إنسانيات عدد 10 | 2000 | العنف : مساهمات في النقاش | ص53-66 | النص الكامل
Mohamed MEROUANE : Maître de conférences - Institut de droit et de sciences administratives, Université d'Oran, 31 000, Oran, Algérie
Bassem MOHAMED CHIHAB : Chercheur, Institut de droit et de sciences administratives, Université d'Oran
توطئة و تقسيم
لا يجد شراح القانون الجنائي متعة للحديث عن الوسيلة الإجرامية اعتقادا منهم بأن لا فائدة يمكن أن تجنى من وراء ذلك باعتبار أن المشرع قد سلب أهمية البحث في الوسائل يوم ساوى بينها، أما نحن فقد رغبنا في مخالفة هذا الاعتقاد بتخصيص هذه الدراسة للمادة المشعة كوسيلة إجرامية في جريمة القتل العمد لنظهر من خلالها الوزن القانوني للوسيلة بين العناصر الأخرى للجريمة، من زاوية اهتمام المشرع بها أولا، و من عموم كونها عنصرا أساسيا في الركن المادي للجريمة ثانيا، ولنرى إلى أي حد يمكن أن تكون المادة المشعة وسيلة للقتل العمد، إضافة إلى ما يجب أن تناله من اهتمام المشرع على المستويين الداخلي و الدولي، و تحقيقا لأكبر فائدة، عقدنا العزم على أن نتناول الموضوع من خلال محاور متعددة.
التعريف بالوسيلة الاجرامية و إظهار أقسامها :
لا أحد يجادل في أن الوسيلة الإجرامية هي الأداة التي يتوسل بها الجاني لتنفيذ مخططه الإجرامي، و تحقيق ما هو عازم على بلوغه، و على الرغم من تجاهل دور الوسيلة الإجرامية و الذي طبع الفكر الجنائي بحجة لا نرتضيها مفادها أن المشرع لا تعنيه الوسيلة في شيء، و الأصح من ذلك في رأينا أن يقال، أن المشرع يساوي بين الوسائل أحيانا، و يتطلب وسيلة بعينها لارتكاب الجريمة أحيانا أخرى، صحيح أن عدم استخدام الجاني للوسيلة التي تطلبها النص لا يعفيه من العقاب، إلا أنه يبقي للوسيلة دور لا يستهان به في ظل هذا النموذج القانوني بالذات، و قريب من هذا الاستنتاج نلمسه مما ذهب إليه البعض في تقسيمه للوسائل إلى (وسيلة حرة) (Free Mean) أي حيث لا يتطلب المشرع وسيلة بعينها لارتكاب الجريمة، وهو الشائع بالتجريم، و بمقابل ذلك يمكن أن يطلق على الجريمة المنفذة بهذه الوسيلة بأنها (جريمة ذات وسيلة حرة) (The Crime of Free Mean)، أما حيث يستلزم المشرع وسيلة بعينها دون سواها فعندها يقال بأنها (وسيلة مقيدة) (Restricted Mean) و يقال عن الجريمة التي تحققت بهذه الوسيلة بأنها (الجريمة ذات الوسيلة المقيدة) (The Crime of Restricted Mean )[1]، و لم يتوان البعض في أن يبني على التقسيم المتقدم نتائج محسوسة، فقيل مثلا بأن الوسيلة إذا كانت حرة فإن الغلط فيها لا يؤثر على القصد الجنائي لدى الفاعل، أما حين تكون الوسيلة مقيدة فالغلط فيها يؤثر على توافر القصد الجنائي لديه[2].
و لو سلمنا بهذا التقسيم لقبلنا بانتماء المادة المشعة لوسائل الإجرام المقيدة، ولا يعيب هذا الاستنتاج سوى الاحتمال القاضي بعدم حساب هذه المادة في عداد المواد السامة، و طبيعي أن هذا التقسيم لا يصح قبوله على درجة واحدة في ظل كل التشريعات العقابية، فالتشريعات التي لم تفرد للقتل العمد بالمادة السامة نصا مستقلا، تعد المادة المشعة في ظلها وسيلة حرة[3] و التشريعات التي جعلت من القتل بالمادة السامة ظرفا مشددا للعقاب، يمكن أن يكون هناك ما يقال بشأن النموذج القانوني المتعلق بها، و ما إذا كان الحكم على الوسيلة يتعلق بأساس الجريمة، أم بالظرف المشدد لها أم بكلاهـما معا[4]. أما التشريعات التي جعلت من جريمة القتل العمد بمادة سامة جريمة خاصة أو موصوفة، فهي الأكثر إثارة، و يحق أن يقال بأن المادة السامة تعد في ظلها وسيلة مقيدة، و أن جريمة القتل العمد هي جريمة ذات وسيلة مقيدة[5].
علاوة على التقسيم المتقدم هناك تقسيم آخر للوسائل لا يقل عنه أهمية حيث قسمت تبعا للأثر الذي يمكن أن تحدثه إلى وسيلة ذات أثر مادي،(The mean of the material effects) أي حيث يكون الأثر الذي تتركه محسوسا و هي شائعة و لا تعد محلا لخلاف ملموس على العكس من خاصيتها، كما أن هناك وسيلة ذات أثر معنوي (The mean of the moral effect) أي حيث لا تترك أثرا محسوسا أو ظاهرا و من الأمثلة عليها؛ التنغيص، وزرع القلق، و التكدير النفسي و إلقاء الأخبار الكاذبة و الوهمية على إنسان يقيم لها وزنا في نفسه و يتأثر بها سلبا لعله مصاب بها فيموت من جراء ذلك كمدا[6]. و الذي يعنينا في مقام ما نحن بصدده هو الوسائل ذات الأثر المادي لا لشيء إلا لأن المادة المشعة تنتمي إليها يؤيدنا في ذلك خواص هذه المادة التي ستكون محلا لوقفه قادمة، و زيادة على ما تقدم يمكن أن نصادف تقسيما آخر للوسائل، تقسيما مرتكزا على معطيات منبعثة عن فكره الإجرام ذاتها، فيقال بأن هناك وسيلة قاتلة بطبيعتها، أي حيث تكون الوسيلة معدة أصلا للقتل، كالمسدس و القنبلة… و ما عداهما، مثلما أن هناك وسيلة قاتلة بالتخصيص أي بحسب استعمالها، كالسكين و الفأس… و نحوهما و في محاولة إدراج المادة المشعة تحت طائفة من الطائفتين تبرز صعوبة نابعة من أن هذه المادة يمكن أن تسخر لغايات بعيدة عن الإجرام إلا أن الجاني وظفها لخدمة مشروعه الإجرامي، مثلما أنها يمكن أن تعد أصلا كوسيلة إجرامية و ما يقودنا إلى هذا الاستنتاج هو أن المادة المشعة تعد واحدة من آثار أعظم سلاح قاتل في العالم هو السلاح النووي (Nuclear weapon)، إضافة إلى أن هناك في الآفاق ما يعرف بالسلاح الإشعاعي (Radioactive weapon)، مثلما أن المادة المشعة وسيلة للعلاج و التشخيص و التعقيم... إلى ذلك، كل هذا يقودنا إلى القول بأن المادة المشعة يمكن أن تعد وسيلة للقتل بطبيعتها زيادة على كونها وسيلة قتل بالتخصيص.
