في الإيالة، وهو ما اعتنت أحكام مهمة دفتري بإيراده. أما ما يهم من إشارات هنا فهو ما أورده من معلومات تتعلَّق بموقف السلطة المركزية في إسطنبول ممَّا كان يصلها مِن شكاوى الرَّعية مِن ظلم بعض الإنكشارية وتصرفاتهم المستهجنة، الأمر الذي يفتح الباب للباحثين حول دراسة هذا الموضوع الهام لأنّ "المهمة دفتري" كانت غنية بأحكام ترتبط برد المظالم (Eravcı, 2017, p. 89).

انتقل اراوجي للحديث في مبحث آخر عن الأحكام الخاصة بالعساكر والجند في "المهمة دفتري" أتى هذا المبحث يحمل عنوان "الأحكام المُرسلة المُتعلِّقة بالعساكر والجند". إذ احتلت هذه الأحكام حيزاً هاماً في مجموع الأحكام المرسلة الموجودة في الأرشيف العثماني خاصة وأنَّها كانت تنبِّه إلى طبيعة العلاقات التي كانت موجودة بين الباب العالي وحكام إيالة جزائر الغرب، وطريقة توجيه الأحكام وحتَّى العقوبات في حق مَن يُخالف الأوامر القادمة من الدولة العلية. وتعد هذه التفاصيل مهمَّة جدا في إعادة بناء تصور العلاقة التي كانت تحكم الإيالة بالباب العالي في مرحلتها الأولى، أي خلال القرن السادس عشر، والتطورات التي كانت تشهدها هذه العلاقة. لذا فإنَّه مِن غير المعقول مثلا أن تتمَّ دراسة العلاقة بين الباب العالي والإيالة الجزائرية بدون الاطلاع والبحث في الوثائق الأرشيفية العامة الخاصة بالتاريخ العثماني وبالأخص تلك المرتبطة بـ"المهمة دفتري". بل إن الاطلاع عليها قد لا يكفي، بل يجب أيضا تحليل مختلف تلك الأحكام الصادرة والمقيدة بتفصيلاتها ثمَّ ربطها بسياقها الدولي والمحلي الذي صدرت فيه. خاصة وأنّ هذه الأحكام أصبحت تتعدى العلاقة بين الباب العالي والإيالة إلى الباب العالي والدولة الأوروبية أيضا، (Eravci, 2017, p. 89-91). بعد ذلك ينتقل الباحث إلى بيان أهمية ما ورد في المهمة دفتري بخصوص العلاقات الدبلوماسية بين حكام الجزائر وحكام الدول والممالك الأوروبية، وكيف سعت هذه الدول إلى الاتحاد لأجل إنهاء سيطرة العثمانيين على غربي المتوسط، ثم أشار إلى رد فعل الدولة العثمانية من خلال ما هو موجود في دفاتر المهمة دفتري عن هذا التحالف، وأُشير في ذلك إلى عدد مِن دفاتر الأحكام التي اعتنت بالحديث عن الأمور المرتبطة بهذه المسألة.

ومن خلال اهتمامنا بتقييم هذا العمل ومقارنته بالعمل الذي قدَّمه الأرشيف التركي سنلاحظ بأنَّه أكثر أكاديمية، حيث حاول الإشارة إلى مواضيع يمكن أن تكون انطلاقتها من خلال المادة المصدرية الأرشيفية وبالخصوص منها الأحكام الواردة في دفاتر المهمة، واستطاع مِن خلال استخدام بعض الأحكام أن يوضِّح مدى أهمية هذا الرصيد الأرشيفي في عملية إعادة بناء تصور حقيقي عن المسار التاريخي الخاص الذي اتَّخذته العلاقات البينية بين الإيالة والباب العالي.

أهمية الرصيد الأرشيفي الخاص بالجزائر خلال العهد العثماني في كتابة المرحلة المتأخرة من العهد العثماني وبداية الاحتلال الفرنسي

من أهم أدوات معرفة أهمية الرصيد الأرشيفي الاطلاع على ما يحتويه هذا الرصيد من وثائق تحمل في مضامينها معرفة تاريخية مهمة ومركزية. هذه الوثائق موزعة على أقسام عدة في الأرشيف العثماني، وموزعة ضمن تصنيفات مختلفة، مِن أهمها تلك الموجودة ضمن وثائق "الخط الهمايوني" والتي تحوي عدداً كبيراً مِن المراسلات التي كانت بين أحمد باي ومختلف أركان الدولة العثمانية4، ومن أهم هذه المراسلات، رسالة أحمد باي إلى الباب العالي المؤرخة في الفاتح من جمادى الأولى 1249هـ/15 أيلول 1833مـــــ وهي تشرح ما حدث أثناء وبعد سقوط مدينة الجزائر. وتحاول تقديم صُورةً عامة لما كان يجري في الجزائر ما بين 1830-1833مـــــــــ.

