إنسانيات عدد 65-66 | 2014 | الجزائر 1962| ص 31-58 | النص الكامل
Fouad NOUAR : Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie.
تمهيد
تقترح هذه المساهمة تحليل المسارات السوسيومهنية لبعض المسرّحين من ظرف العمل المأجور العمومي فترة التسعينيات من القرن الماضي والمقيمين حاليا في ضواحي مدينة وهران، وتسعى من وراء ذلك لــمناقشة دينامكية العلاقة الثنائية بين العمل والأسرة اعتمادا على تحقيق أجري في الفترة الممتدة ما بين سنتي 2009 و 2012حول خطاباتهم، ممارساتهم وتمثلاتهم. نعتقد أنّ نتائج هذا التحقيق بإمكانها أن تسهم في إثراء النقاش حول علاقة العمل بالأسرة على اعتبار أنّ الحديث عن المتغيّر الأول يحيل بشكل أو بآخر للحديث عن المتغيّر الثاني، كما نعتقد أيضا أنّ تحديد العلاقات المتعددة مع العمل سواء رُبط ذلك بتحليل "المعاني الاجتماعية له" كما يعبّر عنها المبحوثون، أو رُبط بدراسة الرهانات الحالية لأسباب "تزايد أهميته" لا يمكن أن تتجاوز "الأسرة"، ليس لأنّها تمثل"العالم الخاص بالعمّال" على حد تعبير شوارتس[1] بل لأنّها تعبّر عن حالة التعقيد الموجودة بين النظرة للعمل والنظرة للأسرة.
سبق لجورج فريدمان[2] أن قدم تنبيها حول تعاريف العمل التي لا تأخذ بالاعتبار البعد التاريخي كمعطى أساسي في بناء التصورات النظرية حول علاقة المجتمع بالعمل والتي غالبا ما تنتج تعاريف ميتافيزقية منفصلة عن سوسيولوجيا، إثنولوجيا وإثنوغرافيا المجتمع المدروس. ما يثير الانتباه هو أن ما دعا إليه فريدمان في الفترة السابقة هو نفسه ما تدعو إليه العديد من المقاربات الفلسفية للعمل (جون ماري فانسون[3]، بوستن مواش[4] أندري قورز[5]) أو المقاربات السوسيولوجية للعمل (ميشال لالمون[6]) أو المقاربات الأنثروبولوجية للعمل (مونيك سليم[7]، يولاندبيناروش[8]) خلال العشريتين الأخيرتين، لكن مع فارق مهم يتمثّل في أنّ الأول تحدّث عن ذلك ضمن ظرف الثلاثينيات الشهيرة (ظرف التوّفر النسبي لفرص العمل النمطي) والآخرون تحدّثوا عن ذلك ضمن ظرف أزمة نمط الإنتاج الفوردي التي ولّدت أزمة العمل (ظرف ندرة فرص العمل).
ما يمكن أن نستخلصه من جملة الأدبيات المذكورة سالفا أنّ العلاقة مع العمل جزء لا يمكن أن ينفصل عن مضمونه الاجتماعي، التاريخي والثقافي، كما أنّ التعاريف ذات النزعة التعميمية التي تسعى لمقاربة العمل، موضوعه ومحدداته التقنية والاجتماعية لا تلبث أن تواجه - إجرائيا- تحدّيات غياب العلاقات مع مؤسسات تنشئة اجتماعية تتدخّل هي الأخرى في صياغة معانيه[9]. مثال ذلك في هذا المقام تغييب دور "العلاقة مع الأسرة" أو التقليل من حضورها ودورها في تحديد وتحليل معاني العمل كما يصوغها الفاعلون وفق مضامين الظروف الاجتماعية المتغيّرة المُؤثرة والمُتأثرة بالمسارات المهنية، ومثل هذه المقاربات التي قد تبرّر إجرائيا بمسألة تحديد الموضوع ما تلبثُ أن تقدّم صورة تقليصية عن الواقع المجتمعي.
وفي الجزائر، حصرت بعض[10] الدراسات تقاليد تحليل العلاقات مع العمل منظورا إليه من زاوية الأسرة في "المرأة" وكأنّ مسألة الحديث عن علاقاتها مع العمل تستوجب حتما الحديث عن علاقاته مع الأسرة، وقد بَدَا هذا الربط ضروريا، في حين لم تكن دراسة العلاقات مع العمل عند "الرجال"[11] تستوجب تحليل دور الأسرة في صياغة تلك العلاقات سواء كانت ضمن ظرف العمل المأجور العمومي أو كانت خارجه.
ضمن هذا المقال سنتطرق في البداية للتساؤلات الأساسية للموضوع وللمنهجية المتبعة لمعالجته، ثم سنستعرض نتائج تلازم حضور "الأسرة" مع "العمل" في خطابات ذاكرة العمّال سواء في مرحلة ما قبل الانخراط في المؤسسة الصناعية العمومية أو خلال مرحلة الانتماء لها أو في الفترة التي تلت التسريح منها.
ظرف تغيّر بنية العمل في الجزائر والعمّال المسرّحون: التساؤلات والمنهجية
شهدت بنية الشغل في الجزائر خلال العشرية الأولى من الألفية الحالية تغيّرا جذريا جاء عقب تنفيذ مرحلة مخططات الإصلاح الهيكلي (1994-1998)، وقد كان من أهمّ نتائجها[12]: تراجع وانحصار العمل المأجور وبالخصوص العمومي منه، وخوصصة للشغل المصاحب للنمو النسبي لمناصب العمل الإدارية وتوسّع مجال النشاط في السوق الموازية (بوصفه مجالا للتوظيف غير الرسمي، مجالا للمبادلات غير الرسمية ومجالا للإنتاج غير الرسمي)[13].تتحدث ، الإحصائيات ، في هذا الإطار التي يقدمها المجلس الاقتصادي والاجتماعي في أحد تقاريره[14]حول نتائج الاصلاح الهيكلي عن تسريح ما يقارب نصف مليون أجيرٍ (قطاع الصناعة، البناء والأشغال العمومية، الخدمات والفلاحة)، ويستعمل محررو التقرير لفظ "السياسات النيوليبرالية" للحديث عن الظرف السياسي والاقتصادي الذي أثّر بشكل جلي في أزمة نموذج العمل المأجور الدائم وبخاصة العمومي منه المُعتبر إلى غاية منتصف التسعينيات من القرن الماضي الشكل الغالب لتوزيع اليد العاملة في الجزائر.
يقدّم "العمل" أو "الشغل"اليوم على أنّه أساس الرابط الاجتماعي وباني الفردانية وأساس الاندماج والاعتراف الاجتماعيين وفقدانه قد يعني الإقصاء والتهميش[15]،وإذا كان العمل في الراهن في قلب المسألة الاجتماعية[16]،"فالأسرة" بدورها موجودة ضمن سياق متصل به. يفتح مثل هذا الطرح المجال لتحليل المواقف التي يبنيها العمّال المسرّحون من العمل منظورا إليه من زاوية الأسرة،مواقف تتجاوز حالة العلاقة مع "العمل المجرد" لتشمل الحديث عن العلاقات مع المنظومات الحمايات الاجتماعية المرتبطة أساسا بالوضعيات المختلفة التي عرفتها مساراتها المهنية ضمن منظومة الشغل.
يشير تعدد وتنوع خطابات المبحوثين حول مساراتهم وعلاقاتها بالعمل للعناصر الثلاثة المؤطرة حسبهم لتصور النجاح الاجتماعي، التي تبدأ بالحصول على فرصة للعمل النمطي ضمن ظرف العمل المأجور العمومي والممهد لبناء مسار مهني تطوري مستمر(أجر مضمون نهاية كل شهر، علاوات مضمونة بغض النظر عن الإنتاجية، مسار مهني ينتهي بالحصول على حق في التقاعد، يضاف إليه التمتّع الشخصي والأسري بالحماية الاجتماعية طوال المسار المهني وبعده)، يتواصل بالبحث عن "الاستقرار" عن طريق إنجاح مشروعي الزواج وتملّك مسكن فردي، وإذا كانت خطابات المسرّحين من المؤسسة الصناعية تعتبر "العمل المأجور العمومي" عنصرًِا بناء لمشاريع متلازمة مع "تكوين الأسرة" (الزواج، الإنجاب والمسكن)، فإنها تعتبر في الوقت نفسه أن أية إزاحة من هذا الظرف "المثالي للعمل" بإمكانها أن ترهن مصير "الأسرة وأفرادها" وأن ترهن المسارات المتلازمة معه (تمّلك المسكن، إتمام اجراءات تملكه، أو إتمام عملية بناء المسكن الفردي).
تمثل حالة العمّال المسرّحين من ظرف العمل المأجور العمومي ومن مؤسسة ENTPL[17](وهران) نموذجا لمناقشة إشكالية العلاقة بين العمل والأسرة، وهذه الفئة المنتقاة والتي أجبرت على اختيار التسريح على دفعتين سنتي 1996 و1997 يمكن أن تكون مجالا لمقاربة أنثروبولوجية غايتها دراسة حالات الانتقال من ظرف العمل المأجور العمومي إلى ظرف الهشاشة المهنية نتيجة الأنشطة المؤقتة الممارسة، كما بإمكانها أن تكون حالة نموذجية لتحليل المواقف الاجتماعية للفاعلين الناتجة عن الانتقال من ظرف العمل الدائم الذي يوصف بالنمطي- خصوصا عندما تكون سنوات توظيف المبحوثين تعود إلى نهاية سنوات 1970 وبداية سنوات1980- إلى ظرف مختلف تماما للعمل يوصف بغير النمطي. كيف تقدّم أو تتمثل هذه الفئة علاقاتها مع "العمل" بين ظرفين مختلفين؟ وكيف تصوغ علاقاتها وفق ذلك مع "الأسرة"؟ هذان هما السؤالان المحوريان لهذه المساهمة[18].