الأهمية القانونية للوسيلة الإجرامية
للوسيلة الإجرامية دور يبدأ منذ ولادة فكرة الجريمة في ذهن الجاني و حتى صدور الحكم عليه من أجلها، هذا الدور الذي لا يقل أهمية عن أدوار العناصر الأخرى للجريمة، و لا ينقص منها شيئا، و يمكن أن نتناول أهم جوانبه و كما يلي :
ا- تحتل الوسيلة مكانة لا يستهان بها لدى المشرع باعتبارها عنصرًا لا غنى عنه لقيام الركن المادي للجريمة، فمثلا تعد الوسيلة الإجرامية أساسا في تقييم مبدأ التناسب في حق الدفاع الشرعي، و لو أن لطريقة استخدام الوسيلة دورًا لا يصح تجاهله، إلا أن طبيعة الوسيلة المستخدمة في الدفاع كثيرًا ما تكون سببًا في الحكم على توافر مبدأ التناسب من عدمه، سواء على المستوى الداخلي أم الدولي، لا بل إنها من اسخن نقاط البحث في القانون الجنائي الدولي خصوصا إذا ما تعلق الأمر باستخدام الأسلحة النووية[7].
ب- إن للوسيلة دورًا في إعانة القضاء على استخلاص القصد الجنائي لدى الفاعل باعتبار أن النية تتعلق بسرائر النفس مما يصعب الوقوف على حقيقتها إلا بالتوسل بدلائل بعينها كالوسيلة الإجرامية و لو أن الاعتماد على طبيعة الوسيلة في استخلاص القصد قد ضعف، حتى قضى (بأن استعمال سلاح ناري و إلحاق إصابات متعددة بمواضع خطره من جسم المجني عليه لا يفيد حتما نية إزهاق الروح)[8].و مع هذا فإن غالبية فقهاء الشريعة الإسلامية يعولون على الوسيلة في استخلاص القصد دون أن يجعلوا من العلم بـها بديلا عن القصد ذاته و لذا فإن البعض منهم قد قال بأن ما يدلل على قصد القتل هو استعمال وسيلة تقتل غالبا، في حين رأى اتجاه آخر أن الدليل الخارجي على قصد القتل هو استعمال وسيلة تقتل غالبا على حين رأي اتجاه ثالث، إن الدليل الخارجي على قصد القتل هو استعمال وسيلة تقتل غالبا، على أن تكون وسيلة مما يعد للقتل أصلا و لهذا بنى البعض على أراء الفقهاء[9] هذه حصيلة مفادها، أن إثبات القصد الجرمي اعتمادا على الوسيلة المستعملة أقوى من سواه من أدلة و قرائن، و أن كان بإمكان الجاني أن يثبت عدم استعماله للوسيلة القاتلة غالبا، لا بل إن دور الوسيلة لا يقف عند استجلاء القصد الجرمي، إنما يتعداه إلى حيث تكون الوسيلة أساسا لبيان درجة هذا القصد[10].
ج- تحتل الوسيلة حيزا كبيرا في مضمار الشروع في الجريمة، سيما حين تدق التفرقة بين نوعي الاستحالة المادية و القانونية حيث يتقاسم الاستحالة عنصرين من عناصر الجريمة، هما الوسيلة و المحل، حتى إن طبيعة المادة المستعملة كوسيلة إجرامية تكون أحيانا سببا للقول بتوفر الشروع من عدمه، و لذا قيل إن ضآلة كمية المادة السامة المستعملة في القتل لا ينفي الشروع، بينما استعمال مادة غير سامة بطبيعتها يجعل الجريمة مستحيلة استحالة قانونية (Legal impossibility)[11].
د- و قد تكون الوسيلة سببا في تشديد العقاب على الجاني جاء في المادة 406/1 ق.ع. العراقي (يعاقب بالإعدام من قتل نفسا عمدا في إحدى الحالات التالية :-). إذ حصل القتل باستعمال مادة سامة أو مفرقعة أو متفجرة.
مثلما تكون الوسيلة دافعا للمشرع إلى أن يجعل من ارتكاب الجريمة بوسيلة ما جريمة خاصة، جاء في المادة 261 ق.ع. جزائري (يعاقب بالإعدام كل من ارتكب جريمة التسميم…)، و طبيعي أن إدراج المادة المشعة في حقل المواد السامة يجعلها سببا في تشديد العقاب، سواء عُدَّ استعمالها ظرفا مشددا، أم عدت الجريمة المنفذة بها جريمة خاصة، ففي كلتا الحالتين تكون النتيجة تشديد العقوبة على الجاني.
هـ- و قد يكون اقتناء الوسيلة بحد ذاته جريمة، بغض النظر عن الجرائم المرتبطة بها، بل أن المادة المشعة مثال لذلك بالنظر لخطورتها، فلا يجوز مثلا استخدام الأشعة المؤينة، أو العمل بها، أو إقامة، أو تشغيل، إدارة أي منشأة تتعامل بالأشعاع، كما لا يجوز استيراد، أو تصدير، أو تصنيع، أو حيازة، أو تداول، أو نقل، أو تخلص من الأجهزة، أو المواد المشعة، إلا بعد الحصول على التراخيص اللازمة لذلك، و لهذا قضت المادة(2) من القرار الصادر عن وزير الصحة المؤرخ في 10/2/1988 بما يلي: لا يجوز أن يحوز و يستعمل المواد الأشعاعية و الأجهزة التي تتولد عنها إشعاعات أيونية، إلا الأطباء و الصيادلة و البيولوجيون و جراحو الأسنان الذين يعتمدهم وزير الصحة[12].
و- إضافة إلى ما تقدم فقد تكون الوسيلة الإجرامية محلا للمصادرة الشخصية أو العينية بحسب الظروف و الأحوال، خاصة إذا كانت أداة للجريمة، أو كانت مما لا يصح اقتنائه من دون رخصة أو كانت خطرة كالمادة المشعة[13]، كما يمكن أن تكون وسيلة للاسترداد (Regain) جاء في المادة (5/2) من اتفاقية الحماية المادية للمواد النووية لسنة 1980 ما نصه (في حالة السرقة أو السلب أو حيازة غير شرعية للمواد النووية أو في حالة وجود تهديد، فعلي بذلك فعلى الدول الأطراف في هذه الإتفاقية- وفقا لقوانينها الوطنية- أن تتعاون و تقدم المساعدة إلى أقصى حد ممكن للدولة التي تطلب ذلك من أجل استرداد و صيانة مثل هذه المواد….)[14].
