إنسانيات عدد 38 | 2007 | المحلّي في تحوّل | ص 07-11 | النص الكامل
تعرف المجتمعات البشرية الراهنة على اختلافاتها و تنوعاتها الثقافية، تحولات جسيمة تمس عدة مستويات و ترتبط بعدة أبعاد. وتنتج من صلب هذه التحولات التي تلامس الجوانب المجالية والاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الرمزية و الدينية والتخييلية أزمات جماعية أو فردية تحتد أو تخف حسب درجات ومستويات المشكلات المطروحة داخلها.
يتناول هذا العدد الجديد من مجلة إنسانيات الذي يأتي ضمن سلسلة من الأعداد التي تتخذ تسمية "موضوعات متنوعة"(أنظر عدد 28 وعدد 37) مقاربات يمكن تصنيفها ضمن عدة مسائل.
في المجموعة الأولى من المسائل المرتبطة بالتحولات الاقتصادية و المجالية نجد ثلاث دراسات، تتطرق الأولى منها وهي لصاحبها علي ربحي، إلى محاولة إيجاد العلاقة بين الديناميكية المجالية المحيطة بمدينة القيروان العتيقة وبين الحكم المحلي. و يتمثل ذلك في محاولة تحديد كيفية إسهام المبنى غير النظامي في الضبط الاجتماعي و مدى تعاونه في تدعيم عمليات الحكم الرشيد للمجال الحضري، و بتعرضه لهذه المسألة المتعلقة بإنتاج المجال، تساءل المؤلف عن الأحداث والخلفيات السياسية التي دفعت الدولة إلى قبول الانعكاسات المترتبة عن التمدن العفوي الذي يحيط بالمجال الحضري، كما يعرج على العوامل التاريخية و السوسيولوجية و الاستراتيجيات العائلية و القبلية التي دفعت إلى هذا النوع من الامتلاك العقاري، و بالتالي إلى الكيفيات التي تعتمدها السلطة في إقامة وسائل المراقبة و الشرعنة من خلال الإدماج الإداري و السياسي وبواسطة برامج التهيئة و التنمية التي تسهم فيها المنظمات الدولية.
وفي السياق نفسه يتناول طيب عثمان، في دراسة ثانية، ومن وجهة نظر علم الاجتماع الريفي مسار التغيرات المعيشية التي طرأت على الريف حيث تم الجمع بين تربية الماشية و الزراعة المسقية. وقد برزت هذه الظاهرة في العشرية الأخيرة و خصوصا بإحدى مناطق الشط الشرقي بالغرب الجزائري. و يرى المؤلف، من خلال بحثه الميداني، أن ذلك كان ممكنا بفضل تضافر عدة عوامل طبيعية (جفاف و نقص المراعي) أو بشرية (المضاربة وتناقص في نسبة المواليد الذي عرفته ذرية البدو الرحل)، وهي عوامل أدت بهؤلاء الذين استقروا بالمنطقة إلى اعتماد طرق اقتصادية تتكامل فيها الزراعة بتربية الماشية ذلكم باعتماد تقنيات حديثة تجعل من عملهم و حياتهم تتميز بالسهولة واليسر والاستقرار و دفعهم إلى الاستثمار في مجالي الفلاحة و تربية المواشي بفضل ما تم الحصول عليه من أموال ضمن النشاطين معا.
دائما و في الاتجاه نفسه قام محمد مادوي، في الدراسة الثالثة، بتسليط الضوء على التحولات الاقتصادية من خلال ممارسة فاعلين اجتماعيين يتمثلان في الأب (البطريرك) و الابن وفي منطقة القبائل بالجزائر تحديدا حيث تتصارع البنى الاجتماعية التقليدية و القيم الأخلاقية المبنية على التضامن والشرف مع طرق التسيير الحديثة في المؤسسات الصغرى والمتوسطة،إذ يسعى المستثمر، أي الأب، في المجال الاقتصادي إلى خدمة رفاهية العائلة و العشيرة ومن ثم الحفاظ على توازن و انسجام الجماعة، بينما يسعى الإبن إلى تبني دور التغيير بإعتماد طرق تسيير تأخذ بعين الاعتبار الفعالية الاقتصادية و المردودية على حساب القيم المتوارثة. و قد نتج عن هذين المنهجين نزاعا خفيا حول أسبقية النزعة الفردية حيث القيمة الاقتصادية هي المحدد لمستقبل المؤسسة و النزعة الجماعاتية التي تأخذ بعين الاعتبار الجوانب الرمزية و الاجتماعية مثل التضامن العشائري و الشرف، مما ينبئ بانبثاق طرق تسيير جديدة في الاقتصاد تحافظ على التنشئة الاجتماعية داخل العائلة.