اعتمدت الدراسة على المقابلة نصف الموجهة والمقابلة البيوغرافية وقد دامت مدة التحقيق سنتين كاملتين (2011-2013)، اختير ضمنها 14 مسرّحا من المقيمين في حي سيدي البشير (ضواحي وهران).تركّزت محاور أسئلة المقابلات والمقابلات البيوغرافية حول أربع محطات اعتبرت مهمة بالنسبة لدراسة علاقة المسار المهني للمبحوثين بالأسرة وهي:
- مرحلة ما قبل الانخراط في ظرف العمل المأجور العمومي،
- مرحلة النشاط ضمن ظرف العمل المأجور العمومي،
- لحظة أزمة التسريح،
- مرحلة ما بعد التسريح،
كما اعتمدت على تحليل مضمون خطاب الذاكرة العمّالية بحيث مثّل تحديد "المعاني الاجتماعية للعمل في علاقاتها مع الأسرة وفق محطات المسار المهني" مدخلا لهذه الدراسة، وقد ارتكزت على فرضية تطرح علاقة المبحوث بالعمل والأسرة بوصفها علاقة ذاتية ومتغيّرة خصوصا في ظل عدم وجود اتفاق نظري حول السؤال: "ما معنى أنني أعمل؟"، فالنظرة للعمل وللأسرة من موقع البطالة تختلف عن النظرة لهما من موقع العمل المأجور العمومي، كما تختلف أيضا عندما تكون حالة الهشاشة المهنية أو الاجتماعية بنيويتين.وفق هذا التصوّر الذي أكّدته بعض نتائج الدراسة الاستطلاعية، لا تقدم خطابات الذاكرة معنى واحدا للعلاقة مع العمل وللأسرة وإنّما تقدم معاني متعددة تم بناؤها وهدمها وإعادة صياغتها حسب محطات المسار المهني، بحيث يصبح مؤشر الزمن ومؤشر العلاقة مع مؤسسة التنشئة المتمثلة في الأسرة ومؤشر لحظات الانخراط أو الخروج في ظرف العمل المأجور العمومي - بوصفها لحظات مرجعية لخطابات الذاكرة[19]-محطات أساسية في تحليل تغيّر هذه العلاقات الذاتية التي جمعت بين النظرة للعمل والنظرة للأسرة عبر بعض محطات المسار المهني للمبحوثين.
تلازم حضور الأسرة مع العمل في ذاكرة العمّال المسرّحين: النتائج
تتفاعل في العموم خطابات العمّال المسرّحين من المؤسسة العمومية محل الدراسة مع السياق العام لتغيّر بنية العمل في الجزائر عندما تتحدث عن علاقاتها مع "العمل"، فإذا تحدثت ذاكرة المبحوثين عن علاقاتها معه في سنوات نهاية السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي فإنها تتحدث عن ذلك ضمن ظرف عرف توسّع مسار أجرنة[20] علاقات العمل من خلال توسّع القطاع العمومي وتقدمه على "أنّه عصرها الذهبي"، وإذا تحدثت عن علاقاتها معه خلال منتصف سنوات التسعينيات من القرن الماضي فإنها تتحدّث عن ذلك ضمن ظرف شهد عمليات واسعة لتسريح العمّالمن القطاع العام تطبيقا لمخطط التصحيح الهيكلي (1994- 1998)[21] دون إغفال الإشارة إلى تزامن ذلك مع الظرف السياسي والأمني الذي ميّز هذه المرحلة في الجزائر خصوصا عندما تتذكر أن المفاضلة بين المحافظة على الأرزاق (منصب العمل) والمحافظة على الأرواح كانت محسومة لهذه الأخيرة، وإذا تحدثت عن علاقاتها مع العمل بعد تلك الفترة فإنّها تتحدث عنه من موقع الهشاشة المهنية نتيجة لهشاشة وضعيات العمل المستثمر فيها بعد الإقصاء من ظرف العمل المأجور العمومي والذي تعتبر فيه منصب العمل في القطاع العام مرادفا لحالة العمل المثالية بالنسبة للذين لا يملكون سوى بيع قوة عملهم للحصول على مقابل مادي.
لا تختصر خطابات ذاكرة المبحوثين حدود علاقاتها مع العمل في جملة من العناصر الموضوعية المتمثلة في العلاقة بفضاء العمل أو بالمسار المهني - وفق مؤشرات منصب عمل دائم/ غير دائم، شهْرِيَة دائمة (أي راتب شهري)/ غير دائمة، ضمان نهاية مسار مهني بتقاعد تام/ تسريح أو الخروج من ظرف العمل بتقاعد نسبي أو مسبق، التمتع بالحقوق الاجتماعية التي توفرها منظومة الحماية الاجتماعية للعمّال/ الإقصاء من هذه المنظومة- بل تتجلى محددات ذاتية[22] كعامل حاسم في بناء تلك العلاقة[23].
تبني خطابات الذاكرة العمّالية علاقتها المتغيّرة بين "العمل" و"الأسرة" وفق أربع محطات. تقوم أولاها برسم علاقاتها معهما وفق استعراض لجملة النشاطات المأجورة المستثمر فيها في سن مبكرة (ما بين 13 و17 سنة)، والتي كانت خاضعة لمنطق "اكتشاف لعبة اجتماعية"أساسها اكتشاف الفعالية الاجتماعية والتبادلية للمال المحصّل عليه والمؤثر في الأدوار التي يلعبها الفرد داخل الأسرة خلال مرحلة ما قبل الانخراط في العمل المأجور العمومي. تتواصل النظرة نفسها في المحطة الثانية المرادفة للسنوات الأولى للانخراط ضمن هذا الظرف ولكن ضمن سياق بناء "مسار للاعتراف المهني" في المؤسسة الصناعية العمومية، وعلى الرغم من التغيّر الموضوعي بين ظرفي العمل إلا أن حالة الحنين للمرحلة السابقة والتردّد في الاختيار بين مشاريع الهجرة إلى خارج الجزائر أو العمل للحساب الخاص أو استقرار الرأي على مواصلة المسار المهني في المؤسسة الصناعية العمومية تبقي ظرف تغيير العلاقات مع العمل نتيجة لتغيّر من حالة النشاطات المأجورة إلى حالة العمل المأجور غير واضحة، كما أنّ فكرة مرجعية العمل المأجور العمومي بوصفه ظرفا مرجعيا تكاد تكون غير متبلورة في خطابات المبحوثين، مما قد يعني أنّ حالة القطيعة مع المعاني الاجتماعية للعمل والأسرة التي تم تكوينها في المرحلة الأولى ما تزال غير واضحة المعالم.
تتوافق مرحلة "العمل بوصفه مسارا للاعتراف الاجتماعي" مع نهاية السنوات الأولى[24] للانخراط في ظرف العمل المأجور العمومي وبداية التفكير في عدم تغيير منصب العمل في المؤسسة نفسها، ويمكن القول أن الجيل الجديد من هذه التصورات المصحوب بتلاشي مشاريع الهجرة أو العمل للحساب الخاص، يتميّز ببداية التفكير في إنجاح مشروع الأسرة (الزاوج، مكان إقامة بيت الزوجية) بعد الاقتناع بالاستقرار في ظرف العمل المأجور العمومي، وفي هذه المرحلة، لا يتوقف التعبير عن الهوية المهنية عند حدود بوابة المصنع[25]، بل تصبح هذه الــهوية المهنية مؤشرا هاما في عملية المصاهرة لكونها ترفع من حظوظ إمكانيات القبول عند الأصهار المحتملين خصوصا أن "الشّابْ خَدّامْ عند الدَّوْلَة وعَنْدُو شَهْرِيَّة".
ترتبط المعاني الاجتماعية للعمل منظورا إليه من طرف الأسرة بلحظة "الإقصاء من العمل المأجور" المؤدّية لهدم مسارات الاعترافين المهني والاجتماعي والفترة التي تليها. لم يكن قرار قبول التسريح مسألة محسومة عند المبحوثين، فخطابات الذاكرة العمّالية بنت العديد من الأساطير حول مستقبلها المهني لحظة الاقتناع بإمكانية بناء مسار مهني تطوري في ظرف العمل المأجور العمومي، وهذا القرار جعل الفئة المبحوثة تستثمر في تكوين أسرة وتبحث على مخرج لأزمة السكن. لقد كانت لحظة التسريح وما سبقها من إشاعات ممهدة لها لحظة مراجعة وإعادة نظر جذري في العلاقة التي بنيت مع العمل عبر هذا المسار المهني التطوري (البحث عن التحكم في المهن المرتبطة بالحديد، البحث عن الترقية المهنية، البحث عن الخروج من الظرف العمالي وولوج الإطار الإداري للمؤسسة من خلال ممارسة التسيير...)،ولحظة للتفكير في مصير الأسرة (الزوجة، تمدرس الأولاد، المسكن) ومصير مكتسباتها المرتبطة بظرف العمل المأجور العمومي.
ما تقدمه ذاكرة المسرّحين حول علاقاتها مع العمل ومع الأسرة، خصوصا بعد مضي 15 سنة من التسريح، هو نموذج عملي لمسار هدم منظومتي الاعتراف المهني (لا مكانة للتأهيلات المتحصّل عليها في المصنع في سوق النشاطات خارج ظرف العمل المأجور العمومي) ونموذج لضياع قيمة الصورة الشخصية سواء على مستوى العالم الخاص للمسرّح (الأسرة) أو على مستوى مكان الإقامة. إنّ النتائج المتحصل عليها - التي سنفصّل في مضمونها لاحقا- وإن كانت تكشف حالة من الدينامكية والتغيّر للعلاقة مع العمل والأسرة وفق المسار المهني، فإنها تعكس الدور الهام "للزمن" في صياغة المعاني الاجتماعية لهما، كما تبيّن في الوقت نفسه أنّ هذه العلاقات وإن تقاسم المبحوثون أهم معالم محطاتها الكبرى، إلاّ أنّ ذاتيات تلكم العلاقات تجعل من تقاسم المسارات المهنية للظروف نفسها منتجا لخطابات متنوّعة حول العمل وحول الأسرة، وهذه التفاوتات في النظرة تؤكد دور البعد الذاتي في إثراء النقاش حول العمل منظورا إليه من زاوية الأسرة خصوصا عندما يتعلق الأمر بتحليل ذلك وفق مسارات مهنية تتجاوز العقود الثلاثة (حالة العينة المدروسة).
