National resistance Image in the short story “François and Rachid” Abstract: The writer of this essay suggests studying national resistance image through a short story, the first of this kind of short story in Algeria, written by Mohamed Said Ez-Zahiri, appearing August 10th 1925 in the second number of the paper “El-Djazair”, touches the resistance to colonialism for the first time by a search for justice. Key Words : Short story – François – Rachid – Algeria – Colonialism – Segregation – Text – Linguistic – Structure – Character plan – Temporal space. |
Abdelmalek MORTAD : Université d'Oran, 31 000, Oran, Algérie.
يبدو أنّ هذه المحاولة القصصيّة، الأولى من جنسها، في تاريخ الأدب القصصيّ في الجزائر، هي القصّة الوحيدة التي نصادفها تتناول موضوعاً سياسيّاً يقاوم الاستعمار الفرنسيّ في الجزائر، ويفضح نفاقه وعبثه؛ فقد تناول هذا النّصّ القصصيّ الذي كتبه محمّد السّعيد الزّاهريّ موضوع المساواة، أو قل على الأصح: انعدام المساواة، بين الجزائريّين والفرنسيّين في الجزائر.
وعلى أنّنا نريد أن نتحلّل، سلَفاً، من إطلاق المصطلح الفنّيّ الجاري في النّقد العربيّ وهو «القصّة» على هذه المحاولة القصصيّة التي لقيَت إعجاباً شديداً لدى المثقّفين الجزائريّين حين ظهرت في جريدة «الجزائر» في يوم الاِثنين عاشر غشت عام خمسةٍ وعشرين وتسعمائة وألف[1] ذلك بأنّ هذا النّصّ من الوجهة الفنّيّة لا ينبغي له أن يرقَى إلى مستوى الكتابة القصصيّة بكلّ ما يحمل اللّفظ من معنى ؛ غير أنّ الكاتب استطاع أن يسرد، فعلاً، أحداث شخصيّتين كانتا تبدُوان أوّلَ الأمر على وفاق واتّفاق، وخصوصاً على مساواة تامّة بينهما في الحياة السّياسيّة؛ إلى أن تكشّفت الحقيقة القاصمة، فأفضت إلى موت إحدى الشّخصيّتين كمَداً وحزناً؛ وهي الشّخصيّة الوطنيّة جرّاءَ التّمييز العنصريّ بين الشّابّين الصّديقين : الجزائريّ، والفرنسيّ.
ولقد يجسّد الإعجابَ الذي لقِيَتْه هذه المحاولة القصصيّة التي كتبها الزّاهريّ في أوساط المثقّفين الجزائريّين رصْدُ عبد الحميد بن باديس جائزةً، لم يحدَّد مبلغُها الماليّ، لأيّ شاعر يتفوّق في رثاء شخصيّة رشيد التي ماتت كمَداً جرّاءَ انعدام المساواة بين الجزائريّين والفرنسيّين. وقد أعلن ابن باديس ذلك في جريدة «المنتقد» التي كان يُصدرها بمدينة قسنطينة. غير أنّ «المنتقد» الباديسيّة التي نشرت إعلان الجائزة[2] عُطّلت بعد نشرها إعلانَ تأسيس الجائزة؛ كما عُطِّلت الجريدة التي نشرت المحاولة القصصيّة، وهي جريدة «الجزائر» الزّاهريّة. ويجب أن يكون المرء من السذاجة بمكان مكين لكي يقتنع بأنّ تعطيل الجريدتين الوطنيّتين الاِثنتين كان مجرّد مصادفة عارضة؛ بل إنّنا نرى أنّ عين الاِستعمار الفرنسيّ كانت لا تنام؛ وقد اغتاظ الفرنسيّون اغتياظاً شديداً من الشّعار الوطنيّ المقاوِم الذي أعلنتْه جريدة «الجزائر»، وهو: «الجزائر للجزائريّين؛ بالإضافة إلى العبارة التي كتبت على أعلى صدرها، وهي: «أسِّست «الجزائرُ» لإعلاء الجزائريّين».[3]
وقد ذكر الزّاهريّ في افتتاحيّة العدد الثاني، ويبدو أنّه هو العدد الأخير من هذه الجريدة[4]، أنّ هذا العدد الذي نشرت فيه المحاولة القصصيّة لم يصدر في أوانه؛ «لأنّ الصّديق الذي جعلْنا الاِمتياز باسمه أرسل قبل يوم صدورِ الجريدةِ بثلاثة أيّام برقيّةً إلى المطبعة الجزائريّة التي تُطبع بها يقول لها : قِفي عن طبع «الجزائر»؛ فما أنا بضامن فيها (…) ؛ وأرسل أيضاً وصْلَ الرّخصة إلى وكيل الحقّ العامّ ومعه براءة من الضّمان».[5]
إنّا لم نأتِ بهذا النّصّ لمحمّد سعيد الزّاهريّ من أجل الحديث عن جريدة «الجزائر» التي كنّا تحدّثنا عنها في الفصل المتمحّض لدور الصّحافة الوطنيّة في مقاومة الاِستعمار الفرنسيّ ؛ ولكنّا أردنا به إلى التّنبيه إلى أنّ صاحب امتياز الجريدة الذي كان الزّاهريّ اتّخذه له رِدْءاً، تبرّأ من العدد الثاني من جريدة «الجزائر»، لدى السّلطات القضائيّة الاِستعماريّة، حين علِمَ أنّ الزّاهريّ سينشر بها محاولته القصصيّة الحامية بعنوان : «المساواة- فرانسوا والرّشيد» في الصّفحتين الأولى والثانية من الجريدة الوطنيّة الجريئة. وغالباً ما يكون الزّاهريّ نفسُه حدّثه عن نصّ المحاولة القصصيّة، عُجْباً بما كتب. وهي سيرة كثيراً ما يفعلها الكاتبون، فيتحدّثون عن النّصوص التي كتبوها لأصدقائهم وأحبائهم قبل نشرها.
وببعض ذلك يتبيّن أنّ المقاومة الأدبيّة ألفتْ ردّ الفعل السّيّئ لدى السّلطات القضائيّة الاِستعماريّة في الجزائر قبل أن يُنشر النّصّ المقاومُ نفسُه؛ وإلاّ فبمَ نفسّر هذا التّنكّر المفاجئ من صاحب امتياز الجريدة، ودون أن يتكلّف الاِتّصالَ بالزّاهريّ فيخبرَه بقراره الذي تنصَّل فيه من المسؤوليّة ؟ وما ذا عسى أن يكون قد نُشر في هذا العدد الثاني من «الجزائر»، غير المحاولة القصصيّة «المساواة: فرانسوا والرّشيد»، من موادَّ أدبيّةٍ مقاوِمة للاستعمار الفرنسيّ، ومشهّرة بعنصريّته ونِفاقه وكذبه على النّاس بشأن المساواة والعدالة والحرّيّة التي كان محمّد الهادي السّنوسيّ يراها مبادئ ثلاثةً «لا مسمّى لها»[6] في الجزائر ؟
بيد أنّنا قبل أن نعمد إلى تحليل بعض الفقرات من أوّل نصّ قصصيّ مُقاوِمٍ، في تاريخ الأدب الجزائريّ الحديث على وجه الإطلاق، نودّ أن نعود إلى التّوقّف بشيء من التّفصيل لدى الآثار الطّيّبة التي أحدثها نشر هذه القصّة في الأوساط الثقافيّة والوطنيّة الجزائريّة. ومن ذلك مسارعةُ ابن باديس إلى تأسيس جائزة، كما سبقت الإيماءةُ إلى ذلك، لأفضل قصيدة ترثي شخصيّة رشيد، وهي الشّخصيّة المركزيّة الضّحيّة، في قصّة الزّاهريّ. وإذا كان تعطيل جريدة «المنتقد» التي أعلنت الجائزةَ وشروطَها بعد نشرها مرثيّةَ رشيد لمحمّد العيد آل خليفة؛ ممّا يجعلنا نفترض أنّ ذلك التّعطيل الجائر فوّت علينا قصائدَ كثيرة كان أصحابها قد قرضوها ليتسابقوا بها؛ فإنّ التّاريخ، لم يحتفظ لنا، نتيجة لذلك، وبكلّ أسف، إلاّ بالقصيدة الدّاليّة التي كتبها محمّد العيد آل خليفة : فإنّ جريدة «الجزائر» نفسها تعرّضت للتّعطيل لأنّها نشرت هذا النّصّ السّرديّ المقاوم. وعلى أنّ القصيدة التي كتبها العيد، هي نفسها، يجب أن تدخل معجم الأدب الجزائريّ المقاوِم، في عهد مبكّر من تاريخ الحركة الوطنيّة ؟
وقد سبق إلى الحديث عن كلّ هذه الملابسات التّاريخيّة والسّياسيّة الشّاعرُ محمّد الهادي السّنوسيّ منذ سنةِ ستٍّ وعشرين وتسعمائة وألفٍ في كتابه «شعراء الجزائر في العصر الحاضر». فهو المصدر الأوّل لهذه المسألة، وإليه يعود الفضلُ في الكشف عن خلفياتها وملابساتها، وتسجيل بعض وقائعها في حِينها.