أما على مستوى مجموعة المسائل المرتبطة بالتراث الرمزي، أي الديني و التخييلي، فقد احتوى هذا العدد على أربع دراسات.
تتعرض الدراسة الأولى إلى كيفية تنظيم و اشتغال المساجد التي تم بناؤها في "أوغادوغو" من قبل السكان الذين اعتنقوا الإسلام. والملاحظ أن هذه المدينة تحتوي على عدد كبير من المساجد، حيث قام أداما ودراوغو، صاحب البحث، بزيارة هذه المؤسسات الدينية وتحدث مع المشرفين على تسييرها من أئمة و مؤذنين وغيرهم ممن اعتادوا ارتيادها من مصلين. و بعد تعرضه إلى التسميات المختلفة للمسجد بإفريقيا، تناول أشكال تلك المساجد وطبيعة عمرانها لينتقل إلى شروط بنائها، إذ يقتضي ذلك موافقة الشيوخ التقليديين والحصول على قطعة أرض و على رخصة إدارية، كما يصف مكونات هذا الفضاء التعبدي و وظيفة كل جزء من أجزائه، من حيث النشاطات التي تمس جوانب الحياة اليومية. وإلى جانب ذلك، يذكر الباحث مختلف الأطراف المشاركة في هذا الفعل التأسيسي للحياة الدينية في أفريقيا الغربية، من جمعيات و مؤسسات خيرية.
و ضمن إشكالية علاقة المجتمع بالسياسة و الدين و ما ينتج عنهما من تصدع اجتماعي، تتعرض الدراسة الثانية لعبد القادر عبد العالي، إلى هذه المسألة، لكن داخل المجتمع الإسرائيلي و من وجهة نظر تلامس التركيبة الثقافية المتمازجة لهذا البلد، حيث يتخذ الصراع أبعادا قومية، كما يرتبط بدرجة التدين وما ينتج عن ذلك من إختلافات و تناقضات سياسية بين المتدينين و العلمانيين، و عليه يقارن صاحب الدراسة بين الممارسات التي يقوم بها كل من الإشكيناز و السيفاراد. و من ثم ينتقل إلى تاريخ تواجد الحركات الدينية في هذا البلد و إلى كيفيات الاندماج في المجتمع الإسرائيلي، و ما ينبثق عن ذلك من تشكيلات سياسية و تشريع مؤسساتي يخص الممارسات الاجتماعية المعارضة للسبت مثلا (وهو يوم مقدس لدى اليهود)، و كذلك كيفية تطبيق القوانين من قبل المجموعات الدينية و الإثنيات المتنوعة، مما سيستدعي التصويت لليسار من قبل العلمانيين و التصويت لصالح اليمين من قبل المتدينين.
أما في حقل الدراسات التخييلية، يتناول كل من الطاهر رواينية ودنيا ليلى ميموني، إمكانيات تجلي الأحداث والحقائق الاجتماعية و التعبير عنها بواسطة المجاز الأدبي. ينطلق صاحب الدراسة الثالثة، من نص "الزلزال" للروائي الطاهر وطار ليدرس دلالة إشتغال الفضاء الحضري في المتخيل الأدبي ويتعلق الأمر هنا بمدينة قسنطينة. يبرز الباحث أهمية الفضاء في الجنس الروائي الحديث منه بخاصة، فيحلل العلاقة المتميزة التي تقوم بين هذا العنصر المكون للنص وبين الشخصية من خلال السياق الاجتماعي والأيديولوجي، إلا أنه يركز على الصراع السيكولوجي الداخلي الذي عانته شخصية عبد المجيد بوالأرواح، صراع ارتبط بالتحولات متعددة الأبعاد التي عرفتها المدينة في مرحلة السبعينات من القرن الماضي. و يتطرق الدارس أيضا، إلى بنية النص المعمارية التي تتماهى مع ما تمثله جسور المدينة من معالم طبوغرافية. بالإضافة إلى ذلك، يأخذ عنصر الزمن نصيبه من الفحص والتمحيص، بحكم كونه سببا قويا في التغيير الذي يرفضه بوالأرواح، وباعتبار أن هذا الأخير يمثل الماضي الثابت ذي القوة المرجعية، لكن الإحساس بالتغيير يطارده في كل خطوة يخطوها داخل المدينة.
