إنسانيات عدد 42 | 2015 | تنوّعات ثقافية | ص 13-29 | النص الكامل
Human and architectural patrimony. The example of Larache (Morocco) Abstract: The conceptual and methodological debate on the medinas in so much as human and architectural patrimony is as rich as it is interesting. However at least for the case of Moroccan medinas many courses for research are not yet sufficiently explored and often official history and that derived from certain documents written under colonialism don’t reflect the patrimony reality as expressed by the medinas The indifference and absolute neutrality of the local actors of this public fact don’t facilitate showing the medina to advantage as a inversed universal patrimony and not as a utilitarian strategy stemming from a discontinued investment logic. For lack of investment of Hispanic and Portuguese sources rich in information, certain medina profiles remain in the dark. This is why the theoretical and general essays are wrong, the knowledge acquired loses much credibility opposite reality and the complex functioning of these organisms. Hence an absolute inefficiency in matter of protecting, valorising and managing patrimony in case of rehabilitation or interpretation. The example of Larache, which we advocate in this article, accentuates this context. In fact we are confronted with a complex patrimony, with an elaborate symbolic diversity rich in information but badly known and especially interpreted differently. The patrimony has known how to reproduce itself and regenerate due to a synthesis of numerous sources of inspiration by transcending configurations of individuals, of place and time. How can one interpret it? How can we appreciate and valorise this patrimony if we ignore its symbolic content? How can we manage patrimony? These are the main questions which are the core of this article. Keywords: Symbolic patrimony - Larache - military and religious architecture - Spanish and Portuguese sources - Medinas - management. |
Mohamed BEN ATTOU : Enseignant, Géographe, Université Ibn Zohr, Agadir, Maroc
يتمحور المقال حول إشكالية فهم التراث الإنساني– الهندسي و المعماري بالمدن العتيقة و حول إمكانية المحافظة عليه، تثمينه أو تدبيره في ظل سوء فهم رمزيته و دلالته النفسية و الحضارية و الاجتماعية. و نموذج مدينة العرائش العتيقة يمتثل لهذه الإشكالية. سنحاول من خلال هذا المقال أن نقيس بعد هذا الموروث الإنساني – الحضاري من خلال الهندسة العسكرية و الدينية والمعمارية لنتلمس الثابت و المتغير في هذا التراث المديني.
من الأكيد أن الجدال المنهجي حول المدينة العربية – الإسلامية و المدينة العتيقة هو غني جدا لكن في نفس الوقت عقيم لأنه يبني انطلاقا من مرجعيات مختلفة ومن رمزيات اجتماعية ليست بالضرورة متطابقة وشرعية. ذلك أنها تقوم على النقيض و التقابل و محاولات الإسقاط النظري المبالغ فيه أو المغلوط إما لعدم تمكن الأجانب و حتى بعض النخب المثقفة من ملامسة حقيقة نمط عيش المجتمع وإما لكونه يبني على الخط (tracé) و الشكل (forme) وليس على طبيعة المجتمع. و في معظم الحالات هناك جهل حقيقي لمنظومة الحياة الحضرية قبل الاستعمار. النتيجة أن المدينة الإسلامية قبل العربية و المغربية على وجه الخصوص طالها الكثير من التعميم و الإسقاط الممنهج الذي لا يخلو من إيديولوجية بطبيعة الحال. فالمدينة المغربية العتيقة لها خصوصيات و رمزيات ودلالات مجالية منبعها منظومة الدين و السلوكات المجتمعية و الأنماط الاقتصادية و التمثلات الذاتية حسب موقعها من السلطة وهذه مسألة جهوية. وحتى داخل كيان هذا الجسم المغربي هناك خصوصيات متعددة واستعمالات مختلفة للمجال وللمعلمة، بحيث تصبح لدينا مدن مخزنية و مدن غير مخزنية لا تقل أهمية الواحدة عن الأخرى. إذ أن التراث يضحى متعدد التعبير الهندسي، معكوس الرمزية والدلالة حسب مركز الثقل الاجتماعي السائد الذي يطبع الهوية المحلية، إلا أن المدن غير المخزنية لم تنل حظها من الدراسة و التمحيص مما جعلها تقبع في الظل تنتظر الإنصاف بإعادة كتابة التاريخ المغربي بما يتماشى مع الواقع المحلي. جغرافيون ومؤرخون وعلماء اجتماع مدعوون للعمل في هذا الإطار حتى يتسنى لنا أن ننظر على مستوى المدينة المغربية ككل. و من هنا تأتي أهمية موضوع الثابت والمتغير في المدن العتيقة.