استهل "أحمد باي" حديثه فيها بعبارات المدح والتبجيل والتَّقدير للسُّلطان العثماني كما جرت العادة بذلك، ثمَّ شرع "أحمد باي" في بيان أسباب فشل القوات العثمانية في الجزائر في رد عدوان الفرنسيين، والذي ربطه بشكل مباشر بسوء تدبير "حسين باشا"؛ واتهمه بعدم أخذ الأمور على محمل الجد، ومن أدلته على ذلك طلب "حسين باشا" من "أحمد باي" أن لا يزيد عدد الرجال أثناء قدومه للجزائر لأداء ضريبة الدنوش على ما هو معتاد "...وفي أواخر سنه 1245هـــــ ورد علي أمر بالتَّوجُّه إلى الجزائر جابيّاً لما جرت العادة بجبايته مِن الأموال على رأس كلِّ ثلاث سنين وبأن أُحْكِمَ متانة "مرسى عنابة" لاحتمال أن يطرقها العدو فرنسيس(كذا)، وأن استصحب من الفرسان في قدومي ما هو المعتاد ولا أزيد؛ فامتثلت ولا مجال للمخالفة..."، وهذه الإشارة على بساطتها مثلا تنفي بعض ما أوردته الكتابات الغربية حيال إعلان "أحمد باي" للجهاد ضد الفرنسيين ودعوته القبائل لذلك أثناء ذهابه إلى الجزائر سنة 1830مـ. (Mercier, 1903, p. 383) وفي ثنايا هذه المراسلة مثلا نقف على العديد من الإشارات الهامة مثل الحديث عما تكبده الجزائريون من خسائر في بداية العدوان الفرنسي ومساعيه لتجاوز ذلك: "...ولما رأيت ما يُذهِلُ الألباب جمعت كثيراً مِن العساكر المهزومة والضعفاء ما لا يحصيهم عدد، وسِرتُ بهم على وجهٍ يطول بَسطُه، فوصلت قسنطينة..." والطريقة التي سماه بها" "أعيان وعلماء قسنطينة" إذ يذكر: "...ولما رأى العلماء وأعيان البلد ومشايخ العرب انحلال رأي المسلمين جدَّدُوا لي البيعة بالسمع والطاعة، وسموني لأجل الضرورة بالباشا...». ثمّ يوضِّح في ثنايا رسالته هذه نيته القديمة التي كان قد عزم عليها بعد دخول الفرنسيين الجزائر، وهي الرحيل لمجاورة بيت الله الحرام، ثم إصراره على البقاء في الجزائر ومواجهة الفرنسيين5 ما يعكس الحالة النفسية التي كان يمر بها أحمد باي خلال المرحلة الزمنية (1830-1834)، وهذا الأمر من شأنه أن يثير البحث والنقاش حول تحولات الحالة النفسية لأحمد باي ومدى تأثيرها في سير مقاومته، وهو موضوع عابر للتخصصات. ويمكن أن يدرس ضمن أنماط الحالة النفسية للمقاومين أو كدراسة مقارنة بين الحالة النفسية عند أحمد باي والأمير عبد القادر خلال المرحلة التاريخية نفسها. وقد نجم عن هذه المراسلة عددٌ مِن الآثار يمكن أن تكون محل دراسة مستفيضة، وتتجلّى أهمية المراسلات السالفة فيما انعكس عنها من قرارات اتخذتها مختلف مُؤسسات الدولة العثمانية في إسطنبول، إذ نجد مجلس الشورى العثماني (Şûrâ-yı Devlet) يجتمع لمناقشة مسألة قسنطينة، ثمَّ يرفع في شأنها قراراً إلى الصدر الأعظم "محمَّد رؤوف باشا"، والذي يحولها بدوره إلى السلطان "محمود الثاني" لأجل الحصول على موافقته فيما تقرَّر.

وأثناء هذا المسار نجد العديد مِن التفصيلات والتأويلات التي تساعد في الأخذ بالواقعة التاريخية بتفصيل أكبر، فنتلمس مثلاً في مقررات مجلس الشورى نوعا مِن التعاطف مع الحاج أحمد باي، ومحاولة لتبرير تَسمِّيه بالباشا أو قيامه بصك النقود في قسنطينة دون إذن صريح مِن الباب العالي، كما نقف في ثنايا مُقررات ما صدر عن "مجلس الشورى" ما يوحي باطلاع أعضاء المجلس على الكثير من التفاصيل الخاصة بالموضوع، ومنها على الأخص اعتقادهم الجازم بوجود أطماع يُخفيها "باي تونس" "حسين باشا" بخصوص الجزائر، ومساعيه الخفية لضمها إلى سلطانه. ما يفتح لنا أبوابا مختلفة للحديث عن "أشكال تعاطي المؤسسات العثمانية مع المسألة الجزائرية ومدى توافقها وتباينها6.

كما توحي مُراسلة أخرى صادرة عن مصالح الصدر الأعظم رؤوف باشا إلى السلطان العثماني (مارس 1815 حتى 6 يناير 1818) يستأذنه فيها بإعلام السفير العثماني في باريس مصطفى رشيد باشا بما وصل من أحمد باي وطلب مشورته، بأهمية العمل الذي كان يقوم به السفير العثماني في باريس، ومدى تقاطع عمله مع ما كان يُناقش في الباب العالي، وفي هذا المقام يمكننا أن نبحث موضوع "التنسيق بين مختلف الهيئات العثمانية بخصوص المسألة الجزائرية" وعلى الأقل تفتح لنا هذه الوثائق أفق السؤال حول: "سفارة مصطفى رشيد باشا إلى باريس بشأن المسألة الجزائرية" وهو موضوع بحثه باقتضاب الباحث التركي جويد بايسون (375-379 Baysun, 1943, p.)