و ضمن أفق الزمن التخييلي و ما ينتج عنه من تغيير في الموافق و المواقع تطالعنا الدراسة الرابعة لدنيا ميموني، فتدخل بنا إلى عالم أمين معلوف الروائي من خلال نصه "القرن الأول بعد بيا تريس" لتتساءل عن علاقة الرواية بالخيال العلمي. و يشير هذا النص في جوهره إلى إشكالية زمنية، إلا أن الروائي يطرحها في إطار علاقة الأنثى بالمجتمع المستقبلي. ففي هذه المرحلة التي تتصادف مع حلول القرن الواحد و العشرين، يلاحظ تناقص عدد ولادات الإناث بفعل مادة صنعها أحد العلماء تسمح بولادة الذكور فقط. و قد تحوّل هذا الدواء إلى سلاح تستغله الشعوب و الجماعات ضد بعضها البعض، فيحتدّ الصراع و تزداد الكراهية بين البشر. والنص عبارة عن رسالة تذكرنا بأهمية حضور الأنثى للحفاظ على التوازن البيولوجي و النفسي، و بالتالي الثبات الاجتماعي للبشرية. تحاول صاحبة الدراسة، من خلال قراءتها لهذا النص، البحث عن المميزات التي تحدد الخيال العلمي، و بعد مناقشتها لتعريفاته تنتقل إلى النص - قيد الدراسة - للتأكيد على العنصر النظري و التأملي، الذي يحدد منطق السرد، وهو هنا التصفية الجنسية. و مثلما ارتبط العنصر الأول بمقياس الهيمنة، ارتبط العنصر الثاني بالمتانة المنطلقة من المقياس الواقعي، أي الفضاء الزمني بمختلف عناصره. و تتخذ الدارسة من بياتريس، الشخصية المركزية للنص الروائي، ذريعة لتحليل الزمن المستقبلي في علاقته بالتاريخ و بالواقع من خلال ثلاث رسومات بيانية، لتصل إلى أن أهمية الخيال العلمي لا تكمن في الحكي و إنما في كيفية الحكي. و العبرة المستقاة من هذا النوع الأدبي التخييلي، و بخاصة في هذا النص الروائي، هو تحذير البشر من استغلال العلم دون مراعاة للأخلاقيات التي تجعل منهم كائنات تحتكم إلى العقل. و على أية حال، فإن الأدب، مهما كان نوعه أو جنسه، لا يجد له صدى في الواقع إلا بفضل القراءة و القراء.
يشير رضا عبد مولاه في دراسته حول البناء السوسيولوجي للمرض إلى مسألة النظام البيولوجي للإنسان في علاقته مع المجتمع خاصة ما ارتبط منها بالمرض، باعتبارها اضطرابا ينعكس سلبا على حياة الفرد وعلى علاقته ببيئته الاجتماعية. والجدير بالذكر، في هذا الصدد، أن المجتمع هو الذي يحدد معايير المرض و العافية، وبالتالي كل التمثلات والمعتقدات المرتبطة بهما، وهنا يحيل المؤلف إلى وزن الطب الحديث في الحياة البشرية و إلى مدى احتكاره لسوق الرعاية الصحية، مما يدفع به إلى التساؤل عن مكانة التطبيب في بناء النظام الاجتماعي. و بعد استعراضه لمختلف النظريات التي عالجت هذه المسألة التي تتميز بالتعقيد الحاد، حيث تقاربها تخصصات عدة (الأنثروبولوجيا، علم الاجتماع، و علم النفس الاجتماعي...) ذلكم بحكم تداخل الجوانب الاجتماعية و الثقافية والاقتصادية بالجوانب البيولوجية في صيرورتها. كما يتوصل الباحث إلى أنه، بفضل كل هذه المقاربات المتميزة بطابعها النقدي وانفتاحها على مجموع الإسهامات و التوجهات العلمية والثقافية، صيغ البناء السوسيولوجي للحقل الخاص بهذه الظاهرة، كما دعمت مصداقيتها وثراءها النظري و بالتالي السماح لسوسيولوجيا المرض بالسعي إلى التماس مجالها المناسب و المستقل في ذات الوقت.
تفرض مثل هذه المسائل المطروحة في هذا العدد استنتاج أن حقول البحث المتعلقة بمعرفة المجتمعات وبخاصة المجتمعات المغاربية لا زالت خصبة، لكي يتمكن المعنيون بهذه القضايا من الإحاطة بكيفيات اشتغال التجمّعات البشرية على جميع المستويات، كما تمكنهم من إستنباط الدروس انطلاقا من هذه الحقول المعرفية متعددة الاختصاصات، و بالتالي مساءلة المعيش اليومي في وجوهه المختلفة و يشمل ذلك التراث الديني والرمزي في تحولاته و أبعاده السياسية و كذلك الإبداع التخييلي لأجل إدراك ماضي و حاضر ومستقبل المجتمعات. و لهذا نعتقد جازمين أن هذا العدد بمثابة إسهام جاد يستجيب لهذه المقتضيات.