إن أهمية نموذج مدينة العرائش تكمن في كونها مدينة مخزنية وغير مخزنية في آن واحد. إنها مدينة مقاومة، تراثها الإنساني مهم لكن يقضي نحبه ببطء في غياب تثمين وحماية حقيقية. ففي ظل عدم مبالاة الفاعلين المحليين في الشأن العمومي والسياحي الخاص، و في ظل التعامل مع المدينة العتيقة باستراتيجية نفعية في إطار سياسات استثمار متقطعة الأوصال، تهدف خوصصة الواجهة البحرية والتعامل مع التراث كعناصر ديكور لا أقل و لا أكثر، و ليس كنتاج مجتمعي متعدد الرمزية والدلالة، ما يتعذر معه أية فعالية فيما يخص تثمين أو تدبير معقلن للمدينة باعتباره جزءا متكاملا و تراثا إنسانيا. و حتى على مستوى فهم دلالات هذا التراث الغني هناك عجز حقيقي ما يفتح المجال على مصرعيه لكل من هب و دب لتأويلات خاطئة باسم الثقافة و السياحة والاستثمار.
و من هنا تأتي شرعية السؤال: كيف نثمن وندبر تراثا إنسانيا نجهل محتواه و قيمته الحقيقية ؟ بصياغة أخرى عدم فهم قيمة التراث يكون سببا في ارتكاب أخطاء جسيمة تتعلق بإعداد التراث. فعلى سبيل المثال، لماذا تم ترك مدينة العرائش و تم الذهاب حتى خميس الساحل لإنشاء مخطط أزرق مكلف جدا، يمكن أن يصبح "أحمرا" إذا ما اعتبرنا النتائج على مستوى التوازنات البيئية وعلى مستوى الغطاء النباتي و تثبيت الكتب الرملية ؟ ناهيك على ما يمكن أن يضاف لنتائج الطريق السيّار على خميس الساحل من حيث الملكية العقارية والركود الاقتصادي…
1. ثغر العرائش : من القلعة إلى المدينة المتوسطية المفتوحة
تطور ثغر العرائش من قلعة إلى مدينة متوسطية مفتوحة تلخص حضارة أمم متعددة أكثر من تاريخها و حجمها. فأقوام عديدة مرت بها وتركت بصمات و تاريخا مشتركا: فنيقيون و قرطاجيون و رومان و قوطيون و عرب و مسيحيون أندلسيون و مستعربون و صقليون و بر تغال و إسبان، كلها أمم أثرت و تأثرت و جعلت من العرائش معبر حضارات مختلفة كسبت هوية مجتمع طبع بخاصية الانفتاح رغم وضعيات الحصار المختلفة التي عرفتها المدينة عبر التاريخ. مع الفنيقين (1101ق.م) لعبت المدينة دور المركز التجاري لتتحول مع الرومان إلى حصن دفاعي ثم إلى معقل ديني ابتداء من 1341 ميلادية مع المسيحيين الأندلسيين. ومع الإسبان (1610-1689) أصبحت العرائش رأسا جيو-استراتيجيا للمنافسة التجارية البحرية، قبل أن تعود مع المسلمين إلى وضعية ثغر لصناعة السفن وميناءا لانبعاث القرصنة-المقاومة. ظلت العرائش مفتوحة مباشرة على قاديس تجاريا واجتماعيا في السابق، و اليوم من خلال الهجرة السرية.
