إنسانيات عدد 08 | 1999 | الحركات الإجتماعية، الحركات الجمعوية | ص 53-61 | النص الكامل
Leila BOUTAMINE : Enseignante à l'institut de Sociologie, Université de Annaba, 23 000, Annaba, Algérie
ملخص الأطروحة
إن الإهتمام بدراسة و تحليل الطبقة العاملة و تنظيماتها محدود جدا فبالرغم من الدور الكبير الذي تلعبه في سيرورة التطور الإجتماعي، إلا أننا نشهد ندرة أو قلة الدراسات التي تتناول التنظيمات النقابية من داخلها، و يمكن تفسير هذه الوضعية بتخوف النقابة من هذه الدراسات التي قد تساهم في كشف نقاط ضعفها و تهديد توازنها ، وهو ما أثر على البحوث كما و نوعا، بالرغم من أنها تكتسي أهمية كبيرة في الكشف عن طبيعة العلاقات السائدة بين المستويات و الهياكل المختلفة المكونة للتنظيمات النقابية.
و يمكن تقديم تفسير آخر لغياب أو قلة الاهتمام بهذا النوع من الدراسات، يتعلق بتأثير الخطاب السياسي في السنوات التى تلت الاستقلال في توجيه البحوث و الدراسات التى كانت في معظمها إعادة إنتاج للخطاب الايديولوجي السائد في تلك الفترة.
و على قلتها فإن الدراسات و البحوث حول التنظيمات النقابية إمتازت بطابع تاريخي أو إقتصادي أو حقوقي. بينما لم تحظ الدراسات ذات الطابع السوسيولوجي التي تهدف إلى تحليل آليات عمل الهياكل في المستويات المختلفة و مكانيزمات سيرها و أساليب اتخاذ القرار فيها، و كذلك طبيعة علاقتها مع الأجهزة الأخرى التي تتعامل معها، إلا بقدر ضئيل من الإهتمام. و كان ذلك أحد الأسباب الرئيسية التي دفعتنا إلى اختيار هذا الموضوع للدراسة و التحليل، نظرا لقيمته العلمية و العملية، خصوصا مع إستمرار التراجع في كمية الدراسات التي تعالج موضوع التنظيم النقابي، و كذلك لراهنيته نظرا للتغيرات الاجتماعـية و الاقتصادية العميقة التي عرفها المجتمع منذ منتصف الثمانينات حيث وقعت تحولات كمية و نوعية على الأصعدة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية. و بما أن التنظيم النقابي لا يعيش بمعزل عن تلك التغيرات التي تؤثر على تـنـظـيمه و أسلوب عمله، فإنه من المتوقع أن تساهم جميع تلك التغيرات في سيرورة التحول البيروقراطي للتنظيم النقابي الرئيسي في الجزائر المتمثل في إ.ع.ع.ج
تمثل الدراسة التي نقدمها هنا محاولة لكشف الآليات المختلفة التي تقف وراء سيرورة التحول البيروقراطي الذي طال التنظيم الرئيسي في الجزائر و لمعالجة هذا الموضوع قمنا بتقسيم هذه الدراسة إلى قسمين : خصصنا القسم الأول للجانب النظري و المنهجي، الذي يتوزع بدوره إلى أربعة فصول :
يتضمن الفصل الأول عرض إشكالية البحث التي وقع بناؤها حول سؤال مركزي هو : ماهي الشروط و العوامل الداخلية و الخارجية التي تساهم في تحويل النقابة إلى منظمة بيروقراطية تسيطر عليها أقلية تحتكر القرار بعيدا عن الأغلبية؟ و نسعى من خلال هذا التساؤل إلى كشف آليات عمل التنظيم الـنـقابي و تحليل طبيعة العلاقات بين مستوياته و ظهور القيادات في مختلف الهيئات، و شروط التعامل مع المؤسسات و الأجهزة الأخرى، و الضغوط التي يفرضها المحيط. و هي كلها عوامل نفترض أنها تساهم في بقرطة التنظيم النقابي.