ومن عجيب الأمر أنّ الذين قاموا على نشر ديوان محمّد العيد، في وزارة التّربية الوطنيّة في بداية عهد الاستقلال، صنّفوا الأبيات العشرة التي قالها محمّد العيد في شخصيّة الرّشيد في «باب المراثي» ! وكأنّ شخصيّة رشيد شخصٌ تاريخيّ فعلاً، مع أنّ تقديم القصيدة يُقرّ بأنّ «شخصيّة رشيد في هذه القصيدة شخصيّة خياليّة لقصّةٍ بطلاها طالبٌ جزائريّ اسمه رشيد، وطالب فرنسيّ اسمُه فرانسوا».[7] مع أنّ المفروض، في رأينا، كان يجب وضْع نصّ هذه القصيدة في «باب الوطنيّات». كما زعم مقدّم القصيدة في ديوان العيد أنّ «موضوع القصّة كان ميدان مسابقة للشّعراء أعلن عنها «الشّهاب» الأسبوعيّ سنة 1925».[8] مع أنّ المصدر الأوّل المعاصر لهذه القضيّة، وهو محمّد الهادي السّنوسيّ ذكر أنّ القصيدة العيديّة نُشرت في جريدة المنتقد. وها هو النّصّ المتمحّض لذلك نورده حرفيّاً حتّى نُزيل اللّبس التّاريخيّ عن هذه المسألة ؛ يقول محمّد الهادي السّنوسي ّ: «وقد اقترحتْ جريدة «المنتقد» على الأدباء رثاء رشيد بما لا يتجاوز عشرة أبيات. وجَعلت لذلك جائزة يأخذها المبرَّز [منهم] فتبارى الشّعراء لرثائه. ولم تُعلم نتيجة المسابقة حتّى عُطّلت جريدة «المنتقد». وعلى إثرها حجرت جريدة «الجزائر» أيضا ً! ومن جملة الرّاثين شاعرنا هذا [محمّد العيد ] وقد نُشِرتْ قصيدتُه في «المنتقد».[9]
ونريد أن نقطع دابر الشّكّ لدى المتلقّي، وبتوكيد خطأ ما قرّر مقدّم ديوان محمّد العيد من أنّ قصيدته نشرت في «الشّهاب»، فنقول :
1. إنّ جريدة المنتقد التي أعلنت سنّ جائزة أدبيّة لأحسن رثاء لشخصيّة رشيد : صدرت في ثاني يوليو عام خمسة وعشرين وتسعمائة ؛
2. وتعطلت جريدة الجزائر الزاهريّة، غالباً، بعد صدور العدد الثاني منها في عاشر غشت 1925 ؛ فإن افترضنا أنّه صدر عدد ثالث منها، وأخير، فلا ينبغي أن يجاوز نهاية غشت 1925 ؛
3. ولم تصدر جريدة «الشّهاب»، خلفاً لجريدة «المنتقد» المعطّلة، بعد أن صدر منها ثمانية عشر عدداً، إلاّ في ثاني عشر نوفمبر عام خمسة وعشرين وتسعمائة وألف.
فكيف يتأخّر ابن باديس، إذن، في سنّ جائزته الأدبيّة فيعلن ذلك في «الشّهاب»، بعد أن مضى على ظهور القصّة قريبٌ من أربعة أشهر، ولا يعلنها في «المنتقد» التي كان صدورها متزامناً مع صدور جريدة الجزائر الزّاهريّة ؟
ولَمّا كانت هذه القصيدة العيديّة تندرج ضمن الأدب المقاوم المبكّر ندرجها في هذا المجاز لتكتمل لدى القارئ الكريم صورة التأثير الذي أحدثه نصّ قصّة محمّد السّعيد الزّاهريّ، في أوساط الوطنيّين بالإعجاب والتّأثر، وفي أوساط الاِستعماريّين بالسّخط والتّشدّد.
يقول محمّد العيد حم عليّ، كما كان يسمِّي نفسه عام 1925[10] :
1. نعَمْ! لك في العُلاَ عمَلٌ مَجيـــــدُ ولكنْ ما جزاؤك يا رشيـــد ؟
2. قضيتَ، على الصِّبا، أسَفاً وحزناً كذلك ينتج الضّغط الشّديـد
3. علامَ «فرانَسْوَا» يعلوكَ كَعْبـــاً وأنتَ لِمِثـْلِه الكُفْؤُ الوحيـد ؟
4. ألم تكُ، يا رشيدُ، له شقيقــاً زمانَ أبوكُما العِلْمُ الْمُفيـــد ؟
5. وكنتَ بجنبه في الحرب لَمّــا أمَضَّ قُوَاكُما الجهْدُ الجهيد
6. حياتُك كلّها مأساةُ حــــــزنٍ يَشيبُ لهولِ منظرها الوليـد
7. وموتُكَ يا شهيدَ العدلِ ذكْرَى مؤثـِّرةٌ يَلين لها الحديــــــد
8. وقفتُ عليك أشعاري عِظَاتٍ بما أوْلَى لك الدّهرُ العنيــــد
9. ونُحْتُ عليكَ في ظُلْم الدَّيَاجي وهل يُجْدي نُوَاحِي،أو يُفيد ؟
10. وإنْ تكُ قد قضَيتَ العيشَ بؤساً فعند اللّهِ طالعُكَ السّعيـــــدُ[11]
الضّجّة التي أحدثتها قصّة الزّاهريّ
لقد أحدثت هذه المحاولة القصصيّة، الأولى من جنسها في تاريخ القصّة الجزائريّة، ضجّةً كبرى في الأوساط الثقافيّة الوطنيّة، كما سبقت الإيماءة إلى ذلك، والأوساط السّياسيّة الاِستعماريّة جميعاً؛ ولعلّ ذلك أن يعودَ إلى الأفكار الجريئة التي طرَحتْها في وقت مبكّر من نشأة الحركة الوطنيّة الجزائريّة حيث كان محمّد سعيد الزّاهريّ يطمح، فيما يبدو، إلى أن تتبوّأ جريدته مكانة جريدة «الإقدام» التي كان يصدرها الأمير خالد[12]. وهي الجريدة التي كان الاِستعمار الفرنسيّ المشؤوم عطّلها سنة 1923 ونُفِيَ صاحبها الأمير خالد، حفيد الأمير عبد القادر، إلى حيث لا مكان ! ومن آثار هذه المحاولة القصصيّة المقاوِمة:
1. أنّها كانت مدعاة لتأسيس أوّل جائزة أدبيّة من خلال إعلان جريدة «المنتقد» مسابقةً للشّعراء الجزائريّين يتبارَوْن في رثاء شخصيّة رشيد. وهو تقليد لم يعرف الأدب العربيّ في الجزائر مثيلاً له من قبل ؛
2. أنّها أفضتْ، فعلاً، إلى كتابة قصائد من أجل التّرشّح بها للجائزة المرصودة؛ لكنّ التّاريخ لم يحفَظ لنا إلاّ نصَّ قصيدة محمّد العيد لأنّها استبدّت بالنّشر في جريدة «المنتقد» الباديسيّة، ثم في أشهَر مدوّنة للشّعر الجزائريّ الحديث في النّصف الأوّل من القرن العشرين، وهي كتاب «شعراء الجزائر، في العصر الحاضر»، قبل أن تنشر في ديوانه عام 1967 ؛
3. أنّها أوجعت الفرنسيّين إيجاعاً شديداً، فيما يبدو، وإلاّ فما بالُهُم عمَدوا إلى تعطيل الجريدة التي نُشرت فيها القصّة وهي «الجزائر» ؛ كما لم يتورّعوا، أثناء ذلك، في تعطيل جريدة «المنتقد» لأنّها تجرّأت على تنظيم مسابقة أدبيّة وطنيّة لرثاء شخصيّة رشيد التي تمثل، في القصّة، الرّفض والإباء والمقاومة من وجهة، والوعي السياسيّ والتّطلّع إلى إعلان ثورة على الاِستعمار الفرنسيّ في الجزائر من وجهة أخرى ؟
ولا ينبغي، في هذه الأثناء، الوقوع تحت دائرة السّذاجة لتصديق حيثيّات تقارير المخابرات الفرنسيّة في ذكْر أسباب تعطيل كلّ من جريدتي «المنتقد» و«الجزائر» ؛ فهي تقارير غير صادقة غالباً ؛ والعلّة الخفيّة الحقيقيّة هي تجرّؤ ابن باديس والزّاهريّ معاً على تحدّي الاستعمار الفرنسيّ الذي كان شديد التّغطرس بالجزائر، وهو يتأهّب للاحتفال بجنازة احتلال الجزائر بقوّة الحديد والنّار. ونحن نَعجب من كلمة الزّاهريّ التي كتبها في مجلّة «الشّهاب» بعد تسعِ سنواتٍ من تعطيل جزائره من أنّ السّبب، حسَب تقرير المخابرات الفرنسيّة، أنّ المترجم أساء ترجمة «كلمة «النّهضة» بكلمة فرنسيّة معناها «الثورة»، وترجم كلمة «فرنسا الظّافرة المنتصرة» بمعناه: «فرنسا الظّالمة الغاصبة».[13]
وما قوله فيما كان كتب، قبل تسع سنوات، من أنّ الرّشيد همّ بإعلان ثورة ؛ وأين ثورة القول في المقال، من ثورة الفعل في القصّة ؟…
لعلّ محمّداً الهادي السّنوسيّ أن يكون هو أوّلَ مَن تحدّث عنها، وأوّلَ من لخّص أفكارها[14]. ثمّ عمَدنا نحن إلى تلخيص أفكارها في أحد كتبنا منذ أكثر من ربع قرن[15]. وخلاصة فكرة هذه المحاولة القصصيّة أنّها تتناول مسألة المساواة التي كان الفرنسيّون يملؤون بها أشداقهم، ويرفعون بها عقائرهم ؛ فكانوا لا يزالون يزعمون للنّاس بعامّة، وللجزائريّين بخاصّة، أنّ فرنسا تُشعّ منها مبادئُ المساواة والحرّية والإخاء.