نقدم فيما يلي تفصيل ما سبق بغية تحديد فعالية الخطاب الذاتي للمبحوثين وفق المعاني الاجتماعية المعبرة عن العلاقات مع العمل والأسرة وفق المحطات الأربع.
1. مرحلة العمل بوصفه "اكتشافا للعبة اجتماعية": مرحلة ما قبل الانخراط في العمل المأجور العمومي
عندما تتحدث ذاكرة العمّال المسرّحين عن بداية المسار المهني في المرحلة العمرية الممتدة ما بين 13 و17 سنة تقدم علاقاتها مع العمل ضمن سياق "اكتشاف لعبة اجتماعية" منطقها التبادل (échange) وفق العلاقة بين العطاء (le don) ومقابلهle contre-don) ) وعنصرها الأساسي "اكتشاف الفعالية الاجتماعية للمال". في هذه المرحلة من العمر، يتضاءل عند المستجوبين طموح الحصول على المهنة وطموح الحصول على منصب عمل دائم وطموح الاستفادة مما تقترحه منظومات الحماية الاجتماعية المهنية، بل أكثر من ذلك،بالإمكان القول أن عبارتي "بطّال" و"حالة الشعور بالبطالة"[26] تكاد تكون غائبة تماما على مستوى تمثلات ذاكرة المبحوثين. يمكن تقسيم خطابات المبحوثين عند حديثهم عن ماضيهم المهني في هذه المرحلة العمرية إلى فئتين اثنتين:
الفئة الأولى من خطابات العمّال المسرّحين، والتي لا تعتبر نشاطها قبل ظرف العمل المأجور العمومي "عملا" ولا تصفه كذلك، كانت تبحث من خلال نشاطها المهني عن تنويع طرق الحصول على مصروف الجيب لسد الحاجيات الآنية المتناسبة مع هذه المرحلة العمرية التي لم تكن "الأسرة" قادرة على توفيرها. العمل في هذه المرحلة،ورغم توفّر أهم العناصر الموضوعية التي تحدده إجرائيا (نشاط مقابل أجر، وقت للعمل، مكان للعمل، جهد)، إلا أنّ تمثلات الذاكرة لا تعتبره كذلك، كما أنه لا يتوافق مع مبدأ التعاريف ذات النزعة الغائية التي تعتبر فكرة تأسيس هوية اجتماعية انطلاقا من هوية مهنية مؤشرا أساسيا في تجلي تلك العلاقة. يمكن القول أنّ هذه الفئة لا تعتبر مثل هذه الأنشطة بنيوية للفرد ولصورته في أسرته بقدر ما تصوّره أداة للتبادل غايته الحصول على المال من خلال ممارسة أنشطة اختيارية.
يسرد أحد المبحوثين قائمة للنشاطات التي زاولها في السنة الأخيرة من التواجد في المدرسة في سن 14، ويذكر من بينها بيع الحلويات في الملعب أسبوعيا والعمل عند بائعي الخضر في السوق والعمل عند الجيران للقيام بنشاطات الطلاء أو العمل في المقاهي في غسل الفناجين، ويؤكد أن كل ذلك كانت الغاية منها "الحصول على مصروف الجيب لا أكثر".
" قْبَلْ مَا نَخْدَمْ في لافُونْدْري كنت نَبْرِيكولي بَرَا (في سن 14 سنة إلى 17 سنة)، نْبِيع... نَخْدَم عند الناس ...بالنسبة لِينَا في ذلك الوقت كنا نَخَدْمُوا بَاه ما نَطَلْبُوش مْن الولدين دْرَاهم السِنما، أو دْرَاهم بَاه تشري الأدوات المدرسية،المهم دِيما دْرَاهْمَك في جيبك، مَشِي دْرَاهم كبار بَصَحْ دْرَاهم يستحقهم الشاب وما تَقْدَرْشْ دَايْمًا تَطْلبهم من أمّك أو بُوك ..".
إذا كانت أسر الفئة الأولى تعتبر - حسب تصريحات مبحوثيها- أنّ النجاح الاجتماعي يمرّ عبر النتائج الإيجابية في المدرسة، فإنّ التحرّر من الالتزامات الدراسية كان الغاية الثانية المرجوة بعد الغاية المتمثلة في تحقيق الرغبات الآنية (شراء حذاء، تذكرة سينما، ...)، كما أنّ تجسيد دور "الرُجْلَة" بوصفها صورة نمطية تعني بالنسبة للمبحوثين الشخص الذي يملك قرار نفسه من خلال امتلاكه استقلالية مالية أمام أفراد الأسرة، وأمام النظراء في الحي،كان يمثّل الغاية الثالثة من مزاولة النشاطات المأجورة، وهذا الدور كثيرا ما استعمل كآلية لتعديل التفاوض حول وضع الاستقلالية ضمن الأسرة.
على عكس الفئة الأولى التي مارست النشاطات المأجورة اختيارا، تعتبر الفئة الثانية أنّ ممارسة النشاطات نفسها، وحتى هجرة مقاعد الدراسة، كانت إجبارية لأنّ الظروف المادية لأسر المبحوثين كانت"جد صعبة" خصوصا نتيجة عدم توفرها على دخل مستقر يضمن قدرا من "الكرامة"، ومثْل سابقتها، لا تصنف الفئة الثانية نشاطاتها على أنّه "عمل" بل تضعه في خانة التضحيات التي كان يجب تقديمها للأسرة لمواجهة حالة الهشاشة الاجتماعية.جوهر الاختلاف مع الفئة الأولى يكمن في تباين النظرة حول دور المدرسة، فعلى عكس الفئة السابقة لم تكن المدرسة بوابة للنجاح الاجتماعي لأنّ البحث عن مصدر للدخل كان أكثر من حتمية التمدرس، وإذا كان مبحوثو الفئة الأولى قد ملكوا سلطة التصرّف في عائدات نشاطهم المأجور- الذي لم يكن دائما نقدا-لتجسيد دور "الرُّجْلَة"، فإنّ عائدات نشاطات الفئة الثانية كانت توضع في غالب الأحيان تحت تصرف الأم أو الأب أو الأخ الأكبر.
" لم نكن نملك شخصا يخدم من أجلنا، الوالد كان حمّالا- برطال-، الإخوة الكبار كانوا يشتغلون في البناء وما كُنَاْش لاحقين، كل أفراد الأسرة لم يتجاوزواprimaire ، الزَلْطْ هو لي يَدَفْعَكْ بَاه تَخْدَمْ، المهم تْصَوَرْ نْهَارَكْ بأي طريقة، مَا كَانََشْ حاجة يْسَمُوهَا التَقْلاشْ، تَصْبَرْ على الزْعَافْ، على السََبْ المُهِم، مين تْجِي داخل في الليل للدار لازَمْ تْكُونْ في يَدَكْ حاجة تعاون بها الدار".
تتشابه العلاقات مع العمل في هذه المرحلة العمرية ضمن خطابات ذاكرة المسرّحين المبحوثين معتبرة النشاطات المأجورة خارج تصنيف ما يمكن أن يوصف "عملا"، ويمكن اعتبار مؤشري السن والتجربة المهنية البعدية، ضمن ظرف العمل المأجور العمومي التي دامت حوالي عقدين من الزمن بالنسبة للمجموعة المبحوثة، عوامل حاسمة ساهمت في تأطير العلاقة بين العمل والأسرة، وإذا كان التشابه واضحا في توصيف النشاطات قبل الانخراط ضمن ظرف العمل المأجور العمومي نظرا لاستثمارها أنشطة متماثلة، فإنّ تأثير الأسرة ودورها في صياغة تلكم العلاقة تكاد تكون على طرفي نقيض، فبين الاختيار والإكراه على ممارسة النشاط المأجور تكمن الفوارق الجوهرية في الدوافع التي صاغت العلاقات الأولى مع "الأنشطة المأجورة".
إنّ وجود هذه التصوّرات حول العمل مقدمة وفق بعض المحدادت الذاتية ضمن هذه المرحلة العمريّة، بقدر ما قد يسمح بمناقشة مسألة التحديد الإحصائي للفصل بين حالتي البطالة والعمل الذي يعتبر أن سن 15 هي سن مرجعية لذلك، بقدر ما قد يعكس محدودية ذلك في الواقع خصوصا إذا كانت المقاربات الكيفية تتحدث عن غياب الاحساس بالبطالة وغياب تبلور المطلب حول أهمية منصب العمل في مثل هذه المرحلة العمرية (حالة تعارض بين التصنيفات الكمية والتصنيفات الكيفية).
2. مرحلة الاعتراف المهني: السنوات الأولى للانخراط في العمل المأجور العمومي
تمثل مرحلة العمل ضمن ظرف العمل المأجور العمومي،التي تعتبر ظرفا مرجعيا للمقارنة بالنسبة للذاكرة العمّالية،أطول مرحلة في المسار المهني للمبحوثين و تتراوح ما بين 18 و23 سنة من النشاط في المؤسسة العمومية للصناعة الحديدية،ويمكن تقسيم هذه المرحلة وفقا لتصريحات المبحوثين إلى قسمين اثنين: قسم شهد بداية تشكّل مسار الاعتراف المهني المرتبط باكتشاف معاني العمل في المؤسسة الصناعية العمومية ضمن ظرف العمل المأجور الدائم، وفي هذه المرحلة كان على المنخرطين الجدد أن يتحكّموا في المعارف التطبيقية والكفاءات الضرورية وكان عليهم أن يتكيفوا مع وقت العمل ومتطلبات العمل الدوري ومتطلبات العمل الليلي، كما كان عليهم أن يخضعوا للسُلط التقنية والإدارية، أكثر من ذلك، كان عليهم أن يتقبّلوا طبيعة العمل في ورشات الفرن العالي. أمّا القسم الثاني فهو مرتبط بحالة تشكل قناعة عدم الخروج من هذا الظرف وبداية التفكير والتجسيد الفعلي لمشروعي الزواج والمسكن بوصفهما فضاءين لاكتساب الاعتراف الاجتماعي في المجالات الخاصة للعامل.