لذلك قمنا بتفكيك السؤال المركزي إلى عدد من المحاور الأساسية بهدف الكشف عن تلك الشروط و العوامل سواء الداخلية أو الخارجية التي تساهم في عملية البقرطة و هي :
1- بنية و عمل التنظيم النقابي
2- ظهور القيادات و تمثيليتها
3- المشاركة و الاتصال
4- ضغوط و اكراهات المحيط
أما الفصل الثاني، فقد تم تخصيصه لعرض الاجراءات المنهجية بما في ذلك تحديد المقاربة النظرية، و قد إعتمدنا على المقاربة السوسيو أنثروبولوجية التي تعني اكتشاف الواقع و حقائقه دون الاعتماد على معارف أو أفكار مسبقة، بمعنى التخلي و لو نسبيا عن التصورات القبلية حول الظاهرة موضوع الدراسة، و الإعتماد على معطيات الواقع لتدعيم التصورات النظرية للاجابة على المشكل المطروح. كما إعتمدنا بشكل أساسي في التحليل على المقاربة النسقية "systèmique L'approche " باعتبار النقابة نسقا، ينشأ ثم يتطور، و يعمل من خلال آليات تقسيم العمل و التخصص بين الهياكل و الفئات المختلفة المشكلة للتنظيم. لذا وجب التعرف على الآليات التي تـحكم سـيــر نـشـاط الـتـنـظـيــم و العلاقات بين هيئاته في مختلف المستويات التنظيمية، حالة الاتصال داخلها، طرق اتخاذ القرار و المشاركة. ثم باعتبار النقابة تنظيما تراتبيا يتشكل من عدد من المستويات التي تقف على قمتها النخبة، هذه الأخيرة تمتاز بخصائص و ميزات كالقدرة الفكرية، المعارف المتخصصة، و غيرها من الميزات و الخصائص التي لا تتوفر في جميع أعضاء التنظيم مما يؤدي إلى القضاء على تكافؤ الفرص.
كما يمكن تحت شروط معينة و ظروف محددة أن تتحول هذه القيادة إلى نخبة بيروقراطية، تقضي على إمكانيات المشاركة الفعلية، و تقصى الكفاءات المختلفة للأعضاء و يتحقق ذلك بالتركيز الشديد للسلطة و فرض السيطرة من قبل الأقلية و ترتبط هذه الظاهرة حسب ميشيلز "MICHELS" بالعوامل التنظيمية التي تدفع نحو الأوليقاركية، إضافة إلى عوامل أخرى توجد في المحيط، خاصة التعامل مع نخب أخرى بيروقراطية يفرض التعامل معها الاستجابة لآليات عمل بيروقراطية تؤدي إلى اندماج أقلية التنظيم داخل النظام الاجتماعي السائد. كما تمت الاستعانة بالمقاربة التاريخية لتحليل سيرورة البقرطة النقابية، و الغرض من الاستعانة بالمقاربة التاريخية هو تفادي التشويه الذي ينتج عن عزل الــحـوادث و الظواهر الاجتماعية عن سياقها الموضوعي و التاريخي.
بالإضافة إلى التقنيات المنهجية التي إعتمدنا عليها في التحقيق و في تحليل المعطيات و المعلومات و قد إعتمدنا بشكل أساسي على طريقة تحليل المضمون بالنظر إلى استخدامنا لتقنية المقابلة في التحقيق الميداني، و بشكل أقل بالإعتماد على الطريقة الإحصائية.
بينما خصصنا الفصل الثالث لعرض الاطار النظري بتقديم الأفكار الأساسية لأهم النظريات التي تناولت مفهوم البيروقراطية، بالإضافة إلى النظريات التي عالجت موضوع النخبة، و ذلك لإعتقادنا بوجود روابط قوية بين العمليتين : التحول نحو البيروقراطية و تشكيل نخبة في التنظيم النقابي.