إن التراث العمراني بالعرائش بمختلف مكوناته المادية والرمزية هو قيمة سياحية مضافة ومستدامة لما تختزله من مآثر تاريخية حيكت عنها ميثولوجيا غنية غذتها أمم عديدة مرت بالعرائش وتركت أكثر من بصمة. لعل حدائق تفاح هرقل (Hesperides) وتعدد أسماء المدينة (العريش، العرائش، المليحة أو (La Graciosa) تدل على عمق الحضارة المتوسطية بهذه المدينة.
2. الهندسة العسكرية أحد معالم التراث متعدّد الرمزية بالعرائش
لقد تطلب بناء مدينة العرائش عدة قرون. و أنتجت كل مرحلة تراثا هندسيا متميزا وأعطت للمدينة وظيفة مختلفة. يفترض أن استكمال عملية البناء تمت في العهد الوطاسي (القرن 15)، و حسب الناصري السلاوي[1] النواة الأصلية للمدينة توجد حول درب المرسى. سيكون للحضور البرتغالي والإسباني بالعرائش أثرا عميقا على المدينة وعلى المجتمع العرائشي. فمن خلال الهندسة العسكرية التي استعملت بالعرائش من سنة 1415 إلى حدود سنة 1689 أكسبت المدينة خصوصيات متوسطية البعد التاريخي والحضاري. أكدت هذه الهندسة أيضا على أن العلاقة المغربية-الأوربية لم تكن دوما علاقة حرب فقط بل كانت علاقة ديبلوماسية واستراتيجية سياسية، جرت ربما تحت الضغط، لكن هذه الفترة تعتبر أهم مرحلة تاريخية أنتجت فيها المدينة معالمها الأساسية. فالتنافسية الحضارية طبعت هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ العرائش.
1.2 الحضور البرتغالي بالعرائش (1459-1415)، حضور استراتيجي بين محمد الشيخ الوطاسي وخوان II
تم خلال المرحلة البرتغالية بناء حصن سيدة أوربا بالجنوب الشرقي للمدينة[2] و استعمل البرتغاليون الطبوغرافيا كدلالة للتغلغل داخل التراب المغربي. بعد الخروج السلمي للبرتغاليين سنة 1459 إثر اتفاقية وقعها كل من السلطان محمد الشيخ و خوان الثاني، عمل المولى الناصر (أحد أقرباء السلطان) سنة 1460 على بناء قصبة العرائش في نفس الجزء الجنوبي الشرقي للمدينة، لتتمكن من احتواء حصن سيدة أوربا في ظلها و حتى تحجب رؤيته من الواجهة البحرية. كما نلاحظ، فقد استعمل المغاربة بدورهم الطبغرافيا كدلالة عن عودة العرائش كليا للمغاربة. ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل تم إنشاء وتعمير درب الشرفاء بالقصبة كفضاء للحكم ولعيش الأرستقراطية المغربية[3].
ملاحظة جوهرية تستحق الوقوف عندها كون التنافس الحضاري لم يبن على الهدم والبناء على الأنقاض كما سيتحقق فيما بعد، إذ كان استعمال الطبغرافيا لتأكيد الحضور الإسلامي والطبونيميا في تسمية الأحياء (درب الشرفاء، درب المحلة، درب الكاستيو…)، و التجاور كان السمة الغالبة. فحتى بعد هزيمة وسحق البرتغاليين في معركة وادي المخازن سنة 1578، كان بناء قلعة سجناء الحرب من طرف السعديين إذ استعملت فيه الطبغرافيا والواجهة البحرية شمالا عند مصب وادي اللكوس صوب بلاد البرتغال لتثبيت دلالة الإنتصار حضاريا على البرتغال ورمزيا على البحر. كان الاستلهام الهندسي من فن العمارة العثماني لتتويج أبواب وشرفات قلعة السجناء يرمز بقوة لعودة الحضور الإسلامي لثغر العرائش.