وكان الفتى رشيد الذي وُلد في يوم واحدٍ مع فرنسوا، صديقاً حميماً للفرنسي ّ؛ فكانا لا يكادان يفترقان ؛ فكانا يختلفان إلى مدرسة واحدة، ويلهُوان كما يلهو الأطفال معاً ؛ كما كانا يذاكران معاً لتحضير الاختبارات ؛ وذلك بحكم ما كان يجمعهما من ألفة وصداقة، وزمالة وجوار، جميعاً. نشأا كما ينشأ الأطفال الجيرانُ على اللّعب واللّهو والعِشرة معاً.
إيراد مقتطفات من نصّ المحاولة القصصيّة
يقول محمد سعيد الزاهريّ :
«ولد فرانسوا والرّشيد في أسبوع واحد من عائلتين تسكنان بحارة واحدة. وكان الأوّل إسبانيّاً في الأصل قد تجنّس أبواه بجنس[16] الفرنسيّين، وكان الثاني جزائريّ الأصل والفصل ولم يزل أبواه مؤمنين.
وُلدا معاً بأسبوع[17]، وتربّيا جميعاً يلعبان ألاعيب واحدة، ثمّ أرسلا معاً إلى دار تربية الصّبية فكانا تربيهما أمّ واحدة تناغيهما مناغاة واحدة. ولَمّا بلغا سنّ التّعليم أجبر فرانسوا على أن يتعلّم؛ فلم يستطع أليفُه الرّشيد أن يفارق أخاه. وظهرت عليه سيما الجزَع. وكان الْمواه[18] (طبعا)[19] قد مُلِئا شفقة عليه وحناناً؛ فخشيا أن يُضْنيه وداع قرينه؛ فأرسلا به إلى مكتب فرانسوا قرينه من يوم درج، وقرينه من يوم خُلق.
نشأ هذان الصّاحبان هذه النّشأة جميعاً في حِجْر واحد. وإنّها لغلوة أولى تجاوزاها من غلوات حياتهما وهما لا يشعران بشيء من شؤون الحياة. دخلا في الغلوة الثانية من غلوات العمر يقطعانها قَدماً لِقَدَم، ورِجْلاً لرجل؛ لا يعرفان شيئاً غيرَ لذةِ الْمُصافاة والمنادمة على دروسهما يراجعانِها جميعا (…).
فكان الفتيان لا يكادان يفترقان؛ فكانا «يخلوان بأنفسهما في غير أوقات الدّروس على مراجعة خصّصوا[20] لها وقتاً من أوقات الفراغ (…) ؛ فكانا في أثناء تلك المدّة نديميْ جذيمة الأبرش.
جنَيا في أيّامهما تلك حلواً ومرّاً، ولم يلبثا حتّى توافق ذوقهما في التّعليم فنحَيا منحىً واحداً. وكانا كلّما شاركا في امتحان إلاّ وحصلا[21] على أعداد متساوية.
سارا في طريق القراءة يتجاوزانها غلوة غلوة؛ حتّى تخرّجا في الحربيّة برتبة واحدة. وقد تعلّما من سائر المعاهد التي انتقلا فيها أن فرنسا دولة المساواة، ودولة الحرّيّة، ودولة العدالة؛ لا ترى فارقاً بين الفرنسويّ الصّميم، وبين المتفرنس ؛ ولا بينهما وبين من تحوطه رعايتها.
تُعطي الحرّيّة لكلّ شخصٍ (…)، ومَن تظلّلهم بجناحها؛ سواسية عندها في المعاملة بحيث تحكم بين النّاس بالقسط، وتعدل بينهم في الحكومة(…) ؛ وأنّ المجازاة والمكافأة تكونان على حسب ما يؤتاه الإنسان من موهبة طبيعيّة؛ وأنّ التّرقّي في الوضائف[22] إنّما يكون بحسب الأعمال؛ وأنّ فرنسا تخفظ[23] جناح الذلّ من الرّحمة لكلّ من جاهد في سبيلها، ولو سالت نفسُه على جنبات شرفها الرّفيع :
لا يسلَم الشّرف الرّفيعُ من الأذى حتّى يُراقَ على جوانبه الدّمُ[24]
فلا تعدمه جائزته بحال ؛ فإن عاش قلّبتْه فيما هو أهله من الوضائف[25] العالية، وأسبغت عليه من الجَرايات جَراية وفيرة، على سموّ منزلته. وإن مات أحيَتْه بإقامة هيكل يُذكَر به ويبقى بقاء الدّهر مذكوراً. وجازت أهلَه الذين يَعُولهم بخير جسيم.
أجبِر الرّشيد، وهذه هي عقيدته(؟)، على أن يتجنّد كما أجبر كذلك أخوه فرانسوا ؛ فكانا برتبة واحدة، واحدة[26] أوّل مرّة في الجنديّة يسكنان بثُكْنة واحدة. ومن هنا أخذ الْمَيز يمشي بينهما بالتّفرقة. امتاز فرانسوا عن الرّشيد بأكل لحم الخنزير (ولحم الخنزير : كلّ لحم طريّ وكلّ أُدْمٍ)[27] ؛ لأنّ الرّشيد فتىً مسلمٌ لا يأكل إلاّ أشعث مأكل ؛ وذلك ما أباح له دينه. وامتاز فرانسوا بزائد في الجراية اليوميّة عمّا يتقاضاه الرّشيد يوميّاً. وامتاز فرانسوا عن الرّشيد بنفقات تُجرى على عياله وبنيه كلّ شهر؛ لا ينال عيال الرّشيد ثلثها؛ وإن كان الرّشيد قد امتاز بقيمة كبش يأخذها عند التّجنّد، ولعلّها هي ثمنه وقع ذلك من الرّشيد موقع الاِستغراب، وجعل يحدّث نفسه بهذا الحديث : أهكذا كنّا نقرؤ ؟[28] وهل هذا ما كنّا نتلقّاه عن الأساتذة المعلّمين ؟ ألم يقل لنا المعلّم الفلانيّ، والمعلّم الفلانيّ[29]، أنّه متى اتّحد العاملان على صلاح الدّولة في عملهما ورتبتهما إلاّ وكان جزاؤهما متّحداً كذلك ؟ وإنّي لا أرى صديقي، مذ كنت صبيّاً، المسيو فرانسوا، قد تعالى عنّي تعالياً بيّناً فأين المساواة ؟ وأين ما ملئت به كتب التّعليم الجمهوريّ تفوّق عنّي[30] فيما أرى ؛ وسيتفوّق في أمور أخرى ستبديها الأيّام ؟
وإنّه لكذلك إذ مرّ به خاطر رجا معه أن يكون معلّموه فيما لقّنوه من الصّادقين، وأن يكون فرانسوا قد تفوّق عنه لسبب خاصّ به لا يجاوزه إلى سواه من الفرنسيّين والمتفرنسين.
مشت الأيّام واللّيالي عليهما وفرانسوا كذلك يتسامى في الرّتب، رتبة رتبة، والرّشيد قاعدٌ مكانه لا يعلوه ولو قيد أظفور[31] حتّى ارتقى فرانسوا إلى وضيفة[32] سامية : وضيفة كولونيل جنرال قائد عامّ ؛ فأصبح صاحب الأمر والنّهي في الجيش الذي يضمّ الرّشيد بين جناحيه وهو ما زال مطلق جنديّ".[33]
تحليل نصّ هذه المحاولة القصصيّة
لقد شقّ على الرّشيد، بعد أن رأى من أمره ما رأى، أن يظلّ هو مجرّد جنديّ بسيط من حيث ارتقى صاحبه، وصديقه القديم، الحميم: فرانسوا، إلى رتبة جنرال، قائد عامّ في الجيش. وقد تأثر تأثراً عميقاً لهذا الظّلم، ولهذا الميز العنصريّ الذي تعرّض له ممّا «جعل الوهن يتمشّى في عظام الرّشيد، والهزال يمتصّ من دمه، ويأكل من لحمه» ؛[34] فهمّ بأن يعلن «ثورة يعبّر بها عن سخطه وغضبه، ولكنّه لم يستطع إلى ذلك سبيلاً»[35]؛ فربما قيل له: "إنّما أنت مشوّش، وعدوّ الحكومة ! فلم يجد بدّاً من كظْم ما يجده. فلم يزل يُضنيه الكظم ويعنّيه، فلم يبقَ إلاّ خيالاً ماثلاً. ثمّ في يوم من الأيّام أصبح جثة هامدة لا حراك بها".[36] وذلك «بعد أن هاله ما رآه من تفوّق صاحبه عليه ؛ وبان له بأنّ الجزائريّ المسلم لا يساوي جناح بعوضة، ولو فعل ما فعل من الأعمال الجليلة ؛ وعرف أنّ كلّ ما كان يقرؤه من أنّ فرنسا دولة المساواة ألفاظ ليست لها مسمّيات في الخارج».[37]
إنّ الذي يعنينا، هنا والآن، ليس البناءَ الفنّيَّ للشّخصيّتين المركزيّتين، وهما الرّشيد وفرانسوا، ولا رشاقةَ اللّغة السّرديّة، ولا روعة التّصوير في هذه المحاولة القصصيّة المبكّرة ؛ ولكنْ جُرأةَ الطّرح السّياسيّ لموضوع حسّاس كان الفرنسيّون لا يبرحون يتبجّحون بالاستئثار به وحدَهم من دون العالمين؛ وهو موضوع «المساواة بين النّاس» ؛ فجاء محمّد سعيد الزّاهريّ، انطلاقاً من واقع الأمر، المرّ، في الجزائر، فسَخِر من الفرنسيّين سخريّة لاذعة، وحاول أن يصوّر نِفاقهم، ويفضح تحيّزهم؛ في التّعامل مع النّاس بمكيالين اثنين لحالة واحدة ؛ وذلك من خلال تقديم هاتين الشّخصيّتين على أنّهما نموذجان لِمَا يجري في واقع الأمر بالجزائر: شخصيّة فرنسيّة، إسبانيّة الأصل، تستمتع بكلّ الحقوق مع أداء الواجبات، وشخصيّة جزائريّة مسلمة محرومة من كلّ الحقوق مع أدائها الواجب على أكمل نحوٍ.