و استعرضنا في الفصل الرابع الخلفية التاريخية لسيرورة البقرطة النقابية كما عرفتها منظمة إ.ع.ع.ج خلال المراحل المختلفة من تطورها، اضافة إلى حصر أهم الشروط و العوامل الداخلية و الخارجية التي ساهمت تاريخيا في بقرطة المنظمة النقابية و ما تزال لحد اليوم.
أما القسم الثاني، فيحتوي على أربعة فصول، نحاول فيها تــقــديم عــرض و تحليل المعطيات و المعلومات المستقاة من التحقيق الميداني.
هكذا نهتم في الفصل الخامس بتحليل بنية و عمل التنظيم النقابي بتسليط الضوء على طبيعة العلاقات بين الهيئات النقابية سواء في الهياكل العمودية أو الأفقية، و كشف مدى الانسجام و التكامل أو التعارض في مهام هذه الـهـيـئـات و أثر ذلك على فعالية التنظيم، إضافة إلى معرفة مدى اطلاع المنخرطين (القاعدة العمالية) على مهام هذه الهيئات.
أما الفصل السادس، فيخص تحليل المعطيات التي تكشف عن الأسلوب المتبع في اختيار القيادات النقابية و آليات سير العملية الانتخابية و تحديد الجهات التي تؤتر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في اختيار القادة. و كذا دور و موقع القاعدة العمالية في هذه العملية. إضافة إلى مسألة تجديد الهيئات الـقـيـاديــة، و مدى استقرار القيادات النقابية و العوامل المساعدة على ذلك.
أما الفصل السابع، فيتناول بالتحليل طبيعة العلاقة الموجودة بين المستويات القيادية و القاعدية في المنظمة النقابية، و كذلك الكشف عن مدى المشاركة الفعلية و الممكنة للقاعدة من خلال عاملي الاتصال و الإعلام، اضافة إلى تحليل طريقة اتخاذ القرار داخل المنظمة، و ما مدى إقصاء أو اشراك الأغلبية في عمليات اتخاذ القرار.
و نركز في الفصل الثامن و الآخير، على مناقشة و تحليل خصائص و ميزات المحيط الذي ينشط فيه التنظيم النقابي، و ما يتطلبه التعامل مع مختلف الجهات من خبرات و مؤهلات، و نقوم بالكشف عن الاجراءات التي اتخذتها المنظمة لتوفير مثل هذه الخبرات لتمكين القيادات من إكتساب المعرفة اللازمة لتسيير المفاوضة و تمثيل العمال أمام الأجهزة المختلفة التي تتعامل معها في محيط يتميز بدرجة عالية من عدم الاستقرار و التحول السريع، اضافة إلى النزعة العدائية القوية تجاه النقابة و العمل النقابي.
هكذا بعد عرض أهم ما احتوته فصول القسمين الأول و الثاني من البحث، نقدم النتائج العامة و الأفكار الأساسية التي توصلنا إليها من خلال هذه الـدراسة و التي يمكن حصرها في ثلاث قضايا أساسية:
1- مركزية و تصلب التنظيم :
لقد تأكد من خلال نتائج الدراسة، مدى مركزية و صرامة التنظيم النـقـابـي، و ذلك من خلال ثلاث مسائل رئيسية : التــنــسيق بين الهياكل، الإتــصـــال و الإعلام و أخيرا اتخاذ القرار.
أولا، ضعف التماسك الداخلي و غياب التنسيق و الانسجام بين الهياكل المحلية، نظرا للتوترات و الصراعات الداخلية الناجـمــة عــن اخـتــلاف رؤى و مطامح الفئات و الهيئات المختلفة. مثلما كشفت الدراسة في حالة العلاقة بين نقابة المنشأة و مكتب الفرع النقابي فـي الحجار، و ذلك نظرا لموقع كل فئة داخل التنظيم، و العلاقات التي تقيمها مع هيئات خارجية. و بذلك تبقى فكرة التكامل و التجانس تصورا لا واقعي بخاصة و أن التراتب و المغالاة في احترام القواعد و التسلسل الهرمي ينفي وجود هذه الفكرة و تحقيقها في الواقع.