كما تفيدنا المراسلة الأولى ومخرجاتها السياسية داخل إسطنبول وخارجها والتي جسدتها الاجتماعات والمناقشات المختلفة بخصوص المسألة الجزائرية عامة ومسألة قسنطينة خاصة، بتصويب بعض الأحكام الخاطئة التي ذهبت إليها بعض الدراسات الفرنسية، مِن كون أنَّ أوَّل مراسلة لـ "أحمد باي" مع الباب العالي وإنشاء العلاقة معه كانت سنة 1835مـ (Serres, 1925, p. 128)، وهو ما تنفيه هذه المراسلة وغيرها، إذ أنها تؤكد أنَّ بداية التواصل بين الباب العالي وأحمد باي كان متقدما وبالتَّحديد بداية مِن النصف الثاني مِن سنة 1833مـ7.

مثلما نقف في شق آخر مِن الوثائق الأرشيفية على مراسلات مهمة كانت بين "أحمد باي" ومختلف أركان ورجال الدولة العثمانية، فنجد مراسلاته مثلا مع القبطان داريا (تشنجال أوغلو محمَّد طاهر باشا/ Çengeloğlu Tahir Mehmet Paşa) في أكثر من مناسبة، ومع الصدر الأعظم محمد رؤوف باشا، وبعد ذلك تكررت مُراسلاته المختلفة مع سفراء الدولة العثمانية في كلّ مِن لندن مع نامق باشا (Namık Paşa ) والسفير العثماني في برلين كامل بايMiralay kâmil Bey )8 .

تحمل هذه المراسلات العديد من التفاصيل الهامة التي لم يُكشف عنها بشكل مُوسَّع بعد، من ذلك الطلبات التي كان يقدمها أحمد باي خاصة بعد سنة 1837مـ بخصوص إعانته على الانتقال إلى تونس ومنها إلى طرابلس ثمَّ إسطنبول. والتوضيحات التي كان يرسلها الحاج أحمد باي لسفراء الدولة بخصوص ما كان يحدث في قسنطينة وإمكانية صدّ العساكر الفرنسية، كما أنَّ هذه المراسلات أنتجت وثائق أخرى في اتجاهات مختلفة بين السفراء من جهة وبينهم وبين الباب العالي من جهة أخرى، لا تقل أهمية عن مراسلات أحمد باي، حيث تعبِّر عن رؤية عدد مِن سفراء وولاة الدولة العثمانية كحسن باشا ثمَّ طاهر باشا ونوري أفندي ونامق باشا ومصطفى رشيد باشا بالنسبة لما كان يحدث في قسنطينة، وتعاطي هذه الوثائق مع مواضيع مختلفة منها ما هو مرتبط بالجزائر وقسنطينة، ومنها ما يتجاوزهما إلى تأثيرات تلك المعلومات التي وردت في الوثائق على طبيعة العلاقات الإقليمية، ويتجلى هذا الأمر في تدخل العديد مِن سفراء الدُّول الأوروبية في إسطنبول في المسألة الجزائرية، وبما كان يظهر مِن حين لآخر بخصوص مساعي الدولة العثمانية بين مؤيد ومعارض لتحركات الدولة العثمانية9.

من شأن هذه الوثائق والمراسلات، إذا أُخرجِت للنورترجمة وتحقيقاً، أن تُجيب عن العديد مِن الأمور الغامضة في تاريخ هذه المرحلة تحديداً، كما مِن شأنها أن تخلق مواضيع بحثية كثيرة ما زالت بكراً مثل نشاط سفراء الدولة العثمانية تعريفاً بالقضية الجزائرية، فكل ما نقف عليه في هذا الباب هو العمل المركز لأرجومنت كورن (Ercüment Kuran) الذي قدَّم إشارات مُجملة لهذا النشاط في رسالته للدكتوراه (Kuran, 1943)، في حين أنَّ العديد مِن الوثائق التي قد يكون الباحث لم يطَّلع عليها أو استثنى استخدامها تحمل في الحقيقة تفاصيل كثيرة جِداً حول "المسألة الجزائرية والنشاط الدبلوماسي".

نقف على قسم آخر مِن المراسلات في الأرشيف العثماني واردة من شخصية سياسية جزائرية أيضا أحدثت الكثير من ردود الفعل على مستويات عديدة، داخل الدولة العثمانية وحتى لدى سفرائها في أوروبا. ونقصد به حمدان بن عثمان خوجة، والذي كان لمراسلاته -خاصة الأولى والثانية منها - مع الباب العالي وقع قويّ في سلوك الباب العالي السلك الدبلوماسي لحل القضية، مِن خلال جملة من الاقتراحات التي وصلت من مجلس شورى الدولة العثمانية والصدر الأعظم إلى السلطان العثماني، والذي وافق في الأخير على إيفاد مصطفى رشيد باشا -الذي كان يشغل منصب صاحب الختم لدى الصدر الأعظم- إلى باريس بغرض التباحث الموسع حول ما يخص مستقبل الجزائر.