ويبدو، كما كنّا لاحظنا ذلك من قبل، أنّ الفرنسيّين في الجزائر انزعجوا أيَّما انزعاجٍ من مضمون هذه المحاولة القصصيّة (التي لم يشكّ أحدٌ من المثقّفين الجزائريّين على ذلك العهد في أنّها قصّة يتوافر نصّها على كلّ المواصفات الفنّيّة، لأنّ الذي كان يعنيهم هو ابتكار مضمونها السّياسيّ الجريء من وجهة، وضعف المستوى النّقديّ في الجزائر يومئذ من وجهة أخراة) وأثرها العميق في المتلقّين ؛ فقد أمست حديثَ النّاس في الجزائر، ولا سيّما بين المثقّفين يومئذ إلى درجة أنّنا ألفينا مفكّراً كابن باديس يرصد جائزة ماليّة لأيّ شاعر جزائريّ يتفوّق في رثاء شخصيّة رشيد الذي قضى نحبه كمَداً بعد أن لم يستطع أن يُعلن ثورة، فيكوّن مقاومة وطنيّة تناضل من أجل تحقيق المساواة بين الجزائريّين والفرنسيّين، في مجتمع كان يبدو قائماً على بركان مدفون تحت الأرض يوشك أن ينفجر فيرمي بالحُمم في أيّ لحظة من الدّهر. ذلك بأنّ الجزائريّ إذا استوى مع الفرنسيّ في الحقوق والواجبات؛ فقد كان يعني ذلك أنّه يُصبح حرّاً منفصلاً عن فرنسا حتماً… وقل إنّ تلك المقاومة التي فكّر فيها رشيد، الشّخصيّة المركزيّة لقصّة الزاهريّ، كانت ردّ فعل يائس من أنّ الفرنسيّين لا يستطيعون أن يعدلوا في الجزائر ويُسَاوُوا بين الجزائريّين والفرنسيّن ولو حرِصوا ؛ فليس اللّوم عليهم لأنّهم لم يعدلوا ويساووا ؛ ولكنّ اللّوم عليهم لأنّهم غالطوا ونافقوا في أمر لا يستطيعون تحقيقه…
فكان هذا النّص السّرديّ، إذن، مشروعَ مقاومة مبكّر من أجل الاستقلال عن فرنسا ؛ غير أنّ ذلك المشروع، الأدبيّ على كلّ حال، ظلّ مكبوتاً في ضمير الشّخصيّة القصصيّة «رشيد» فلم يتحقّق في واقع الأمر، يومئذ، لانعدام العوامل الموضوعيّة التي كانت تُفضي به إلى النّجاح.
ويبدو أنّ الزّاهريّ لم يبلور بناء تجربته القصصيّة الأولى في تاريخ الأدب الجزائريّ بلورةً دقيقة، وتبدو هذه المحاوَلة وكأنّها مرتجلة ؛ بحيث نلاحظ شيئاً من التّناقض والخلْط في عرْض المضمون ؛ فمن وجهةٍ يذكر الكاتب أنّ الفَتَيَيْنِ، الرّشيد وفرانسوا، كانا قد «سارا في طريق القراءة يتجاوزانِها غلوة غلوة، حتّى تخرّجا في الحربيّة برتبة واحدة»؛ ولا يعني هذا إلاّ شيئاً واحداً واضحاً بحكم النّصّ، وهو أنّ الشّخصيّتين الاِثنتين كانتا دخلتا مدرسة عسكريّةً فتخرّجتا فيها برتبة عسكريّة متساوية ؛ وإلاّ فما بالُ الكاتب يقول، ولْنكرّرْ ذلك ونحن في معرض الجدال : «حتّى تخرّجا في الحربيّة برتبة واحدة» ؛ ومن وجهة أخرى يذكر الكاتب، من بعد ذلك، أنّ الفتيَين أجبِرا على الانخراط في الجنديّة، وذلك حين يقول : «أجبر الرّشيدُ، وهذه هي عقيدته، على أن يتجنّد كما أجبر كذلك أخوه فرانسوا ؛ فكانا برتبة واحدة أوّل مرّة في الجنديّة يسكنان ثكنة واحدة». فلو كان الفَتَيان تخرّجا في المدرسة الحربيّة، حقّا، كما ذكر الكاتب أوّلَ أمرٍ، لَمَا اضْطُرّا إلى أن ينخرطا في الجيش الفرنسيّ وهما على ذلك مُجْبَرَانِ ؛ ولكانا دخلاه برتبة ضابطين، أو برتبة ضابطيْ صفّ على الأقلّ، شأنَ جميع الطّلاّب الذين يتخرّجون في المدارس الحربيّة، قبل الاِلتحاق، عمليّاً، بالجيش. وإنّا لا ندري ما الذي أوقع الزّاهريَّ في هذا التّناقض الذي كان في غنىً عن أن يقعَ فيه، ممّا يجعلنا نفترض أنّه كتب عمله القصصيّ مرّة واحدةً وأعجلتْه الظّروف عن مراجعته قبل الإذن بنشره في جريدة «الجزائر» ؟…
ولكنّ الذي يعنينا في مضمون هذه التّجربة القصصيّة هو فضْحُه أكاذيبَ المستعمِرين على الشّعوب التي كانوا يستعمرونها فيُذِلّونها ويَقهرونها، من حيث لم يكونوا يُضمرون لها، في أغلب الظّنّ، إلاّ العداوة والبغضاء، والازدراءَ والشّحْناء؛ وإلاّ فما بالُ الفتى رشيد الذي ظلّ يدرُس جنباً لجنب مع الفتى الفرنسيّ فكانا كنَدْمَانَيْ جَذيمةَ الأبرش[38] حقبةً من الدّهر، فرّق بينهما نظام التّمييز العنصريّ الذي كان الاِستعمار الفرنسيّ يسلكه في الجزائر ليس إلاّ… ؛ فإذا صديقٌ واحد في وادٍ، وصديق في واد آخر ؟!
وإذا كانت تلك المساواة واقعاً ملموساً في المجتمع الفرنسيّ بين الفرنسيّين والفرنسيّات ؛ فإنّها، بالقياس إلى الشّعوب المستعمَرة، ومنها الشعب الجزائريّ المبتلَى ببليّة الاستعمار المشؤوم، لا تعدو أن تكون خرافة سائرةً من خرافات أمّ عمرو !
وتبدأ هذه المحاولة القصصيّة السّياسيّة متشاكلة مؤتلفة، بحيث لا يختلف الأمر بالقياس إلى الصّبيّين، ثم الفتَيَيْنِ، ثمّ الجنديّين، ثم الجنديّ والضّابط السّامِي؛ فكانا يلعبان معاً، ثمّ يدرسان معاً، ثمّ يتدرّبان معاً في مبتدأ الأمر؛ بالإضافة إلى أنّهما كانا جارَين يقطنان حيّاً واحداً ؛ فلم يكن أحد منهما يعتقد أنّه سيأتي يوم يفرّق الدّهر بينهما على ذلك النّحو البشع الذي تولّد، نتيجة حتميّة، عن وجود الاِستعمار الذي كان قصاراه التّعامل مع الشّعوب المستعمَرة تعاملاً قائماً على الاِضطهاد والميز، وفي أحسن الأحوال على الكذب والنّفاق.