ح- و أخيرا فإن الوسيلة الإجرامية كثيرا ما تكون سببا للكشف عن خطورة الجاني، بل أنها تعد بحق مرآة للكشف عن نفسيته –أحيانا- فاقتناء قنبلة ذرية بحجم صغير، و هي السلاح الواعد و ربما استخدمها، يدلل على خطورة إجرامية لا يصح الاستهانة بها، مدعومة بنفسية تحوي على نوازع الشر[15].
هذه هي بعض الجوانب الأساسية لأهمية الوسيلة الإجرامية كما بدت لنا، و قد صدق بحق من قال بأن (ما أعطى الوسيلة الجرمية كل هذا و غيره هو تنوعها و اختلافها في خواصها و مميزاتها و اتجاهاتها)[16].
ماهية المادة المشعة كمادة سامة
يعرف الإشعاع عادة بأنه (عبارة عن موجات كهرومغناطيسية تنبعث من المصدر المشع حاملة الطاقة من مكان إلى آخر)[17] أو هو (ظاهرة انبعاث الأشعة من مصادر طبيعية و صناعية أو النشاط الإشعاعي لمصادر الأشعة)[18].
إذا فالشعاع يتمثل بانتقال الطاقة عبر الفضاء، أو هو الطاقة ذاتها المنتقلة عبر هذا الفضاء، و أن مصطلح إشعاع (Radiation ) من السعة بمكان و تنطوي تحته مفاهيم متعددة كالضوء و الحرارة و الأمواج الراديويه، و أن كان الإشعاع الـمؤين (Ionized Radiation ) أي الناشئ عن النوى المشعة هو الغالب على مصطلح إشعاع (Radiation) و هو محور اهتمامنا هنا و ليس الإشعاع الضوئي أو الحراري، و أنواع الإشعاع الـمؤين متعددة كإشعاع كهرطيسي عالي التواتر مثل أشعة أكس (X)، واشعة غاما (Gama)، أو حزم جسيمات مشحونة كجسيمات ألفا (Alpha) و بيتا (Beta)، و بروتونات (Protons)، و حزم جسيمات متعادله الشحنة حيادية، أي نيترونات (Neutrons)[19].
و ما يكسي المادة المشعة الموينة أهمية استثنائية باعتبارها وسيلة إجرامية، هي أن هذه المادة لا تدرك بالحواس، بل يتم الكشف عنها بواسطة أجهزة خاصة (Detectors) كما لا توجد طريقة لافراغها من جسم الإنسان إذ أنها تراكمية (Accumulate)، كما أنها ذات آثار ضارّة متعددة و متنوعة، بالنظر لحساسية جسم الإنسان إزائها، أكثر من سواه من الكائنات الحية الأخرى[20].
وإذ كانت هذه هي المادة المشعة بكل بساطة فإن المادة السامة، و التي يفترض أن تكون المادة المشعة جزءا منها قد عرفت بكونها (جوهرًا قد ينشأ عنه الموت و الأضرار بالصحة إذا أدخل الجسم أو لسلب تأثيره على الأنسجة ؟)[21] أوانها (أي مادة لو امتصها جسم كائن حي أو أدخلت فيه فإنها تدمر حياته أو تصيبه إصابات مميتة)[22].
و هذا يعني أن المادة السامة من السعة بمكان، بحيث يمكن أن يكتفي بإثرها على أنسجة الجسم و وظائف أعضائه، و يمكن أن يكون لهذا التوسع اثره على تفسير النص المتعلق بالقتل بالمادة السامة، من حيث خلق اشكالات ترتبط بالفهم السليم للنص، سيما و أن المشرعين في العادة يتركون أمر تحديد ما يعد من المواد ساما لأهل الخبرة و الدراية و الإختصاص، و هذا أمر لا مفر منه بالنظر ما للسموم من تقسيمات و تفرعات و مشتقات و تصنيفات و جداول و دهاليز لا يدركها إلا المختصين، سيما و أن علم السموم (Toxicology) من العلوم المعقدة، و الخاضعة للتطور و النمو بصورة مستمرة، و قد داب علماء السموم إلى تقسيمها إلى أقسام متعددة كالسموم الغازية، و السموم الطيارة، و السموم العضوية، و السموم المعدنية…إلخ، و في العادة تدرج العناصر المشعة ضمن طائفة السموم المعدنية[23].
المادة السامة بطبيعتها و المادة السامة بحكم الظروف التي استعملت فيها :
يتجاذب تحديد ما يعد مادة سامة لتطبيق النصوص المتعلقة بالقتل بمادة سامة رايان، يحاول كل منهما أن يحدد دائرة النص و هما كما يلي :
الرأي الأول :
يتمسك بضرورة أن تكون المادة المستعملة - سامة بطبيعتها - و عليه فقد استبعد كل ما يختلط مع المادة السامة لامتلاكه خاصية الإماتة، كإعطاء الجاني للمجني عليه كمية كبيرة من أقراص الأأأأسبرين (Aspirin Tablets) تحدث له تسمما و تؤدي بحياته. و لدى هذا الرأي من الحجج ما يدعم وجهة نظره، من ذلك قوله أن تفسير النص على انه يستوعب المواد السامة بحكم الظروف التي قدمت فيها يتعارض مع علة التشديد على القتل بالسم، بل و مع التطور التاريخي للنصوص، إضافة إلى التوسع في تفسير النصوص من دون دواع، و يضيف بأن المواد السامة بطبيعتها هي التي كانت معروفة بقدرتها على القضاء على الحياة قبل تقدم العلوم، لا بل أن هذا الرأي قد تمسك بحرفية العبارة الواردة في نص المادة 301 ق.ع فرنسي (القديم)، و هي عبارة (Est Qualifié Empoisonnement) و قد شجع أصحاب هذا الرأي ما قضت به محكمة النقض الفرنسية برفضها اعتبار واقعة خلط النبيد بالمادة المعدنية جريمة تسميم، و كذلك الحال في خلط مسحوق الزجاج مع الخبز.[24]
الرأي الثاني
و خلاصته أن النص الخاص بالقتل بالسم يستوعب علاوة على المادة السامة بطبيعتها تلك المواد التي تكون سامة بحكم الظروف التي قدمت فيها، و أول حجج هذا الرأي مستقاة من نص المادة 301 ق.ع فرنسي القديم هي عبارة (جواهر يتسبب عنها الموت…)، و على حد قول بعض أنصار هذا الرأي أن العلم الحديث قد تطور و لم يعد القتل بالمادة السامة بطبيعتها يحتكر لوحده مبررات تجديد العقاب على الجاني، بعد أن كشف العلم الحديث كل أسرار جسم الإنسان، وبعد أن تطورت وسائل التعامل مع المواد التي تستخدم في القتل[25].
و لدينا ما يمكن قوله بشأن الرأيين السابقين في موضع لاحق من هذه الدراسة.