ثانيا، المجافاة و غياب العلاقات و انعدام الاتصالات المستمرة بين الهيئات النقابية، إذ أن تقوية النزعة نحو مركزية للتنظيم و الصرامة في احترام التسلسل الهرمي لدى إنتقال المعلومات أضحى سمة مميزة التنظيم، حتى أنه في الحالات التي وجد فيها الاتصال، فإنه لم يكن كافيا، و لم يكن دوره بالنسبة للفئات العمالية البسيطة التي لا تعرف إلا القليل مما يدور في كواليس النقابة و المنشأة بسبب عدم فعالية قنوات الاتصال. اضافة إلى تخوف القيادات في المستويات العليا علاقات من الوجه لوجه مع القاعدة العمالية، مما جعل الفرع يبدو هيكلا دون روح.
ثالثا، مركزية القرار، فقد أبرزت الدراسة بأن القرارات الحاسمة في حياة العمال و المنظمة تؤخذ في أعلى الهرم التنظيمي للهياكل المحلية دون فتح المجال للمستويات الدنيا، و ما يؤكد ذلك هو غياب الجمعيات العامة كممارسة ديمقراطية في اتخاذ القرار. و قد أدت مثل هذه الممارسات المركزية في اتخاذ القرار إلى نزاعات و صراعات حادة و متكررة بين نقابة المؤسسة التي تتخذ القرارات انفراديا دون إشراك قيادات الفرع، و مكتب الفرع النقابي الذي يعتبر الهيئة النقابية القاعدية على مستوى المصنع، و قد ثـبـث أن الـتـوتـرات الداخــلــيــة و التعارض ناتج عن غياب إستراتيجية موحدة بسبب تباين الأهداف و اختلاف المصالح بين الهياكل أو بين الفئات المختلفة في تلك الهياكل.
هكذا فقد أبرزت مجمل هذه المسائل، أن العلاقات بين الهياكل النقابية تتسم بالمركزية المفرطة، و غياب الإعلام و الاتصال، و تعتبر في ذات الوقت ميزات التنظيم البيروقراطي. و بهذا الصدد يصبح غير صحيح إعتبار النقابة كيانا متجانسا، نظرا للتفاوت الواضح بين الفئات في مختلف المستويات بسبب عمليات التهميش و الإقصاء التي تتعرض لها الغالبية بخصوص المشاركة في حياة التنظيم و في اتخاذ القرارات الحاسمة المتعلقة بمصير القاعدة العمالية.
2. وجود فئة متميزة، أو أقلية أوليقاركية :
إن المسألة الأولى التي تؤكد هذه القضية هي ما كشفت عنه الدراسة، فيما يخص ظاهرة الاستقرار الكبير و غياب التداول على المناصب، و ذلك ما يؤكد وجود نزعة قوية نحو اكتساب تلك القيادات لصفات الـنـخبة الـبـروقـطــيــة. و يمكننا تفسير ذلك الاستقرار و لو جزئيا، بالامتيازات و المصالح المرتبطة بالمناصب، و كذلك بالدعم الذي تتلقاه القيادات من قبل فئات أخرى تمثل مستويات عليا في أجهزة و هيئات و تنظيمات أخرى، سواء على مستوى المنشأة أو المحيط.
ثانيا إن الإلتزام بالمسار الذي تأخذه المعلومة بمعنى احترام التراتب الهرمي يدفع بالأقلية المسيرة للتنظيم أن تتحول أو تصبح فئة متميزة تستمد سلطتها من تأكيدها على ضرورة احترام القواعد، كما أن موقعها و مكانتها داخل التنظيم يضفي الشرعية على كثير من الممارسات البيروقراطية.