2.2. الحضور الإسباني بالعرائش (1689-1610)، حضور سياسي واستراتيجي بين الشيخ السعدي وفليب III
عمل الإسبان منذ تواجدهم بالعرائش سنة 1610 إثر اتفاقية سياسية بين الشيخ السعدي وفيليب الثالث على بناء حصن سانتياكو امتدادا لقلعة السجناء المشرفة على وادي اللكوس والمقابلة لقاديس. وظفت الطبغرافيا في بناء هذه المعلمة العسكرية التي جسدت في مرحلة أولى الحضور الإسباني كقوة تحالف مرغوب فيها وكحضارة لها قواسم مشتركة. و ما تجدر الإشارة إليه هو أن هذه المرحلة تعتبر أساسية من الناحية المعمارية بالنسبة للمدينة.
و في مرحلة ثانية لم يكن الطموح الإسباني ليقف عند حد استراتيجية التحالف السياسي مع المغرب. كان الهدف الإستراتيجي الرئيسي وراء تواجدهم بالعرائش هو السيطرة الفعلية على هذا الرأس الجيو-استراتيجي للتحكم في المنافسة التجارية البحرية. فمنذ سنة 1576 كان فيليب الثاني يعتقد أنه باحتلال العرائش سيتمكن من القضاء على القرصنة البحرية ما سيمكن الإسبان من احتكار التجارة البحرية مع إفريقيا أمام الفرنسيين والبريطانيين وخاصة الهولانديين. انخرط فيليب الثالث في هذا الأفق الاستراتيجي وعمل سنة 1680 على بناء أهم حصن بالعرائش على الإطلاق ألا وهو حصن سان أنطونيو، هذه المرة على الواجهة البحرية الأطلسية الغربية كمعلمة عسكرية تفرض نفسها في النسيج المديني العتيق. إن دلالات بناء هذا الحصن بالذات كانت قوية ومباشرة إذ تعلن اسبانيا للمرة تعلن حضورها العسكري الرسمي وتتجاوز الحضور الديبلوماسى والتحالف السياسي لفائدة وضع عسكري قائم، تجسدت كل معالمه في حصن سان أنطونيو بمختلف دعاماته و تحصيناته المرافقة من أسوار وأبواب وهمية وأبراج. وسيتخلى الإسبان للمرة الأولى منذ تواجدهم بالعرائش سنة 1610 عن منطق التقابل الطبغرافي والاحتواء العمراني لفائدة الانتشار المجالي الأفقي والحجز، غير أن التهديد المستمر الذي كانت تمثله المقاومة المغربية عن طريق القرصنة انطلاقا من سلا إضافة إلى القلاقل السياسية التي كان يعرفها مجال الهبط والمنافسة القوية التي كانت تفرضها موانئ طنجة وتطوان التي كانت تتمتع بامتيازات جبائية مغربية قطعت ميناء العرائش عن مجاله الحيوي المتمثل في مينائي جبل طارق وقاديس. حلم فيليب الثاني "العرائش تساوي كل إفريقيا" و طموح فيليب الثالث لم يتسن لهما التحقيق، بل رأس العرائش أصبح جد مكلف بالنسبة للإسبان حتى فيما يتعلق بتزويدهم بالمواد الضرورية كالماء والمؤن التي تأتي عن طريق البحر، مما اضطرهم للمغادرة سنة 1689.
شكل 1 : العرائش مدينة متوسطية بكل المقاييس
شكل 2 : التراث الهندسي لمدينة العرائش
3. الهندسة الدينية بالعرائش تحمل رمزيات ودلالات
سيكون للحضور الإسباني بالعرائش كذلك انعكاسات قوية على مستوى الهندسة المعمارية الدينية، بحيث سيكون في المرحلة الأولى حتى حدود بناء حصن سان أنطونيو حافزا على التنافس الحضاري والتسامح الديني في ظل استراتيجيات تقاطع المصالح.
