إنسانيات عدد 02 | 1997 | فضاء مسكون | ص06-14| النص الكامل
"Home and housewife" a symbol of space between sacred and secular in popular culture Abstract : The home is not a fixed space in popular imagination. It represents a cultural and social system based on a set of indications and significances flowing from the internal and external female space, from sacred to secular. The home in a masculine imagination represents the voice and body of the wife, which become forbidden... Between the household and the wife, a masculine concept develops several accounts going as far as assimilating one in the other to from a single space in the masculine imagination. Keywords : fireplace, women, imaginary, sacred, body |
Mohamed SAIDI : Université de Tlemcen, 13 000, Tlemcen, Algérie
Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie.
كما يبدو جليا من العنوان، فإن البحث يقوم على عنصرين أساسيين "الدار والمرأة" في إطارهما المقدس[1] والدنيوي[2] في منظور الثقافة الشفوية الشعبية والتي وحدتهما لتشكل منهما فضاء رمزيا واحدا متميزا ثقافيا واجتماعيا.
فإذا كان الفضاء[3] بصورة عامة يعني المكان، المحيط، الرقعة الجغرافية التي تحتوي الحركات والأشياء، وإذا كانت "الدار" شكلا فضائيا جغرافيا وهندسيا وثقافيا واجتماعيا متميزا بتميز الإنسان الذي بناه تلبية لرغباته المعاشية، فإن الثقافة الشفوية قد فجرت هذه الحدود المفهوماتية لتكسب العنصرين دلالات ثقافية واجتماعية جديدة تحكمت فيها صورة المرأة ومكانتها ضمن منظور خاضع لطابع فكري وعقائدي وأيديولوجي محلي...
ومن أجل تبيان ذلك، حاولنا محاورة مجموعات من الخطابات الشعبية الشفوية التي يرددها "الرجل" - (التركيز على ثقافة الرجل وطابعها الذكوري الخاص) - في مناسبات ثقافية واجتماعية في قالب سوسيولغوي محلي.
سنقتصر على متن من النصوص ذات الشيوع والانتشار في الثقافة الشفوية الرجولية، أي لا تمارس قولا و مقالة إلا في المحيط أو الفضاء الرجولي – الذكوري ذي التفكير التصارعي.
رجل # امرأة
ذكورة # أنوثة
ولتكن الخطابات التالية :
الدار غايبين أو في صيغة المفرد الدار غايبة
الدار مرضى الدر مريضة
الدار غاضبين الدار غاضبة
الدار مسافرين الدار مسافرة
لعل ما يميز هذه الخطابات، والتحامها حول البؤرة الدلالية "الدار" التي لم تعد مقصودة لذاتها كفضاء جغرافي هندسي جامد، فلقد حركتها المخيلة[4] الشعبية وأخرجتها من طابعها الأصلي محررة إياها من تلك الوظيفة الاجتماعية التي تأسست من أجلها أصلا، لتبعث فيها الروح و تدخلها ضمن إطار جديد قريب الصلة من الإطار الإنساني، فأضحت "الدار" في المخيلة الشفوية تتغيب، تمرض، تغضب وتسافر إلخ...
قد يفهم منذ بداية سماع هذه الخطابات، أن فضاء "الدار" تحرك ضمن منظومة فكرية شعبية مميزة ثقافة و إيديولوجية، ليحل محل المرأة – الزوجة التي أصبح البوح بها وباسمها ضمن المنظومة نفسها ذات الاتجاه الرجولي الذكوري، عارا وممنوعا بالنسبة للرجل الذي صنع لنفسه فضاء فكريا تسيره و تتحكم فيه "أنا الذكر" تحكما مطلقا مقصية بذلك "أنت المخاطبة"، والتي لا وجود لها إلا في إطار "هي الغائبة" أو ما ينوب عنها من أشياء و جمادات شبيهة بها أو ذات الصلة بمحيطها النسوي.
إن هذه الخطابات اللغوية ليست بريئة وليست مجانية أو عديمة المرجعية الحضارية والتاريخية. فهي محملة بدلالات ثقافية واجتماعية و أيديولوجية و ليدة المخيلة الشعبية المحلية وصورتها ومفهومها للمرأة والدار. وقد يظهر ذلك جليا من خلال ما تكشف عنه البنية السطحية و العميقة للمحور الدلالي "الدار-المرأة".