تتحدث خطابات ذاكرة المستجوبين عن السنوات الأولى للتواجد في المصنع وتضعه في خانة البحث عن بناء الاعتراف المهني المصاحب لسيرورات التحكّم في المهارات الفنية الأولية الضّرورية والمرافق للتفاعل مع الثقافات التقنية والمهنية والإدارية في المؤسسة الصناعية بوصفها مؤسسة للتنشئة،ويكشف لنا تحليل الخطابات عن بدايات الاحساس بالاختلاف بين لحظة النشاطات المأجورة، باعتبارها لعبة اجتماعية أكثر مما تدل على "العمل"،والسنوات الأولى للتواجد ضمن "العمل بوصفه مؤسسة اجتماعية". هذا التصور الذي رافق الظرف الجديد للعمل لا تقدمه الخطابات على أنّه قطيعة بين مسارين مهنيين واجتماعيين مختلفين، بل تعتبره انتقالا طبيعيا نتيجة لعامل السنّ (الصْغُرْ وخَدَمْتُو والكُبْر وخَدَمْتُو). أكثر من ذلك، وعلى الرغم من أنّ مرحلة العمل المأجور العمومي تمثل مرحلة الاستفادات المهنية (الحصول على مهنة، تكوين، التدرج في السلم المهني، الحصول على منصب عمل دائم، ...) والاجتماعية (تكوين أسرة)، إلا أنّ الحنين إلى النشاطات المأجورة السابقة تكاد تكون الحاضر الدائم في عمليات المقارنة بين ظرفي العمل، وبين وقتي العمل وبين أجري العمل الممارس.
ساهمت حالات المواجهة الأولى مع ظرف العمل المأجور في المؤسسة الصناعية العمومية في تنامي حالات الفخر بالنشاطات السابقة الممارسة قبل الانخراط ضمن هذا الظرف الجديد، ويمكن لتتبّع خطابات الذاكرة أن تكشف لنا جملة من الفوارق المؤثرة مباشرة في تنامي تلك الحالات، فإذا كانت مرحلة العمل بوصفه "لعبة اجتماعية" يحيل لإكراهات فردية مرتبطة بـ"الصُغْر"، فإن مرحلة بداية العمل في المؤسسة الصناعية تثير مسألة الحضور الدائم للإكراهات المرتبطة بطبيعة العمل في مؤسسة للصناعة الحديدية، فالعامل، حسب تصريحات المبحوثين، عليه أن يواجه صعوبات العمل في ورشة الفرن العالي، عليه أن يواجه صعوبات العمل الليلي، عليه أن يواجه ظروف العمل غير الآمنة، عليه أن يواجه سلطة الرؤساء الفنيين والإداريين المتحكمين في مقاليد التنظيم وعليه أن يواجه سلطة العمّال القدماء الذين سبق لهم العمل في المؤسسة نفسها ولكن ضمن الظرف الكولونيالي.
تشير حالات المقارنة بين ظرفي النشاط إلى تغيّر مؤشرات تحديد العلاقة مع العمل، فإذا كانت النشاطات قبل لحظة الانخراط في ظرف العمل المأجور العمومي هي مجرد لعبة اجتماعية باكراهات تتناسب مع مرحلة عمرية، فإنّ المرحلة التي تليها تقدّم العلاقة مع "العمل بوصفه مؤسسة اجتماعية" في شكل مواجهات متتالية تختلف تماما عمّا عهدته سابقا.
أولى المواجهات التي تثيرها خطابات ذاكرة المسرّحين متعلقة بصعوبات التأقلم مع طبيعة العمل في ورشة الفرن العالي وورشة المصفحة الممثلتين للمهنة الأساسية للمصنع إلى غاية نهاية التسعينيات من القرن الماضي. العمل بالنسبة للمبحوثين في هذه المرحلة كان يعني ببساطة "الأعمال الشاقة" والأشخاص الذين تواجدوا في الورشتين كان يُنظر إليهم بوصفهم عبيدا « des esclaves »، "عْرُوبية" ولا يملكون سوى "بنيتهم البدنية" لكسب قوت يومهم، عمّال لا يقدرون على "العمل" سوى ضمن "الأعمال الشاقة" بسبب انعدام كفاءاتهم ومعارفهم وبسبب أصولهم الريفية. تعبّر الذاكرة عن حالة الرفض المرحلي للعمل المنخرط فيه، ممزوجة برفض للظرف المهني وللوضعية المهنية الجديدة المقترنة بالتخوّف من إعادة إنتاج النموذج المهني نفسه الذي يمثله العمّال المتواجدون في الورشتين. ضمن تصريح المبحوث التالي (توظف سنة 1972 ومسرّح 1997) نستشف المعاني الأولى للعمل المأجور ضمن مؤسسة صناعية عمومية:
" الأيام الأولى في la fonderie كنت نْسُوفْرِي، عُمْرِي مَا كُنْتْ نْظُنْ بَلِي كَاَيْن نَاسْ في الجزائر يَخَدْمُوا كِيمَا لِي كَانُو يَخَدْمُو في four و لا في laminoir. ناس ماتَعْيَاشْ، تْقُول جَايين من الجْبَلْ، يعرفوا الخَدْمَة والتْهَمْبِيرْ".
يرتبط ثاني أشكال صعوبات التأقلم مع العمل بوصفه مؤسسة اجتماعية بالعلاقة مع الوقت، فالعمّال الجدد كان عليهم أن "يتخلصوا من عاداتهم السيئة في علاقاتهم مع وقت العمل" وكان عليهم أن يعلموا أنّ "وقت العمل في المصنع" يختلف عن "الوقت الاجتماعي"، وإذا كان تسيير ذلك في فترة سابقة يخوّل للفرد إمكانيات التعديل والتغيير والتوقّف فإنّ الحالة الراهنة تكاد تكون على طرف نقيض ضمن المؤسسة الصناعية العمومية. لا تقتصر حالة المواجهة فقط على مستوى الخضوع لتنظيم علمي للعمل بل يتجاوز ذلك لقبول العمل في الورديات الليلية، وهنا لا يصبح الليل مرادفا "للسهرات الشبابية" بل مرادفا "للإنتاج".
تمثل سلطة العمّال القدماء على مستوى ورشتي الإنتاج ثالث أشكال المواجهة مع ظرف العمل المأجور العمومي، فهذه الفئة التي كانت تشرف على تسيير الإنتاج وتقييم المردودية وفرض الانضباط وضمان نقل الكفاءات للعمّال الجدد، بقدر ما كانت تمثل المرجعية المهنية والتكوينية بقدر ما اُعتبرت عاملا أساسيا في تشكل العلاقات الجديدة مع العمل. لم تقتصر المواجهة على المستوى الفني بل تعدته للمستوى البدني، فالعمّال القدماء الذين سبق لهم أن توظفوا في المؤسسة الصناعية ضمن الظرف الكولونيالي وسبق لهم العمل مع الأوروبيين في المؤسسة نفسها كان عليهم أن يبرهنوا على أحقية تواجدهم في مناصب التأطير الفني على الرغم من عدم معرفتهم بالقراءة والكتابة وعلى الرغم من أصولهم غير الحضرية. هكذا مثّل الشكل الثالث من المواجهة عنصرا في البقاء أو النفور من ورشتي الفرن والمصفحة، كما مثّل بداية تشكل الوعي بدور القدرات الفنية في التحكّم في سيرورات العمل.
التصريح التالي لأحد العمّال المسرّحين الذين استطاعوا أن يصلوا لمنصب رئيس ورشة بعدما بدأ مساره المهني كعامل موسمي مساعد ( وظف سنة 1979 وسرّح سنة 1997):
" أنا واحد من الناس نْغْبَنْت بَزَافْ في العامين لَوْلِينْ في laminoir، رئيس الفرقة كان جَارِي و كان يعرف بُويَا كان يْخَدَمْنِي كِيمَا يَخَدْمُوles esclaves في الأفلام، ممنوع الهَدِرَة، الخَدْمَة و السْكَاتْ ، كانوا قِوَاهَر تاع خَدْمَة بَصَحْ ما كَانُوشْ يَحَقْرُوا، الرَاجُل عندهم هو اللي يْدِيرْ خَدَمْتَه نِيشَانْ... الخدمة في البَدْيَة كانت تْبَانَنَا صعيبة لأن ما كان عندى لا تكوين، ما نعرف للحديد وعُمْرِي ما خْدَمْتْmarteau ، أنا كنت خَدَامْ في الكُوشة تاع الخبز مشي كُوشة تاع الحديد".
آخر أشكال المواجهة تتمثل في المواقف من الأجر الشهري، فالنسبة للمسرّحين، لم تكن الأجور المقترحة على العمّال المبتدئين الموسميين منهم والمتربصين محفّزة على قبول البقاء في ورشتي الفرن والمصفحة ولم تكن حسبهم تتناسب وحجم "الأعمال الشاقة" المنجزة. تتجلى بشكل واضح حالات المقارنة بين مداخيل النشاطات المأجورة قبل ظرف العمل المأجور العمومي وأثناءه لتكشف أن المقابل المادي (وقت العمل، الجهد المبذول، المسؤولية المباشرة على النتائج) كان قليلا بالنظر لعائدات النشاطات السابقة التي كانت تتيح للفرد الحصول على الأجر نفسه ولكن بأقل الجهد والوقت وكثير من حرية التصرف في الوضعيات المستثمر فيها.
يصرح أحد المبحوثين (توظف سنة 1972 وسرّح سنة 1996) قائلا:
" شَهْرِيَةْENTPL كنت نَحْصَلْ عليها في أربعة أو خمسة أيام خَدْمَة تاع بنتورة peinture، des fois نَنْدَم على الوقت لي فوته في المؤسسة،sacrifite حْيَاتِي على أربعة دُورُوا، كانت عندي الفرصة باه نَخْدَم في سوناطراك ولا بَاه نَخْدَم في شركة أخرى بصح الله غالب... ".