المادة المشعة محلا للشك في اعتبارها مادة سامة
على الرغم من اعتبار المادة المشعة جزءًا من المواد السامة عند أهل الخبرة و الاختصاص، إلا أنها مع ذلك محل ريبة لدى الفقهاء القانونيين، يكشف عن ذلك إشارة بعضهم من بعد إلى الوسيلة المشعة، بل و إخراجها من عداد المواد السامة، و المواد الضارة شأنها شأن الصعق بتيار كهربائي[26].
و قد تجد من يعدها مادة سامة من باب الاحتمال الضعيف و عدم التيقن[27]. و الأغلبية من الشرّاح لم تستهوهم المادة المشعة كي يجعلوها مثالا للمادة السامة، و مع أننا لا نملك قرارا قضائيا يكشف لنا عما كان سيقوله القضاء، فيما لو عرضت عليه قضية قتل عمد بمادة مشعة -و هو ما سيشيع كأسلوب إجرامي عما قريب- إلا أننا نعتقد و نجزم بأن النصوص العقابية المتعلقة بالقتل العمد بالسم ستكون مرشحة للتطبيق إزاء القتل بمادة مشعة، و سيكون ذلك مثارا لنقاش جاد و عميق، قد لا تحسمه الخبرة العلمية، خاصة إذا ما كان الإشعاع واحدا من آثار الوسيلة المستخدمة و ليس الأثر الوحيد، و قد يكون هذا النقاش أكثر إثارة من ذلك الذي تمخض اثر الحكم الصادر عن محكمة إستثناف (Paris) في قضية الدم الملوث (Polluter Blood) بفيروس السيدا (S.I .D.A) و رغم أن القضية لم تنته بتطبيق نص المادة 301 ق.ع فرنسي، إلا أن هناك من دافع عن صحة تطبيق هذا النص دون سواه، باعتبار أن نقل عدوى هذا المرض الفتاك بصورة عمدية تتوافر فيه كل عناصر القتل بالسم محتجا بعموم ما ورد في نص المادة 301 ق.ع فرنسي (القديم)- جواهر يتسبب عنها الموت- مكتفيا بأن تكون المادة قاتلة من دون استلزام أن تكون سامة بطبيعتها[28].
و هذه الدعوة لا تخرج عن كونها تطبيقا للرأي القائل باللإعتداد بالظروف التي قدمت فيها المادة، و دون اعتبار لطبيعتها السامة.
حلول في إطار نصوص قائمة أو في إطار اقتراح نصوص جديدة :
إنّ افراد نص خاص بجريمة القتل بالسم في أغلب التشريعات لم يكن وليد مصادفة، بل أن هناك دواعيَ و مبررات منها ما هو لصيق بشخص الجاني، كالجبن، و الخسة، و الغدر، و الخيانة، و درجة القرابة، و خطورة الجاني نفسه، و إصراره على ارتكاب الجريمة في أغلب الحالات. و منها ما يتعلق بالوسيلة الإجرامية- لأن المادة السامة لا يمكن الدفاع ضدها- و من الصعوبة التعرف عليها داخل جسم الضحية، و سهولة ارتكاب الجريمة بها، علاوة على يسر الحصول عليها، و لو تمعنا في هذا لخرجنا بمحصلتين هما :
- إن كل هذه المبررات ترتبط في حقيقتها إلى الوسيلة الإجرامية –أي المادة السامة- لأن النفسية الإجرامية الشريرة التي يتحلّى بها الجاني ما كان لها أن تبلغ طموحها الإجرامي لولا الوسيلة التي ساعدت الجاني فتكشفت خصاله.
- إن جل المبررات السالفة إن لم نقل جميعها تنطبق على المادة المشعة كوسيلة إجرامية، و حتى على فرض أن بعضها لا ينطبق- كيسر الحصول على المادة السامة مثلا – فإن ذلك لا يضر الحقيقة في شيء، لأنها مبررات ليست حصرية، و أن بعضها فقط بدا للمشرع يوم صاغ النص القانوني.
و إذا ما سلمنا بأن المادة المشعة مادة سامة، لم يبق لدينا إلا التخوف الذي نبهنا إليه بعض الفقه - على النحو الذي أوردناه فيها سبق- و لو أننا لا نخشى على المادة المشعة في أن تكون بمستوى الإشكال الذي دار حول التلوث بفيروس السيدا (S.I.D.A)، و إذا كان لا مفر من ذلك، فعندها يكون من واجبنا أن نقترح على المشرع ليتدخل و يقوم بما ما هو من واجبه أن يقوم به، لكي يكون النص القانوني الخاص بالقتل بمادة سامة سليما معافى مثلما نريد له، و حماسنا هذا نطمح في أن يتخطى حماس الآخرين من الذين دعوا إلى تجاوز الوقوف عند التحليل اللغوي للنص، و المتوسلين بخطورة الجاني التي لا يستهان بها[29]. و هي دعوة لتفسير النص تفسيرا مرنا بل أننا نرغب في أن تحظى جميع المواد التي يمكن أن تكون محلا للشك لدى الفقه و القضاء باهتمام المشرع، و ذلك بإعادة صياغة النصوص المتعلقة بالقتل بالسم لتكون أكثر مرونة، و يمكن أن يتحقق ذلك بإضافة عبارات للنصوص القائمة تنطوي تحتها مواد قاتلة تؤدي ما تؤديه المادة السامة من أثر، إلا أن العلم لم يصنفها كذلك، رائدها في ذلك قانون العقوبات الإيطالي، حيث جاء في المادة 577/2 ما نصه (…يعد ظرفا مشددا في القتل العمد…) (…ارتكابه باستخدام جواهر سامة أو بوسائل ضارة…).
و ما كان لأصحاب الرأي القائل بضرورة الاعتماد على الظروف التي تقدم فيها المادة إلا هروبا من القيد الذي وضعه المشرع، بإشتراطه أن تكون الوسيلة مادة سامة، دون غيرها من المواد و لو كانت تؤدي ما تؤديه المادة السامة من آثار، هذا الوضع التشريعي حمل البعض على القول بأن النصوص القائمة عبارة عن موروث لا يقوم على أساس علمي سليم، متسائلا باستغراب عن الفرق بين فعل الطبيب الذي يحقن مريضه بمادة سامة قاصدا قتله، و فعله حين يحقنه بمادة غير سامة قاصدا قتله أيضا و تكون النتيجة في الحالتين الوفاة، رغم أن الطبيب على علم تام بأن حقن المريض بمادة غير سامة يفضي أيضا إلى قتله بسبب طبيعة مرضه، لا بل قد ذهب إلى أن كشف الجريمة في حالة الحقن بمادة غير سامة أصعب مما لو كانت المادة سامة[30].