ويبدأ التّباين، أو الاِختلاف في سيرتَيِ الشّخصيّتين، انطلاقاً من الانخراط في الجنديّة الإجباريّة ؛ فهنا وقع التّحوّل الهائل في مسار العلاقة بين الشّخصيّتين الاِثنتين حيث إنّ فرانسوا، الفرنسيّ، بدأ يرقَى ويتعالى، من حيث ظلّ الرّشيد، الجزائريّ، في أحطّ رتبة في الجيش، وهي رتبة الجنديّ البسيط؛ فلم يفكّر فيه أحد من الضّبّاط الفرنسيّين فيرقّيه ولو إلى رتبة متدنّية في سلّم الرّتب العسكريّة. كما أنّه لم تَشفعْ له لا سيرته الحسنة، ولا ثقافته وعلمه، في ذلك فتيلاً؛ فظلّ مجرّد جنديّ بسيط لا يحلم بأيّة رتبة عسكريّة كزملائه الفرنسيّين…
فكّر رشيد في هذا الأمر مليّاً؛ فلم يُلْفِ سبباً لهذا الميْز الْمُمِضّ أيّ ذنب اقترفه، ولا أيّة جريمة ارتكبها، سوى أنّه كان جزائريّاً. وقد حمله ذلك على الاِقتناع بأنّ الجزائريَّ، في الحقيقة، هو غير الفرنسي ّ؛ كما أنّ الفرنسيّ هو غير الجزائريّ ؛ فكلٌّ ميسَّرٌ لِما خُلق له في هذا العالم. فالجزائريّ له انتماء حضاريّ وجغرافيّ غيرُ الاِنتماء الحضاريّ والجغرافيّ للفرنسيّ. وأنّ كلّ ما قرأه الرّشيد أو تعلّمه، أو سمِعه من أفواه الأساتذة والمحاضرين في المدارس الفرنسيّة لم يكن إلاّ باطلاً من الأباطيل، وكذباً في الأكاذيب.
لقد انتهى الرّشيد إلى هذه النّتيجة من تلقاء نفسه، ودون أن يحاور أحداً، أو يحاوره أحدٌ، من زملائه، ممّن كانوا من المبتَلين بخدمة العلَم الفرنسيّ قسْراً وإجباراً، وذلك بعد الصّدمة العنصريّة التي تعرّض لها حين التحق بالجنديّة الفرنسيّة التي فُرِضت عليه كالقدر المقدَّر، والأمر المدبَّر ؛ ففكّر، من تلقاء نفسه أيضاً ودون أن يحاور أحداً، في إعلان ثورة عارمة على الاحتلال الفرنسيّ في الجزائر ؛ غير أنّ أوانَ تلك الثورة لم يكن أنَى ؛ ولذلك خشِيَ الرّشيد أن يقالَ له : إنّك مشوّش، ومشاغب ضدّ الحكومة !
ولقد يعني طْرْحُ مثل هذه الأفكار في هذا العمل السّرديّ أنّ زمن الثورة على الاِستعمار الفرنسيّ في الجزائر لَمّا يكنْ أوانُه أظلّ الجزائريّين ؛ وإلاّ فلمَ اكترث رشيد بأن يقول الاِستعماريّون فيه ما يقولون إن كان مقتنعاً حقّاً بمبدأ المقاومة النّبيل من أجل تحرير الوطن من الاِحتلال الفرنسيّ المشؤوم ؟ أم هل كان بقيَ له من برهان بعد الذي رأى وسمِع وعلِم من سيرة التّعامل معه في الجيش الفرنسي ّ؟ ألم يعامَل على أنّ قيمته أن لا قيمة له ؛ وأنّ وجوده لا يساوي أكثر من رقم في الأرقام ؟ ألم تُهْمَل مكانته العلميّة فلم يلتفت أحد إلى شهاداته التي منحتها إيّاهُ مؤسّسات التّعليم الفرنسيّة نفسُها، بناءً على نصّ المحاولة القصصيّة ؟ ألم يكن ذلك إلاّ مظهراً من مظاهر العنصريّة غير المعلنة في التّعامل مع الجزائريّين في وطنهم، وتحت شمسهم، وهم يسمعون ويُبصرون ؟…
وهنا يقع الرّشيد في همّ لم يكن يعتقد قطّ أنّه سيقع فيه ؛ وهو : ماذا عساه أن يصنع، وقد أفضى به الهمّ الوطنيّ إلى ما أفضى ؟ إنّه لا بدّ من أن يأتيَ شيئاً ما. ولو شيئاً ما لِلفْت الأنظار، وجلْب الاِنتباه. لكنْ، أيرقَى به ذلك إلى مستوى الثورة على هذا الاستعمار العاتي الجاثم على الجزائر وحدَه ؟ وهل ذلك ممّا كان ممكناً في الزّمان والمكان ؟ إنّه بعد التّفكير اقتنع بأنّه لا يستطيع أن يأتيَ ذلك وحده. وإذن، أيصبر على الضّيم والظّلم والميز ويستريح؟ لكنْ أيّ صبر؟… وإذن… لقد أمست كلّ الأبواب موصَدَةً في وجهه… ولا سبيل إلى فعل أيّ شيء…
وأمام انْسداد جميع الأبواب، قرّر الفتى أن يستسلم لقدَره ؛ ولكنّ الوهن جعل يدبّ «في عظام الرّشيد، والهزال يمتصّ من دمه، ويأكل من لحمه (…) فلم يزل يُضْنيه الكظم ويُعَنّيه، فلم يبقَ إلاّ خيالاً ماثلاً. ثمّ في يوم من الأيّام أصبح جثةً هامدةً لا حراك بها».
لقد قرّر الفتى أن يستشهد على طريقته الخاصّة، من أجل الوطن، بعد أن ضعفت قوّته، وقلّتْ حيلتُه… لقد أزمع على أن يستشهد بالحزن على مصير الوطن، وما كابد من ظلم الاِستعمار الفرنسيّ الغاصب. فكان له ذلك؛ ولم يكن له غير ذلك. لقد بدا لرشيد أنّ «الجزائريّ المسلم لا يساوي جناح بعوضة ولو فعل ما فعل من الأعمال الجليلة ؛ وعرف أنّ كلّ ما كان يقرؤه من أنّ فرنسا دولة المساواة ألفاظ ليست لها مسمّيات في الخارج».[39]
1. بنية اللّغة السّرديّة :
يصطنع هذا النّصّ لغة سرديّة فصحى ؛ لكنّها بسيطة تليق بأدنى المستويات للمتلقّين في عامّتها ؛ وربما اصطنع بعض الألفاظ المشرقيّة كقوله : «في أسبوع واحد من عائلتين تسكنان بحارة واحدة» ؛ فإطلاق لفظ «الحارة» على الحيّ ليس من اللّغة الجزائريّة في شيء. ويبدو أنّ الكاتب وقع هنا في تناقضٍ حيث من وجهة نجده يفضح الميز بين الجزائريّين والفرنسيّين في كلّ شيء ؛ ومن وجهة أخراة يجعل العائلة الفرنسيّة والعائلة الجزائريّة تقطنان بحيّ واحد دون تمييز ؛ مع أنّ الواقع التّاريخيّ يثبت أنّ عامّة الجزائريّين كانوا يسكنون أحياء غير الأحياء التي كان الفرنسيّون يقطنونها. ولو كانت المساواة موفورة على مستوى السّكن لكانت وَفُرت على مستوى نيل الرّتب العسكريّة في الجيش الفرنسيّ.
على حين أنّنا ألفيناه الكاتب يصطنع كلمات غير شائعة في الاِستعمال العربيّ الفصيح مثل تكراره للفظ «غلوة» الذي يبدو أنّه كان يقصد به طوراً المرحلة والفترة، وطوراً آخر معانيَ أخرى. ويبدو أنّ النّاصّ لم يتابع نصّه فلم يصحّحه قبل أن ينشر؛ من أجل ذلك نجد فيه، على القِصَر، هنات إملائيّة ونحويّة أومأنا إلى بعضها لدى إثبات نصّ هذه المحاولة.
وقد يلاحظ القارئ كيف كانت العربيّة تشمُس أمام قلم الزّاهريّ (ويبدو أنّ العربيّة بوجه عامّ على ذلك العهد لم تكن توصّلت إلى إيجاد مسمَّيات ومعانٍ حضاريّة جديدة كما استقرّ الاستعمال على عهدنا هذا) ؛ فكان ربما اصطنع عبارات لمعانٍ لا نرتضيها نحن اليوم مثل قوله : « متى اتّحد العاملان على صلاح الدّولة في عملهما ورتبتهما إلاّ وكان جزاؤهما متّحداً كذلك». وإنّا لا ندري ما منع الزّاهري أن يصطنع «متساوياً» عوض «متّحداً»، وقد كان في معرض الحديث عن المساواة ؟… كما نجده يُطلق على مدرسة الحضانة «دار تربية الصّبية»، ويُطلق على المدرسة التي التحق بها فرانسوا «مكتباً». في حين نجده يردّد لفظ أخٍ فيُطلقه على فرانسوا بالقياس إلى رشيد، ولعلّه كان يريد به إلى الزّميل : «فلم يستطع أليفُه الرّشيد أن يفارق أخاه». وكرّر ذلك في النّصّ تارة أخرى.
ولم يفت القاصَّ أن يتناصّ مع نصوص عربيّة قديمة (ولعلّ ذلك أن يعود إلى كثرة محفوظه من النّصوص، وإلمامه بها) : بعضها دينيّ (القرآن الكريم)، وبعضها شعريّ، وبعضها الآخر أمثال عربيّة قديمة. فعلى مستوى التّناصّ مع القرآن العظيم نلفي الكاتب يستند في بعض تعبيراته إلى النّصّ القرآنيّ فيقول : «فرنسا تخفظ[40] جناح الذلّ من الرّحمة لكلّ من جاهد في سبيلها، ولو سالت نفسُه على جنبات شرفها الرّفيع» ؛ فهنا تناصّ من وجهة مع قوله تعالى : «واخفِضْ لهما جناح الذلّ من الرّحمة…»[41]. وأصل المعنى في القرآن حثُّ الأبناء على البرّ بالوالدين والتّذلّل لهما من الرّفق بهما، والإشفاق عليهما. على حين أنّ النّصّ السّرديّ اصطنعه للحاكِمة الاِستعماريّة في الجزائر : فرنسا التي كانت أعقّ للجزائريّين من أيّ عاقّ، وأقسى عليهم من أيّ قاسٍ على الأرض.