1.3 الهندسة الدينية في ظل التنافس الحضاري وتقاطع المصالح
سيتم في فترة الحضور الإسباني بالعرائش وبالضبط سنة 1639 توسيع الجامع الكبير بالعرائش عند مدخل القصبة لتضيف للنمط المعماري الوطاسي عظمة ورقي فن العمارة العثماني، بحيث جاءت صومعة الجامع الكبير مثمنة الأضلاع وشاهقة وظفت الطبغرافيا (هضبة العرائش) كرمزية لتجدر الوجود والكيان الأصلي للأمة المغربية الإسلامية المتميزة مجتمعيا وحضاريا رغم الحضور الاستراتيجي الأجنبي. سيفهم الإسبان "اللعبة الحضارية" وسيندرجون في أفق التحالف الإستراتيجي الذي اعتمدوه في المرحلة الأولى وسيعملون سنة 1650 على بناء المعهد الموسيقي بالعرائش في أعلى نقطة طبغرافية بالمدينة، وسيرفعون فوقه صومعة مزيج من النمط المعماري المحلي الأصلي و الكنائسي بكيفية تشرف على صومعة الجامع الكبير. و الأمر لن يقتصر على هذا الحد، بل سيعمل الإسبان على تثبيت ساعة كبيرة على صومعة المعهد موجهة صوب قاديس ترمز لعظمة إسبانيا في هذه الفترة الزمنية بالذات باعتبارها نقطة تحول وقوة بحرية وتواجد حضاري. فدلالات الساعة قوية وذات رمزية أيضا.
2.3 تشويه فن العمارة الدينية في عهد الاستقلال
في معالجتنا لهذه النقطة سنضطر إلى توسيع مجال بحثنا لندرج نموذج الهندسة الدينية بالقصر الكبير الذي ينخرط في نفس الأفق المحلي للعرائش، رغم اختلافاته الجوهرية كمدينة عتيقة غير مخزنية تزخر بتراث هندسي ديني أصيل و متجدر مجتمعيا وحضاريا لم يستطع الإسبان اختراقه لا قبل الحماية ولا إبانها. و كذا الربط مع الهندسة الدينية بالعرائش كون هذه الأخيرة لم تمس من طرف الإسبان ولم يعرف تراثها الهندسي الديني تدخلات عنيفة بعد الاستقلال. و على العكس من ذلك وللأسف الشديد، لم يستطع التاريخ أن يحتفظ به طالته بعض التدخلات غير المندمجة التي تهدف حماية التراث وترميمه. و إذا ما أخذنا نموذج المسجد الأعظم بالقصر الكبير سنلاحظ أنه و إلى حدود 1987 كانت تعتبر هذه المعلمة التاريخية التي تعود إلى الفترة الموحدية (1184) نموذجا حيا لفن العمارة الديني المرابطي، الذي يمتد إشعاعه إلى جل مدن المغرب العربي والأندلس، وربما أبعد من ذلك باعتباره كان مؤثرا قويا في عناصر الهندسة المعمارية الموحدية. و بعد عملية التهيئة التي خضع لها المسجد الأعظم سنة 1987 لم نعد نتعرف على الخصوصيات الأصلية التي لطالما ميزت هذه المعلمة الدينية، وذلك لفائدة تنميطات جديدة عبارة عن مسجد-قصر تفتقر للهوية وتختزل جزافا كل التاريخ وتطمس المعالم الأصلية لفن العمارة الديني المغربي. يأخذ هنا الموروث الحضاري بعدا أيديولوجيا سياسيا هو ربما أشد وطأة مما وقع إبان الفترة الاستعمارية.
شكل 3 : التراث المحلي الأصلي بالقصر الكبير، نموذج لتعقد و تنوع محتوى الموروث الإنساني –الهندسي للمدن العتيقة حتى على صعيد الإطار الجغرافي المحلي
شكل 4 : التراث الديني عندما يتخذ طابعا سياسيا
4. مرحلة الحماية الإسبانية : فن العمارة موروث ذو قيمة استعمال
العمق الحضاري الإسلامي وليس العربي-الأندلسي فقط كما تود سماعه نخبة من المثقفين المغاربة والأجانب أثر بمدينة العرائش بشكل كبير على العمارة الاستعمارية.