ثالثا، عدم تمثيلية القيادات النقابية للقاعدة العمالية و يعود ذلك لعدة عوامل منها :
- انتماء القيادات لمجالات و مسارات مهنية و مستويات مهارية مختلفة عن القاعدة.
- وصول القيادات إلى المناصب القيادية من خلال عمليات إنتخابية شكلية لا ديمقراطية يتم خلالها تجاوز القواعد الرسمية و اللجوء إلى منظومة العلاقات غير الرسمية، حيث تلعب مقاييس : الجهوية، المحاباة، رأس المال العلائقي، المحسوبية،… دورا كبيرا و تجعل من القيادات فئة متميزة، و تقود في ذات الوقت إلى تكوين بيرقراطية نقابية.
رابعا، عدم توفر المهارات اللازمة لدى غالبية القيادات المحلية لتمثيل العمال و تسيير التنظيم بفعالية، بسبب غياب التكوين و الملتقيات التي تمكن الـقيادات و الممثلين النقابيين من اكتساب الخبرة و المهارة اللازمتين لتمثيل القاعدة العريضة و المحافظة على مصالحها، و هو ما أدى إلى اللجوء إلى أساليب غير رسمية في التعامل مع الأجهزة و الأطراف الخارجية. و كذا في تسيير الـمـفاوضة و تمثيل العمال، الشيء الذي فتح المجال واسعا أمام نمط التسيير البيروقراطي، كما يقود إلى تكوين فئة أو أقلية متميزة من الاطارات النقابية بفعل إمتلاكها رأسمالا علائقيا. و هو ما يؤدي إلى تقوية حظوظ إغتراب القيادات النقابية بفعل قبولها للمنظومة القيمية التي تشكل قاعدة لمثل تلك المــمارسات و العـلاقـــــات و يترتب عن ذلك نتائج عديدة منها :
- الاندماج داخل النظام المؤسساتي القائم و تبنى نفس الممارسات البيروقراطية للأطراف الخارجية .
- الاستجابة لمعايير محددة من قبل نفس الأطراف التي يتعامل معها.
- إقصاء إمكانية التسيير الديمقراطي للهياكل النقابية. خاصة و أنه ظهر جليا أن تأسيس النزاعات التي تشكل ظاهرة أساسية في علاقات العمل يدخل ضمن استراتيجية بقرطة الفعل النقابي، الذي تعني تحويل الاطارات النقابية إلى مجموعة من الموظفين المتخصصين في مهام و وظائف مـحددة و احـتلال مـــراكز و مكانات مستقرة و دائمة في هرم التنظيم. هكذا يتم تجاوز اللوائح و القواعد التنظيمية التي توحي المظاهر باحترامها، و تظهر بقوة أساليب غير رسمية تحدد العلاقات و التفاعلات داخل الفئات المختلفة المشكلة للتنظيم و بينها و هو ما ساهم بشكل أساسي في بقرطة التنظيم.
3. تهميش الفئات الدنيا في التنظيم :
أولا، إن الانشغال بتحقيق الفعالية من خلال تقسيم العمل و التخصص أدى إلى ابعاد و عزل الأعضاء في القاعدة، و توسيع المسافة الفاصلة بين القاعدة العمالية و قيادتها. و يعتبر ذلك من الإختلالات الوظيفية المصاحبة لكل التنظيمات البيروقراطية؟، نظرا لعدم اطلاع القاعدة العمالية بكيفية عمل مختلف المستويات، طبيعة تقسيم العمل، و توزيع الأدوار بين القيادات، الصلاحيات، الامتيازات، و هو ما يجعل التنظيم هيكلا بيروقراطيا لا تحظى فيه الفئات الدنيا بمكانة و وزن معتبر و لا تنال إنشغالاتها الاهتمام الائق بها.