تُقدِم خطابات العمّال المسرّحين المبحوثين علاقتها مع "الشَّهْرية" خلال سنواتها الأولى ضمن المؤسسة في إطار مسألة الاعتراف المهني المرتبط بالوضعية المهنية الجديدة في المؤسسة الصناعية العمومية أكثر مما تقدمه ضمن مسألة الاعتراف الاجتماعي[27] التي تعبّر عن موقف تم بناؤه عقب مسار مهني. "الشَّهْرية عند الدولة" مثلها مثل "العمل المأجور ضمن المؤسسة الصناعية" لا يأخذان صفتي المرجعية في خطابات العمّال المسرّحين المبحوثين في السنوات الأولى ضمن المؤسسة العمومية، وبالإمكان القول أن المعاني الاجتماعية حول "العمل" وحول "الشَّهْرية عند الدولة" ضمن ظرف العمل المأجور خلال السنوات الأولى للعمّال ضمن المؤسسة كانا خاضعين للمخيال الاجتماعي المتعلق باللحظة التي تسبق دخول ظرف العمل المأجور أو "العمل بوصفه مؤسسة اجتماعية"، بمعنى أن الغاية من الحصول على "الشَّهْرية عند الدولة" كانت أكثر من غاية البحث عن قيمتها النقدية. ما يلاحظ عند خطابات ذاكرة المسرّحين في هذه المرحلة هو غياب "الأسرة" وكأن حالة البحث عن الاعتراف المهني ليس سوى قضية علاقة العامل بمجال عمله.
3. مرحلة العمل المأجور العمومي بوصفه مسارا لبناء الاعتراف الاجتماعي
إذا كانت خطابات العمّال المسرّحين في حديثها عن السنوات الأولى من التواجد ضمن ظرف العمل المأجور العمومي مرتبطة بالمواجهات الأربعة (طبيعة العمل، وقت العمل، السلطة داخل المؤسسة والأجر) بغية توضيح صعوبات مسار كسب الحرفة، فإنّ حديثها عن معاني العمل بعد هذه المرحلة إلى غاية لحظة الإقصاء هو حديث عن توسّع الاعتراف المهني إلى البحث عن تشكيل اعتراف اجتماعي تكون الأسرة أحد ركائزه. حالة الغياب الدائم للحديث عن الأسرة فترة بناء الاعتراف المهني المرادفة للسنوات الأولى في ظرف العمل المأجور العمومي ستتغيّر تماما في المرحلة التي تليها ليصبح الحديث عن العلاقات مع العمل مترافقا في كل أشكاله مع الحديث عن الأسرة وفق تصور غائي يجعل منها الغاية الأولى للتواجد ضمن المؤسسة الصناعية العمومية.
يبدأ مسار تشكل الاعتراف الاجتماعي بالانخراط في منظومات التحكم في الحرفة ومتطلبات منصب العمل المؤدي لظهور الترقيات المتلازمة مع ذلك والتحوّل من عامل مؤقت إلى عامل مؤهل،فرئيس فرقة عمل أو رئيس ورشة. وضمن هذا المسار المهني التطوري والمتسارع في غالب الأحيان، يشكل الاعتراف المهني جزءا أساسيا في بناء وتشكل الاعتراف الاجتماعي خصوصا أنّ هذه المرحلة تعلن صراحة عن نهاية المشاريع المنافسة للاستقرار في مؤسسة ENTPL مثل مشروع الهجرة ومشروع العمل للحساب الخاص ومشروع تغيير مؤسسة النشاط.
تتواصل هذه المرحلة من خلال تغيّر العلاقة مع "الشهرية عند الدولة" لتصبح لهذه الأخيرة وضعية اجتماعية تفضيلية مقارنة مع الأجور المحصل عليها سواء عند الخواص أو من عائدات النشاطات الفردية أو من حالات التجارة المعاشية. "الشهرية عند الدولة" لن تعبّر فقط على العلاقات الأداتية بين العمل وعائداته ضمن المؤسسة الصناعية العمومية حسب تصريحات المبحوثين، بل ستحيل إلى وضعية مركبة تدلّ على أن صاحبها "خدّام عند الدولة" وله "منصب عمل قار" وصاحب حرفة ومستفيد من كل الحقوق الاجتماعية المتمثلة في الحق في التقاعد والترقية وزيادة الأجر ...
يعتبر تلاشي المشاريع المنافسة للاستقرار ضمن ظرف العمل المأجور العمومي والانخراط في سيرورة تطورية لاكتساب الحرفة وتغيّر زوال المقارنة بين الأجر المتحصل عليه في المؤسسة وما قبلها عوامل أساسية في بداية تشكّل ضرورة الزواج والبحث عن تكوين أسرة، بحيث تقدمها خطابات الذاكرة على أنها امتداد طبيعي خطي لحالة الاستقرار ضمن ظرف العمل المأجور الدائم، أكثر من ذلك ستعتبر هذه الوضعية مرادفا للرفع من إمكانيات التفاوض في سوق المصاهرة.
ومن هنا، تتغيّر جذريا العلاقة مع العمل ليصبح ظرف العمل المأجور العمومي الظرف المرجعي والتفضيلي لكل أشكال العمل، وهذا ليس لأنّه يضمن التمتع بالحقوق الاجتماعية المرادفة لذلك ولا لأنّه يضمن منصب عمل دائم بل لأنّ "الأسرة" (تكوين أسرة، الانجاب، البحث عن السكن الضروري...) ستحتلّ مكانة فارقة في النظر لنتائج تضرّر العلاقة معه أو تحسّنها،فالعمل ضمن ظرف المؤسسة الصناعية العمومية سيكون مرادفالـ"خُبْزَة الدْرَارِي"ولـ" هذه المؤسسة رَاهَا حَالَّة دْيَارْ"ولـ" هذه المؤسسة رَاهَا مْعَيْشَا عائلات ولٍي يَتْسَبَبْ لِي فِي خَدَمْتِي رَاهْيَ تْسَبَبْلِي فِي الخُبْزَةْ تَاع أولادي"...لنتابع تصريح أحد المبحوثين (توظف سنة 1972 و سرّح سنة 1996):
"...في لافوندري بْنِنَا الدّار، تزوجنا، دَرْنَا الدْرَاِري، لافوندري قَرَاْتَنا الدَرْارِي، بِدْرَاهَمْ لافوندري شْرِيتْtéléviseur،réfrigérateur في لافوندي دَرْنَا الأصحاب وتعرفنا على رُجَالة، في لافوندي حَفِينَا صَحَتْنَا، بلافوندري وَلَاتْ النَاسْ تَعَرْفَكَ، مِين تَدْخُلْ لـ petit lac كان يْسَمُونَا الدْرَارِي بالخَدْمَة تَاعْنَا، مُحمد تاع لافوندري،... الخدمة في لافوندري مَا كُنْتش نْشُوفْها دْرَاهم بَرك، كنا نشوفوا حْياتْنَا من لافوندري...".
وفق هذه الخطابات، التي لا تعطي صفة العمل إلاّ ما ارتبط منها بظرف العمل المأجور العمومي، تصبح حالة الاستقرار في منصب العمل مرادفا - بالنسبة لتصريحات المبحوثين- للاستقرار الأسري ومرادفا لمشاريع تكوينها، كما تصبح الهويّة المهنية "خدّام في لافونديري" هويّة اجتماعية تتعدى الأسوار الفيزيقية للمصنع لتلقي بثقلها على مستوى الحي والأسرة والأقارب مقرّبة شرف التّواجد ضمن هذه الفضاءات بشرف الانتساب لظرف العمل المأجور العمومي.
يمكن القول أنّ مسار تشكّل الاعتراف الاجتماعي المتمايز حسب تمايز المسارات الفردية للمبحوثين يخضع لأربع مسلمات تطرح تارة بشكل تعاقبي وتارة بشكل تزامني. أولها هي "البحث عن الشريك للزواج"، وهنا تصير الوضعية المهنية ضمن ظرف العمل المأجور العمومي عاملا تعتمد عليه الوالدة أو المكلفة بالخطبة للرفع من إمكانيات التفاوض مع العائلة المختارة للمصاهرة، وتكون الوضعية المهنية ضمن ظرف العمل المأجور العمومي أولى الإجابات التي عادة ما تطرحه الأسر المستهدفة بالمصاهرة والمتمثلة في: "ماذا يشتغل ابنك؟" أو "أين يشتغل؟". لا يوفر ظرف العمل المتواجد ضمنه كل مقومات النجاح لتحقيق مشروع الزواج ممن يتم اختيارها، فالمبحوثون، مع ذلك، يعون حدود مؤشر العمل في المؤسسة الصناعية العمومية، لذا فاختياراتهم للأسر لا يجب أن تغفل حالة التوازن بين الظروف الاقتصادية للأسرتين.
تستهدف المسلمة الأولى فرض اختيارات لا يمكن قبول التراجع عنها، فالمعنى الذي يعطيه العامل المبحوث لـ "خدّام عند الدولة" هو الرفض التام لكل أشكال تواجد زوجة المستقبل في سوق العمل المأجور لأنّه ليس بحاجة لمداخيل نشاطاتها طالما أن "شَهْرِية الدَوْلَة" توفّر ما يضمن الحاجيات الأساسية بالنسبة له، ويمكن القول أن حالة التواجد ضمن الظرف العمل المأجور هو أساس فرض مبدأ المكوث في البيت بالنسبة لزوجة المستقبل وغاية الاختيار. يبيّن أرشيف المؤسسة[28] التي سبق أن اشتغل ضمنها المبحوثون أن نسبة تواجد زوجات العمّال في حالة العمل الرسمي لم تتعد في أحسن الأحوال 1%، وبالمقارنة مع تصريحات التي قدمتها العيّنة المبحوثة تتجلى العلاقة الطردية بين البحث عن "المرأة الماكثة في البيت" أو "فرض المكوث في البيت"[29]أو لنقل المرأة التي تزاول نشاطا مأجورا خارج الفضاء المنزلي ووضعية "عامل في مؤسسة صناعية عمومية" وكأن عمل المرأة المأجور كان "عيبا لا يجب أن يحصل" لأنه مرادف "للذّل" ومناقض لـ: "الرَّاجَلْ هُوَ لِي يَصْرَفْ عْلَى دَارُو مَشِي المْرَا"[30].
شكّل العمل ضمن الظرف المأجور العمومي بالنسبة للمبحوثين عائقا أمام تواجد نساء المبحوثين ضمن الظرف نفسه، خصوصا أنّ هذا التصوّر لا ينفصل عمّا كانت تقدمه الإحصائيات الرسمية حول أسباب استقرار النساء في سوق العمل[31].