بقي أن نذكر بما حملته لنا نصوص بعض التشريعات بشأن جريمة القتل بمادة سامة و التي تراوحت عباراتها (…مواد يمكن أن تؤدي إلى الوفاة…)[31] (…مادة سامة…)[32] (…جواهر يتسبب عنها الموت…)[33] (…مواد من شأنها أن تسبب الموت…)[34].
و هي عبارات يمكن أن توصف بالمرونة في أغلبها الا أن عموم سياق النص قد لا يسمح بالتفسير الواسع، حيث يكفي أن يفهم بأن النص جاء لمعالجة القتل العمد بمادة سامة.
خلط مادة سامة بأخرى غير سامة
قد يحصل أن يخلط الجاني مادة سامة بأخرى ليست سامة و تكون الحصيلة مادة غير سامة، كما قد يحصل أن يخلط مادة غير سامة بأخرى غير سامة، فيتولد عن ذلك مادة سامة، و نصادف في هذا الإقتراض رأيين :
الرأي الأول:
نظر إلى طبيعة المادة و لم يقم وزنا للظروف التي أعطيت فيها للمجني عليه و لديه أن نتاج مزج المادتين هو الذي يعول عليه، كأن تكون المادتان غير سامتين و نتج عنهما مادة سامة، و لا يعنيه في شيء أن يكون علم الكيمياء لم يعط هذه المادة إسما حيث يكون تطبيق النص المتعلق بالقتل بالسم واجبا، أما عند خلط مادتين إحداهما سامة و الأخرى غير سامة بحيث أفقد سمية الأولى فعنده أن نص القتل العمد بالمادة السامة لا ينطبق، أي لا تقوم جريمة القتل بالسم لا تامة و لا ناقصة، بل يطبق على الواقعة نص آخر للقتل العمد و حسب الظروف[35]. على أن هناك من يرى ضرورة تطبيق النص المتعلق بالقتل بالسم باعتبار أن ما آتاه الجاني يعد شروعا بجريمة القتل بالسم، رغم كونه من مناصري فكرة التعويل على طبيعة المادة، معتمدا في استنتاجه هذا على نية الجاني في القتل[36].
و يبدو أن أصحاب الرأي القائل بطبيعة المادة لم يكونوا على وفاق حين يكون نتاج المادة مزج مادتين بمادة غير سامة، بل أن الرأي الأخير قد وقع – على ما يبدو- في تناقض، ففي الوقت الذي عول على طبيعة المادة، دعا إلى تطبيق النص المتعلق بالقتل بالسم على حالة استخدام مادة أضحت غير سامة ساعة تقديمها للمجني عليه، علاوة على كونه قد افترض أن عدم سمية المادة لا يحقق سوى الشروع في القتل، و قد فاته الاعتقاد أن هذه المادة قد تكون قاتلة في ظروف معينة.
الرأي الثاني
و هو الرأي القائل بالتعويل على الظروف التي قدمت فيها المادة لا على طبيعتها إذ العبرة لديهم ليس بطبيعة المادة من الناحية المادية بل بخواصها في الظروف التي قدمت فيها، و بمعنى آخر العبرة بالتأثير الذي تحدثه على أنسجة الجسم في الظروف التي قدمت فيها[37]. و يحتجّ بعض القائلين بهذا الرأي بما حكم به القضاء المصري بشأن قضية عرضت عليه، تتخلص وقائعها، إن رجلا استأجر شخصا بحجة كونه طبيبا، لأجل قتل زوجته المريضة، فوضع الأخير في أذن المجني عليها مادة الزئبق، حيث اعتبرت المحكمة أن ما قام به الشخص لا يعد شروعا بالقتل بالسم، لأن الزئبق لا يمكن أن يحدث مفعوله السمي، إلا إذا كان في الأذن جروحا، و هو ما لم يحدث عند المجني عليها[38].
و الذي يبدو لنا مما تقدم أن معيار الظروف التي تقدم فيها المادة معيارا غير منضبط بل و غامض حيث يبقي التساؤل عن ماهية الظروف التي تقدم فيها المادة، فهل هي أبعد من الظروف الصحية للمجني عليه، و مشتملة على ظروف الزمان و المكان و الظروف المناخية و ما سواها؟، كما أنه يتعارض مع الحكمة التي من أجلها خص القتل بالسم بنص مستقل، علاوة على كونه يساوي بين المادة السامة و غير السامة، إضافة إلى ذلك أن النصوص القائمة لا تستوعب هذا التوسع و أن القياس محظور و لو كانت نية الفاعل متجهة إلى القتل.
و نحن لا نرغب في أي من الرأيين السالفين على إطلاقهما – رغم أن القائلين بطبيعة المادة أحق من سواهم، في ظل النصوص القائمة- و ذلك لأن كلاهما يعدان نتاجا لفهم النصوص الحالية، و لا توجد وسيلة لاجتثاث هذا الخلاف سوى تدخل المشرع، بتعديل النصوص القائمة، أو باستحداث نصوص جديدة و هي الدعوة التي ما فتانا نرددها، خشية على العدالة في أن تطمس معالمها، بين من يري أحقية التمسك بطبيعة المادة، و بين من يرى ظروف تقديمها، و أن أمام المشرع فرصة استثمار الخلاف الفقهي لحسم المسألة بعد أن يكون قد تنبه إلى الأبعاد الحقيقية لخطورة بعض المواد على الإنسان.
المادة المشعة مادة سامة و غير محرمة دوليا:
لم تقتصر الصعوبة التي أفرزتها المادة المشعة (Radioactive) كمادة ذات خواص معروفة على الصعيد الداخلي، بل تخطته إلى المستوى الدولي، و لو أن هناك فروقا بين الحالتين لا يصح تجاوزها، لا تتعلق بدرجة الاهتمام و الخطورة فحسب، و إنما بوجهة طرح المشكل أيضا، ذلك أن النقاش المطروح على المستوى الدولي و الذي يشكل عاملا ملحا للبحث عن حلول، هو ذلك المتعلق بالسلاح النووي (Nucelear Weapon) على الرغم من أن هناك في الآفاق ما يعرف بالسلاح الإشعاعي (Radioactive Weapon)، و الذي ندع الحديث عنه الآن جانبا، لنقول بأن السلاح النووي (هو كل جهاز قادر على إطلاق طاقة نووية دون سيطرة عليها، و له من الخواص ما يجعله مناسبا للاستخدام في الأغراض العسكرية و لا يدخل في هذا التعريف الوسائل التي تستخدم في نقل أو إطلاق هذا الجهاز، إذا كانت منفصلة عنه، و ليس جزءا منه)[39]، أو هو (كل سلاح يتضمن أو يصمم لكي يتضمن أو يستعمل وقودا نوويا أو نظيرا مشعا، و يمكن له أن يتسبب في دمار شامل أو أضرار شمولية أو حالات تسمم ضخمة عن طريق الانفجار أو أي تحويل نووي غير محكوم آخر، أو عن طريق إشعاعية الوقود النووي أو النظائر المشعة)[40].