1.4 الحماية الإسبانية الحضارية من موقع استعلاء ؟
تختلف الحماية الإسبانية في شمال المغرب عن الحماية الفرنسية، فالإسبان لم يأتوا حضاريا من موقع استعلاء. فالمقاومة الريفية استلزمت حدود 1927 حتى يتمكن الإسبان من السيطرة الجزئية على الشمال المغربي. كانت إمكانياتهم المادية والعسكرية محدودة، لذا نجد سلطة الحماية تغلب منطق الإدارة على المنطق العسكري ومنطق التغلغل السياسي-الاجتماعى عوض المواجهة. لقد اعتمد الإسبان فلسفة خاصة:"الجمع دون الخلط والتمييز دون التفريق" (Unir sans confondre et distinguer sans diviser). حتى إذا استلزم الأمر الهدم فيجب أن يكون التفسخ من الداخل تفاديا للتصعيد العسكري المكلف[4]. و رغم هذه الاعتبارات مضافا إليها البعد الإسلامي-الأندلسي نشأت مدينة العرائش الجديدة ليس تماما كنقيض للمحتوى الهندسي الإسلامي بل امتداد له. فرغم الانتظام المجالي الجديد المغاير على مستوى الشكل، فإن المحتوى المعماري والحضاري ظل نفسه، و قد انتظم قلب المدينة الجديدة في قوس مفتوح حول المدينة العتيقة بمرجعية هندسية معمارية تعتبر تلاقحا بين البعد الفني والمهارة الإسلامية العربية الأندلسية المحتضنة من خلال وظيفتيها الداخلية والخارجية وبين المحتوى الهندسي الجماعاتي (communautaire) لفن العمارة العثماني، الذي وإن كان يعكس تراتبية اجتماعية فهو هيكليا محتضنا انطلاقا من أقواسه وارتفاعاته ومختلف استعمالاته الهندسية والوظيفية.
نحن إذن أمام نموذج معماري مختلف عما تتداوله الكتابات ذات المرجعية الغربية التي تعتمد في مقاربتها "الانتصار والانبهارية الأصمانية على صعيد المغرب العربي كله" و "اليوطية البانية ذات البعد الأيديولوجي على صعيد المغرب". لا بد إذا من التمييز ما لعمر وما لزيد حتى نكون موضوعيين في مقاربتنا العلمية لنسيجنا العمراني، والوعي بقيمته وفهمه قلبا وقالبا حتى يتسنى لنا التنظير له وبه.
.2.4 التراث المعماري الإسلامي العربي الأندلسي قاعدة رمزية للتنظيم الإداري الإسباني
و على سبيل المثال لا الحصر، نجد الزخرفة وانتظام العناصر الهندسية الإسلامية العربية الأندلسية لدار المخزن الأصلية بالعرائش تؤثر عميقا في الهندسة الاستعمارية لدرجة أن الإسبان وظفوا هذه الرمزية الانتظامية كإطار تنظيمي لوجودهم الإداري بشمال المغرب كله. و ما أسموه (Comandancia) (دار المخزن الجديدة) تم تنميطها كلها بنفس العناصر الهندسية الإسلامية العربية الأندلسية انتظاما ولونا (الأزرق و الأصفر) حول مختلف الثكنات التي تعتبر نقطة انطلاق المحاور الرئيسية بالمدينة الجديدة، أي هي رمز ودلالة للنظام والانتظام السياسي. نجد هذه العناصر في طنجة كما في تطوان وحتى في القرى التي كانت تتواجد بها ثكنات الجيش الاحتياطي الثالث (Terceo) مثل سبت ابني جرفط وثلاثاء ريصانة وغيرها.