تنتج المسلّمة الثانية فرضا واقعيا لتقسيم العمل بين المبحوث الذي يتكفل بضمان الدخل وضمان استمراريته وشريكته التي يجب عليها التكفل بكل ما هو عمل منزلي، لذا فالعمل ضمن ظرف المأجور العمومي كان فرصة لتكريس حالة التقسيم الجنسي للعمل واستمرارية "الشهرية عند الدولة" هي استمرارية لبنية توزيع الأدوار التي وضعت المبحوثين دوما في موقع تفاوضي سلطوي غايته الأساسية ضمان عدم استقلالية الزوجة و تبعيتها المالية له.
لا يتوقف تشكّل الاعتراف الاجتماعي الذي يضع التواجد ضمن ظرف العمل المأجور العمومي محلّ تفعيل يومي في الفضاءات الخاصة، كما تقدّم ذلك خطابات ذاكرة المبحوثين، بل تتواصل من خلال تنامي خطابات لم يكنلها مكان أثناء الفترة الأولى للتواجد ضمن ظرف العمل المأجور العمومي، بحيث يصبح قبول الاكراهات والصعوبات ضمن ظرف العمل المأجور العمومي كما تعبّر عنه مثل هذه الخطابات: "الصْبَرْ عَلَى ذّلْ الخَدْمَة والخَبْزَة مُرّة بَصَحْ لازَم تَقْبَلْهَا" أحد أهم الخطابات التي تجسد تبعية الوضعية الأسرية للوضعية المهنية.
يمكن القول أن مرحلة العمل بوصفه مسارا للاعتراف الاجتماعي هي أهم مرحلة ترسّم للأسرة غاية وجدوها، ففي هذه المرحلة من الصعب قبول خطابات العمّال المسرّحين لاستمرارية حالة العزوبية أو حالة الترمّل أو حالة الطلاق عند العامل لأنّ هذه الحالة غير سويّة حسب تمثلاتهم خصوصا إذا كان الفرد موجود ضمن ظرف العمل المأجور العمومي.
4. الإقصاء من ظرف العمل المأجور العمومي: هدم الاعتراف الاجتماعي
تقدم خطابات ذاكرة العمّال المسرّحين علاقاتها مع العمل بعد لحظة التسريح من ظرف العمل المأجور العمومي وفق تصوّر يؤكد أفضلية ومرجعية فترة النشاط في المؤسسة الصناعية العمومية، وهذه المعاني ليست مرتبطة بلحظة الإقصاء من هذا الظرف بل هي خلاصة تقييم للمسار المهني والاجتماعي للفترة التي تلت لحظة الخروج من المؤسسة (1996 و1997) إلى نهاية 2013.
يؤكّد أغلب المبحوثين عند حديثهم عن فترة ما بعد التسريح على فشل مجمل الاستراتيجيات التي تمّ بناؤها بغرض مواجهة فترة ما بعد العمل ضمن ظرف العمل المأجور العمومي، فالنشاطات المستثمر فيها بعد هذه الفترة لم تستطع أن تحمي المبحوثين من حالتي الهشاشة المهنية والاجتماعية المرتبطة بهشاشة الأنشطة المأجورة، سواء كان ذلك من خلال اختيار العمل عند الخواص أو من خلال اختيار النشاط للحساب الخاص أو من خلال القطيعة مع الكفاءات المكتسبة عبر المسار المهني في المؤسسة الصناعية العمومية، فلا الأجر أصبح بمستوى استقرار الأجر المحصّل عليه سابقا ولا مكان العمل استطاع أن يوفر قدرا من "الاحترام" مثلما كان ذلك على مستوى الورشتين في المؤسسة العمومية.
تعتبر "الأسرة"، بالنسبة للمرحلة الرابعة من العلاقات مع العمل فترة ما بعد التسريح، أهم متأثر بانتقال المبحوث من حالة العمل النمطي المرادف لظرف العمل المأجور العمومي إلى حالة العمل غير النمطي المرادف للنشاطات المعاشية المتذبذبة والتي تتراوح بين العمل غير المستقر عند الخواص وبين العمل للحساب الخاص أو ما يسميه المبحوثون "تدبير الراس وتدبير الخبزة". خطابات العمّال المسرّحين حول انقطاع "الشَهْرِيَة عِنْدْ الدَوْلَة" ليست مرادفا فقط لنهاية عقد عمل رسمي بين طرفين وإنّما هي خطابات عن تزعزع العلاقات السلطوية داخل الأسرة وعن تأثير في تلبية الحاجيات الآنية لأفرادها وبداية زوال السلطة الرمزية للمسرّح أمام من سبق له أن وفّر لهم ولو جزئيا بعض المتطلبات. يعتبر المبحوثون أنّ زوال "شَهْرِيَة عِنْدْ الدولة" هي بمثابة زوال حالة الاستقرار في الأسرة لتصبح بذلك العلاقة مع العمل في حالة الأزمة المرتبطة بالعمل غير النمطي مختصرة في الأدوار الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تضمنها.
يصرح العامل المسرّح السابق قائلا :
"الشَهْرٍيَة كانت علينا كِي البَرْنُوسْ سَاتَرنَا و مْبَعْدَ علينا ذُل الزْمَانْ...بَزَافْ لي خرجوا مْن المُؤسسة رَاهُمْ يَطلْبُوا، طََلْقُوا نْسَاُهم وتْفَرْكْتَتْ دارهم ، كَاينْ حَتَى لِي خْفَاْف مَنْ عَقْلَهْ، و كاَيْن لِي سَمْحَتْ فِيه مَرْتَه، مِين كان يْجِيبَلَْها القُفَة كَانَ مقبول في الدار و من انقطعت فَاتَهْ".
يسرد العمّال المسرّحون مساراتهم المهنية والاجتماعية المتباينة بعد مغادرة ظرف العمل المأجور العمومي، ولكن في الوقت نفسه لا يكفّون عن ذكر تجارب "مأساوية" للعديد من زملائهم الذين أجبروا على احتراف التسوّل في الأسواق الشعبية في وهران أو الذين حاولوا الانتحار نتيجة لفشل مشاريعهم المهنية بعد لحظة التسريح أو الذين طلقوا نساءهم (فَرْكْتُو الدّار) نتيجة لعدم تقبل الوضعية الاجتماعية الجديدة، وما يلاحظ على جملة الأمثلة التي تستعرض التجارب الشخصية أو تجارب رفقاء العمل أنّ الحديث عن نهاية العلاقة مع العمل النمطي هو حديث متصل تماما بـ "الأسرة"، بحيث يغيب ضمنه الحديث عن العلاقات مع الحرفة والمهنية ومكان العمل وتوقيت العمل والإرهاق والمخاطر المهنية ليحلّ محلّه الحديث عن الأسرة ومكوناتها،ممّا يعني أنّ نهاية العلاقة مع العمل ليست سوى زعزعة مباشرة لهذا العالم الخاص الذي كان يضمن إعادة إنتاج الجهد ويضمن الغايات الموضوعية والذاتية للعلاقات مع فضاء العمل.
يصرح أحد المبحوثين المسرّحين ( توظّف في 7819 و سرّح في 1996) قائلا:
" كَايَنْ أَصْحَابْنَا لِي خَرْجُوا مْعَنَا في départ الأوّل رَاهُمْ يَطَلْبُوا، كان بْخَدَمْتَهْ، بْشَّهْريته و مَنْ بَعْدْ يْصِيبْ رُوحَهْ هو وزوجته عند الحَيْطْ تَاع المَقَبْرَة تَاع اليْهُودْ يُطْلُبْ، ذَنْبُه على مَنْ؟ مَا زَالْ رَبِي يْخَلَصْ فِي لي دَفْعُوا النَاْس بَاهْ يُخُرْجُوا مَنْ خَدْمَتْهُمْ... هذا مسكين ولاَّ أعمى، تْفَركْتُولَهْ الأولاد وحتى العَاْيلَة تَاعَهْ مَا عَرْفَاتْهُمْشْ، والله مَاِني نْفُوتْ عَلَى هَذِيك الطْرِيقْ غِيْرْ بَاه مَانْشُوفْشْ وَاحَدْ كَان الحْدِيد يْخَافْ مَنَهْ...".
يترافق هدم مسار الاعتراف المهني والاجتماعي في هذه المرحلة خصوصا مع ضياع الاعتراف بالكفاءات المتحصل عليها طوال المسار المهني، خصوصا عندما لا تجد لها مكانة ضمن متطلبات سوق العمل عند الخواص أو في حالات الاشتغال للحساب الخاص، فكل المبحوثين لم يستطيعوا أن يحصلوا على منصب عمل في القطاع الخاص، وحتى وإن وُفّق بعضهم في ذلك لفترات قصيرة، فإنّهم لم يستطيعوا أن يستثمروا كفاءاتهم المحصّل عليها في المؤسسة الصناعية العمومية، أمّا من اختاروا العمل للحساب الخاص فقد كان المجال غير الرسمي الملاذ الوحيد لهم سواء من خلال امتهان التجارة المعاشية الجوارية أو من خلال ممارسة مهنة الحراسة الليلية أو من خلال فتح دكان غير رسمي أو من خلال استثمار المخلفات المالية لمنحة التسريح في شراء سيارة والاشتغال في النقل غير الرسمي.
مسار هدم الاعتراف المهني المؤثر مباشرة على الاعتراف الاجتماعي مقترن أيضا بنقد التبعية لنموذج واحد في العمل عند خطابات ذاكرة المسرحين، لذا فحالة الافتخار بالتواجد ضمن ظرف العمل المأجور العمومي تكاد تكون متلازمة أيضا برفض مسار التنشئة ضمن المؤسسة الصناعية العمومية لأنّ هذا النموذج أنتج "جِيَاحْ لا يمكنهم العمل سوى عند الدولة" ولا يستطعون قبول ظروف العمل عند الخواص ولا يملكون حسّ الاستثمار والعمل للحساب الخاص.