حاول حمدان خوجة في الرِسالة الأولى سنة 1834 التي كتبها باسمه الخاص، وبالنيابة عن أهالي وأعيان الجزائر إلى الباب العالي تقديم صورة عامة عمَّا كان يحدث في الجزائر10. إذ بعد ألقاب التفخيم والتعظيم يشرع حمدان خوجة في توضيح ما حدث في الجزائر بعد انهزامها أمام الجيوش الفرنسية الغازية، ويقوم برسم صورة مقارنة عن الأحداث التي عرفتها الجزائر من سقوط للانكشارية بالأحداث التي تشابهها في بعض أرجاء الدولة العثمانية، ويخص بالذكر ما حدث من استيلاء الإمبراطورية الروسية على أجزاء من الممالك الإسلامية، لكنه ما أشار لذلك إلاّ لكي يوضح بأنّ ما حدث لا يُستساغ تماما وأنها مجازر في حق الجزائريين لم تشهد الإنسانية مثلها منذ سبعة آلاف سنة كاملة: "...مدت آدميتي يدي بيك سنه ظر فنده واقع تواريخلرن نظرى سبقت اتممش بير ظلمدر..."11 وهذه المقدِّمات وضعها صاحبها لأجل التأكيد على نقطة أساسية هي أنّ أهالي الجزائر يلجؤون للباب العالي لأجل حمايتهم والذبّ عنهم ونصرتهم كما تقتضيه الشريعة الإسلامية، وهنا نذكّر بفكرة مهمة تتعلق بالروابط التي تحكم العلاقات التي كانت للباب العالي مع إيالة الجزائر خصوصا والعالم العثماني ككل عموما.

ويوضِّح حمدان خوجة أنَّه وأهالي الجزائر إن كانوا قد أخطأوا بشكل ما في حقِّ السُّلطان؛ فعليه أن يعاقبهم بنفسه لا أن يُسلِّط عليهم غيره، وأنَّهم يرفضون أن يُتركوا لمصيرهم، أو أن يُسلَّط عليهم الفرنسيون، وفي هذا إشارة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى وهي ترتبط بموضوع "الدعاية الفرنسية في الجزائر غداة الاحتلال"، حيث كان يذيع الفرنسيون أنَّهم ما قَدِموا إلى الجزائر إلاَّ لتأديب "حسين باشا" والي الجزائر، وأنَّ ذلك كان بإذن مِن السُّلطان العثماني.

ويؤكِّد حمدان خوجة أنّه ومَن معه من أهالي الجزائر في حوالي عشرة ملايين، أما مَن يُوافق الفرنسيين فهم فئة قليلة لا يُعتدُّ بهم، وخونة لا يُلتفت إليهم. وهنا يمكننا أن نقف طويلاً عند عدد من المواضيع التي يثيرها "حمدان خوجة" في هذه المسألة، منها: "أنماط تعامل الجزائريين مع المستجدات وعلى رأسها الاحتلال الفرنسي للجزائر"، ففي الوقت الذي تكاد معظم الأبحاث تجزم بأنّ الجزائريين كانوا ضد التواجد العسكري الفرنسي وقاموا بمواجهته عسكريا وسياسيا تؤكد بعض المعلومات في ثنايا الوثائق الأرشيفية وجود عدد من الجزائريين لم يرو مشكلة في تواجد القوات الفرنسية في الجزائر لأن ذلك يخدم مصالحهم. كما تشير بعض الوثائق الأرشيفية إلى طبيعة العلاقات التي كانت تحكم الأعيان الجزائريين فيما بينهم وفيها يصف حمدان أحمد بوضربة بالخائن والمرتد12.

يقدِّم أيضا حمدان خوجة في بعض مراسلاته مع الباب العالي تصور بعض الأعيان لطريقة حل المسألة الجزائرية والتي من بينها ما اقترحه على الباب العالي بأن يتمَّ تعيين أحد الأعيان مِن أهالي الجزائر باشا على الجزائر، وأن يُنعم السلطان على مَن يختاره بالسيف والفرمان والقفطان، على أمل أن ترجع البلاد إلى سابق عهدها في أقصر زمان، وحسب التميمي فإن حمدان خوجه كان يمني نفسه بأن يكون الشخص الذي يتم تعينه لباشوية الجزائر (Tamimi A, 1967).

لكن هذا الأمر ينفيه حمدان خوجة من خلال إشارته في آخر الرسالة إلى الباب العالي بقوله: "... إنَ عبدكم الحاج "أحمد باشا" باي قسنطينة رجل شجاع وعاقل وحَسَنُ التدبير؛ لذلك فهو مناسب جدا لتُعيِّنوه والياً على إيالة الجزائر..."13.

بعد ذلك يُعدِّد حمدان خوجة المزايا التي قد يستفيدها الباب العالي مِن إعادة الجزائر إلى سلطته، خاصة إذا طبَّق في أوجاقات الغرب الثلاث: طرابلس، تونس، الجزائر نظاما قويا وجديدا، يتيح الاستفادة من ثروات وخيرات البلاد، حيث يشير حمدان خوجة إلى إمكانية استفادة الباب العالي من جيوش هذه البلاد، والتي يعتبرها أفضل من نظيرتها المصرية والسورية، وكأنَّه يحاول أن يستثمر في الخلافات الموجودة بين الباب العالي ومحمَّد علي باشا، ويحاول أن ينبِّه السُّلطان محمود الثاني إلى وجود مورد بشري ضخم يمكنه الاعتماد عليه موجود في الجزائر، وإن كانت الأرقام التي يوردها حمدان خوجة في هذه المراسلة والتي تخص التعداد السكاني مبالغ فيها، حيث قدرها بعشرين مليون نسمة14.