ونلاحظ أنّ القاصّ اصطنع لفظ الجهاد للدّفاع عن فرنسا ؛ على حين أنّ هذا المصطلح اصطنعه القرآن الكريم لنشر الإسلام، أو للدّفاع عنه، ثم وقع شيء من التّجاوز في استعماله فأطلق على كلّ من يقاتل في سبيل تحرير وطنه من الاِحتلال الأجنبيّ. وفي كلّ الأطوار لا يجوز امتهان هذا اللّفظ العظيم باستعماله في الدّفاع عن الدّولة الفرنسيّة التي كانت تحتلّ الجزائر وتضطهد الجزائريّين.
ومن التّناصّات التي لاحظناها في هذا النّصّ القصصيّ مع القرآن الكريم قوله في معرض الحديث عن فرنسا : «(…) بحيث تحكم بين النّاس بالقسط، وتعدل بينهم في الحكومة» ؛ فقد وقع التّناصّ هنا مع قوله تعالى : «وإن حكمتَ فاحكُم بينهم بالقِسْطِ؛ إنّ اللّهَ يُحبّ المقسطين».[42]
ومن وجهة أخرى يوجد تناصّ مع بيت أبي الطّيّب المتنبّي الشّهير ؛ وذلك من خلال قوله : « ولو سالتْ نفسه على جنبات/ شرفها الرّفيع». وكان يمكن النّصّ أن يستغنيَ عن الاستشهاد بالبيت ؛ لأنّ التّمهيد للفكرة بقوله : «شرفها الرّفيع« يحيل القارئ المستنير حتماً على مصدرها ؛ لكنّ النّصّ بعد التّناصّ ذكر النّص؛ فجمع بينهما ؛ وذلك حين قال: «ولو سالت نفسه على جنبات شرفها الرّفيع :
لا يسلم الشّرف الرّفيع من الأذى حتّى يُراقَ على جوانبه الدّمُ
ونسجّل تناصّاً آخر مع طرفة بن العبد حين يعبّر النّصّ السّرديّ : «وسيتفوّق في أمور أخرى ستبديها الأيّام» ؛ فالعبارة الأخيرة تتناصّ مع بيت طرفة الشّهير:
ستُبدي لك الأيّام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار مَن لم تزوِّدِ
كما عمد النّصّ إلى اصطناع مثل عربيّ قديم وهو قوله : «فكانا في أثناء تلك المدّة نديميْ جذيمة الأبرش». وقد سبق لنا الحديث عن هذا المثل الذي كانت العرب تضربه في دوام العشرة وطيبها بين اثنين.
2. بناء الحدث :
ولعلّ الذي يمكن أن يُلاحظ أنّ الحدث يبدأ وكأنّه لا حدث، في هذه المحاولة القصصيّة ؛ فكلّ التّفاصيل التي ذكِرت حول صداقة الفتيَين، ودراساتهما، وارتباط بعضِهما ببعض ؛ كانت تبدو أول أمرٍ تفصيلاً زائدا ؛ غير أنّ الزّاهري أفلح في توظيف تلك المعلومات التي كانت تبدو خالية من أيّة أهمّيّة توظيفاً فنّيّاً في القسم الأخير من عمله السّرديّ :
1. لم تُجْدِ الرّشيدَ صداقةُ فرانسوا حين أمسى ضابطاً سامياً في الجيش الفرنسيّ ولا صُحبتُه طوال عهدِ الصِّبا؛ فالعادة جرت بين النّاس أنّ الصّديق يفكّر في صديقه في مثل هذه الأطوار. لكنّ «الصّديق» فرانسوا الفرنسيّ، حين جدّ الجِدّ ودخل في الحياة العمليّة، قرّر أن يقطع كلّ علاقة مع الرّشيد الجزائريّ المسلم ؛ وكأنّه هو نفسه كان مجرّد ممثل يمثل معه دور الصّداقة المزيّفة طوال تلك الفَترة من العمر ! وإذا كانت القصّة لم تذكر ذلك نصّاً، فإنّها ذكرته سكوتاً ؛ أي أنّ النّصّ لا يومئ، لا من قريب ولا من بعيد، إلى إمكان اتّصال فرانسوا بالرّشيد، وذلك يثبت ما زعمناه ؛ فقد أرادت القصّة أن تذرَه ليُقرَأ ما بين السّطور.
2. يستكشف الرّشيد فجأة أنّ مبادئ الحرّية والمساواة والعدل وما إلى هذه الشّعارات ممّا كان الأساتذة يَحْشُون به ذهنه أثناء متابعته الدّراسة في المدارس الفرنسيّة لم يكن إلاّ مَيناً وباطلاً. فتلك المبادئ ربما تعني الفرنسيّين فيما بينهم، أمّا مع غيرهم فلا !
3. يستكشف الرّشيد أنّ تعلُّمَه في المدارس الفرنسيّة لم تكن له أيّة قيمة تذكر، بعد أن لم ينفعه ذلك العلم في أوّل احتكاك له بالحياة العمليّة اليوميّة وهو الانخراط الإجباريّ في الجيش الفرنسيّ. فقد ظلّ جنديّاً بسيطاً كأيّ جنديّ من الجاهلين. فما قيمة هدْرِ عهدٍ من العمر يقترب من عشرين عاماً، في مجتمع تنعدم فيه المساواة، وتفقد الحرّيّة أدنى محتواها ؟
وأمّا من الوجهة التّقنيّة فإنّ النّصّ اصطنع طريقة السّرد التّقليديّة باستعمال ضمير الغائب المرد فابتدأ النّص وانتهى على بعض هذا النحو : «ولد فرانسوا والرّشيد في أسبوع واحد…».
ولم يعمد القاصّ إلى اصطناع ضمير المتكلّم، ومن ثمّ إلى المناجاة[43] بما هي تقنيّةً سرديّةً إلاّ لدى نهاية القصّة ؛ وذلك حين استكشف الخديعة الاِستعماريّة : «وجعل يحدث نفسه بهذا الحديث: أهكذا كنّا نقرؤ[44] ؟ وهل هذا ما كنّا نتلقّاه عن الأساتذة المعلّمين ؟ ألم يقل لنا المعلّم الفلانيّ، والمعلّم الفلانيّ…». فهنا فقط تسترجع الشّخصيّة وعيَها الحضاريّ والوطنيّ من خلال محاورة النّفس، ومراجعة الذات، وتعرية الآخر. فأخيراً تتكشّف القيم المزيّفة لرشيد فيكفر بها ؛ ولكن بعد فوات الأوان ؛ فقد كان انتهى، بالقياس إليه، كلّ شيء...
3. بناء الشّخصيّات :
إنّ من المؤسف حقّاً أنّ شخصيّتي القصّة المركزيّتين لا تتصارعان ولا تتنافسان؛ ولا يعرف فرانسوا الألمَ الذي كان يُمِضّ صديقَه القديم, الرّشيد ؛ فشخصيّة فرانسوا شخصيّة سلبيّة لا تؤثـّر ولا تتأثـّر ؛ على حين أن شخصيّة الرّشيد إيجابيّة من حيث إنّها تتأثر وتتألّم للواقع الموجِع الذي تتعرّض له ؛ لكنّها تخيب في تغييره على نحو يجعلها تفشل في نقْل بركان الغضب الدّفين الذي كان كامناً في أعماق نفسها إلى الواقع الخارجيّ، فتكوّن فرقة تمثـّل بداية المقاومة الوطنيّة ضدّ انعدام المساواة، أي ضدّ الميز والظّلم والاِضطهاد ؛ أي ضدّ الاِحتلال الأجنبيّ. وكلّ ما في الأمر أنّها أحسّت بالألم، وأدركت خرافة المساواة التي كان الفرنسيّون لا يزالون يرفعون عقائرهم بها في كلّ نادٍ، ويروّجون الكلام عنها في كلّ وادٍ ؛ فإذا هي تملأ أشعارهم وآدابهم، كما كانت تملأ نصوصهم القانونيّة والسّياسيّة.
وكذلك تبدو الشّخصيّات غائبة عن مسرح الأحداث ؛ فهي لم تظهر ظهوراً مباشراً ؛ لأنّ رسْمها كان من الخارج، لا من الدّاخل. أرأيت أنّه لا يوجد بينها أيّ حوار يلمسه المتلقّي ؛ وإنّما كلّ ما في الأمر أن الكاتب هو الذي ينوب عن هذه الشّخصيّات في التّعبير عن أهوائها، ومواقفها ؛ فشخصيّة فرانسوا كأنّها سافرتْ إلى عالَم بعيد ولم تعد ؛ فقد غبرت في الجنديّة الفرنسيّة ولم نعد نرى لها أثراً إلاّ ما كان من الأخبار التي تتحدّث عن أنّها رقيت من مجرّد جنديّ بسيط، إلى أعلى الدّرجات في السّلّم العسكريّ.