يصرح أحد المبحوثين الذين توظّف في 1980 و سرّح في 1997 قائلا:
"الخَدْمَة عند الدولة جَيْحَتْنَا بَزَافْ، أنَا وَاحَدْ مَنْ النَاسْ لِي مايَقَدْرُوشْ على ذَلْ الخَدْمَة عند الـPrivé وما يَقْبَلْشْ ذُلْ التَفْرَاشْ عند الحيط،un policier يْجِي يَرِميلَكْ سَلْعَتَكْ بْرَجْلِيهْ، نَقْبَلْ ذُل الخَدْمَة عَلَى أولادي عند الدولة بَصَّح ما نَقْبَلْهَاشْ بَرَا. لُو كان بْدِيتْ الخَدْمَة من بَكْرِي عَنْدْ رُوحي عَلَى ذراعي ما تْغِضْنِيشْ الدَعْوَة، هذه الهدرة مَشِي رَانِي نَتْكَبَرْ على الخدمة الله غالب مين حَلِيتْ عَيْنِي و بْغِيتْ نستقر خْطَاريت شهرية الدولة...".
لا تتقاسم الفئة المسرّحة المبحوثة التجارب نفسها بعد الخروج من ظرف العمل المأجور العمومي، ويكفي هنا المقارنة بين شخصين يمتهنان مهنة الحراسة الليلية للسيارات ولكن مواقفهما مختلفة تماما من العمل، فالعامل الأول يعتبر ما يقوم به تكملة مهمة لمنحة التقاعد والشيخوخة ويعتبر أن ما يقوم به هو "عمل" ولو كان لا يرقى إلى العمل خلال فترة العمل المأجور العمومي على اعتبار توفّر العناصر الموضوعية له (وقت للعمل، جهد، مكان للعمل، أجر) لأنّ ما يقوم به يرفع من دخل أسرته، والثاني لا يعتبره كذلك لأنّ غاية ما يقوم به غير واضحة بالنسبة له خصوصا وأنّه يعيش وحيدا بعد هجران زوجته وأولاده البيت الأسرية لذا فهو "خدّام بَصَحْ لا دَارْ و لا دُوَار" بمعنى "من دون بيت ولا أسرة". وفق هذا المثال لا يمكن لتوفّر الظروف الموضوعية لتحديد معنى العمل أن تكون حاسمة في توصيفه لذا تصبح الأسرة، بوصفها غاية العمل وهدفه، عاملا حاسما في التفريق بين الحالتين وتصبح المواقف الذاتية التي يبنيها الفاعلون حسب مواقعهم الاجتماعية ضمن الأسرة محددا لذلك.
الخلاصة
تكشف خطابات الــــذاكرة أنّ العمّال المسرّحين يستدعون "الأسرة" عندما يستعرضون مساراتهم المهنية وعلاقاتهم مع "العمل"، لذا فلا معنى لدراسة العلاقة مع العمل مستندين فقط على العناصر الموضوعية للعمل المجرد، خصوصا إذا كانت الهويات المتشكلة بين الوسطين متداخلة، وعندما تتقاسم الفئة نفسها الظرف العمّالي نفسه، فلا يعني ذلك أبدا أنّ العلاقة مع العمل ومع الأسرة ومع المعاني الاجتماعية حولها متماثلة ومتشابهة، وعندما يتقاسمون لحظة التسريح من ظرف العمل المأجور العمومي، فلا يعني ذلك أنّ حدث التسريح سيؤدي إلى تماثل المعاني الاجتماعية أيضا. إنّ حديث المبحوثين عن مسارهم المهني وفق المتغيرات الموضوعية مثل السن، التدرج في المهنة، الأسرة، الأجر، الحي... حديث ذاتي يتأثر بالمواقف التي يبنيها المسرّحون من تلكم المتغيرات، لذا فدراسة العلاقات بين العمل والأسرة تحتاج الوقوف على التجارب الفردية ذاتية التي أوجدت تلك التمثلات.
يمكن لمثل هذه المقاربات المتداخلة التي تقترح دراسة العلاقات مع العمل منظور إليها من زاوية الأسرة أن تثري النقاشات التي دأبت سوسيولوجيا الأسرة على تداولها، كما بإمكانها أن تفتح نقاشات نقدية لحالات التصنيفات[32] الكلاسيكية لهذه البنية الاجتماعية وأن تدفع بالنقاشات التي سبق لمجلة إنسانيات[33] أن تناولت التساؤل حولها من خلال الكشف عن الممارسات والرهانات الاجتماعية المرتبطة بالأسرة اليوم . دور "العمل" في صياغة العلاقات مع الأسرة أو ضمنها وصياغة التصورات حولها ودور حالات التهميش الاجتماعي نتيجة لهشاشة الموقع ضمن منظومة تقسيم العمل أو التواجد في ظرف العمل النمطي لا يمكنهما سوى تعميق التحليلات - على سبيل المثال - حول "الاستقرار الأسري"، "التشتت الأسري"، "التحولات الجيلية ضمن الأسرة" ومسائل التعامل مع الشيخوخة.
لا يمثل العمل مدخلا منفردا لتحليل التحولات التي شهدتها وتشهدها الأسرة اليوم، فالحديث عن طريقة تفاعل الأسر الجزائرية مع أحداث مصيرية مثل "الثورة التحريرية" أو مع الأحداث الأليمة خلال عشرية التسعينيات من القرن الماضي كلها محاور بحثية منتجة للكثير من المعارف حول هذه البنية المجتمعية الهامة وحول تركيبة العلاقات بين فاعليها.
معالم ببليوغرافية
جابي، ناصر (1994)، " مساهمة في سوسيولوجية النخبة النقابية: حالة الاتحاد العام للعمّال الجزائريين"، مجلة نقد العدد 6، مارس 1994.
غريد، جمال (1997)، " العامل الشائع: عناصر للاقتراب من الوجه الجديد للعامل الصناعي الجزائري"، مجلة إنسانيات، العدد 1.
سعيدي، محمد (1997)، " صورة العمل ودلالاته الاجتماعية والثقافية في المثل الشعبي الجزائري"، مجلة إنسانيات، العدد 1.
مولاي الحاج، مراد، العمّال الصناعيون في الجزائر. دراسة ميدانية بثلاثة مؤسسات صناعية بمنطقة الطرارة، أطروحة دكتوراه دولة تحت إشراف أحمد العلوي وبمساعدة بيار بيدار، جامعة وهران، جوان 2005، غير منشورة.
نوار، فؤاد، المؤسّسة في أزمة والثقافة العمّالية. دراسة أنثروبولوجية حول العمّال المسرّحين منENTPL (1995-2000) وحول المستخدمين الحاليين فيTREFILOR، أطروحة دكتوراه علوم في الانثروبولوجيا، جامعة وهران،2012، غير منشورة.
Bazin, L. (1998), Entreprise, Politique et parenté, Paris, l’Harmattan.
Beaud, S., Pialoux, M. (1999), Retour sur la condition ouvrière. Enquête aux usines de Peugeot de Sochaux – Montbéliard, Paris, Fayard.
Beck, U. (2001), La société du risque. Sur la voie d’une autre modernité, Paris, Alto Aubier.
Benamar, A. (dir.), (2012), Ecole / famille: quels modèles éducatifs, Oran, CRASC.
Bendjelid, A. (1997), « Les stratégies familiales face à la crise de l’emploi à Sidi Bel Abbès : perception de l’espace urbain et diversité de l’informel dans une ville moyenne algérienne», in Insaniyat n° 01, Printemps.
Benghabrit-Remaoun, N. (dir.) (2006), Femmes et intégration socioéconomique, Rapport de l’enquête nationale ménage pour le compte du Ministère délégué de la famille et de la condition féminine, Oran, CRASC.
Bouyacoub, A. (2006), « Emploi et croissance en Algérie », in Musette .S et N. Hammouda, N.-E. (2006), La question de l’emploi au Maghreb central, Alger, CREAD, Volume 3.
Caille, A. (2007), Anthropologie du don, Paris, la Découverte.
Candau, J. (2005), Anthropologie de la mémoire, Paris, Armand Colin.
Castel, R. (2009), La montée de l’incertitude, travail, protections et statut de l’individu, Paris, le seuil.
Cherif, H. (1996), « Représentations du travail et image de soi chez l’ouvrière de l’électronique », document de travail, CRASC.
Deniot, J. (1995), Ethnologie du décor en milieux ouvrier, Paris, l’Harmattan.
Djeflat, A. (1999), (dir.), L’Algérie, des principes de novembre à l’ajustement structurel, Dakar, CODESRIA.
Duvoux, N. (2010), « Le travail vu par les assistés : éléments pour une sociologie des politiques d’insertion », in Sociologie du travail, Vol 52, n° 3, Juillet - septembre.
El Kenz, A. (2009), Ecris d’exil, Alger, Casbah édition.
Fabre, D., Jamin, J., Massenzio, M. (2010), « Jeu et enjeu ethnographiques de la biographie », in L’Homme, n° 195-196, juillet - décembre.
Fabre Daniel, Massenzio Marcello, Schmitt Jean – Claude (2010), « Autobiographie, histoire et fiction », in L’HOMME, n° 195-196, juillet / décembre.
Grenier, J.-Y. (2010), « Travailler plus pour consommer plus : Désir de consommer et essor du capitalisme, du XVIIe siècle à nos jours », in Annales n° 3, Mai - juin.
Hadibi, M.-A. (2014), (coord.), Les jeunes face à la famille et aux institutions de l’Etat : stratégies et représentations, Alger/Oran, DGRSTD/ Crasc.
Linhart, D., Rist, B., Durant, E. (2009), Perte d’emploi, perte de soi, Toulouse, édition érès.
Michel, H., Laurent, W. (2009), « Le monde du travail comme jugement et représentation », in Acte de la Recherche en Sciences Sociales, n° 178, Juin.
Mimouni-Moutassem, B. (2013), (dir.), Famille, éducation et changement social, Oran, CRASC.
Monjart, A. (2005), «Quand les lieux de travail ferment… », in Ethnologie française, Octobre – décembre, Vol. 4, T. XXXV, 581-592.
Oussedik, F. (dir.), (2014), Mutations familiales en milieu urbain, Oran/Alger, DGRSDT/ CRASC.