إن الأشكال الذي يطرحه السلاح النووي ينبثق عن فكرة تحريمه، و هذا يتطلب استعراضا لجانب من نصوص القانون الدولي ذات الصلة بتحريم هذا السلاح، ابتداء من تصريح سان بطرسبرج لعام 1868 الذي تعهدت الدول بموجبة بعدم استعمال قذائف قابلة للانفجار و تحتوي على المواد الملتهبة أو الحارقة التي يقل وزنها عن 400 غرام، إذ أنها تحدث آلاما لا لزوم لها، و تصريح لاهاي لعام 1899 حيث قطعت الدول العهد على نفسها بـ (الامتناع عن استخدام المقدوفات التي يكون غرضها الوحيد نشر الغازات الحارقة أو الضارة بالصحة). و ما جاء في المادة 23/أ من لائحة الحرب البرية الملحقة باتفاقية لاهاي لعام 1907 و التي حرمت استخدام السموم و الأسلحة المسمومة، و المادة 117 من معاهدة فرساي لعام 1919 التي حرمت (استعمال الغازات الخانقة و السامة و ما شابهها). و ما نص عليه بروتوكول جنيف لعام 1925 (طالما كان استعمال الغازات الخانقة أو السامة أو الغازات الأخرى، و الوسائل و المواد و المخترعات المشابهة في الحرب قد استنكره الرأي العام في العالم المتمدين… و من أجل أ ن يقبل هذا التحريم بين دول العالم كجزء من القانون الدولي، تتعهد الدول، بأن تقبل هذا التحريم و توافق على أن يشمل الأسلحة البكتريولوجية، و تتعهد بالالتزام فيما بينها بذلك طبقا لهذه المعاهدة) إضافة لما جاء في اتفاقية (منع الإبادة الجماعية لعام 1948) و التي حددت من جملة الأفعال تكاد تنطبق جلها على السلاح النووي، و كذلك ما ورد في اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، و البروتوكولات الملحقة بها، التي وجدت من أجل تحسين حال الجرحى و الأسرى و المرضى من القوات المسلحة و المدنيين في الحرب، و حرمت القتل بكافة أنواعه و بتر الأعضاء و المعاملة القاسية و التعذيب.
علاوة على سلسلة القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ابتداء من قرارها المرقم 1653 (د/16) لسنة 1961، و مرورا بقرارتها الصادرة في السنوات 1972، 1980، 1995.
و أخيرا اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية المؤرخة في 13/1/1993.
و رغم كل الثقل القانوني الإتفاقي و العرفي، إلا أن محكمة العدل الدولية لم تتمكن من الجزم بأن قواعد التحريم السالفة و غيرها تنطبق على الأسلحة النووية، و ذلك في فتواها الشهيرة التي أصدرتها بعد مخاض عسير بتاريخ 8/7/1996) بناء على طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها (A/ Res 49/75 k) المؤرخ في 15/12/1994، حيث استفسرت الجمعية العامة من المحكمة عما يلي (هل التهديد بالأسلحة النووية أو استخدامها في أي ظرف من الظروف يكون مسموحًا به موجب القانون الدولي…؟.
و إن المحكمة و إن كانت لم تجزم بتحريم السلاح النووي (Nucelear Weapon) إلا أنها قد ركزت في فتواها على إمكانية استخدام هذا السلاح في الحالة القصوى للدفاع عن النفس، حيث يكون بقاء الدولة نفسه مهددا بالخطر[41].
المادة المشعة وسيلة للتحايل على الصعيد الدولي.
و بما أن السلاح النووي لازال غير محرم، فان عدم تحريمه يعود إلى خواص هذا السلاح، خاصة و إن آثاره تتكون من لهب و حرارة (Flameand and Heat)، و هي اثار قريبة، علاوة على الآثار البعيدة السامة الاشعاعية Radioactive) ) و التي لم تأخذها محكمة العدل الدولية في فتواها بنظر الاعتبار، رغم إنها قد خصت السلاح النووي بظاهرة الإشعاع، واعترفت بأن هذه الظاهرة لا تضر سوى بالمادة الحية، و هو تعريف منها للسلاح الكيميائي[42]، و من مذهبها هذا استنتج إن السلاح الكيميائي من الممكن ان لا يكون محرما لمجرد إن تضاف إليه متفجرات، علاوة على إن المحكمة قد توصلت إلى أن عبارة "الأسلحة المسممة" و عبارة" المواد و الطرق المماثلة" تنطبق على الأسلحة التي يكون آثارها الأول و الوحيد هو الإصابة بالتسمم و الاختناق[43]، مثلما رفضت أن تكون لثفاقية حظر الأسلحة الكيميائية لسنة 1993 منطبقة على السلاح النووي، باعتبار إن المفاوضات التي سبقت الاتفاقية لم تتطرق إلى هذه الأسلحة بتاتا[44]، و إذا كانت مسألة خلط المواد أو اختلاف الآثار التي يمكن أن تتولد عنها قد ولدت خلافا على الصعيد الداخلي، فان المسالة الأكثر أهمية تثار على صعيد الدولي، ذلك أن تحريم الأسلحة الكيميائية لا يعني تحريما للأسلحة النووية و أن التشابه الواقع بين بعض أثار السلاح النووي مع السلاح الكيميائي لا يعني أن الأخير محرم، ولا يفيد بعد هذا القول بأن لهذا السلاح أثار مدمرة أكثر من سواه من الأسلحة المحرمة، أو أنه يحدث آلاما لا لزوما لها، و يعد وسيلة للأبادة الجماعية، وأن نشاطه الأشعاعي ينطبق عليه نصوص بروتوكول جنيف لعام 1925 و أن بعض أثاره ساما[45]، كل هذا لاغبار عليه و لكن يبقى التساؤل عن الحالة التي كانت فيها الأسلحة الكيميائية محرمة قبل عقد اتفاقية تحريمها إذا فما داعي لهذه الاتفاقية بعد التحريم السابق؟، حيث أن اتفاقية تحريم الأسلحة الكيميائية هي التي حتمت عقد معاهدة مماثلة لها لتحريم الأسلحة النووية.
ورغم عدم التحريم الصريح للسلاح النووي، إلا أن التزاما غير مباشر يقضي بعدم استخدامها إلا في الضرورات القصوى هذا الالتزام النابع من الضمير العالمي و من العرف الدولي، و لكن تبقى مسألة التحايل على هذا الالتزام قائمة، و نخشى أن يظل واردا حتى بعد توقيع اتفاقية حظر شامل لاستخدام السلاح النووي، و تخوفنا هذا يقوم على سند من الواقع، يتمثل في قيام الولايات المتحدة الأمريكية في حرب الخليج، و من دون استشارة حليفاتها، باستخدام ما مجموعة 300 طن من مادة اليورانيوم المستنفد (و هو قليل السمية، وأن اشاعيته تصل إلى نصف اشعاعية اليورانيوم الطبيعي) من خلال إطلاق ( 51 ) ألف خرطوشة تحوي على ما يعرف (سكائر اليورانيوم المستنفد) لمهاجمة الدبابات العراقية، و قد أضحى ذلك فيما بعد كارثة تمثلت بالأمراض السرطانية و غيرها من الأمراض الغامضة حلت بسكان المنطقة، علاوة على ما خلفته من أصابات في صفوف العسكريين[46] و للتذكير فان الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد هددت باستخدام الأسلحة النووية ضد العراق فيما لو استخدم الأخير أسلحة كيميائية أو بيولوجية.