على حين أنّ رشيداً لم نستطع تمثـّل ملامحه التي ظلّت شاحبة لا تكاد تبين. فعلى الرّغم من المبادئ الوطنيّة والإنسانيّة العظيمة التي كانت تلتعج بين جوانحه، إلاّ أنّه ظلّ هو أيضاً غائباً، أو شبه غائب. وإذا كان الكاتب أفلح في تصويره الدّاخليّ بواسطة بعض المناجاة (المونولوج الدّاخليّ)[45]، فإنّ ذلك لم يكن كافياً لكي تنضُر شخصيّته، وتبدو أمام المتلقّي واضحة المعالم، مشرقة الملامح…
وكان الكاتب في حلّ من أن يُنشئ شخصيّة وطنيّة أخرى كأن تكون جنديّاً جزائريّاً من المنبوذين في الجيش الفرنسيّ… ولو جاء الكاتب ذلك لأثرى الحدث، ولكان سمح لظهور ملامح شخصيّة رشيد بأن يجري حواراً بينه وبين الجنديّ الجزائريّ الآخر، أو الجنود الجزائريّين الآخرين. بل كان يمكن أن تنطلق ثورة من هناك بهروب مجموعة من الجنود الجزائريّين المدرّبين بأسلحتهم والصّعود إلى الجبال لإعلان مقاومة ضدّ الاِحتلال…
إنّ الاقتصار على شخصيّتين اثنتين فقط، والتّعامل معهما خارج مسرح الأحداث أفقر هذا العمل السّرديّ وجعله خالياً من الصّراع ؛ على الرّغم من وجود بوادر هذا الصّراع الذي قامت عليه القصّة في أصلها ؛ إلاّ أنّ القاصّ فاته تحريك هاتين الشّخصيّتين حين دخلتا الحياة العمليّة، وإذكاء هذا الصّراع بإضافة شخصيّات ثانويّة أخرى. وإذا كنّا نحن بصدد الحديث عن قصّة قصيرة لا عن رواية ؛ فإنّ ذلك ما كان ليحظُرَ علينا أن نطالب الكاتب بإضافة بعض الشّخصيّات الأخرى، أو إيجاد وسيلة فنّيّة، على الأقلّ، لإذكاء نار الصّراع بين الشّخصيّتين.
4. بناء الزّمن :
يمتدّ زمن القصّة على مدى خمسة وعشرين عاماً أو أكثر، قليلاً أو كثيراً ؛ وذلك على أساس أنّ فرانسو والرّشيد وُلداَ في يوم واحد، ثمّ دخلا المدرسة في يوم واحد، فيكون ذلك مقدّراً بزهاء ستّة أعوام ؛ ثمّ تخرّجا فيها ؛ فيكون ذلك مقدَّراً ببلوغ سنّ العشرين أو نحوها. ثمّ أدّيا الخدمة الإجباريّة في الجيش الفرنسي ؛ وهي الخدمة التي تؤدَّى في زهاء سنّ العشرين. غير أنّ بلوغ فرانسوا رتبة عميد (جنرال) أربك زمن القصّة وبرهن على أنّ الزّاهري لم يكن يعرف، فيما يبدو، شيئاً كثيراً عن نظام التّرقيات في أيّ جيش نظاميّ ؛ وأنّ من العسير على شابّ أن يرتقي في رتب الجيش الفرنسيّ بتلك السّرعة التي ذُكِرت في القصّة ؛ فالذي يُفهم أنّه وقع إحراق المراحل، وطيّ المسافات فاغتدى فرانسوا في ظرف عامين اثنين، وهي مدّة الخدمة العسكريّة الإجباريّة في الجيش الفرنسيّ على ذلك العهد…
وأيّاً ما يكن الشّأن، فإنّ مدى الزّمن في هذه القصّة في أبعد التّقديرات لا ينبغي له أن يزيد عن خمسة وعشرين عاماً قسّمت على مراحل غير دقيقة ولا واضحة، لعلّ أدقّها سنّ الميلاد، وسنّ دخول المدرسة.
وقد بُني الزّمن في هذا النّصّ السّرديّ بناء رتيباً متسلسلاً، أو «كرونولوجيّاً» فلم يقع التّلاعُب بالزّمن بالتّقديم والتّأخير، والتّأخير والتّقديم. ذلك بأنّ النّص يصطنع ضمير الغائب المفرد الذي يُسْهم في بناء زمن متسلسل رتيب.
5. بناء الحيز:
قد يكون الحيز[46] هنا أسوأ حظّاً من الزمن على الرّغم من أنّ التّعامل مع الحيز في أيّ عمل سرديّ ليس أقلّ أهمّيّة من المكوّنات الأخراة للعمل السّرديّ الكبير. ذلك بأنّ الحيز هنا شاحب بل غائب ؛ إذ لا نكاد نلمح منه إلاّ ثلاثة مؤشّرات له : الحارة التي ولدت بها الشّخصيّتان، والمدرسة التي تعلّمتا فيها، ثمّ الثكنة العسكريّة التي مارسا فيها الخدمة الإجبارية في الجيش الفرنسي. غير أنّنا لا نستطيع مشاهدة هذه الأحياز من خلال القراءة ؛ كما لا نستطيع أن نضع له خارطة تمثل حركة الشّخصيّات عبر هذا الحيز. فلا أبعاد، ولا خطوط، ولا أحجام، تمثل أمام القارئ ؛ بلهَ التّفكيرَ في الشّوارع أو الأشجار أو الطّرقات التي تتحرّك من خلالها هذه الشّخصيّة أو تلك… حتّى كأنّ هذا العمل معزول عن الحيز الطّبيعيّ لشخصيّات أيّ عمل سرديّ توفر فيه الشّروط الفنّيّة المعروفة لدى النّقّاد…
غير أنّنا، وعلى الرّغم من كلّ الملاحظات التي قدّمناها حول النّقص الملحوظ في البناء التّقنيّ لهذه المحاولة السّرديّة المبكّرة، نؤكّد أخيراً ما قلناه أوّلاً، وهو أنّه ليس ينبغي أن ننسى أنّها عمل رائد ؛ وأنّ الجزائر كان يوجد بها كلّ شيء إلاّ ازدهار الثقافة الأدبيّة ؛ وأنّ على المؤرّخ والدّارس أن يتغاضى عن بعض هذه الهَنات التي ذكرنا منها طائفة ؛ لأنّ الغاية من وراء تقديم هذا العمل ليس على أنّه رائعة من روائع الدّهر ؛ ولكن لأنّه عملٌ سرديّ مقاوم للاستعمار الفرنسي.
الهوامش
[1]- نُشر هذا النّصّ في الجريدة المذكورة في الأعلى في الصّفحتين الأولى والثانية.
[2]- هي أوّل جائزة أدبيّة وطنيّة ترصد للشّعراء الجزائريّين على عهد الاِستعمار الفرنسيّ.
[3]- تراجع جريدة الجزائر، ع.2، في 10 أوت 1925. (الصّفحة الأولى).
[4]- يبدو أنّه لم يصدر منها إلاّ عددان، والعدد الثالث مشكوك في صدوره.
[5]- م.س.
[6]- السنوسيّ، محمّد الهادي : شعراء الجزائر في العصر الحاضر، 1. 20.
[7]- ديوان محمّد العيد.- ص. 449.
[8]- م.س.
[9]- السّنوسيّ، محمّد الهادي : م.م.س..- ص.24.
[10]- ينظر محمّد العيد، في شعراء الجزائر في العصر الحاضر، 1. 12.
[11]- شعراء الجزائر في العصر الحاضر، 1.23-24. ظهر الكتاب بالجزائر في عام 1926 بعد أن طُبع بتونس؛ ديوان محمّد العيد محمّد علي خليفة، ص. 449-450، نشر وزارة التّربية الوطنيّة، الجزائر، 1967. ويعلّق الهادي السّنوسي على لفظة «السّعيد» التي وردت آخر كلمة في القصيدة فيقول: «إشارة إلى الشّيخ السّعيد الزّاهري مبتكر الرّواية». ولم يكن الأدباء، إلى ذلك العهد، في العالم العربيّ يميّزون بين القصّة والرّواية. وقد وجدنا طه حسين يكتب مقالة، في الأعوام السّتّين من القرن العشرين، في كتابه: «نقد وإصلاح» عن رواية «زقاق المدقّ» لنجيب محفوظ فيقول: « فهذا العنوان [عنوان رواية نجيب محفوظ ] يوشك أن يحدّد موضوع القصّة وبيئتها، وقد ذكرت القصّة ومن قبل ذلك ذكرت الكتاب لأنّ لهذا السِّفْر قيمتين خطيرتين حقّاً: إحداهما أنّه قصّة متقنة رائقة…» (نقد وإصلاح، ص.117). فإذا كان طه حسين لم يكن يميّز، في الأعوام السّتّين، بين مصطلحي القصّة والرّواية، فما القول في محمّد الهادي السّنوسيّ، وقد كتب ما كتب في الأعوام العشرين، من القرن العشرين؟
[12]- جريدة الجزائر، الجزائر، ع.1 في شهر يوليو 1925 وينظر محمّد ناصر، الصّحف العربيّة الجزائريّة: 1847-1939.- ص.55.