شكل 5 : الهندسة المعمارية الاسبانية بالعرائش لم تأت من موقع استعلاء
شكل 6 : التراث الإسباني – المورسكي بالعرائش : نموذج دار الريسوني
و إذا كان ممكنا تقدير شيء ما للحماية الإسبانية فإننا نقدّر نجاحها النسبي في تثبيت الانتظام الإداري. و يكمن سر نجاحها في اقتراب الإسبان من الحضارة الإسلامية وفهمها عبر جسر الأندلس، بل واعتمادها بعدا مجتمعيا ومعماريا ووظيفيا أكثر منه أمنيا. و نظرة سريعة لدار الريسوني بالعرائش تعطي فكرة عن نمط عيش النخبة الإسبانية والمتعاملين معها أمثال الريسوني وغيره. لم تكن الحضارة الإسلامية والمورسكية غاية في حد ذاتها، فقد تمكّن الإسبان استراتيجيا من تثبيت أمرهم الإداري والسياسي وحث المجتمع على قبوله. و قد كانوا متشبعين أيضا بعمق المجتمع الحضاري وبعده الوظيفي ودفئه الاجتماعي حتى النخاع. كما تبنوا ذلك كنمط عيش إرادي يحمل من الرقي و الحميمية، الشيء الذي غذّى شعورهم ونظم حياتهم وفق طابع متوسطي متفرد يتعامل مع المكان والزمان بشاعرية ملهمة تحمل من التلقائية والعفوية مقدار ما تحمله من الحكمة والتبصر وفق وثيرة خاصة لا تنبعث إلا من مدينة متوسطية البعد الحضاري أصيلة المرجعية والهوية. ولعل خير دليل يمكن أن نقدمه هنا لتفاعل المجتمع مع تراثه ولو عن طريق المستعمر هو مدى تأثير نمط العيش الإسباني المتأثر بدوره بالحضارة الإسلامية العربية الأندلسية في طباع وشخصية سكان مدن الشمال لغة وسلوكا وثقافة ورياضة. و هي منزلة لم يستطع الاستعمار الفرنسي رغم إمكانياته الهائلة وتعميره الأصماني وهندسته الإنتقائية أن يدركها. و المثال الثاني الذي يمكن أن نورده في هذا الصدد هو امتناع وصعوبة تفكيك الهياكل الإدارية الإسبانية التي اعتمدتها الإدارة المغربية بعد الإستقلال بعضها إلى حدود عقد الثمانينات والبعض الآخر لا زال مستعصيا، و المس به قد يحدث خللا في التوازنات السياسية الحالية. نذكر على سبيل المثال خط حدود عرباوة الذي كان يفصل بين منطقة الحماية الإسبانية ومنطقة الحماية الفرنسية الذي ما زال معتمدا لحد الآن بوصفه حدود إدارية بسيكولوجية تفصل بين مغربين مختلفين سلوكا وطباعا ولغة[5].
إن السؤال العريض الذي يفرض نفسه بإلحاح وغرابة هو: لماذا لم نفهم نحن تراثنا ونحترمه كما تعامل معه غيرنا، إذ تبنوه ووظفوه وحافظوا عليه كقيمة مضافة سياحيا ومجتمعيا؟ إذا ما أعلنا التفاؤل سنقول أن الجهل بمقوماتنا الحضارية هو سبب عدم اكتراثنا بتراثنا باعتباره قيمة نفسية ورمزية وهوية قبل أن يكون قيمة مادية.