الخاتمة
هذه هي إذا المادة المشعة كوسيلة إجرامية كما بدت لنا و كما رغبنا في إظهارها، واحدة من إفرازات التطور، وقد كانت غايتنا الأولى من هذه الدراسة، ليس التعريف بالمادة المشعة كوسيلة للإجرام و حسب، بل الأكثر من هذا كله هو تذكير المشرع بدوره الذي ينبغي أن يضطلع به تجاه مادة خطرة، وغير محسوبة العواقب، وأننا لا نرغب و لا نطمح في أن يعاقب المشرع المادة المشعة على غرار ما كانت تقوم به الأقوام البدائية بعقابها للمادة التي تضر بالإنسان، بل نأمل في أن لا يتناسى المشرع واجبه التشريعي، نعم إنها وسيلة في عداد الوسائل، ولكن أي وسيلة ذات خواص تحقق للجناة أكثر مما يطمحون، و بذلك تكون المادة المشعة مهمة حتى لدى هؤلاء.
وإذا كانت المادة المشعة من المواد السامة وأن الجاني الذي يستخدمها ينال من العقاب ما يكفي، فإننا نسجل ملاحظة مفادها أن ليست كل التشريعات قد أخذت بتشديد العقاب على استخدام المادة السامة، كما إننا نرى إن في المادة المشعة بعدا أخطر من كونها مادة سامة، بالنظر لأثارها الممتدة مع الزمن و الخطرة في ذات الوقت، يؤيدنا في ذلك التضخم التشريعي الذي يشهده العالم على المستوى الدولي و الداخلي و الذي يواكب أدق صور التعامل بالمواد المشعة.
و مع أننا لا نشك في سمية المادة المشعة، و قد لا نحتاج للتوسل بمبدأ الظروف التي تقدم فيها المادة للقول بانطباق النص المتعلق بالقتل بالسم، و لكن مع ذلك أبقينا تخوفنا من احتمال استبعاد هذا النص من التطبيق عندما تكون جرائم القتل قد تمت بمادة مشعة، رغم عدم امتلاكنا لرأينا قضائيا بهذا الصدد، و إذا ما تحول تخوفنا هذا إلى حقيقة في ساحات القضاء، فلا يكون أمامنا من بد إلا أن ندعو المشرع للتدخل لأجل تلافي نقصا تشريعيا، مع كوننا نرغب في كل الأحوال أن نميز المادة المشعة، بنصوص عقابية مستقلة تماشيا مع النصوص العديدة التي تقيد التعامل بها بصورة تفوق التوقع.
و قد حرصنا في هذه الدراسة على التنبيه للمخاطر التي تؤدي لها مسألة خلط المواد و تغيير تركيبها، لأننا نرى في ذلك وسيلة من وسائل التحايل على النصوص، و ما يشجع ذلك هي الصيغ الجامدة لهذه النصوص التقليدية، و في الوقت الذي نحبذ أن تؤخذ وسائل بعينها بنظر الاعتبار، لا نرغب في أن يكون خلط المواد هو السبب في عدم تطبيق نص ما، لذلك فإن تحريم الأسلحة النووية مستقبلا يجب أن لا يورثه استخدام أسلحة تقليدية مدعومة بمواد نووية، أو أن رمي الجاني للمجني عليه بإطلاقه سامة يستبعد النص الخاص بالقتل بالسم، لكون الأمر يتعلق أساسا بإطلاقه نارية، و قد رأينا أن تحريم السلاح الكيميائي لخاصيته السمية، لم يستتبعه تحريم السلاح النووي رغم احتوائه على مواد إشعاعية سامة.
الهوامش
[1] - د. الصيفي، عبد الفتاح مصطفى.- قانون العقوبات، القسم الخاص.- الاسكندرية، 1967.- ص.75.
[2] - ثروت، جلال.- نظرية القسم الخاص، ج1، جرائم الاعتداء على الأشخاص.- بيروت، الدار الجامعية، دون سنة طبع.- ص.142.
[3]- مثال لتلك التشريعات العقابية، القانون التونسي، و السوري، و اللبناني.
[4]- مثال لتلك التشريعات العقابية، القانون العراقي م/406/1/ب، الأيطالي م /577/2.
[5]- مثال لتلك التشريعات العقابية، القانون الجزائري م /261، المغربي م/398، الفرنسي الجديد م/222/5.
[6] - د.بكر سالم، عبد المهيمن.- الوسيط في شرح قانون الجزاء الكويتي، المطبعة العصرية.- الكويت، ط2، 1977.- ص.86.
[7]- للمزيد حول مبدأ التناسب و الأسلحة النووية أنظر: NEGENDRA- SINGH.- Nuclear Weapons and International Law.- London, 1959.
NEGENDRA- SINGH.- The right of self- defence in relation to the use of nuclear wapons. -1956. Indian Year Book of international affairs.
[8] - مصري، نقض .- 16/10/1950، مجموعة أحكام النقض، 427/1166. أشار إليه د. عبد المهيمن بكر سالم.- مرجع سابق.- ص.120.
[9] - الرأي الأول للإمامان (الشافعي و أحمد)، أما الرأي الثاني فهو للإمام (أبي حنيفة)، الذي يشترط لتوافر القتل العمد أن تكون الوسيلة مما يقتل غالبا، علاوة على كونها أي الوسيلة معدة للقتل، و تعليل رأيه هذا أن كل فعل يحصل بوسيلة تعد له فإن حصل بوسيلة أخرى احتمل أم يكون الفاعل لم يقصد هذا الفعل بالذات و هذا الإحتمال شبهة، مما لا يمكن القول عنده بالقتل العمد. أما الإمام (مالك) فلا يقيم وزنا لنوع الوسيلة سواء مما يقتل غالبا، أم مثيرا، أم نادرا.
أنظر في كل هذا: عودة، عبد القادر.- التشريع الجنائي الإسلامي، مقارنا الوضعي.- ج2 ، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط10، 1989.- ص.ص.27 و ما بعدها.
[10]- الزغبي، فريد.- الموسوعة الجزائية.- المجلد السادس عشر، بيروت، دار صادر، 1995.- ص.365.
[11]- للمزيد أنظر : د/ الشناوي،سمير.- الشروع في الجريمة.- القاهرة، دار النهضة العربية، 1971.