Pfefeerkorn, R. (2008), « Le travail : axe central des rapports sociaux de sexe », in Revue Pensée, n° 355, juillet - septembre.
Vincent J.-M. (1987), Critique du travail, Paris, PUF.
Notes
[1] Schwarz, O. (2012), Le monde privé des ouvriers, Paris, PUF, troisième édition.
[2] Friedman, G. (1960), « Qu’est-ce que le travail ? » In Annales Economie, Société, Civilisation, 15e année, n° 4, p. 684-701.
[3] Vincent, J.-M. (1987), Critique du travail, Paris, PUF.
[4] Moishe, P. (2009), Temps, travail et domination sociale, traduit de l’anglais (Etats- Unis) par Olivier Galtier et Luc Mercier, Paris, Mille et une nuits.
[5] Gorz, A. (1988), Métamorphose du travail, quête de sens, Paris, Galilée.
[6] Lallement, M. (2000), le travail, une sociologie contemporaine, Paris, Folio.
[7] Selim, M., bazin, L. (2001), Motifs économique en anthropologie, Paris, l’Harmattan.
[8] Hierle, J.-P. (2005), Relations sociales et cultures d’entreprise, Paris, l’Harmattan.
[9] يعتبر ميشال فيري Michel Verret أنّ الأسرة مؤسسة تسمح للعامل بإعادة إنتاج قوة العمل، وهو بهذا الطرح يجعل من مكان العمل أولية تجلي الثقافة العمالية ويضع الأسرة في خانة السند لها فقط وكأن غاية الوجود هو العمل وليس الأسرة. أنظر :
Cf. Verret, M. (1988), La culture ouvrière, Paris, éditions Saint Sébastien.
[10] أنظر على سبيل المثال أعمال الورشة حول "النساء والتنمية" المنظم من طرف مركز البحث في الأنثروبولوجيا و اللجنة الوطنية التحضيرية للجمعية العالمية الرابعة حول النساء المنعقد في الجزائر العاصمة أيام 18، 19، 20 و21 أكتوبر 1994.
Benghabrit-Remaoun, N. (coord.), (1995), Femmes et développement, Oran, CRASC.
وأنظر ايضا للتقرير النهائي التحقيق الوطني الذي أجراه المركز حول "النساء والاندماج السوسيو-اقتصادي" و قد تم التطرق فيه للعلاقات بين النساء و العمل و الأسرة.
Benghabrit-Remaoun, N. (dir.), (2006), «Femmes et intégration socioéconomique», Rapport de l’enquête nationale ménage pour le compte du Ministère délégué de la famille et de la condition féminine, Oran, Crasc.
[11] Cf. Guerid, D. (2007), L’exception algérienne. La modernisation à l’épreuve de la société, Alger, Casbah éd. p. 218-249.
[12] Cf. Bouyacoub, A. (2006), « Emploi et croissance en Algérie », in Musette, S. et. Hammouda, N. La question de l’emploi au Maghreb central, Alger, CREAD, vol. 3.
[13] لا تنحصر الخصائص الثلاثة لتغير بنية اليد العاملة في الجزائر التي تحدث عنها بويعقوب أحمد على الفترة الممتدة إلى غاية 2003، فتحليل نتائج التحقيقات السنوية التي يجريها الديوان الوطني للإحصاء «les enquêtes emploi auprès des ménages» تؤكد تواصل الملامح نفسها.
[14] Voir le rapport portant sur «l’Evaluation des dispositifs de l’emploi», Conseil National Economique et Social (CNES), Alger, juin 2002.
[15] Castel, R. (2009), La montée de l’incertitude, travail, protections et statut de l’individu, Paris, le seuil, p. 23.
[16] Cf. Rosanvallon, P. (1995), La nouvelle question sociale, repenser l’Etat – Providence, Paris, le Seuil. Castel, R. (1995), La métamorphose de la question sociale, une chronique du salariat, Paris, Fayard.
ENTPL [17] تعني المؤسسة الوطنية لتحويل المنتوجات الطويلة بوهران، قبل هذه التسمية سنة 1982 كانت تابعة للشركة الوطنية للحديد SNS وبعد عمليات التسريح العمالية و بداية من سنوات 2000 أصبحت تسمى تريفيلور Tréfilor.انتقل تعداد المؤسسة سنة 1998 إلى 300 مستخدما بعدما كان سنة 1996 يعادل 723،71,24% من المسرحين تراوحت مساراتهم المهنية بين 10 و29 سنة عمل في المؤسسة.
[18] تقدم المسارات المهنية للعمّال المسرّحين من المؤسسة محل الدراسة بعد أكثر من 15 سنة من مغادرة ظرف العمل المأجور العمومي مجالا خصبا لتتبع تغيّر العلاقات مع العمل خصوصا عند تقسيم تلك المسارات إلى المراحل التالية: العلاقات مع العمل قبل الانخراط في ظرف العمل المأجور، العلاقات مع العمل مع بداية الانخراط ضمن ظرف العمل المأجور، العلاقات مع العمل لحظة مغادرة العمل المأجور العمومي، العلاقات مع العمل بعد أكثر من 15 سنة من مغادرة ظرف العمل المأجور العمومي.
[19] تحليل خطابات هذه الفئة المهنية وفق الأبعاد التالية لمقاربة العلاقات المتغيرة مع العمل والمتمثلة في:
"الزمن" كمعطى مهم لفهم سيرورة العلاقة بين المسار المهني والمعنى المقدم للعمل،
العلاقة مع الأسرة والحي كمجالين اجتماعيين للتنشئة الاجتماعية المساهمة في دينامكية معاني العمل عند المسرّح،
لحظة الانخراط في العمل المأجور الصناعي العمومي (لحظة الانخراط في منصب عمل مأجور عمومي) كلحظة مرجعية للذاكرة في بناء التصورات حول معاني العمل.
[20] Sur la notion de « processus de salarisation » voir, Boukhobza, M. (1989), Ruptures et transformations sociales en Algérie, Alger, OPU, vol. 01, p. 129-141.
[21] أنظر الجداول الاحصائية حول عمليات التسريح و الخصائص السوسيو مهنية للمسرّحين من المؤسسة موضوع الدراسة في : فؤاد نوار، المؤسّسة في أزمة والثقافة العمّالية. دراسة أنثروبولوجية حول العمّال المسرّحين من ENTPL (1995-2000) وحول المستخدمين الحاليين فيTREFILOR، أطروحة دكتوراه علوم في الانثروبولوجيا، جامعة وهران،2012 ،غير منشورة ص. 477
[22] Cf. Benaroch, Y. (2006), «Le travail vu du chômage. Une comparaison hommes / femmes », Centre d’étude de l’emploi, document de travail n° 62. «Travail. Norme et signification », Centre d’étude de l’emploi, document de travail n° 4.
العمل" (وقت محدد للعمل، منصب عمل، فضاء محدد للعمل، شهرية مضمونة، حقوق الضمان الاجتماعي، حق في التقاعد التام). تشابه الوضعيات المستمثر فيها من طرف المبحوثين بوصفها عناصر موضوعية لا تنتج خطابات متشابهة لأن ذاتية العلاقة مع هذه المؤشرات التي توصف بالموضوعية عير متماثلة. الشيء نفسه يمكن قوله حول اختلاف المواقف من حدث التسريح رغم أن الظرف الموضوعي واحد.
[24]يتباين تعداد ذلك حسب تصريحات المبحوثين ولكن في الغالب لا تتجاوز الأربع سنوات ويمكن التعرّف عليها من خلال تصريحات المبحوثين التي تحدد سنة بداية التفكير في :" أن المسار المهني لا يمكن أن يكوّن خارج مؤسسةENTPL" وفي تلاشي حظوظ الهجرة أو العمل للحساب الخاص أو تغيير المؤسسة.
[25]تفادى بعض العمّال في مرحلة الشباب الخروج من المؤسسة الصناعية بعد نهاية الدوام بملابس العمل وقد كانوا يحرصون على التجرّد منها بعد نهاية الوردية وكان تغيير ملابس العمل من الطقوس التي تفرّق بين العماّل الشباب والعمّال القدامى. تشير خطابات العمّال المبحوث ينفي المرحلة الثالثة من معاني العمل كما تصوغها الذاكرة إلى بداية زوال تلك الطقوس خصوصا بعد الزواج.
[26] Bourdieu, P., Sayad, A. (1964), Le déracinement, Paris, Les Éditions de Minuit, p. 61-84.
[27] نفرق في تحليلنا لمضامين الخطابات العمال حول معاني العمل المنتجة من طرفهم بين نوعين من الاعتراف: الاعتراف المهني والاعتراف الاجتماعي. سنحاول في الفقرة التالية توضيح الفرق الإجرائي بينهما وتحديد معاني الإجرائية لما اصطلحنا على تسميته بـ" الاعتراف".
[28] أرشيف مصلحة المستخدمين في المؤسسة التي تسمى حاليا تريفيلور والفترة المختارة لتفحص ذلك هي 1990 و1995 أي قبل سنة واحدة من بدأ عمليات التسريح من ظرف العمل المأجور العمومي.
[29] بحسب تعبيرات الإحصائيين Les femmes au foyer
[30] بالفصحى:" الرجل هو من يتكفل بالإنفاق على بيته وليس المرأة".
[31] اعتبرت الاحصائيات الرسمية، إلى غاية منتصف تسعينات القرن الماضي، أنّ " الترمّل" أو "العزوبية" أو " الطلاق" هي أغلب الوضعيات المنتجة للنساء العاملات وأن تغير هذه الوضعيات الأسرية إلى نساء متزوجات هي أكثر العوامل المؤثرة في القطيعة مع الوضعية المهنية المأجورة. أنظر:
Benghabrit-Remaoun. N., (dir.), « Femmes et intégration socioéconomique », op.cit.
[32] Cf. Oussedik, F. (2014), (dir.), Mutations familiales en milieu urbain, Oran, Alger, DGRSDT/ CRASC, p. 22-31.
[33] أنظر بدرة معتصم ميموني، " تقديم: الأسرة، ممارسات و رهانات مجتمعية"، إنسانيات، عدد 59، جانفي 2013، ص 7-10.