أ-المستوى السطحي : ترتبط المرأة بفضاء الدار أكثر من علاقة، حيث أصبحت كل واحدة امتدادا للأخرى في المخيلة الشعبية (العادات والتقاليد والمعتقدات)، والتي بحكمها أصبحت المرأة عنصرا لا يتحرك إلا في الدار، فضائها الوحيد بامتياز و الذي يحتوي أكبر قسم من وقتها – إن لم نقل كله، فلقد أصبحت المرأة تستدعي فضاء الدار، و فضاء الدار يستدعي المرأة، كما تعكس المرأة فضاء الدار، و فضاء الدار يعكس المرأة. فالمرأة بفضاء دارها، وفضاء الدار بمرأته.
ب- المستوى العميق : قد تلتقى المرأة والدار في طابع الأنوثة بكل ما تحمله من دلالات نفسية وثقافية و اجتماعية بالنسبة للرجل. و قد يظهر ذلك جليا في ذلك التوازي الدلالي والرمزي الذي صنعه الرجل في مخيلته الشعورية واللاشعورية عبر مجموعة من الوظائف :
لقد لعب مبدأ التوازي الدلالي و الرمي دورا مهما في مخيلة الرجل الذي لم يتريث في وضع الدار مكانة المرأة على مستوى الممارسات القولية حيث يستعير من أجل الإشارة إلى زوجته (الاستعارة كإجراء بلاغي رمزي) الدار لغة ومصطلحا ليقول ما يريد قوله عنها أو حولها.
لقد فجّرت المخيلة الرجولية – الذكورية الحدود الجغرافية والهندسية الجامدة لفضاء الدار و جّمدت الحدود البشرية المتحركة للمرأة. و بين التحريك أي تحريك الجامد، والتجميد أي تجميد المتحرك، استطاع التفكير الشعبي الرجولي تأسيس فضاء واحد مميز من الناحية النفسية والاجتماعية والثقافية حيث تحولت الدار إلى جسد يحس الرجل بنبضاته.
فالدار امتداد و حضور للمرأة في مخيلة الرجل خارج الفضاء العائلي و أمام الآخر أي الأجنبي عن العائلة.
إن فضاء الدار ليس فضاء جامدا في المخيلة الشعبية، و إنما هو جملة من العلامات والدلالات، تحمل بين طياتها مفهوم الأنوثة كما تتصورها المخلية الذكورية المحلية. وقد تكتسى الدار بعدا ثقافيا و اجتماعيا و نفسيا يتجاوز الشكل البنائي الظاهر. فالدار هي المرأة، هي فضاءها المحتوم، فهي الصوت الممنوع، الخفي، المحرم، الذي لا يحتمل الجلاء و الظهور أو البوح به علانية. فكانت الدار الجسد الجامد الذي شارك المرأة في تحريك المخيلة الرجولية في علاقتها بالفضاء الأنثوي و في صورته للجنس و في تحديد موضوع و فضاء تحقيق الرغبات النفسية والاجتماعية.
لقد حرك التفكير الشعبي المحلي الرجولي فضاء الدار ملهما إياه بنيات دلالية رمزية جديدة مغايرة لبنيتها الأولى، لتصبح فضاء مفتوحا لما حصر له من التقاطعات الهندسية البشرية المنتجة حقولا دلالية نفسية اجتماعية، ثقافية، أيديولوجية مميزة بتمايز المحطات القولية الرجولية :
الرجل # المرأة الجلي # الخفي
الذكورة # الأنوثة الحر # المقيد
القوة #الضعف أنا # هي
الخارج# الداخل الحاضر # الغائب
لقد ظلت "الدار-المرأة" لصيقة بعض المظاهر الثقافية والاجتماعية والأخلاقية التي قدسها التفكير الشعبي : كالعار- الخديعة - الحياء - الشرف - الجنس - الإنجاب - الحياة.
فالدار-المرأة فضاءان مقدسان أو لنقل فضاء واحد مقدس يحميه الرجل ويحتمي به حماية لكيانه الثقافي والاجتماعي ولوجوديته الإنسانية والإيديولوجية. وقد يظهر ذلك جليا من خلال تلكالخطابات الشعبية التي يخلدها التفكير الشعبي : كالأمثال :
- داري تستر عاري
- ندخلو دارنا ونسترو عارنا
لقد ارتبط فضاء "الدار-المرأة" بوظيفة مقدسة، حيث هي بالإضافة إلى تلك الوظيفة الدنيوية أو المدنسة "الإيواء - الإحتواء - الاستقرار- الإنجاب - الملكية" رمز الطهارة والشرف. وبالتالي ظلت مرتبطة بالمقدس الذي لا بد من حمايته والدفاع عنه.