ثانيا، غياب مشاركة فعلية للأغلبية في عمليات اتخاذ القرارات الحاسمة، بالاضافة إلى حجز المعلومات، بخاصة و أن الاعلام يتناقص تدريجيا كلما نزلنا في السلم الهرمي إلى المراتب السفلى في بنية التنظيم النقابي و يظهر ذلك في حجم الفروق في المعرفة بين القيادات و الأعضاء في مختلف المستويات. و هو ما يؤكد أن التنظيم النقابي بيروقراطي لا يمنح إمكانيات حسنة للاتصال و المشاركة، بل يعمل على خلق حواجز تمنع وصول المعلومات إلى الفئات الدنيا، و هو ما يقوي عند القاعدة الإحساس بالاغتراب، طالما أن القيادات المحتكرة للمناصب ترفض إعطاءها فرصة المشاركة.
ثالثا، اللامبالاة القصوى المميزة لموقف العمال اتجاه التنظيم و إبتعادهم عنه، بسبب عدم اعطاء القاعدة العمالية فرصة المشاركة و يبدو ذلك جليا خلال مرحلة الانتخابات، إذ يغيب الاختيار الحر للقاعدة التي تصبح عضويتها في التنظيم ممارسة شكلية، و هو الأمر الذي يجعل أعضاء التنظيم مجرد "حملة بطاقات"، ليس فقط لعدم اعطائهم فرصة المشاركة، بل أيضا لعزوف العمال عن المشاركة في حياة التنظيم مثل الترشح للمناصب القيادية. و بذلك يكتسب عدم إهتمامهم بالنقابة صفة الفعل الواعي باعتبارها تنظيما لا فائدة منه في نظرهم مادامت أقلية معينة قد سيطرت عليه و وضعته في خدمة مصالحها. و هو ما يكتشف في ذات الوقت عن النظرة الحقيقية التي يحملها العمال عن النقابة، و هو ما ينعكس بالسلب على فعالية و قدرة التنظيم على مواجهة الضغوطات و الاكراهات الخارجية، خاصة إذا لم تتحقق وحدة داخلية. مما يتطلب تـوعية العــمـــــال و الاهتمام بتأهيل القيادات و تكوينها و هو من المسائل الهامة و الاساسية لتجنب و لو نسبيا إمكانية التحايل على مصالح الـتـنـظيم و التــلاعب بـــهـا، و الاستخدام الأداتي و الذرائعي للمنظمة النقابية.
يبدو أن الملاحظات التي توصل إليها باحثون في مجتمعات أخرى متماثلة إلى حد كبير مع نتائج بحثنا. لعل ذلك يؤكد وجود آليات بنيوية عمومية ذات حركية معينة تدفع نحو بقرطة التنظيمات النقابية كما أشارت إلى ذلك دراسات كلاسيكية و حديثة في مجال التنظيمات. لكن يبقى أن هناك خصوصيات تنبع من الواقع الثقافي المحلي تكشف عنها الميكانيزمات الداخلية و الآليات الخفية التي تعمل من خلالها الهياكل و الهيئات النقابية عندنا باعتبارها جزءا من النسق الاجتماعي العام الذي يتميز ببناء اقتصادي و اجــــتمـاعي و ســـيــاسي و تاريخي محدد.
لقد برز ذلك بقوة و بشكل واضح خلال هذا العمل، إذ أنه بالاضافة إلى المعايير و الخصائص العالمية للتنظيم البيروقراطي، مثل تـــقـــسـيم الــعــمــــل و التخصص، الصرامة، مركزية القرار،… إضافة إلى ذلك فإن الجانب الكامن يحمل خصوصية ترتبط في جانب أساسي بميزات و خصائص المحيط الذي يتواجد فيه التنظيم النقابي في الجزائر، يفرض عليه العمل وفق قواعد بيروقراطية مكيفة و معدلة حيث أن الفاعلين فيه أو القائمين عليه يفتقدون للمهارات و الخبرات التقليدية التي يتطلبها إدارة و تسيير التنظيمات الحديثة و بالتالي يتم تعويضها برأس مال علائقي يمثل الميكانيزمات الداخلية أو القواعد غير الرسمية التي تعتمد عليها القيادات المحلية و كذا العمال المنخرطين.