كما توجد مُراسلة ثانية من حمدان خوجه إلى الباب العالي في منتصف سنة 1834مـ15 وتحتوي على العديد مِن التفاصيل لمن يريد بحث مسألة بدايات الاحتلال الفرنسي للجزائر 1830-1833مـ، يتتبع حمدان خوجة هذه المسألة بتفاصيلها الدقيقة لا على مستوى الجزائر فقط، بل على مستوى فرنسا أيضا. إذ استفاد من تواجده في فرنسا خلال تلك المرحلة الزمنية. بحيث يورد في المراسلة ما كان يحدث من مناقشات في مجلس النواب الفرنسي بخصوص المسألة الجزائرية وتطوراتها، وكيف انقسم الموقف بخصوصها بين دعاة إلحاق الجزائر بفرنسا ودعاة إعادتها للباب العالي، وكيف تم إنشاء لجنة لدراسة هذا الأمر، كما يقف مُطوَّلاً عند مسألة موقفه مِن "بوضربة" وأشياعه، حيث يُصرُّ كل مرة على وصفه بالخائن والمرتد، ويكفي أن نقرأ قوله فيه: "...لكن يا أخي هذا اللعين بوضربة وأضرابه الذين بالجزائر، (يمدونه/يعينونه)، وجلّ ما يتحيَّلون عليه أن يبقى الفرنسيس في الجزائر فهم أعوانه ويضمنون له طاعة الرَّعية... ثمّ إنَّه لما خاف خروجهم قال لهم: "بأنَّ أهل الجزائر في غاية الحُزن؛ لتوهُّم خروج الجزائر مِن يد الفرنسيس وعودها للترك الظالمين..."16. لنستوعب حجم الخلاف الذي كان بين الرجلين، وقد تؤدي هذه الأوصاف إلى إصدار أحكام بخصوص موقف حمدان خوجة مِن أحمد بوضربة، أو بخصوص بوضربة نفسه لولا وجود مراسلات أرشيفية أخرى بين الرَّجلين يعتذر فيها حمدان خوجة لأحمد بوضربة على سوء ظنِّه به. وهنا يتَّضح لنا مِن جديد أهمية كل وثيقة مُفردة في استنباط الحقائق الكاملة دون تجزيء17.

كما يُورد حمدان خوجة في المراسلة نفسها تفاصيل عديدة بخصوص موقف باي تونس ممَّا كان جاريا في الجزائر حينها، واستغرب من هذا الأمر غاية الاستغراب بقوله: "... فانظر يا أخي، إن كان بوضربة مُفلِسٌ ومُرتَدٌ (كذا) فهذا أمير مسلمٌ تحت حكم السُّلطان، يرى بلدان السُّلطان بجواره يَستولي عليها الكُفَّار، فيمنعهم ممَّا يجب عليه أن يمدَّهم به، يُحرِّم بيعه لهم، فهذا حال المسلمين مثل شياه بلا راع..."18.

ويعود في نهاية هذه المراسلة المطولة للحديث عن استحداث السُّلطة الفرنسية للجنة سميت باللجنة الإفريقية (La commission d' Afrique) انحصر عملها في تقديم مُقترحات بشأن مسألة الجزائر، ويوضح أنَّه كان ممَّن دُعِي مِن طرف هذه "اللجنة" لإبداء رأيه فيما يحدث، ويؤكد أنّه أجاب مُستفسريه بأنَّه لا يؤمن بإمكانية تبعية الجزائر لفرنسا لاعتبارات عدَّة منها: الدين، اللغة، العادات والتقاليد، إضافة إلى الثقافة المختلفة تماما19. وهو بالفعل الكلام الذي تُؤكِّده محاضر مناقشات "اللجنة بعد هذه المراسلة تتوطَّد أكثر علاقة حمدان خوجة أكثر مع مختلف الفاعليين السياسيين العثمانيين المهتمين بالقضية الجزائرية، فنجده يتواصل في أكثر من مناسبة مع السفير العثماني في لندن السيد نوري أفندي ويصف الأخير "حمدان" في مُراسلات مع الباب العالي: "...معتمد دوستلرمزى..."20 أي: "...صديقنا الثقة/الموثوق..." وكانت مراسلات حمدان خوجة مع السفير العثماني "نوري أفندي" في الكثير من تفاصيلها تحمل معلومات بالغة الأهمية حول ما كان يجري في الجزائر خلال المرحلة الممتدة ما بين 1830-1835مـ فكثيراً ما تطرق فيها "حمدان خوجة" إلى طبيعة الوجود الفرنسي، وكيفية تعامل مختلف الفاعلين معه من الأعيان إلى العلماء إلى القادة السياسيين. ومن الملاحظ أن بعض تفصيلات تلك المراسلات تتجاوز المسألة الجزائرية إلى ما كان يرتبط بها من حركية سياسية في المنطقة المغاربية وفي فرنسا أيضا. وهذا ما يجعل هذه المراسلات في ذاتها حقل بحث يستدعي الاهتمام.