إن فضاء "الدار- المرأة" مقدس بتقديس العرض والشرف اللذين يشكلان بالنسبة للرجل المنطقة المحرمة التي لا يقبل الطعن أو المساومة فيها. فالرجل بداره وبامرأته :" الدار و المرأة ما فيهم شركة".
لقد حمّل التفكير الشعبي المحلي الرجولي فضاء الدار دلالات جديدة أبعد وأعمق من حقيقته الهندسية، ليصبح فضاء مقدسا ورمزا مميزا لرجولة الرجل (القوة - الذكورة - الشهامة - الشرف - الطهارة...)، وقد يكون كذلك شريطة أن يحافظ عليه وعلى من هم فيه (العائلة، الزوجة والأولاد). قد يكون فضاء "الدار-المرأة" إيجابيا حسب منظور الرجل أي كما يريده وتريده فلسفته الرجولية وبالتالي يكتسي طابعا مقدسا مقبولا.
قد يكون فضاء "الدار-المرأة" سلبيا حسب منظور الرجل أي كما يريده وتريده فلسفته الرجولية ألا يكون وبالتالي يكتسي طابعا مدنسا مرفوضا.
يترجم فضاء "الدار- المرأة" ذلك الصراع الجنسي الذي كبل المسيرة الاجتماعية وقيد كلاّ من الرجل والمرأة في حركتهما الاجتماعية والثقافية. وقد نتج عن ذلك صراع أبدي رجل # امرأة ← ذكورة # أنوثة.
ووصل الحد إلى درجة الإقصاء والنكران إن لم يكن التدمير وعدم اعتراف كل واحد بالآخر. كما أصيب كل واحد منهما بعقدة نفسية إزاء الآخر. حيث برزت بوضوح عبر علاقتهما (الرجل-المرأة) الاتصالية أو الانفصالية تلك الحدود المقدسة تارة والمدنسة تارة أخرى. فالرجل دنس المرأة وكل ما يدور في فلكها، حيث اعتبرها دنيئة كلما خرجت عن طاعته أو كل ما كشفت عن مقاومة ما. وفي نفس الوقت لقد قدسها وقدس محيطها واعتبرها مقدسة كلما خضعت لطاعته وحققت رغاباته.
انطلاقا من هذا الطرح للثنائية، يتضح أن المخيلة الذكورية ليست شكلا ثقافيا سطحيا عاميا وإنما هي بناء فكري-اجتماعي عريق ذو جذور حضارية وعقائدية وإيديولوجية.
فالمخيلة أو المخيال إذن هو "الوعاء الذي نحتضن به الواقع، ونتمثله سواء بالالتصاق به إلى حد تبريره وتشويهه، وإعادة إنتاجه باستمرار، أم بالانفلات من رقبته والهروب منه إلى واقع آخر متخيّل، نستطيع أن نسميه واقع الحلم[5] ومن تمة يتضح أن فضاء "الدار- المرأة" يشكل في المخيلة الذكورية واقعا واقعيا مدنسا. وأن هذه المخيلة نفسها تريد أن ترتقي به إلى واقع مقدس عبر مجموعة من الإجراءات التي هي وليدة حركات ومحطات تاريخية وحضارية وعقائدية وإيديولوجية.
فأمام صدمة فضاء "الدار- المرأة" لا يسع التفكير الذكوري إلا العمل من أجل تفجيره وإعادة بنائه وفق منظومة ثقافية واجتماعية تتماشى ورغباته المختلفة في علاقتها الإتصالية والانفصالية مع المرأة.
إن اقتران حركية المرأة الاجتماعية وسجنها داخل فضاء الدار حيث أصبح عنوانا واسما لها ضمن المنظومة الفكرية الرجولية، ليس إلا ترجمة لكبت حرية المرأة وشللها بل إقصائها من الوجود الاجتماعي الذي حمّله الرجل دلالات خاصة به ووجهه توجيها ذكوريا أحادي الرؤية، تميزه الحرية والسلطة المطلقتين للرجل ذي الفضاءات الواسعة والمفتوحة شكلا ومضمونا (الشارع - المصنع - المقهى - السوق...).