إذا، لا بد لنا من مصالحة حقيقية مع تراثنا وتاريخنا حتى يتسنى لنا ولأجيالنا على الخصوص حب الانتماء بشغف لحضارتنا قبل كل شيء لمعالجة أزمة الهوية التي تطالنا تدريجيا مع العولمة والهجرة السرية. كفى من إغفال البعد الإنساني في التعامل مع التراث وفق استراتيجيات نفعية-قطاعية بهدف السياحة أو بوصفه جزءا من الثقافة (ليس كل الثقافة)، لأن ما يرمم أو ينقذ يكون ظرفيا وليس مستداما بهدف استقطاب التمويل أكثر ما يهم التراث في حد ذاته. حان الوقت للتعامل مع المدن المغربية العتيقة انطلاقا من محتواها و من رمزيتها ودلالاتها وليس انطلاقا مما نريد نحن أن تكون عليه إرضاء للآخر. ليس هناك حلولا سحرية ولا يمكن على أية حال تدبير التراث بـ GPS ولا بلوحات رقمية مهما كلف الثمن. فالوضعيات جد مختلفة ومعقدة و تتطلب الفهم والمصالحة والاعتراف قبل الدعم، و تحتاج أكثر ما يقتضي الأمر.
المصادر
Bacaica, A.D., « Emboscada en Larache en 7 de Febrero de 1631 », Revue Tamuda I, n°1, 1956, pp.93-99.
Cabanelas, D., « Cartas del sultan de Maruecos Ahmed Al Mansour à Felipe II », Revue Andalous XXII, 1659, pp.20-47.
Cabanelas, D., « El problema de Larache en tiempo de Felipe II », Mistelanea de estudios arabes y hebraicos IX, 1660, pp.10-19.
Cuevara Adolfo, L., 1933 : « Larache en el ano 1966, un ataque a la plaza durante la ocupation espanola », diario el Lucus, 8 de junio, 1933.
Cola Alberich, J., « Estudio antropologico de la region de Lukus », Tetouan, 1995, p.99.
De Cuevas, T., « Estudio general sobre la geografia de Bajalato de Larache », Larache, 1882.
Diaz, B., « Ocupacion espanola de Larache en 1610 », Revue Mauritania, 1929.
Figueras, G.T., « Expedicion de los Portugueses al rio de Larache y fundacion de la fortaleza de la «Graciosa en Lucus (1489) », Miscelanea de estudios varios sobre Marruecos, Tetouan, 1953, pp.7-33.
Figueras, G.T., « Intento de saqueo de Larache por los gaditanos en 1546 », Revista Mauritania XI, n°132, 1938
Figueras, G.T., « Larache durante la dominacion espanola (1610-1689), Revista de Historia militar, ano II, n°403, 1958, p.29.
Figueras, G.T., Economia social de Marruecos, Madrid ; Instituto de estudios africanos, 1955, 280p.
Ferrer, M., « El sitio de Larache en 1689, las campanas de Jeres », Diario Larache, 5 de junio 1924.
Guellem, B., « Una embajada espanola en Marruecos en 1579 », Revista Mauritania XVII, n°145, 1944, pp.53-56.
Manchemo, J., « Larache al poder de Espana », Diario el Popular 24 de mayo 1929.
Pareja Serrada, A., Los Espanoles en Larache, Madrid, Nuevo Mundo, 1909
Ramirez, L., « Entrega del puerto de Larache a los Espanoles en 1610 », Seminario espanol, 1855, 38p.
Vernet, J., « la embajada de Al Gassani (1690-1691) », Revista andalous XVIII, 1953.
الهوامش
[1] السلاوي، الناصري، كتاب الإستقصا، الجزء 9، الدار البيضاء، 1956، ص.24.
[2] Rawd Al Quertas ; 1436 ; traduction Beumier, 1860.
[3] L’Africain, Léon, Description de l’Afrique, Paris, Maisonneuve, traduction Epaulard ; Cf., 1956, p.15
[4] للتوسع في هذه النقطة انظر:
Ben Attou, M., « Le protectorat espagnol et le Nord marocain : organisation administrative et stratégie socio-économique, cas du Bas-Loukkos », in Revue Dirassat, n°11, Agadir, 2003, pp.41-107.
[5] للتعمق في هذه النقطة انظر:
Ben Attou, M., « Patrimoine foncier et processus de péri-urbanisation d’une ville frontalière : le cas de Ksar el Kébir », in « Espace-acteurs sociaux -altérité », revue Insaniyat, n° 28, CRASC, Oran, Cf., 2005, pp.5-31.