[12] - القرار منشور في الجريدة الرسمية الجزائرية ع 35 المؤرخ في 31/8/1988.
كما جاء في المادة 12/9 من قانون الوقاية من الإشعاعات المؤينة العراقي رقم 99 لسنة 1980.
المنشور في الوقائع العراقية عدد 2775 في 26/5/1980، بضرورة (إبلاغ المركز فورا عن فقدان أي من مصادر الإشعاع أو سرقته، أو وقوع حادث من شأنه تعريض الإنسان أو البيئة إلى مخاطر الإشعاع أو (التلوث).
[13] - أنظر المواد (15،16) من ق.ع الجزائري. و المادة (101). من ق.ع العراقي.
[14]- Legal Series N°12 International Atomic Energy Agency.- Vienna, 1982.
[15] - كشف الجنرال الروسي (مستشار الأمن القومي الروسي السابق) "الكسندر ليبيد" عن جملة حقائق تتعلق بصناعة قنابل نووية بحجم حقيبة صغيرة زنة الواحدة منها تتراوح بين (30-40) كغم قادرةكل واحدة منها على قتل 100.000 (مائة ألف) من الأشخاص، و من أن المخابرات الروسية (E.G.B)- على حد قوله- هي التي أمرت بصناعتها في عقد السبعينات كما صرح بأن الجيش لروسي قد فقد السيطرة على 100 من هذه القنابل، و قد أكد جانبا من هذه الحقائق في –جريدة الخبر- العدد 2074 س7، 22/9/1997.
[16] - الزغبي، فريد.- مرجع سابق.- ص. 365.
[17] - د. عويضة، محمد أحمد و المومني، حيدر عبد المجيد.- الأشعاع، المجلة الثقافية، ع 39، تصدر عن الجامعة الأردنية، أوت-نوفمبر 1996.- ص 257.
[18]- المادة (2) من قانون الطاقة النووية و الوقاية الإشعاعية الأردني رقم 14، لسنة 1987.
[19] - د. حداد، ابراهيم و د. عثمان، إبراهيم.- التلوث الإشعاعي مصادره و أثره على البيئة.- تونس، منشورات المنظمة العربية للتربية و الثقافة و العلوم.- ص.ص. 14 و ما بعدها.
[20] - مارك، د.؛ هارول، أ..- الشتاء النووي، تأثيرات الحرب النووية على الإنسانية و على البيئة.- ت. عبد الله حيدر.- بيروت، دار الرقي، 1986.- ص.107.
[21] - د. فؤاد الحضري، مديحة و د. أبو الروس، أحمد بسيوني.- الطب الشرعي و البحث الجنائي.- الأسكندرية، دار المطبوعات الجامعية، 1989 .- ص.207.
[22] - د. بنونة، محمود خيري.- القانون الدولي و استخدام الطاقة النووية.- القاهرة، مطبوعات دار الشعب، ط2، 1971.- ص.190.
[23] - للمزيد أنظر : د. الدقاق، مصطفى.- التطبيقات العملية لعلم السموم.- ج2، دمشق مطبعة الأنشاء، 1965.
[24]- د. أبو عامر، محمد زكي و د. القهوجي، علي عبد القادر.- القانون الجنائي (القسم الخاص).- بيروت، الدار الجامعية،1985.- ص.128.
د. ثروت، جلال.- مرجع سابق.- ص.177.
[25] - جندي، عبد المالك.- الموسوعة الجنائيبة.- ج. 5، دار العلم للجميع، ط2، دون سنة طبع.- ص.ص. 750-751.
- الخمليشي، أحمد.- القانون الجنائي الخاص.- ج2، مكتب المعارف، الرباط، ط1، 1982 .- ص.95
[26]- د.مأمون، محمد سلامة.- قانون العقوبات، القسم الخاص، جرائم الاعتداء على الأشخاص و الأموال.- القاهرة، دار الفكر العربي، 1983 .- ص.68.
[27]- د. حربة، سليم إبراهيم.- القتل العمد و أوصافه المختلفة.- بغداد، مطبعة بابل، ط1، 1988.- ص. 246.
[28] - د. الصغير، جميل عبد الباقي.- القانون الجنائي و الأيدز.- القاهرة، دار النهضة العربية، 1995.- ص.33.
[29]- د. ثروت، جلال.- المرجع السابق.- ص.408.
[30]- الخمليشي، أحمد.- المرجع السابق.- ص.95.
[31]- المادة 260 ق.ع جزائري.
[32]- المادة 406 ./1/ ب ق.ع عراقي
[33]- المادة 149 (مكرر) قانون الجزاء الكويتي
[34] - المادة 398 جزاء مغربي، و كذلك المادة 301 ع فرنسي قديم، 222/5 ع فرنسي جديد
[35]- د. أبو عامر، محمد زكي.- مرجع سابق.- ص.128.
[36]- د. ثروت، جلال.- مرجع سابق.- ص.176.
[37]- د. مصطفى، عبد الفتاح.- مرجع سابق.- ص.222.
[38]- د. عبد الباقي الصغير، جميل.- مرجع سابق.- ص.37.
نقد مصري 13/12/1913، المجموعة الرسمية س 15 رقم 19 ص 41.
و حري بنا في هذا المقام أن ننوه إلى أن هناك فرقا بين أن تكون المادة قاتلة بطبيعتها، أي معدة أصلا للقتل، و بين أن تكون سامة بطبيعتها، إذ تبدو الأخيرة أوسع من الأولى، في إطار الحديث عن المواد السامة دون سواها.
[39]- أنظر المادة (5) من معاهدة تحريم الأسلحة النووية في أمريكا اللاتينية، الموضوعة في 14/2/1967.
[40] Protocol III des Accords de paris du 23 Octobre 1954 State contrôle des armements Annexe II Dans RGDIP 1963.- p.825.
[41] - الفقرة (105/2) من فتوى محكمة العدل الدولية الصادرة في 7/8/1996، بشأن شرعية استخدام أو التهديد باستخدام السلاح النووي. منشورة تفاصيلها في المجلة الدولية للصليب الأحمر، س10 ع 53 ك 1 فبراير 1997، إصدرات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، جنيف.
[42]-
[43]- الفقرة (55) من الفتوى أعلاه (النص العربي)
[44]- دافيد، أيريك.- فتوى محكمة العدل الدولية بشأن مشروعية استخدام الأسلحة النووية.- منشور في المجلة الصادرة عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر، مشار إليها أعلاه .- ص.ص. 21 و ما بعدها.
[45]- د. بنونة، محمود خيري.- مرجع سابق.- ص.ص. 187 و ما بعدها.
[46]- حقائق مفزعة عن حرب الخليج، أسلحة مشعة ضد العراق، بقلم لافيت و رولاند. ترجمة نعيمة الفقير، صحفية لوموند بولتيك الفرنسية (النسخة العربية)، عدد خاص، أفريل 1996.