كما نقف على مراسلات مُتعدِّدة مع مصطفى رشيد باشا الذي عينته الدولة العثمانية سفيراً فوق العادة في السفارة العثمانية في باريس خاص بالمسألة الجزائرية. ومباشرة بعد توليه مهامه في باريس بين سنتي 1834- و1836 وتقديم أوراق اعتماده للسلطات الرسمية، بدأ في التواصل مع عدد مِن المطَّلعين على المسألة الجزائرية، والذين ذكر على رأسهم حمدان خوجه، الأمر الذي نلحظه في أولى مراسلاته مع الباب العالي بعد استقراره في السفارة العثمانية في باريس، بل قام بتقديم ما وصله من معلومات أفاده به حمدان خوجة إلى السلطات العثمانية في إسطنبول.

هذه اللقاءات والتواصل بين حمدان خوجة ومصطفى رشيد باشا ستستمر لمدة طويلة حتى بعد ذهاب السفير رشيد باشا إلى لندن واستقرار حمدان خوجه في إسطنبول، وهي تكشف عن الكثير من الأمور حول الجهود الدبلوماسية المختلفة سواء مؤسساتيا في صورة السفارة العثمانية أو فرديا في صورة نشاط حمدان خوجة. كما أنّ المراسلات المختلفة تحمل في ثناياها الكثير مِن المواقف التي تبناها حمدان خوجة سواء بخصوص القضية الجزائرية، أو بخصوص الفاعلين المختلفين فيها مثل أحمد باي وأحمد بوضربة وأعيان الجزائر من أمثال إبراهيم بن مصطفى باشا، وتمثل هذه المراسلات رصيدا هاما جدا لأدراك التقلبات المختلفة في شخصية ومواقف وأفكار حمدان خوجة، الأمر الذي يجعل من دراسة هذه الشخصية بعيدا عن رصيدها الأرشيفي الهام في الوثائق الأرشيفية العثمانية ظلما للحقيقة التاريخية ولجوانب مختلفة لهذه الشخصية. وهو الأمر الذي يقودنا إلى خاتمة هذه الدراسة وما يمكن أن نقول إنها توصلت إليه.

خــــــاتمة

تتباين المحاولات المختلفة التي سعت للتعريف بالجزائر من خلال الأرشيف التاريخي الخاص بالمرحلة العثمانية بين ما هو أكاديمي بحت وبين ما هو ذو توجه دبلوماسي في محاولة للاستفادة من التراكم التاريخي لبناء علاقات سياسية واقتصادية، ومحاولة لأجل تبرير بعض المواقف التاريخية التي اعتراها الغموض.

كما أنّ هذه المحاولات لا تزال في مرحلتها الأولى، لهذا نجد بعضها تعتريه بعض الأخطاء ولاتزال تحتاج إلى مراجعات كثيرة لأجل تدقيقها وتطويرها وترجمتها من اللغة التركية التي كتبت بها في الغالب، وهذا لن يكون إلاَّ بتكاتف الجهود المختلفة لأجل إخراج المزيد مِن الخبء الذي يخص تاريخ الجزائر خلال المرحلة العثمانية.

لا شك أنّ معظم المراسلات التي أشرنا إليها في هذه الدراسة تحمل في طيّاتها العديد من المواضيع التي تحتاج إلى أبحاث معمَّقة، ولا يمكن كتابة تاريخ الجزائر وبعض شخصياتها المركزية خلال هذه المرحلة دون إبراز وإظهار مركزية هذه الوثائق في تجلية الكثير من الغموض الذي يعتري بعض الجوانب.

كما يمكننا القول أنَّه لا مناص لمن يريد البحث في تاريخ الجزائر خلال العهد العثماني أو بداية الاحتلال الفرنسي من استعراض وتتبع ما جاء في مختلف الوثائق الأرشيفية المحفوظة في دور الأرشيف المختلفة. والكثير من الأمور التي تعدّ من باب المسلّمات في التاريخ قد يعاد دراستها وتحقيقها بناء على ما تورده الوثائق الأرشيفية المختلفة، ومن غير الممكن الاكتفاء ببعض الكتابات التاريخية المصدرية دونما العودة إلى اكتشاف الوثائق المختلفة، إن أردنا بالفعل التأسيس لكتابة تاريخية واعية..

ولعلّ هذا الجهد الذي قدّمناه في هذه الدراسة يلفت انتباه الباحثين المختصّين بهذه المرحلة وموضوعاتها إلى أهمية العودة إلى المصادر الأرشيفية المحفوظة في الأرشيفات المختلفة في العالم والتي لها علاقات وطيدة بتاريخ الجزائر. وهو ما تميزت به عدد من الدراسات مثل تلك التي قام بها الأستاذ ناصر الدين سعيدوني، إذ إضافة إلى التحليل والتركيب نجد للوثيقة الأرشيفية مكانة مركزية في بناء معظم الأعمال الأكاديمية التي قدّمها وبالأخصّ تلك التي تتعلّق بتاريخ الجزائر خلال العهد العثماني، سواء كانت هذه الوثائق أرشيفية بحتة، أو وثائق بصيغها المختلفة مَن مخطوطات، أو مصادر، أو رحلات، أو ضمن مجموعات مختلفة محلّية ودولية.