[13]- الزّاهري، الشّهاب : قسنطينة، ج.9، م.9، 1933.
[14]- السّنوسيّ، محمّد الهادي : م.م.س.، 1. 23-24.
[15]- ينظر مرتاض، عبد الملك : فنون النّثر الأدبيّ في الجزائر.- الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعيّة، 1983. (وتأخّر النّشر عن أصل تأليف هذا الكتاب زهاء عشر سنوات).- ص.ص. 163-164.
[16]- كذا بالأصل.
[17]- كذا بالأصل.
[18]- كذا بالأصل، ولعلّ تحريفاً وقع في اللّفظ الذي قد يكون في الأصل: أبواه.
[19]- كذا بالأصل كُتبت اللّفظة بين قوسين.
[20]- كذا بالأصل، والوجه: «خصّصا».
[21]- كذا.
[22]- كذا في الأصل، والوجه : "الوظائف:.
[23]- كذا بالأصل، والوجه : "تخفض" بالضاد، لا بالظّاء.
[24]- هذا البيت لأبي الطّيّب المتنبّي، كما هو معروف.
[25]- كذا في الأصل بالجريدة، والوجه: «الوظائف».
[26]- كذا بالأصل، ولعلّ التّكرار كان سهواً من الطّابع.
[27]- ما بين قوسين من التّفسير والتّدخّل ليس لنا، ولكنّه ورد في أصل النّصّ هكذا.
[28]- كذا بالأصل، والوجه: نقرأ.
[29]- المفروض أن يقال: المعلّم فلان.
[30]- نلاحظ أنّ الزّاهري يقول: تفوّق عنه، وليس بشيء؛ وإنما يقال: تفوّق عليه. وتدلّ مثل هذه الاعوجاجات التّعبيريّة على أنّ العربيّة في الجزائر على ذلك العهد كانت ربما كابدت هَناتٍ من أصحابها.
[31]- كذا بالأصل، ولا جود لها في العربيّة؛ وإنّما هو الظُّفْر، ويجمع على أظفار، وجمع جمعِه أظافير.
[32]- كذا بالأصل، ويريد هنا بالوظيفة إلى الرّتبة العسكريّة.
[33]- الزّاهري : م.م.س. ونلاحظ أنّه وقع لدى الكاتب اضطراب بادٍ في تحديد رتبة الضّابط فجمع بين رتبة العقيد، والعميد، وهذا لا يكون…
[34]- م.س..- ص.2.
[35]- مرتاض، عبد الملك : فنون النثر الأدبيّ في الجزائر.- ص. 164.
[36]- الزاهري : م.م.س.
[37]- م.س.
[38]- المعروف في كتب الأخبار أنّ جذيمة بن مالك الأبرش (وسُمّيَ الأبرش، لأنّه كان به برَصٌ فهابت العرب أن تقول أبرص فلقّبته الأبرش…) ملك الحيرة حكّم مالكاً وعقيلاً ابني فارح بن كعب من بني القين بن جسر بن قضاعة، حين ردّا عليه ابن أخته عمرو بن عديّ ، فاختارا منادمتَه فقبل بذلك، فظلاّ نديميه زمناً، ثمّ غدر بهما فقتلهما. وقد أورد هذا المثل العربيّ القديم متمّم بن نويرة في رثاء أخيه مالك، فقال:
وكنّا كندْمانَيْ جَذيمةَ حِقبةً من الدّهر حتّى قيل: لن يتصدَّعا!
انظر لسان العرب، برش، وجذم؛ والمفضّل الضّبّي، المفضليات، ص. 267، تحقيق الشّيخين: أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، 1964، ط.3.
[39]- الزاهري، محمّد سعيد .- م.م.س..- ص.2.
[40]- كذا بالأصل، وهو خطأ مطبعيّ. والوجه: «تخفض» بالضاد، لا بالظّاء.
[41]- سورة الإسراء، من الآية 24.
[42]- سورة المائدة، من الآية 42. وبالقسط : بالعدل.
[43]- المُناجاة، أو «المونولوج الدّاخليّ» (Monologue intérieur)، خطاب مضمَّنٌ داخل خطاب آخر يتّسم حتماً بالطبيعة السّرديّة: الخطاب الأوّل جوّانيّ، والآخَر برّانيّ؛ ولكنّهما يندمجان معاً اِندماجاً تامّاً فيذوب الأوّل في الآخِر، والآخِر في الأوّل لإضافة بُعْد حدثيّ، أو سرديّ، أو نفسيّ، إلى الخطاب الرّوائيّ...
وبحكم صدور المناجاة عن النّفس الباطنة، فإنّها تُصاغ بضمير المتكلّم. أمّا إذا كان النّصّ الرّوائيّ مصوغاً بضمير المتكلّم أصلاً؛ فإنّه ، ومن أجل التّمييز بين النّصّيْن الدّاخليّ والخارجيّ يجبُ وضْعُ النّصّ المناجاتيّ بين مزدوجتين: « «؛ وذلك لتِبيان هذا الإدماج النّصّيّ، أو أيّ علامة أخرى مميِّزة. ولعلّ من الأمثل أن تُتْرَكَ، هنا، حريّة المبادرَة للرّوائيّ نفسه الذي هو وحده الجديرُ باختيار هذه العلامة الفاصلة بين المُناجاة والخطاب الآخر في نصّه.
وتُعدّ المناجاة تقنيّة متطوّرة من تقنيات السّرد الرّوائيّ في القرن العشرين. ومن النّاس من يعود بهذه التقنيّة السرديّة إلى الكاتب الفرنسيّ إدوار دي جردان (Edouard Dujardin, 1881-1949) في روايته: «الرّنْدات قد قُطِعتْ» (Les lauriers sont coupés) التي ظهرت عام 1887 حيث اصطنع لأوّل مرّة، فيما يزعم مؤرّخو الأدب الفرنسيّ، هذه التّقنيّة التي تنتمي، من وجهة أخرى، إلى حقل علم النّفس لارتباطها بتيّار الوعي. وقد أُولِع بها، فيما بعد، جيمس جويس إلى حدّ الهوس.
ومصطلح المُناجاة من اقتراحنا؛ وقد جئنا بها من قولهم ناجَى يناجِي مناجاة؛ وهو معنىً يدلّ على الحديث إلى النّفس، والمُسارّة بين اِثنين، ولكن في صـــــوت مهموس كمناجاة العبد لربّه وهو يصلّي؛ فإنّ صوته يكون بين الهمس الخافت، والجهر الظاهر. ونحن ندعو، بهذه المناسبة، إلى استعمال مصطلح المناجاة عوضاً عن المصطلح الأجنبيّ الهجين، وهو «المونولوج»؛ إذ لا مبرّر لاستعماله مع وجود المصطلح العربيّ القُحّ.
[44]- كذا.
[45]- وربما وجدنا من يصف مصطلح «المناجاة» بوصف فيقول: «المناجاة الذّاتيّة»؛ وهو وصف لا معنى له من الوجهة الدّلاليّة؛ إذ هذه الذّاتيّة حين توصف بها المناجاة لا تضيف شيئاً جديداً للدّلالة القائمة فيه؛ إذ لا يحمل لفظ «المناجاه»، في أصل وضْعه، إلاّ معنى الذّاتيّة، والمُسارّة. من أجل كلّ ذلك عدلنا في كتاباتنا الأخيرة عن استعمال هذه الصّفة لعدم لزومها لهذا المصطلح النّقديّ في دلالة اللّغة العربيّة، كما بيّنّا ذلك. واستعمال الصفة ترجمة حرفيّة للمصطلح الغربيّ «المناجاة الدّاخليّة» (أو «المونولوج الدّاخلي»، كما هو مستعمل في المصطلح العربيّ الجاري).
[46]- لعلّ من الأمثل أن نكرّر ما قد يكون قيل بصدد مصطلح «الحيز» (Espace ) الذي يُعرَف أيضا، في الكتابات النّقديّة العربيّة تحت مصطلح «الفضاء». وكم ردّدنا، في كتاباتنا الأخيرة أنّ إطلاق مصطلح «الفضاء» لا يحتمل كلّ الأحمال الدّلاليّة، من وجهة نظرنا نحن على الأقلّ، المتعلّقة بأصناف الأطوار التي تعتور خصائص الدّلالة المكانيّة من حيث هي؛ يضاف إلى ذلك أنّ تعاملنا مع الحيز، بمفهومنا نحن لهذا المصطلح (حيث لا نعتقد أنّ أحداً من المتعاملين مع النّصوص الأدبيّة، من المعاصرين العرب، يمضي على نحونا في تصوّر هذا الإجراء السِّيميائيّ؛ إذ معظمهم يبادر إلى التّعامل مع الحيز [ أو الفضاء] على أنّه مكان جغرافيّ قبل كلّ شيء)، لا يرمي، بالضّرورة، إلى تسليط الضّياء على المكان من حيث هو مفهوم تقليديّ؛ ولكنّه يسعى إلى منحه شحنةً جديدة من الدّلالة السّيميائيّة بتوْسِعَة مفهومه إلى كلّ أضرُب الأحياز: كالخطوط، والأبعاد، والأشكال، والأحجام، والأوزان، والأثقال؛ وكلّ ما يتّخذ شكلاً ما، أو هيئة ما، في حيز ما؛ كالمطر، والسّحاب، والماء، وهلمّ جرّا...