إن أناسة فضاء الدار (اكتسابه صفات إنسانية) من أجل الحديث عن المرأة (المجمّدة- المحنطة) يفتح المجال واسعا لقراءة البعد الفكري والإيديولوجي الذي يسير المجتمع ذي البنية البشرية التقليدية.
وقد ينطبق هذا التجسيد المكاني على العديد من المنظومات الاجتماعية والدينية والسياسية والأخلاقية والزمنية، بل امتدّ هذا التبادل بين الصور الذهنية والمكانية إلى التصاق معان أخلاقية بالأحداثيات المكانية نابعة من حضارة المجتمع وثقافته[6].
وفي الأخير، فإن التفسير الذي نقدمه لهذه العلاقة النفسية، الاجتماعية، الإيديولوجية والوجودية التي وحدت الدار بالمرأة، والمرأة بالدار وكذا الفضاء الهندسي بالفضاء الجسدي لا يتعلق فقط إلا بما هو جلي وظاهر على المستوى السطحي للخطاب الشعبي، فلقد مسّ أيضا المستوى العميق المشكل للاّشعور الفردي والجماعي ذي البنية الفكرية والثقافية المحلية المميزة.
إن الخطاب الشعبي "الرجولي" شكل نمطا ثقافيا واجتماعيا مميزا في علاقته مع المرأة حيث أنه حين يتلفظ الخطاب التالي "داري مريضة" أو "مرتي أو زوجتي حاشاك" فإنه يعمل على حماية وتنظيف خطابه وفضائه النفسي والاجتماعي والثقافي من التدنيس. وكأن الملفوظ ليس في محله وبالتالي يحتاج إلى ترخيص معنوي يطهر الحديث والمحادثة صيانة للفضاء الذكوري الذي يريده الرجل مقدسا بالمقابل إلى فضاء المرأة المدنس.
إن المقصود الدلالي القائم على تحويل الدار امرأة والمرأة دارا، ما كان له أن يكون رمزيا كذلك لو لم يختر الفكر الشعبي تلك الاستعارات والتوازيات.
على مستوى الوظائف الواقعية والخيالية الرمزية والمستمدة من عمق ثقافته وحضارته المحلية التي تحكمت فيها صراعات جنسية رجل # امرأة - ذكر # أنثى وبيولوجية قوي # ضعيف وعقائدية "الرجال قوامون على النساء[7] وللذكر مثل حظ الأنثيين"[8]. وقد نتج عن هذا التوجيه الذكوري والتأويل ذي الاتجاه الواحد والمستغل من أجل تحقيق رغبة أحادية، لقد نتج "عن كل هذا مجتمع مزيف في طرحه الفكري والإيديولوجي أقصى المرأة، وجمد حركيتها الاجتماعية وكاد أن يدمرها ويدمر كيانها الروحي.
الهوامش
[1] ابن المنظور: لسان العرب - مادة قدس
التقديس: تنزيل الله عز وجل، وهو المتقدس، القدوس المقدس. ويقال القدوس معوّل من القدس وهو الطهارة.
[2] محمد الجويلي : الزعيم السياسي في المخيال الإسلامي بين المقدس والمدنس.- تونس، المؤسسة الوطنية للبحث العلمي، 1992.- ص 36: "المدنس حينئذ هو الرجس مقابل الطهر، وإذا كان المقدس هو الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص، فإن المدنس هو الرجس الذي لا يخلو من العيوب والنقائص، بل قل هو العيوب ذاتها والنقائص عينها. وتبعا لذلك يبدو لنا المقدس والمدنس نظامين متضادين تضادا جوهريا".
[3] BUTOR, Michel. - l'espace du roman.- in Essai sur le roman.- Paris, Gallimard, 1969 48-58.
[4] المخيلة- المخيال : أردنا من هذه الكلمة ترجمة المصطلحimaginationكما حددهاGilbert Durand في كتاب Paris, PUF, 1968.- L'imaginaire symbolique.
[5] محمد الجويلي : م. س : ص 194.
[6] سيز قاسم :" بناء المكان الروائي" في بناء الرواية- دار التنوير للطباعة والنشر- بيروت 1985.ص- 101.
[7] القرآن الكريم.
[8] القرآن الكريم.