هكذا تبقى الديمقراطية مجرد شعار توحي به السلوكات الظاهرية الطقوسية بينما يؤكد الجوهر هيمنة ممارسات بيروقراطية للأقلية المسيرة للتنظيم، ليس فقط لخدمة مصالحها الخاصة، بل لكونها تتواجد في محيط يفرض عليها معايير محددة مثل الاستجابة في كل مناسبة بالسرعة المطلوبة و المرونة اللازمة و هي معايير تعيق امكانية العمل الديمقراطي، و بالتالي إقصاء فرص المشاركة الجماعية في تسيير شؤون التنظيم. اضافة إلى غياب آليات المراقبة على نشاطها من قبل القاعدة. و هذه عوامل تقوي مخاطر الاستخدام الأداتي للمنظمة، بل تحدث هناك عملية اندماج داخل النظام السائد و تعيد ذات القيادات انتاج نفس الـقــــيــــم و الممارسات التي قامت النقابات في الأصل ضدها و بذلك تتحول تلك القيادات إلى أقلية بيروقراطية تهتم بتحقيق أهدافها الفئوية الضيقة و اهمال مــــصــــالح و أهداف الغالبية التي يفترض أن تمثلها و تدافع عن مصالحها. و مثل هذه الوضعية تقلل من وزن و تأثير المنظمة النقابية أثناء المفاوضة و هذه الحالة بدورها تؤدي إلى احتمالين متناقضين : أولهما، اضعاف إمكانية اللجوء إلى صيغ نضالية منظمة بسبب انصراف القاعدة عن تأييد مواقف القيادات الرسمية. و ثانيهما احتمال انفجار نزاعات و صراعات تتجاوز الهياكل النقابية، بل و ربما تقف ضدها بسبب عجزها عن التكفل بمطالب القاعدة.
إن ذلك يعني أن أمام النقابة مهمات على غاية الصعوبة من ضمنها محاولة التطبيق الفعلي و الحقيقي للمبادئ الديمقراطية، و فتح قنوات الاتصال و تكثيف الاعلام لتوعية القاعدة و لتحقيق مشاركة فعلية لا تقصي أي مستوى من المستويات التنظيمية و لتجسير الهوة بين قمة و قاعدة التنظيم للحفاظ على الاستقرار و البقاء كنقابة ممثلة تضم أكبر عدد من المنخرطين، باعتبارهم يمثلون الأرضية التي يقوم عليها وجود النقابة. و يبدو هذا الرهان ملحا اليوم أكثر من أي وقت آخر في ظل الظروف الاقتصادية و الاجتماعية الصعبة التي أدت إلى غلق مئات المنشآت و ضياع مئات الآلاف من مناصب العمل مما يعني أضعاف التنظيم النقابي باقتطاع جزء كبير من قاعدته. لذلك فإن التنظيمات النقابية عـــــمـــوما و إ.ع.ع.ج خصوصا يواجه أوضاعا عصيبة، و رهانات حاسمة قد تؤدي إلى تغيير ملامح الحركة النقابية بطريقة جذرية. و السؤال الذي يبقى مطروحا إلى أي مدى ستنجح التنظيمات النقابية عموما و إ.ع.ع.ج بالخصوص في مواجهة هذه التحديات التي تفرضها المرحلة؟ ذلك ما يستدعى بالطبع مزيدا من البـــــحوث و الدراسات لتسليط الضوء على الجوانب العديدة و المعقدة في حياة التنظيمات النقابية في بلادنا.
ليلي بوطمين