المصادر والمراجع الأرشيفية

BOA : Başbakanlık Osmanlı Arşivi/ أرشيف رئاسة الوزراء

HAT : Hatt-ı hümâyun/ الخط الهمايوني

I.DUIT : irade. Dosya Usulü/ إرادة. الملفات الأصلية

TSMA : Topkapi Sarayi Muzesi Arsivi/ أرشيف متحف قصر طوب كابي

أولا: وثائق الخط الهمايوني

BOA.HAT. Dosya N° 831. Gömlek N° 37528 Tarih 1250.M. 23. N° 1.

BOA.HAT. Dosya N° 1230. Gömlek N° 47965-B Tarih 1252.Z.29.

BOA.HAT. Dosya N° 1230. Gömlek N° 47965-B Tarih 1252.Z.29.

BOA.HAT. Dosya N° 1230. Gömlek N° 47971-C Tarih 1251.Ra. 21.

BOA.HAT. Dosya N° 1230. Gömlek N°47961 Tarih 1252.R.29. N°1.

BOA.HAT. Dosya N° 831. Gömlek N° 37528-D Tarih 1250.M.22. N°2. (1834.05.30).

BOA.HAT. Dosya N° 831. Gömlek N° 37528 Tarih 1250.

BOA.HAT. Dosya N° 1230. Gömlek N° 47961 Tarih 1250.

BOA.I. DUIT. Dosya N° 139. Gömlek N° 42.

BOA.HAT. Dosya N° 1230. Gömlek N° 47961 Tarih 1250.

BOA.HAT. Dosya N° 1230. Gömlek N° 4797- Tarih 1251.

BOA. HAT. Dosya N° 830. Gömlek N° 37510-G Tarih 1251.M.03. N° 1. (1835.05.30).

BOA. HAT. Dosya N° 830. Gömlek N° 37510-E Tarih 1251.S.27. N° 1. (1835.06.23).

BOA. HAT. Dosya N° 830. Gömlek N° 37510-H Tarih 1251.H.29. N° 1. (1836.04.13).

BOA. TSMA. Dosya N° 643. Gömlek N° 36 Tarih 1251.H.29. N°1.

BOA. HAT. Dosya N° 833. Gömlek N° 37610-A Tarih 1251.H.29. N° 1. (1836.04.13).

BOA. I.DUIT. Dosya N° 139. Gömlek N° 24 Tarih 1251.Za.17. N° 1. (1836.03.04).

ثانيا: وثائق المهمة دفتري

BOA.A. DVNS. MHM.D. Dosya N°37 hük 2582.

BOA.A. DVNS. MHM.D. Dosya N°3 hük 248.

BOA.A. DVNS. MHM.D. Dosya N°6 hük 950.

BOA.A. DVNS. MHM.D. Dosya N°79 hük 62.

BOA.A. DVNS. MHM.D. Dosya N°7 hük 2341.

BOA.A. DVNS. MHM.D. Dosya N°12 hük 211.

BOA.A. DVNS. MHM.D. Dosya N°12 hük 394.

BOA.A. DVNS. MHM.D. Dosya N°7 hük 1834.

ثالثا: وثائق الأرشيف الجزائري

A.N.A. (Archives Nationales Algériennes) Boîte30. Correspondance N° A37711. Correspondance de Hamdan Khoja adressée à un ami, haut fonctionnaire de la Sublime Porte datée de 1250H (Avril 1835).

رابعا: المصادر والمراجع المطبوعة

أولا: اللغة العربية

أقطاش ناجي، بينارق عصمت، (1986). الأرشيف العثماني. ترجمة صالح سعداوي صالح، الأردن: مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإستنبول. ومركز الوثائق والمخطوطات بالجامعة الأردنية.

رستم أستد، (2002). مصطلح التاريخ. لبنان: المكتبة العصرية.

سعيدوني ناصر الدين، (2002) أساسيات منهجية التاريخ. الجزائر: دار القصبة للنشر والتوزيع.

ثانيا: باللغة التركية

Abdelbassat, M. (2016) Ahkâm defterlerine göre 16. yüzyılda Cezayir'in idari, iktisadi ve sosyal yapısı. Yüksek Lisans Tezi, İstanbul Üniversitesi, Sosyal Bilimler Enstitüsü, Bilgi ve Belge Yönetimi Ana Bilim Dalı, İstanbul: Türkiye.

Atabaş, C. (2017). Trablusgarp Eyaleti’nde Merkezi İdarenin Tesisi ve Şeyh Guma İsyanı (1835-1858). İstanbul Üniversitesi, Sosyal Bilimler Enstitüsü, Tarih Ana Bilim Dalı, Yakınçağ Tarihi Bilim Dalı, İstanbul:Türkiye.

Baysun, C. (15-20 kasım 1943) Cezayir meselesi ve Reşid paşanın elçiliği, 3. Türk Tarih kongresi, Ankara: Türk kurumu tarihi.

Bostan, İ. (2003). Cezayir-i Bahr-ı Sefid Eyaletinin Kuruluşu. Tarih Dergisi, (38).

Eravcı, H. (Yaz 2017). Mustafa, Mühimme Defterlerine Göre Osmanlı Cezayir-i Garp. Akademik Bakış, Cilt 10, Sayı 20.

Kılıç, O. (2017). Beylerbeyilerden Dayılara Cezayir-i Garp Vilayeti/Eyaleti'nin Yönetimi ve Yöneticileri (16-18). Cappadocia Journal of History and Social Sciences.

Kuran, E. (1957). Cezayir Fransızlar Tarafından İşgali Karşısında Osmanlı Siyaseti 1827-1847, yenilik basım evi İstanbul.

Kütükoğlu Mübahat, Mühimme Defteri, İslâm Ansiklopedisi, C 31, İstanbul 2006.

Sahillioğlu, H. (1988). Ahkâm Defteri, İslâm Ansiklopedisi, I, İstanbul.

Uğur Ünal ve diğerleri, (2017) Osmanlı Arşivi Rehberi, İstanbul: Proje Devlet Arşivleri Genel Müdürlüğü Osmanlı arşivi rehberi,

Yusuf Sarınay ve diğerleri. (2010). Osmanlı Belgelerinde Cezayir, Ankara. Proje Devlet Arşivleri Genel Müdürlüğü,

ثالثا: باللغة الفرنسية

France. Commission d'Afrique. (1834). Procès-Verbaux Et Rapports De La Commission D'Afrique. Instituée Par Ordonnance du Roi du 12 Décembre 1833, 1834. Paris: Impr. Royale. [1]

Serres, J. (1925). La politique turque en Afrique du Nord sous la monarchie de Juillet. Paris: Gruthner.

Tamimi, A. (1967). Trois Lettres de Hadj Ahmed Bey de Constantine À La Sublime Porte in Revue de l'Occident musulman et de la Méditerranée, Aix province, France,(3), 133-152.

Serres, J. (1925). La politique turque en Afrique du Nord sous la monarchie de Juillet. Paris : Gruthner. Tamimi, Trois Lettres de Hadj Ahmed Bey de Constantine A la Sublime Port in.

​​الهوامش 

1 الأرشيف العثماني، خط همايوني، علبة831، ملف 37528، رقم 1

2 ينظر سعيدي، قراءة في المهمة السرية للميرالاي "كامل باي" إلى قسنطينة سنة 1836م، ص. 353

3 باللّغة التركية Mühimme Defterleri ووترجمت باللّغة العربية أيضا إلى دفاتر المهمة، وهي أحد الأوعية الأساسية في الأرشيف العثماني، يوجد منها حاليا 424 دفتر مهمة قيدت فيه معظم الأوامر أو النقاشات التي كانت تتم على مستوى الديوان الهمايوني، يحتوي كل دفتر من هذه الدفاتر على آلاف الأحكام والمهام والآراء، بعض الأحكام ضمن هذه الدفاتر تكتب في سطر واحد في حين أن بعضها الآخر قد يُحرَّر في أكثر من صفحة وتضم هذه الدفاتر بين دفتيها الكثير من المراسلات التي كنت تفد من الإيالات التابعة للدولة العثمانية وتسجل ترجمتها وفي بعض الأحيان أصولها في هذه الدفاتر.

4 أخرج منها عبد الجليل التميمي ثلاث مراسلات هامة كانت من "أحمد باي" باتجاه الباب العالي. للتفصيل أكثر انظر (Tamimi, 1967)

5 الأرشيف العثماني. إرادة، 1249، العلبة 139/ الملف 25.

6 المرجع نفسه.

7 المرجع نفسه.

8 الأرشيف العثماني. خط همايوني، 1250، العلبة 1230/الملف47961 ، 79615؛ الأرشيف العثماني. خط همايوني، 1250، العلبة 831/الملف 37528.

9 الأرشيف العثماني. خط همايوني، 1250، العلبة 1230/ الملف47961 ، 79615.

10 يخطئ الكثير مِن الباحثين الجزائريين في اعتبار أنَّ أوَّل مراسلة مِن "حمدان خوجة" إلى الباب العالي كانت الرسالة المؤرخة (أبريل 1835مـ) والتي توجد في الأرشيف الوطني الجزائري، وهي نسخة مترجمة من العربية إلى العثمانية، وأعاد فكري طوني ترجمتها إلى اللغة العربية في حين يوجد أصلها باللغة العربية في الأرشيف العثماني الموجود برئاسة الجمهورية التركية. للتفصيل أكثر راجع النسختان، راجع نسخة الرسالة في الملحق رقم 3:

A.N.A. (Archives Nationales Algériennes) Boîte30. Correspondance N° A37711. Correspondance de Hamdan Khoja adressée à un ami, haut fonctionnaire de la Sublime Porte datée de 1250H (Avril 1835).

BOA. (Başbakanlık Osmanlı Arşivi) (أرشيف رئاسة الوزراء) HAT. Dosya N° 831. Gömlek N°37528-D Tarih 1252.C.27.

11 الأرشيف العثماني. خط همايوني، 1249، العلبة 139/ الملف .24

12 المرجع نفسه.

13 الأرشيف العثماني، إرادة، العلبة 139، ملف 24.

14 المرجع نفسه.

15 الأرشيف العثماني، خط همايوني، العلبة 831، ملف 37528.

16 الأرشيف العثماني، إرادة، العلبة 139، ملف 24

17 الأرشيف العثماني، خط همايوني، العلبة 831، ملف 37528.

18 نفس المصدر.

19 نفس المصدر.

20 الأرشيف العثماني، خط همايوني، العلبة 830، ملف 37510.

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche