إنسانيات عدد 08 | 1999 | الحركات الإجتماعية، الحركات الجمعوية | ص 63-88 | النص الكامل
Ali AOUAD CHAARA : University Al Albayt, Institut Beit El Hikma, Jordanie
مقدمة
تجمع الدراسات والتقارير على أن العالم يجتاز في الفترة الراهنة تحولات عميقة في بنية النظام العالمي وإعادة صياغة الكثير من الرؤى والمفاهيم والقوى الحاكمة للعلاقات الدولية. ومع التسليم بأنه لم تسفر هذه التحولات عن قيام نظام جديد واضح المعالم والمسارات، فإن ما يحدث على الساحة الدولية بتغيراته وتأثيراته يستأهل النظر والتعمق بغية استشراف اتجاهات إعادة بناء النظام الدولي. وتشير مجمل تلك الاتجاهات إلى حقيقة أساسية مفادها، أن العالم يتحرك تحركا حثيثا نحو مزيد من التكتلات الاقتصادية الكبرى[1] سواء من خلال قيام تجمعات اقتصادية جديدة أو تفعيل هياكل قائمة بالفعل، و إعادة وتحويل الأهداف المنوطة بالمؤسسة الاقتصادية لتتوافق ومقتضيات التغيرات الجارية على الساحة الدولية منذ انهيار الكتلة الشرقية، وتفكك الإتحاد السوفيتي، وما تلا ذلك من تطورات درامية لإعادة ترتيب هيكل القوة الاقتصادية في العالم.
وليس يخفى أن من أبرز ملامح تلك التطورات الدولية التكتلات الاقتصادية الكبرى، وتوقيع إنفاق التحرر الجزئي والتدريجي للتجارة الدولية بين الدول الأعضاء في الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات والمعروفة اختصارا باسم (الجات) GATT وذلك في ختام جولة أورجواي التي بدأت عام 1986 واختتمت في نيسان (أبريل) 4199 الأمر الذي يعني أن اقتصاديات الدول المختلفة سوف تتحرك في إطار أسواق دولية مفتوحة نسبيا، وبالتالي فإن نمو أو تطور أي اقتصاد سيرتبط إلى حد كبير بقدرة قطاعاته المختلفة على إنتاج السلع والخدمات بشكل تنافسي مع الاقتصاديات الأخرى، حتى يمكن لهذه القطاعات الاستمرار في المنافسة في الأسواق المحلية والدولية[2].
ولما كانت قدرات الدول النامية على المنافسة من الضعف بمكان، سعت الكثير من هذه البلدان إلى الأخذ بصورة أو أخرى من صور التعاون الإقليمي بهدف تعزيز قدرتها الاقتصادية في مواجهة تلك التحديات. وفي هذا الإطار تمثل تجربة «رابطة جنوب شرق آسيا» والمعروفة اختصارا بالآسيانasean نموذجا متميزا في هذا الصدد على النحو الذي دفع إلى اعتبارها نموذجا قابلا للاحتذاء من جانب الدول النامية في سعيها لتعظيم مكاسبها في ظل الواقع الدولي المعاصر. ومن هنا تأتي أهمية هذه الورقة البحثية التي تسعى إلى التعرف على عوامل نجاح تجربة «الآسيان»ومكامن ضعفها والتحديات والصعوبات التي تواجهها وكيف تتعامل معها، وصولا إلى التعرف على مدى إمكانات الاستفادة من هذه التجربة في إطار لمنطقة العربية.
وفي ضوء ما سبق، تم تقسيم الدراسة إلى ثلاثة محاور يعرض أولها لتجربة «الآسيان» في ضوء مفاهيم و صور التعاون الإقليمي بشقية السياسي و الاقتصادي، رغبة في تفهم طبيعة هذا التنظيم هذا الإقليمي وموقعة بالنسبة لصور وأشكل التعاون. أما المحور الثاني فيعرض بالرصد والتحليل لأداء التنظيم موضع الدراسة وصولا إلى استشراف مستقبل «الآسيان» في ضوء المتغيرات العالمية و الإقليمية. ويعنى المحور الثالث بالتعرف على إمكانات الاستفادة من تجربة الآسيان في الواقع العربي من خلال رؤية مقارنة بين مسار ومآل من الخبرة العربية وخبرة الآسيان في مجال التعاون الإقليمي وذلك على النحو التالي.
1 -تجربة الآسيان في ضوء مفاهيم وصور التعاون الإقليمي
أولا - مفاهيم وصور التعاون الإقليمي:
يثير الحديث عن الآسيان كمنظمة للتعاون الإقليمي بين دول جنوب شرقي آسيا ضرورة التعرف على مفهوم التعاون الإقليمي وصوره المختلفة. وإجمالا يمكن القول أن التعاون الإقليمي يعتبر أحد المفاهيم الرئيسية ضمن أدبيات العلوم السياسية وتحديدا علم العلاقات الدولية، كما أنه أحد المجالات الرئيسية في الدراسات الاقتصادية، وعلة ذلك تعدد صور وجوانب التعاون الممكنة بين الكيانات السياسية الدولية وفي مقدمتها الدول[3]. ومفهوم التعاون الإقليمي يبدو مفهوما مركبا يتكون من كلمتين تشير الأولى إلى مجموعة من المعاملات و الاتصالات الكثيفة بين طرفين أو عدة أطراف (أشخاص، دول، أجهزة، مؤسسات...) بهدف العمل المشترك على نحو يؤدي إلى تحقيق أفضليات مشتركة ويعظم درجة الأمن لدى عدة أطراف، لا يشترط بالضرورة أن يكونوا متقاربين مكانيا أو جغرافيا[4]. أما الكلمة الثانية فإنها بإضافتها للكلمة الأولى تقوم بتخصيص النطاق المكاني للتعاون بين أطرافه حيث يتعلق الأمر في هذه الحالة بتعاون إقليمي يتصل بتفاعلات تحدث بين عدة دول تنتمي إلى حيز جغرافي محدد، ويطلق البعض على هذا النوع من التفاعلات مصطلح الإقليمي Regionalism التي تعني في أحد تعريفاتها جهود دفع التعاون الاقتصادي والأمني بين ثلاث دول أو أكثر في منطقة جغرافية معينة تبعا لأسس محددة، تتعدد وفقا لها الإقترابات الإقليمية للتعاون الاقتصادي والأمني ويمكن التمييز بين نوعين من الإقليمية هما : الإقليمية المفتوحة «Open Regionalism» ويقصد بها تلك الجهود التي تستهدف التعاون في مجالات التجارة والاستثمار، والإقليمية الرخوة «Soft Regionalism» و التي تعني الإجراءات لمشتركة في إطار التعاون الأمني بين الوحدات الداخلة في مثل هذا النوع من التعاون[5].
ويعتبر مفهوم الانتشار والإقليمية الجديدة من المفاهيم وثيقة الصلة بفكرة التعاون الإقليمي وذلك انطلاقا من حقيقة أن بعض أنماط التعاون تتجه إلى تجاوز شرط الجوار الجغرافي فيما يتصل بالتعاون فتمتد بنطاق الإقليم والمكان إلى محل ومناط التعاون (سياسي، اقتصادي، ثقافي) بالمصطلح القانوني والفقهي، وبالتالي تتاح فرص التعاون الإقليمي بالمعنى سالف البيان إلى وحدات وكيانات أكثر اتساعا من المعنى الجغرافي لضيق للإقليم[6].
و على الصعيد الاقتصادي يمكن القول بتعدد وتنوع الصور والأشكال التي اتخذتها و تتخذه ظاهرة التعاون الاقتصادي بالمعنى الشاملEconomic Integration بين الدول المختلفة، والذي يعرف اصطلاحا بالتكامل الاقتصادي، والصور الشائعة لهذا النمط من لتعاون هي : منطقة التجارة الحرة، و الإتحاد الجمركي، والسوق المشتركة و الإتحاد الاقتصادي و الاندماج الاقتصادي الكامل. ومناط التمييز بين كل درجة وأخرى هو ما تحققه كل منها من قضاء على الحواجز والقيود التي تعترض انتقال السلع والخدمات وعناصر الإنتاج المختلفة بين أطراف التنظيم، والدرجة التي يحققها كل منها في تخفيف التمييز أو القضاء عليه فيما بين الأقطار الأطراف، وأيضا فيما بينها الأقطار الأخرى غير الداخلة في عملية التكامل[7]. ويرى الكثير من الاقتصاديين الغربيين أن هذه الصور (منطقة التجارة، الإتحاد الجمركي، السوق المشتركة و الإتحاد الاقتصادي و الاندماج الاقتصادي الكامل) إنما تمثل درجات أو مراحل متتالية من التكامل، بمعنى أن كل منها تعبر عن درجة أو مرحلة من التكامل أعلى من التي قبلها[8].
وعلى صعيد التنظيم الدولي نجد أن ميثاق الأمم المتحدة الصادر عام 4519 قد أقر مبدأ قيام المنظمات الإقليمية، ولم ير فيه تعارضا مع نظام الأمن الجماعي الذي أتت به لمنظمة الدولية. فنصت المادة 25/1 على أنه: " ليس في هذا الميثاق ما يحول دون قيام تنظيمات أو وكالات إقليمية تعالج من الأمور المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدولي ما يكون العمل الإقليمي صالحا فيها ومناسبا، ما دامت هذه التنظيمات أو الوكالات الإقليمية ونشاطها متلائمة مع مقاصد الأمم المتحدة، ومبادئها"، كما خصص الفصل الثامن من الميثاق لشرح دور هذه المنظمات في حفظ السلم والأمن الدوليين، وعلاقتها بالمنظمة العالمية[9].
يتبين مما تقدم مدى تنوع وتشعب موضوع التعاون الإقليمي وأبعاده المختلفة، فإذا ما تجاوزنا الإقترابات والمداخل المختلفة للنظر في التعاون الإقليمي ودراسته وحاولنا التعرف على العناصر اللازم توافرها لقيام مثل هذا التعاون، فإننا نجابه مرة ثانية بتباين في الآراء فيما يتصل بهذه العناصر ودورها، ولما كان ذلك ليس هو الهدف الأساسي للبحث فإننا سنعرض لصورتين من الصور الدالة على هذا التباين. وهما التحدي الخارجي، والعلاقة بين السياسي والاقتصادي فيما يتصل بالتعاون الإقليمي.
فعلى صعيد التحديات الخارجية يرى البعض أن وجود التحديات والتهديدات الخارجية يعد عاملا كافيا لدفع الدول نحو التكتل والتضامن والوحدة، إلا أن وجود التحدي الخارجي ليس شرطا أن يؤدي إلى الوحدة أو التكتل أو التضامن الإقليمي بل أن وجود التهديدات بصفة عامة قد يدفع إلى الانقسام بين دول الإقليم الواحد.[10]
وفيما يتصل بالعلاقة بين المدخل الاقتصادي نجد جدلا مماثلا بين من يدعو إلى إتباع المدخل الاقتصادي - الوظيفي - لتحقيق الاندماج والتكامل و بين من يدعو إلى المدخل السياسي لتحقيق ذات الهدف. على أنه تجدر الإشارة إلى أن التيار الغالب يذهب إلى ضرورة توافر قدر من المصلحة المشتركة بين الدول الساعية لإقامة تنظيم إقليمي سواء تمثلت هذه المصلحة في درء مخاطر أو جلب منافع للأطراف. كما أن النظريات المختلفة للاندماج والتكامل المعروفة بأنها لا سياسية مثل الوظيفية، والوظيفية الجديدة، و الاتصالية، لم تستبعد مجل العامل السياسي من تحليلاتها[11]. كما أن النظريات السياسية مثل الفيدرالية لم تمهل الأبعاد الاقتصادية في تناولها. والواقع أن عملية التعاون الإقليمي تثير العديد من القضايا التي تتصل بطبيعة النشأة، وأطراف التنظيم والعلاقة بينهم، والهيكل التنظيمي[12]. وهذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها إلا بشكل عملي تطبيقي في إطار ما تتمتع به كل تجربة اندماجية من خصوصية. الأمر الذي يبرر الانتقال إلى التعرف على طبيعة نشأة وتطور رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان).
ثانيا - نشأة وتطور "الآسيان":
يمكن القول بدرجة كبيرة من الثقة أن إنشاء منظمة "الآسيان" في آب/أغسطس عام 6719 قد جاء ضمن ترتيبات الأمن الإقليمي في إقليم آسيا - الباسفيك خلال مرحلة الحرب الباردة، التي تميزت بسعي الولايات المتحدة إلى حصار المد الشيوعي واحتوائه خوفا من انتشاره على نحو يهدد مصالحها بالمنطقة لاسيما مع خروج فرنسا من الهند الصينية وانتصار فيتنام وتوسعها في كمبوديا إضافة إلى تفاقم الصراعات الأخرى بالمنطقة.[13] عندئذ برزت الحاجة إلى آلية أمنية في جنوب شرق آسيا تكون مهمتها حصار المد الشيوعي والحيلولة دون انتشاره وهو الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى خلق هذه الآلية في محاولة لتنظيم صفوف الحلفاء في جنوب شرقي القارة، وتقوية اقتصادهم من خلال ضخ رؤوس الأموال الهائلة والزائدة عن دورة رأس المال الأمريكي، الذي نشأ وتكون بسبب فوائض أسعار النفط العربي وهو الأمر الذي يحقق عدة أهداف لخدمة المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة [14] والتي من أبرزها :
- الحد من نفوذ النشاط الاقتصادي الياباني الآخذ في النمو.
- حصار البؤر الشيوعية في محاولة لتطويق فيتنام والإتحاد السوفيتي فيما عرف حينئذ بسياسة الحصار (التطويق).
- دعم التكامل الإقليمي بين الدول الموالية والصديقة عبر الاستثمارات المشتركة والتعاون الاقتصادي.[15]
الأمر الثاني الذي يبدو على قدر كبير من الأهمية هو الطبيعة الأمنية التي سعت الولايات المتحدة إلى تحقيقها عبر هذا التنظيم الاقتصادي والتي ألقت بظلالها على النشأة والتكوين وكذلك ما أخفقت المنظمة في تحقيقه، وهو الأمر الذي تطلب بالضرورة التعاون لإنشاء منتدى الآسيان الإقليمي (A.R.F) الذي عقد اجتماعه الأول في بانكوك (تموز / يوليو4199) ويتسم بدور أمني وضح التحديد، ويتحمل فيه الآسيان المسئولية الأساسية عن تطوره المؤسسي، حيث يتولى التنظيم و الرئاسة الاجتماعية السنوية للمنتدى، وهو الأمر الذي سنعود له تفصيلا عند تقييم داء الآسيان لوظائفه في موضع لاحق[16].
و قد ظهرت الاعتبارات الأمنية جلية في مجموعة المبادئ التي صاغتها في أعقاب تأسيسها والتي تمثلت في:
- أن يكون حل المنازعات بالطرق السلمية.
- عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.
- احترام الاستقلال والسلامة الإقليمية.
- عدم دعوة القوى الخارجية للتدخل في صراعات المنطقة وحلها في إطار الرابطة[17].
ومن الناحية التاريخية و القانونية يمكن القول بأن توقيع كل من إندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلاند على المعاهدة الخاصة بإنشاء «رابطة أمم جنوب شرق آسيا (الآسيان)"Association of South - East Asian Nations في آب أغسطس67 19 أدت إلى تأسيس الرابطة بشكل رسمي، وفي عام 8419 انضمت بروناي إليها، إلا أن الرابطة استمرت محدودة الفاعلية حتى عام 7619 عندما إجتمع رؤساء حكومات الدول الأعضاء في "بالي" بإندونيسيا لمناقشة الموقف في المنطقة ثم تلاه الاجتماع التالي في كوالالمبور عام 7719 حيث كان هذان الاجتماعان نقطة تحول في تاريخ "الآسيان"[18].
ثالثا - الهيكل التنظيمي:
أسفر إعلان "الآسيان" أو أسمى إعلان "بانكوك" الصادر في آب / أغسطس 6719 عن إنشاء العديد من الهيئات والمنظمات واللجان شكلت في مجملها عناصر الهيكل التنظيمي للمنظمة : وهذه الهيئات هي : (أنظر شكل رقم 1)
أ. إجتماع القمة Summit meeting وهذه هي السلطة الأعلى في الرابطة حيث تتكون من رؤساء الحكومات في الدول الأعضاء، ومنذ تأسيس الرابطة لم تعقد سوى أربع إجتماعات قمة، (فكان الأول في مدينة "بالي" بإندونيسيا في شباط/فبراير 7619، و الثاني في مدينة "كوالالمبور" بماليزيا في آب / أغسطس 7719، والثالث في مدينة " مانيلا" بالفلبين في كانون أول / ديسمبر 8719، والرابع في مدينة "سنغافورة" في كنون ثاني / ينير2199).
و الملاحظة الجديرة بالذكر هنا أنه قد مرت تسع سنوات (عقد تقريبا) على إنشاء الرابطة قبل عقد إجتماع القمة الأول، وهو الأمر الذي يشير إلى عدم وجود المركزية، وإلى تقدم الاقتصادي على السياسي، إذا لم تجتمع القيادة السياسية خلال عقد كامل ولو لمرة واحدة، ومع ذلك فإن الرابطة كانت ماضية في سبيل تحقيق الأهداف المنوطة بها، كما أن من الملاحظ أيضا عدم تسلسل مواعيد اجتماعات القمة فالفرق بين الأول والثاني سنة ونصف تقريبا (18 شهرا) كما أن الفرق بين الثاني والثالث أكثر من عشر سنوات، وأخيرا فإن الفرق بين الثالث والرابع حوالي أربع سنوات، وهو يشير إلى أن مواعيد اجتماعات القمة غير محددة، وكذلك يشير أيضا إلى عدم سيطرة القمة على مقاليد الأمور في الرابطة، والواضح أنه لقاء لتحديد الخطوط العامة مع ترك التفاصيل للمستويات الأخرى.
ب. المؤتمرات الوزارية Ministerial Conferences : يجتمع وزراء خارجية الدول الأعضاء سنويا بشكل دوري، كما يجتمع وزراء الإقتصاد أيضا سنويا لإدارة شؤون التعاون الإقتصادي كما يجتمع وزراء آخرون كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
ج. اللجنة الدائمة Standing Committee :
و تتكون من وزير خارجية البلد المضيف وسفراء الدول الأعضاء، تجتمع بشكل دوري مرة كل شهرين.
د. الأمانة العامة Secretariats:
وقد أنشئت في "جاكرتا" بإندونيسيا عام 7619 وتشكل الجسد المركزي للرابطة والأمين العام الأعلى يختار بشكل دوري من الدول الأعضاء حسب الترتيب الأبجدي كل ثلاث سنوات، ويجري التنسيق اليومي من خلال الأمين الوطني لكل عضو في الرابطة. (أنظر شكل رقم2.)
هـ.اللجان Committees : يتم التعاون بين دول الرابطة من خلال وزراء الشؤون الإقتصادية عبر خمس لجان هي، لجنة الغذاء والزراعة والغابات ولجنة التمويل والبنوك ولجنة الصناعة والتعدين والطاقة و النقل والمواصلات وأخيرا لجنة التجارة والسياحة[19].
كما تشكل بالإضافة إلى هذه الخمس لجان خاصة مثل لجنة الثقافة والمعلومات ولجنة العلوم والتكنولوجيا ولجنة التنمية. وفيما يلي سوف نتعرض لإنجازات الآسيان في ثلاث مجالات رئيسية هي المجال الاقتصادي، والسياسي، والعلاقات الخارجية:
أ- التعاون الاقتصادي :
بالرغم من أن التعاون الاقتصادي بين دول الآسيان قد بدأ في إطار ضيق و محدود، لنشاطات متعلقة بالغذاء و الطاقة و النقل و أجهزة الاتصال و الزراعة و السياحة فحقق التعاون بينهم احتياطي غذائي آسيوي، إلا أن البداية الحقيقية لآليات التعاون الاقتصادي جاءت في الوقت الذي عقدت في قمة "بالي" بإندونيسيا عام 1976 و تم تشكيل ثلاث لجان رئيسية هي:
1. معاهدة التجارة التفضيلية (الدولة الأولى بالرعاية) P.T.AS.
2. المشروعات الصناعية (للآسيان) I.P.S.
3. المنطقة الصناعية المغلقة.
و قد عنيت الاتفاقية الأولى بجعل حرية التجارة مكفولة بين دول المنطقة (أي بجعل الدول الأعضاء منطقة تجارة حرة مغلقة)، و تكفلت الثانية و الثالثة بالتعاون الصناعي[1].
و في أعقاب القمة ذاتها و بناء على الاتفاقات المتبعة اتفق وزراء اقتصاد دول الآسيان على توزيع المشروعات الصناعية على الدول الأعضاء. و في عام 1977 وافق وزراء الاقتصاد على المشروعات المختارة فيما عدا الفلبين التي استبدلت المشروع الذي أجير عام 1979 بمشروع آخر لإنتاج الورق، كما غيرت الفلبين مشروعها ثانية و استبدلته بثالث لتصنيع النحاس و أجازه وزراء اقتصاد الآسيان عام 1982.
و وفقا لاتفاق الأفضلية التجارية، اتفق على إضافة (50) منتجا في كل جولة من المفاوضات، كما وافق وزراء الاقتصاد على إعفاء كل صفقة تقل قيمتها عن خمسة آلاف دولار من الرسوم الجمركية، و بعد ذلك بعامين وصلت هذه القيمة إلى عشرة ملايين و بعد ذلك استبدلت "الآسيان" المفاوضات متعددة الأطراف الجماعية بالمفاوضات الثنائية، و فيما يتعلق بالتخفيضات الجمركية على المنتجات غير الزراعية التي يصل التخفيض فيها إلى 50 %، فقد وصلت فائدة هذه المنتجات عام 1983 إلى (12) ألف منتج[1].
و قد لعب التعاون الصناعي دورا حقيقيا في المدى القصير لعملية التكامل الاقتصادي للمنطقة، و ذلك عن طريق اللجنة الخاصة التي تم تشكليها عام 1977 في مجالات الصناعية و التعدين و الطاقة، و قد حددت اللجنة المشروعات التي سوف يبدأ التكامل بشأنها في السيارات، و الآلات الزراعية، و معدات الاتصال.
و كانت الفكرة الرئيسية هي أن رجال الأعمال و الحكومات يمكنهم التعاون في إنشاء الصناعات في كل دولة عضو على نحو تكاملي سواء في الإنتاج أو التجميع بشرط أن يتمتع المنتج بالحماية الجمركية في دول الرابطة.
و الجدير بالذكر أن القطاع الخاص لم يبادر في البداية إلى الاستثمار في مجال التصنيع المشترك حيث مرت ثلاث سنوات حتى تشكيل الآسيان للغرف التجارية عام 1972، و هنا بدأ القطاع الخاص في المساهمة في صناعة السيارات و وافق وزراء الاقتصاد على ذلك عام 1980.
ب. المجال السياسي:
أثرت ظروف النشأة و التطور على دور الآسيان السياسي حيث ركز قادة الدول الأعضاء في الآسيان جهودهم على دعم التعاون الاقتصادي و الصناعي و التجاري أساسا دون الانصراف إلى الشؤون السياسية. لكن نظرا لعدم إمكانية الفصل بين ما هو سياسي و ما هو اقتصادي عمليا، فقد اضطر الآسيان إلى الخوض في المسائل السياسية التي بدأت بتأكيد وزراء الخارجية على حياد المنطقة و ظهر مفهوم منطقة السلام و الحرية و الحياد "Zone of Peace, Freedom and Neutrality" و سيطر هذا المفهوم (Zopfan) على الاجتماع الوزاري الرابع للآسيان في أذار/مارس 1971، و كذا اجتماع وزراء الخارجية في تشرين ثاني/نوفمبر 1971 و سعى وزراء الخارجية إلى إصدار إعلان عن عزمهم السعي إلى جعل هذا المفهوم جزءا من السياسة الرسمية للرابطة كما سعت في إطار نشاطها السياسي إلى إجراء حوارات مع الجماعة الأوروبية (1972) و استراليا (1974) و نيوزيلندة (1975) و كندا و اليابان و الولايات المتحدة (1977) في إطار من التقسيم حيث تكفل كل عضو من الرابطة بالإشراف على الحوار مع قوة من القوى الدولية، و قد غطت هذه الحوارات جوانب متعددة من التعاون التنموي و المساعدات الفنية و مشروعات الأبحاث و التجارة[2].
إلا أنه يجدر القول أن أعظم الأدوار السياسية التي لعبها الآسيان هو ذلك الدور المتعلق بقضية كمبوديا التي تفجرت على أثر الغزو الفيتنامي لكمبوديا في كانون أول / ديسمبر 1978، إذ تحركت الآسيان و أدانت الغزو كما وقفت إلى جوار الصين ضد الاتحاد السوفيتي الذي بدأ مؤيدا للغزو، و على أثر تحركات الآسيان و الدعم الأمريكي لها، نجحت في استصدار قرارات من مجلس الأمن تطالب فيتنام بالانسحاب من كمبوديا، و كانت نتيجة ذلك عقد مؤتمر للأمم المتحدة حول كمبوديا في نيويورك عام 1981 كما تمسكت بضرورة حضور الفئات الأربعة الممثلة للشعب الكمبودي. و بالرغم من أن المؤتمر انتهى إلى صدور بيان ختامي ذو طابع توفيقي حرص على التوفيق بين مطالب الآسيان من جهة و مطالب الصين من جهة أخرى حيث أكد على ضرورة انسحاب القوات الأجنبية و إجراء انتخابات حرة تحت إشراف الأمم المتحدة، إلا أن جهود الآسيان لم تفتر إذ استمرت خلال عقد الثمانينات في تبنى سياسة متماسكة إزاء القضية، و قد تمثل ذلك في عدد من الإجراءات كان منها مشروع السلام الذي قدمته الرابطة في الاجتماع السنوي (بانكوك) في تموز / يوليو 1988 الذي ارتكز على وقف إطلاق النار و انسحاب القوات الفيتنامية على ثلاثة مراحل و نزع سلاح الفصائل الكمبودية على مرحلتين و تشكيل حكومة انتقالية و إجراء انتخابات عامة تحت إشراف دولي[3]. كما دعت الرابطة منظمة دول عدم الانحياز في 18/4/1986 إلى مساندة مواقف الرابطة في جهودها لتسوية القضية الكمبودية.
و انتهت بدخول الرابطة في مفاوضات مباشرة مع فيتنام و اقترحت تشكيل مجلس و طني أعلى من القوى المعارضة يشغل مقعد كمبوديا في الأمم المتحدة.
العلاقات الخارجية للآسيان :
-
مع المجموعة الأوروبية
تشكل الجماعة الأوروبية النموذج النظري المحتذى لدى دول رابطة الآسيان، و لذا كان من الطبيعي أن يسعى هؤلاء و منذ البداية إلى دعم علاقاتهم بالمجموعة الأوروبية، و أسفر هذا السعي على توقيع اتفاق للتعاون بين الآسيان و المجموعة الأوروبية في آذار / مارس 1980 و كذلك تم تشكيل لجنة مشتركة عقدت اجتماعها الأولى في العاصمة الفلبينية (مانيلا) في تشرين ثاني / نوفمبر 1980، و أصبح الاجتماع سنويا بعد ذلك، و وضعت اللجنة برنامجا للتعاون العملي و التكنولوجي، و في كانون أول / ديسمبر 1983 تم تشكيل مجلس رجال الأعمال من الآسيان و المجموعة الأوروبية و ذلك لتحديد المشروعات المشتركة التي يساهم فيها أو يقوم بها رجال أعمال أوروبيون.
و في تشرين أول / أكتوبر 1985 عقد الاجتماع لوزراء الشؤون الاقتصادية للآسيان و المجموعة الأوروبية، و وافق على تشجيع الاستثمارات الأوروبية في دول رابطة الآسيان و قدرت الاستثمارات الأوروبية في ذلك الوقت بنحو 13 % من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في المنطقة، و ذلك مقابل (28 %) لليابان و (17 %) للولايات المتحدة. و في عام 1987 أنشئت لجان استثمارية مشتركة في جميع عواصم رابطة الآسيان و مع بداية تحرك المجموعة الأوروبية نحو تحقيق الوحدة، عقد وزراء خارجية رابطة الآسيان اجتماعا في شباط / فبراير 1990 لمناقشة الآثار المحتملة للوحدة الأوروبية على رابطة الآسيان، لاسيما في ظل المخاوف التي طرحتها الرابطة حول ما يمكن أن يوضع من قيود على صادراتهم إلى دول الاتحاد الأوروبي و كذلك لبحث الآثار المترتبة على اتجاه المجموعة الأوروبية إلى توجيه الشطر الأكبر من الاهتمام و المساعدات إلى دول شرق أوروبا تحولها نحو اقتصاد السوق.
-
الأسيان و اليابان :
يمكن القول بأن ثمة عوامل كثيرة سياسية و اقتصادية و جغرافية كانت بمثابة المحددات لعلاقة الآسيان باليابان فالوزن الاقتصادي الضخم لليابان، و الجوار الجغرافي و التشابه في الأنظمة الاقتصادية استدعى حدوث تعاون بين الآسيان و اليابان و هو الأمر الذي تفهمه كلا الطرفين فأسفر عن تشكيل الجمعية اليابانية الآسيانية لمناقشة القضايا ذات الاهتمام المشترك مثل التجارة، و الاستثمارات و نقل التكنولوجيا. و في عام 1981 بدأت اليابان بتقديم دعمها لرابطة الآسيان، و هو الدعم الذي تزايد عام 1983 لكل من اندونيسيا و ماليزيا و تايلاند.
و في عام 1987 أنشأت اليابان صندوق تمويل التنمية في الآسيان برأسمال قدره مليارا دولار، و في أيار / مايو 1991 أسفرت المفاوضات بين الطرفين عن إعلان اليابان استمرارها في دعم و تشجيع النمو الاقتصادي لدول الآسيان و البحث عن إطار مشترك لمناقشة القضايا السياسية و الأمنية في المنطقة24.
3- الآسيان - كوريا الجنوبية:
وجد التعاون الاقتصادي بين الآسيان من جهة و كوريا الجنوبية من جهة أخرى عددا من الأسباب و المبررات أهمها يتعلق بمشاكل مشتركة مثل ارتفاع تكاليف الطاقة خاصة في كوريا و كساد الطلب على الصادرات و تهديد الحماية العالمية.
و كذلك هناك أسباب سياسية و أمنية منها سعى الآسيان إلى تقوية علاقتها بكوريا الجنوبية لتجد موطئ قدم لها في قضية شبه الجزيرة الكورية لضمان عدم تفجر الصراع في هذه القضية، و هذه الأسباب دفعت الآسيان إلى قبول كوريا كعضو مراقب في اجتماع وزراء الخارجية في يوليو 1991.
و قد أقامت كوريا علاقات جيدة مع الآسيان منذ إنشائه إلا أن هذه العلاقة ظلت إلى عام 1975 تتميز بأمرين:
التنافس مع كوريا الشمالية و ذلك في إطار المنافسة العالمية بين الكوريتين للحصول على الشرعية الدولية و الاعتراف العالمي. أولوية العلاقات الثنائية مع كل دولة من دول الآسيان على العلاقة مع الآسيان كوحدة متكاملة، إلا أن العلاقات أخذت منعطفا جديدا ابتداء من منتصف السبعينيات مع زيارات عدد من الكوريين الرسميين لدول الآسيان و كذا زيارات مسئولين من الآسيان لكوريا الجنوبية. و بإلقاء الضوء على تطور العلاقات التجارية بين كوريا و الآسيان في فترة الحرب الباردة يتضح - كما تشير البيانات و الإحصاءات - النمو السريع في تجارة كوريا مع الآسيان حيث وصلت عام 1980 إلى (2610) مليون دولار أمريكي و هو رقم أعلى بخمس مرات من الرقم المتحقق عام 1975 و الذي كان (508) مليون دولار أمريكي، كما أن نسبة تجارة كوريا إلى مجمل التجارة العالمية وصلت في العام نفسه إلى (%6,58) بزيادة أكثر من (1,5%) عن عام 1975 و هو جانب من الأرقام التي توضح عمق العلاقات التجارية بين الطرفين.
و في الفترة التي أعقبت الحرب الباردة نمت العلاقات بين الطرفين الأمر الذي أدى إلى إقامة ما سمي Sectoral Dialogue Patnership الذي قاد إلى حوار شراكة كامل بينهما في عام 1991. كما نمت تجارة كوريا مع الأسيان بصورة ملحوظة عام 1980 إلى 1993 فارتفع نصيب الآسيان مع تجارة كوريا (6،6(% عام 1980 إلى (10(% عام 1993، و بالمثل زادت صادرات الآسيان لكوريا بمعدل سنوي بلغ حوالي (12،6 % ( على حين زادت الواردات إلى (17،6% ( سنويا في الفترة من 1980 إلى 1993، و هو الأمر الذي توضحه الجداول الملحقة مع التركيب النوعي للصادرات و الواردات الكورية من و إلى الآسيان 25.
-
الآسيان : التحديات و الآفاق
- نحو تقويم موضوعي لرابطة الآسيان :
يجدر بنا و نحن بإزاء تقويم أداء الآسيان القول بأن تجربة الآسيان تطرح نموذجا ناجحا - و باقتدار - في تقديم نموذج تعاوني في بيئة صراعية إذ اتسمت المنطقة قبل ظهور الرابطة و بعدها بكثرة الصراعات و الانقسامات بين دول المنطقة و التي وصلت إلى حد الخلافات العرقية الحدودية، عمقتها خلافات في الرؤى تجاه قضية الأمن الإقليمي و الموقف من القوى الإقليمية الأخرى، و كذلك القوى الدولية، كما نجحت الرابطة في استثمار اللحظة التاريخية المواتية التي تمثلت في نمو التهديد الفيتنامي/ السوفياتي و تصاعد النفوذ الصيني و من ثم استثمرت دول الرابطة فكرة الإحساس بالخطر المشترك في وضع أسس بناء إقليمي لتحقيق الأمن و الرفاه الاقتصادي.
و يمكننا فيما يلي إجراء تقويم موضوعي للآسيان انطلاقا مما سلف بيانه دون تهوين أو تهويل. و نظريا فإنه يمكن إجراء هذا التقويم عبر استخدام وسيلتين رئيسيتين هما : أولا : مجموعة الأهداف المرسومة للآسيان و المنوط به تحقيقها. ثانيا : عوامل نجاح الرابطة توصلا إلى التعرف على مستقبل الرابطة في ضوء التحديات الناجمة عن النظام الدولي الجديد و هو ما نعرض له تفصيلا في النقاط الثلاث التالية :
أولا : مجموعة الأهداف المرسومة :
أنشئت الآسيان و قامت أساسا لتحقيق وظيفتين في غاية الأهمية لمجموع الأعضاء و لأطراف خارجية دعمت الآسيان و ساندته في طريق قيامه و هما :
1- الوظيفة الأمينة
2- الوظيفة الاقتصادية
كما يمكن إضافة وظيفة ثالثة أو هدف ثالث أنيط بالرابطة تحقيقه و إن يكن لا حقا لها و هو الوظيفة السياسية. و سوف نتناول هذه الوظائف الثلاث لندرس مدى نجاح الآسيان في تحقيقها.
1- الوظيفة الأمنية : ذكرنا فيما سبق أن إنشاء آسيان جاء ضمن ترتيبات الأمن الإقليمي في إقليم آسيا - الباسفيك، التي خططت لها و وضعتها القوى الغربية و على رأسها الولايات المتحدة في دعمها للدول الصديقة، و جاء الآسيان ليوفر لأعضائه محفلا لمناقشة الدبلوماسية الوقائية و إجراءات بناء الثقة و لإعلان وجهة نظر واحدة إزاء قضية الأمن الإقليمي، و بالرغم من أن الرابطة قد خلقت جوا من الثقة و التفاهم بين الدول الأعضاء كما خلقت ما يمكن أن نسميه بالعقل الجمعي الأمر الذي وحد الرؤى إزاء قضية الأمن الإقليمي و العلاقات الخارجية إلا أنه - وفقا لرأي المحللين - قد افتقر لترتيبات أو لآليات تقليدية للأمن الجماعي، إذ جاء إعلان تأسيسه خلوا من الإشارة الصريحة لدوره الأمني، و عبر عمره الطويل لم يحاول الآسيان أن يصوغ نموذجا رسميا للأمن، إذ بالرغم من أنه طور منهجا سياسيا لمشاكل الأمن الإقليمي، اقتصر على أعضائه في عملية حوار متعدد الأطراف و تقوم ممارسته على عنصر الدبلوماسية و حدها، افتقر للجوانب التنفيذية لمعرفة نماذج الأمن الجماعي، إذ لا يتضمن أية آليات رسمية المنازعات، ربما خشية الإساءة للعلاقات السياسية، و يرى هؤلاء أن الدليل الواضح على فشل الآسيان في أداء وظيفته الأمنية هو الاتجاه إلى إنشاء بيان متعدد الأطراف أكثر اتساعا في آسيا - الباسفيك. عرف باسم : محفل آسيان الإقليمي A.R.F. الذي عقد اجتماعه الأول في بانكوك تموز / يوليو 1994 و يتسم بدور أمني واضح التحديد، و يحمل الآسيان المسؤولية الأساسية عن تطوره المؤسسي حيث يتولى تنظيم و رئاسة الاجتماعات السنوية للمحفل، و تتناوب رئاسة اجتماعاته المنعقدة بين دوراته السنوية، إلا أن هناك تحليلات ترى أن تبني المحفل لمنهج الآسيان إزاء مشاكل الأمن الإقليمي و افتقاره لنص ينظم استخدام القوة في الصراع و حده، و اعتماده على المكانة العليا للدبلوماسية يمثل امتدادا للإخفاق في تحقيق الأمن و أداء الوظيفة الأمنية26.
2- الوظيفة الاقتصادية : برز الإنجاز الرئيس لمجموعة الآسيان على الصعيد الاقتصادي في تزايد معدلات التجارة البينية بين دول الرابطة (أنظر الجدول في الملحق). و من هنا نجد أن الآسيان قد نجحت في تدعيم التعاون الاقتصادي بين دولها، هذا بالرغم من أن المشروعات التي تم الاتفاق عليها لم ينجز منها الكثير إضافة إلى عدم التقيد بلوائح الرابطة في العديد من القطاعات و يفسر البعض زيادة معدلات التبادل التجاري فيما بينها، بالقول بأن هذا النمو مرده إلى نشاط الأسواق المحلية لدول الآسيان نفسها و ليس إلى زيادة الصادرات فحسب، في منطقة جنوب شرق آسيا في حين يفسرون زيادة التبادل التجاري بين دول الآسيان و الدول المحيطة بها بإتباع دول جنوب شرقي آسيا بصفة عامة للمبادئ الأساسية للاقتصاد الرأسمالي فضلا عن تشجيع الاستثمارات الخارجية.
و هكذا يظل الإنجاز الرئيسي للرابطة و الذي لا يقل الجدل - أنها قطعت شوطا على طريق الاندماج الاقتصادي حيث بدأ الحديث عن منطقة للتجارة الحرة، و اتحاد للمستهلكين و سوق مشتركة للآسيان، و ذلك على الرغم من أن الهدف الرئيسي للآسيان كان التعاون الاقتصادي و ليس الاندماج الاقتصادي أو السوق المشتركة، و قد بدأ ذلك واضحا في منتصف التسعينات إذ تم الاتفاق في اجتماع وزراء اقتصاد الدول الأعضاء في الرابطة (1995/4/28) على الإسراع بتخفيض الرسوم الجمركية بهدف إنشاء منطقة تجارة حرة قبل عام 2003، بل إن الاجتماع السنوي الثامن و العشرين لوزراء خارجية دول الرابطة و الذي عقد في بروناي (1995/7/29) طالب بضرورة اتخاذ بعض الخطوات الجادة للإسراع بالوصول بالمنطقة إلى من منطقة تجارة حرة قبل الموعد المقرر لها بثلاث سنوات، أي عام 2000م.
3- الوظيفة السياسية : لم تكن الوظيفة السياسية ضمن مجموعة الوظائف المنوط برابطة الآسيان تحقيقها، و من ثم فإن أي خطوة حققتها الرابطة في هذا الاتجاه تعد أمرا محمودا، و قد ظهر التعاون السياسي في لحظات محفلة و منها إصرار دول الرابطة على أن المشاكل الإقليمية - التي هي المسؤولية الأولى لأعضائها - تستثني في ظل ممارستها بما يعرف بمفهوم الدولة ذات الخط المتقدم، فعندما تمس قضية معينة دولة أخرى فإن الدولة المعنية تكون صاحبة الحق في اتخاذ زمام المبادرة. نجحت في التحقيق الأهداف المرجوة. و يمكن تفسير عوامل نجاح الآسيان في المجالين الداخلي و الخارجي بما يلي27:
أ- في المجال الداخلي :
1. التركيز على التعاون الاقتصادي دون السياسي باعتبار الأول هو المجال الأسهل و الأقل حساسية، و أهم ما يجب أن تلجأ إليه تجارب العمل المشترك.
2- غياب الهيمنة الإيديولوجية على الأنظمة السياسية مما أكسبها القدرة على التكيف، و الواقعية في صنع السياسات.
3- عدم هيمة دولة معينة على القرارات أو القدرات للرابطة. و هذا عيب اكتنف كثيرا من التجارب الوحدوية العربية التي تميز أغلبها بسيطرة مصر عليها.
4- الدور الكبير الذي لعبته الدولة في تحقيق التنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي. و ذلك من خلال محافظة دول الرابطة على الاستقرار السياسي، و تركيز السلطة السياسية حيث سادت درجة معقولة من التضامن و الوحدة الوطنية في دول الآسيان بالرغم من تعدد القبائل و الأجناس.
5- التزام دول الآسيان بالتكتل الإقليمي بين دول الرابطة، و نجاحها في تحييد الخلافات السياسية البينية و أكبر مثال على ذلك تنازل الفلبين عن المطالبة بإقليم صباح من ماليزيا، إذ رأت هذه الدولة أنها لن تكون قوية خارج حدودها إلا إذا كانت قبل ذلك قوية داخل حدودها، و من هنا فقد أظهرت هذه همة عالية حتى أمكنها زيادة معدلات نموها الاقتصادي و تطوير تعاونها الأمني و السياسي.
3- التجارب التكاملية العربية في ضوء تجربة الآسيان :
تثير قضية الحديث عن الآسيان باعتباره رابطة اقتصادية قضية أزمة التكامل العربي، إذ في الوقت الذي تطرح فيه الآسيان نموذجا فريدا للتعاون و التكامل بين فرقاء متصارعين بينهم حروب و صراعات قديمة استمرت فترات طويلة، كما أن بينهم خلافات دينية و عرقية و إيديولوجية فيسفر هذا التكامل عن مثل هذه النتائج المبهرة التي حققها الآسيان نجد الوطن العربي - و على النقيض من ذلك - قد اجتمعت له خصائص الوحدة و متطلبات التكامل من تاريخ مشترك، و وحدة في الدين و الثقافة و اللغة و غيرها، فإنه مع ذلك ما يزال بينه و بين الوحدة أو التكامل زمن بعيد. و بالرغم من أن تجربة الوحدة العربية تبدو أكثر قدما و رسوخا من تجربة الآسيان، إذ في الوقت الذي نشأ و تأسس الآسيان في عام 1967 كان العرب يعيشون في ظل نظام إقليمي واحد تظله مؤسسة رسمية هي الجامعة العربية التي تأسست عام 1945 و بادرت و منذ تأسيسها إلى خلق الأجهزة الاقتصادية الفنية، فأنشأت لجنة دائمة للشؤون الاقتصادية و المالية، لإرسال قواعد التعاون الاقتصادي و مداه و صياغتها في شكل مشروعات اتفاقات و سياسيات و إجراءات تعرض على مجلس الجامعة للنظر فيها، و قد أكد مجلس الجامعة على أهمية الترابط بين الأمن القومي و الأمن الاقتصادي في معاهدة الدفاع المشترك و التعاون الاقتصادي التي أبرمها عام 1950، و في إطار ذلك تم إنشاء مجلسين، المجلس الاقتصادي و مجلس الدفاع المشترك، حيث نصت المادة الثامنة من تلك المعاهدة على أن ينشأ مجلس اقتصادي من وزراء الدول العربية المتعاقدة المختصين بالشؤون الاقتصادية.
و رغم أن هذا المجلس قد عقد ما يزيد عن أربعين دورة تمخضت في عام 1957 إلى التوصل إلى اتفاقية الوحدة الاقتصادية و التي صادق عليها المجلس الاقتصادي و مجلس الجامعة في حينه و لكنها لم تدخل حيز التنفيذ إلا في 30-4-1964. وبالرغم أيضا من أن الظروف الموضوعية لتحقيق التكامل الاقتصادي العربي كانت مواتية إلا أن حصيلة الجهود المبذولة لتحقيقه كانت متواضعة، حيث شكلت الظروف السياسية و الاقتصادية العربية و الدولية عوائق أمام تحقيق التكامل و الوحدة28. و قد أظهرت دراسات قامت بها لجان منبثقة عن المجلس الاقتصادي لدراسة أسباب تواضع التعاون الاقتصادي العربي و تقييم الاتفاقيات و المشروعات القائمة، أن التعاون الاقتصادي العربي يشكو في الجانب التنظيمي من أمرين : أولهما : عدم وجود جهة مركزية مسئولة عن التخطيط و الإشراف على التنفيذ. و ثانيهما: تعدد المؤسسات و المنظمات العربية و تضارب اختصاصاتها و قراراتها و ازدواجية نشاطاتها، في ظل غياب تنسيق فعال يوفر المال و الجهد العربي29.
و في ضوء ذلك قام مجلس الجامعة العربية في 24/3/1977 بتعديل المادة الثامنة من معاهدة الدفاع المشترك و التعاون الاقتصادي حيث أوكل للمجلس الاقتصادي مسؤولية قيادة العمل الاقتصادي العربي و القيام بمهام التخطيط و التنسيق و التقييم و الإنشاء و الإشراف على العلاقات الاقتصادية الخارجية. و قد حقق المجلس بعض الإنجازات مثل إقرار إستراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك و إعادة النظر في بعض الاتفاقيات و خصوصا فيما يتعلق بتشجيع و تنظيم تدفق رؤوس الأموال العربية إلى الدول العربية و تسيير التبادل التجاري30.
و مع ذلك لا يزال واقع التكامل الاقتصادي العربي شديد السوء، فمعدلات التبادل التجاري بين الأقطار العربية و بعضها من أقل ما يمكن، و هو انكماش يشبه المقاطعة و كذلك فإن حركة استثمار رؤوس الأموال العربية في الأقطار العربية الأخرى دون المستوى.
و هكذا لا حدود الإمكانات العربية المصدرة في ظل غياب نظام اقتصادي إقليمي عربي موحد، و عموما فإنه يمكن إجمال أسباب أزمة التكامل العربي الاقتصادي إلى مجموعة من العوامل هي31:
1- التناقضات الهيكلية و التنموية : إذ أن أزمة التكامل مردها إلى البنية الجوهرية للاقتصاد العربي المتفاوت في توزيع القوى و العناصر الإنتاجية و التناقضات الهيكلية و التنموية التي ورثها عن عهود الهيمنة الأجنبية، متمثلة بالتخلف و التبعية و التجزئة.
2- المداخل التكاملية : التي اتسمت بالحرية و لم تقم على التخطيط و البدء بتحرير التجارة فيما بينها، و قد أثبتت التجارب خطورة أتباع مبدأ الحرية العشوائية كمدخل للتنمية لأن التخطيط الشامل هو وحده الضمان و الوسيلة المثلى لتحقيق تنمية حقيقية و تكامل فعال.
3- الأنماط التنموية : إذ مارست معظم الأقطار العربية منذ استقلالها السياسي نمطا تنمويا انعزاليا قطريا، يغيب عنه البعد القومي مما أسهم في تعميق التبعية و التجزئة القطرية، و قد ازدادت خطورة هذا الاتجاه و زخمه في فترة السبعينات في ظل الازدهار و الانفجار التنموي فقد أدى الطموح لتحقيق تنمية سريعة في الوطن العربي إلى عودة الوقوع في فخ التبعية و تعميق الارتباط بالسوق العالمية، في ميادين التجارة و الاستثمار و الإنتاج و التكنولوجيا.
4- الإرادة السياسية : و قد لعب هذا العامل دورا بارزا في تعميق أزمة التكامل و كان وراء ضعف الإرادة السياسية عوامل عديدة أهمها عدم وضوح أو إدراك الفوائد الكبيرة المتبادلة للتكامل الاقتصادي بسبب قلة المعلومات أو عدم وضوحها مما أضعف القناعة لدى أصحاب القرار السياسي بجدواها و جديتها و قد أسهم في عدم الجدية و غلبة النظرة الآنية على النظرة طويلة الأمد، و طغيان المصالح العاجلة على المنافع الآجلة.
5- المشكلة القيادية المؤسسية : فقد أسهم عدم التشدد في اختيار قيادات بعض مؤسسات العمل العربي المشترك و قبول تسيسها من ناحية، و ضعف الرقابة و المتابعة و المحاسبة من ناحية أخرى، و في الإخفاق في بلورة نماذج مؤسسية عربية ناجحة للعمل الاقتصادي العربي المشترك، و قد أدى هذا الاتجاه إلى إضعاف الثقة بهذه المؤسسات و استغلالها كذريعة لإحباط أية تجربة وحدوية جدية، بل و الزعم بفشل الفكرة نفسها.
العرب و تجربة الآسيان: النظام الاقتصادي الإقليمي بين العروبة و الشرق أوسطية
بالرغم مما يمثله نموذج الآسيان من جاذبية لدى العرب الراغبين في الوحدة و التكامل الاقتصادي إلا أن السنوات الأخيرة شهدت ارتفاعا ملحوظا في الحديث عن رابطة الآسيان، إذ بعد تطورات عملية السلام بين العرب و إسرائيل في أعقاب مؤتمر مدريد ثم اتفاق أوسلو و توقيع الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي في سبتمبر 1993 ثم الاتفاق الأردني الإسرائيلي، دار الحديث عن نظام اقتصادي إقليمي جديد عرف باسم "السوق الشرق أوسطية" تشكل من إسرائيل و تركيا و الدول العربية بهدف تأكيد وجود إسرائيل في المنطقة و منحها الفرصة للسيطرة على الاقتصاديات العربية و التحكم بها 32.
و قد دلل المريدون للشرق أوسطية و المؤيدون لها من أنصار التسوية بين العرب و إسرائيل بالآسيان كتنظيم اقتصادي إقليمي قام بين فرقاء بينهم صراعات و حروب قديمة، كما كان بينهم أطماع و مصالح متنازع عليها، و نجح في دحر هذه الخلافات و تقسيمها عبر آليات و وسائل اقتصادية، كما نجح في العبور بدول المنطقة من دول تنتمي إلى العالم الثالث و تعيش مشاكله الاقتصادية من فقر و مديونية و بطالة و تضخم و غيرها إلى دول متقدمة صناعيا، و صلت إلى حد الرفاه الاقتصادي و ارتفع بها مستوى المعيشة. لكن واقع الأمر أن هؤلاء الذين يدعون إلى الأخذ بتجربة الآسيان في ظل نظام شرق أوسطي يجمع العرب و إسرائيل يغفلون مجموعة من الحقائق الموضوعية التي تفرض نفسها و هي:
1- أن منظمة الآسيان قامت في ظل نظام دولي ثنائي القطبية حيث توزعت مصادر القوة الرئيسية بين الولايات المتحدة و الإتحاد السوفيتي و قد كانت منظمة شرق آسيا أهم بؤر الصراع الإستقطابي بين هاتين الدولتين. لذلك فقد كانت دوافع النمو الصناعي التصديري في شرق آسيا سياسة عسكرية للحيلولة دون امتداد النفوذ السوفياتي - الصيني و لتفكيك الولاء لها.
بيد أنه مع انهيار المعسكر الشرقي التي تزعمته روسيا في بداية التسعينات و ظهور ما يسمى بالنظام الدولي الجديد أحادى القطبية فقد تلاشت الدوافع السياسية و الأمنية السالفة البيان، الأمر الذي جعل دول شرق آسيا تعاني من فراغ أمني و هزات اقتصادية.
2- أن عملية إنشاء الآسيان تمت في ظروف اقتصادية دولية مختلفة و في سياق دوافع الثورة العلمية التكنولوجية التي تلت الحرب العالمية الثانية. حيث سعت الدول الصناعية إلى تقسيم العمل الدولي الرأسمالي على أساس تكنولوجي بحيث يتم نقل صناعات أو مراحل صناعية تحتاج إلى أيدي عاملة كثيرة عادية أو شبه ماهرة من الدول المتقدمة إلى العالم الثالث الذي تكثر فيه العمالة العادية و تنخفض تكلفتها نسبيا و يتوفر فيها مناخ سياسي ملائم و قد نجحت عملية النقل الصناعي في دول شرق آسيا بشكل كبير.
بيد أن الوضع يختلف في المنطقة العربية من حيث اختلاف النمط الحضاري و المناخ السياسي و الاقتصادي المناسب لتنمية اقتصادية متكاملة و تحول هيكلي. و لذلك لم تشجع الدول الغربية شركاتها على القيام بعملية النقل الصناعي إلى الدول العربية.
3. هذا إضافة إلى ما تتمتع به كل تجربة من خصوصية في إطار ثقافتها و صورتها الحضارية و هذا ما يتجاهله المريدون للشرق أوسطية حين يستشهدون بمقولة بيريز : "أن ما يصلح لبقية العالم يصلح لإسرائيل و العالم العربي، فالقدر نقلنا من عالم تسوده الصراعات الإقليمية إلى عالم تحكمه التحديات الاقتصادية و الفرص الجديدة". و هنا يتناسون أو لنقل يتجاوزون قيام إسرائيل على أرض عربية، إضافة إلى كل الحروب التي خاضتها ضد الدول العربية و نتائجها التي أثقلت كاهل الأمة العربية و أراقت الكثير من الدماء العربية. و بالتالي فإن الحديث عن تعميم أي تجربة تنموية كاملة و استنساخها حديث غير واقعي و غير قابل للتحليل العلمي الدقيق، و ذلك لأنه لا يوجد مجتمع يتطابق في جميع عناصره مع مجتمع آخر، لا توجد ثقافة متماثلة مع ثقافة أخرى. و إنما لتحقيق التنمية، و الاستفادة من الخبرات البشرية في تطوير المجتمعات و تحسين أداء النظم و الأفراد ينبغي أن نحدد المستويات المتعددة للمقارنة و إمكانية الاستفادة في كل منها :
1- مستوى الثقافة العامة السائدة الآن :
في القيم و المعايير و المحددات الثقافية الموجودة فعلا في الواقع الاجتماعي لكلا الإقليمين، لكن الاختلاف في هذا السياق لا يعني التناقض في كل شيء، و إنما قد يعني تشابها في المفردات الثقافية و اختلاف في النظام المعرفي و النسق الثقافي الذي يرتب هذه المفردات و القيم.
2- مستوى المخزون الثقافي المتوارث:
و عند هذا المستوى نلاحظ قدرا من الاختلاف و مثله من التشابه بين موروثات جنوب شرق آسيا و موروثات الثقافية العربية، فمن أوجه التشابه الحث على تحصيل العلم و احترام رموزه و التماسك الأسري و الانتماء العائلي ... الخ، و من أوجه الاختلاف الطابع الدنيوي للكنفوشيه في مقابل الإسلام كعقيدة شاملة دنيوية و أخروية في العالم العربي، كذلك بساطة التكوين الثقافي الآسيوي مقابل تعقد البنية الثقافية العربية، كذلك محدودية الاحتكاك الخاص لاسيما في مقابل معقد التفاعلات الخارجية للوطن العربي33.
كل هذه عوامل تقف حائلا دون استنساخ و نقل تجربة الآسيان إلى الواقع العربي حتى في إطار مشروع الشرق أوسطية، و كلها عوامل موضوعية تتمتع و على قدر عال من الوجاهة العلمية و القبول الأكاديمي.
خاتمة
أظهرت هذه الدراسة أهمية المدخل الوظيفي في تحقيق التعاون الإقليمي من خلال الاستفادة من خبرة الآسيان للمضي قدما في سبيل تحقيق تعاون عربي مشترك يتفادى الثغرات التي أعاقت المشاريع السابقة.
و عموما فإنه يمكن الاستفادة من تجربة الآسيان في إطار ما يسمى "بإستراتيجية الحد الأدنى" 34. و هي تطرح فكرة أن تبني العرب "استراتيحية الحد الأدنى" في مجال الاقتصاد، إستراتيجية لا تنال منها الهزات السياسية أو تقلبات الوضع العربي، و هي قائمة على الحد الأدنى من المصالح المشتركة و الأكيدة، و التي لا يتعارض إنجازها مع اختلاف النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية أو مع اختلاف السياسات المتبعة. و تعتمد هذه الإستراتيجية على الخطوات التالية:
أولا : تفعيل مؤسسات العمل الاقتصادي العربي المشترك. و لاسيما مجلس الوحدة الاقتصادية العربية و التأكيد على أهمية تنفيذ الاتفاقات القائمة لأن العيب ليس في المؤسسات و لكن في آليات التنفيذ.
ثانيا : محاولة الفصل بين الجوانب السياسية و الجوانب الاقتصادية قدر الإمكان. و التركيز على الفوائد الاقتصادية لكل طرف عربي دون الركون إلى مقولات المصلحة القومية لأنها و حدها غير قادرة على إقناع الدول العربية بجدوى التعاون الاقتصادي العربي و من ثم إبراز المصالح الاقتصادية المشتركة.
ثالثا: تدعيم أشكال التعاون العربي الثنائي و الثلاثي المشترك باعتبارها خطوة إيجابية على طريق مزيد من التكامل العربي على المستوى الكلي. و الكف عن اتهام مثل هذه الأشكال بمعاداة التعاون العربي المشترك. و عند تحقيق ذلك واقعا، ضرورة التعامل بروح الجماعة في علاقاتها الخارجية الإقليمية و الدولية.
رابعا: حيث مؤسسات القطاع الخاص العربي على توجيه استثماراته داخل الدولة العربية مع تقديم ضمانات كافية و عوامل جذب تجعل المستثمر العربي أكثر ميلا للاستثمار داخل الدول العربية من منطلقات اقتصادية بحتة.
خامسا : الاستفادة إلى أقصى قدر ممكن من الأوضاع الإقليمية و الدولية المواتية، و السعي إلى التقليل من أثر التطورات غير المواتية و استثمار تلاقي مصالحها مع مصالح الدول الكبرى.
سادسا : تجميد الخلافات السياسية بحيث لا تعرقل عملية التعاون الاقتصادي و تفعيل دور الجامعة العربية في تسوية تلك الخلافات.
سابعا : و لخصوصية أنماط الصراعات الإقليمية في المنطقة فإن ذلك يطرح ضرورة إيلاء مهمة الأمن القومي العربي أهمية كبيرة من خلال الاعتماد على الذات و التعامل كجماعة و إيجاد السبل لتحقيق أمن إقليمي عربي مشترك. و لا ريب في أن ذلك يتطلب إرادة سياسية عربية فاعلة تضع هذه الخطوة، و كل الخطوات السابقة موضوع التنفيذ، و هو أمر أعوز خطوات التكامل الاقتصادي العربي خلال نصف القرن المنصرم، و أعوز ما تكون له دول الآسيان لحماية أمنها الإقليمي.
الهوامش
[1] - محمود، أحمد إبراهيم .- التحولات الإستراتيجية و إشكاليات الصراع و الأمن في جنوب شرق آسيا، السياسية الدولية.- العدد 118، تشرين أول / أكتوبر 1994.- ص.ص. 216-220.
[2] - النجار، أحمد السيد .- التعاون العربي ابيني مع الدول النامية في بيئة متغيرة .- بحث غير منشور مقدم إلى ندوة النظام الدولي الجديد و تحديات العالم .- القاهرة، مركز الدراسات الحضارية، 1994.- ص..1-2.
[3] - شقير، محمد لبيب .- الوحدة الاقتصادية العربية تجاربها و توقعاتها (الجزء الأول) .- بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، مايو / أيار 1986.- ص.45.
[4] - حول مفهوم التعاون .- أنظر شامي ذبيان و آخرون .- قاموس المصطلحات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية .- لندن، رياض الريس للكتب و النشر، 1990.- ص.136.
[5] - BYUNG, A. Joon.- Regionalism in the Asia- Pacific : Asian or Pacific Community ?.- Koreain Foucs, vol. 4, n°4, 1996.- p.p.5-6.
[6] - حول مفهوم الإنتشار و مضامينه أنظر : سعيد، عبد المنعم .- الإقليمية في الشرق الأوسط نحو مفهوم جديد .- السياسية الدولية، عدد 122، أكتوبر / تشرين أول 1995 .- ص.61.
[7] شقير، محمد لبيب .- م.س.ذ.-ص.- 50.
[8] المرجع السابق .- ص.52.
[9] - شهاب، مفيد.- المنظمات الإقليمية الدولية .- القاهرة، دار النهضة العربية، 1978.- ص.ص.408-411.
[10] - أنظر في ذلك : شقير، محمد لبيب .- مرجع سابق .- ص .72.
[11] - عن أثر العوامل السياسية و الاقتصادية أنظر المرجع السابق .- ص ص.ص. 72-74 و أنظر إسماعيل صبري مقلد .- نظريات السياسية الدولية، دراسة تحليلية مقارنة .- الكويت، منشورات ذات السلاسل، 1987.- ص.ص. 380-381. و لمزيد من المعلومات أنظر النموذج النظري الذي قدمه فيليب شميتر للاندماج الإقليمي و خاصة افتراضاته في : SCHMITER, Philippe .- A revised theory of regional integration international organiszation .- vol.24, n°4, 1970.- p.859.
[12] - حول هذه التساؤلات و طبيعتها أنظر : حاد، عماد.- اتجاهات التكامل الإقليمي في آسيا .- بحث مقدم إلى مؤتمر أثر التحولات العالمية على آسيا .- القاهرة، مركز الدراسات الآسيوية، كلية الإقتصاد، جامعة القاهرة، 17-18 ديسمبر / كانون أول 1996.- ص.ص. 2-3.
[13] - جاد، عماد .- الاندماج الإقليمي في آسيا (تجربة الآسيان) في د. عبد المنعم تقديم، النمور الآسيوية : تجارب في هزيمة التخلف.- القاهرة، مركز الدراسات السياسية و الإستراتيجية، 1995.- ص.ص. 190-191.- و أنظر كذلك د. صالح، ماجدة .- تجربة الآسيان في التعاون الإقليمي.- سلسلة أوراق آسيوية .- القاهرة، مركز الدراسات الآسيوية، كلية الاقتصاد، جامعة القاهرة، عدد5 ، ديسمبر / كانون أول 1995.
[14] - محمود، أحمد إبراهيم .- م.س.ذ.-ص.192.
[15] - لمزيد من المعلومات حول طبيعة الدور الأمريكي و حجم الاستثمارات الأمريكية و علاقته بنشأة الآسيان أنظر : STOCKES, Bruce and AHO, C. Micheal .- Asian regionalism and U.S. interests.- In Koreain FOCUS? Vol 4, n°4, 1996.- p.p. 122-139.
و أنظر أيضا : SCALOPINO, Robert A..- Asia and the United States the Challenges Ahead.- Foreign Affairs, vol.69, n°1, 1989.- p.p.89-114.
[16] - دور الوظيفة الأمنية للآسيان و الإخفاق في تحقيقها و إنشاء المحفل الإقليمي، أنظر عبد المنعم طلعت، ترتيبات الأمن الإقليمية في النظام العالمي الجديد .- السياسة الدولية، عدد 129، يوليو / تموز 1997.- ص.9 .- كذلك أحمد إبراهيم محمود .- م.س.ذ.
[17] - جاد، عماد .- اتجاهات التكامل .- م.س.ذ. - ص.ص. 6-7.
[18] - حول نشأة الآسيان و الصعوبات التي جابهتها أنظر :WONG, John.- The Asean model of regional coopertion .- in Seiji Naya & Migvel Urrulia (eds), Lessons in development a comparative study of Asia and Lozin America senfran cisco.- International center of economic Growth, 1989.- p.p.121-125.
[19] - جاد، عماد .- الاندماج الإقليمي .- م.س.ذ. - ص.ص. 194-195.
[20] - المرجع السابق .- ص.205.- و أنظر WONG, John.- Op.cité.- p.136
[21]- Ibid .- p.p 126 - 130.
[22] - صالح، ماجدة.- تجربة الآسيان ....- م.س.ذ.- ص.ص.22-23.
[23] - جاد، عماد .- الاندماج الاقليمي .- م.س.ذ.-ص.204-205.- و أنظر الباز، محمود.- ص.ص.22-23.
24 - حول الدور الياباني على الساحة الآسيوية بعامة و علاقة برابطة جنوب شرق آسيا خاصة أنظر : المرجع السابق .- ص.205.
و أنظر كذلك : STOKES & AHO.- Op.cité.- p.p 125-130.
و حول مخاوف الآسيان من الهيمنة اليابانية أنظر : الباز، محمود.- التكتلات الاقتصادية الكبرى و الدور الذي تلعبه في توزيع موازين القوى .- بحث غير منشور مقدم إلى ندوة النظام الدولي الجديد و تحديات العالم العربي .- القاهرة، مركز الدراسات الحضارية، حزيران 1994.- ص.22.
25 - علي صالح، ماجد.- كوريا و التعاون الإقليمي.- بحث مقدم إلى مؤتمر السياسة الخارجية الكورية.- القاهرة، مركز الدراسات الآسيوية - جامعة القاهرة، 17 فبراير 1997.- ص.ص 10-13.
26 - على صالح، ماجدة.- تجربة الآسيان...- م.س.ذ.- ص.ص.22-23 .- طلعت، عبد المنعم.- م.س.ذ.- ص.ص.10-13.- وانظر كذلك فرانسيس ديرون.- النشاط الاقتصادي لبلدان آسيا يكشف الخلافات السياسية .- لوموند الفرنسي .- عدد 24/2/1996.
27 - د صالح، ماجد .- تجربة الآسيان .. - م.س.ذ.- 22-23.
28 - زلزلة، عبد الحسن.- التكامل الاقتصادي العربي أمام التحديات .- المستقبل العربي، العدد 21، نوفمبر / تشرين ثاني 1920 .- ص.7.- و لمزيد من التفاصيل أنظر عبد الحسن زلزلة الدور الاقتصادي للجامعة العربية في علي محافظة (و آخرون) .- جامعة الدول العربية الواقع الطموح .- بيروت.
29 حول ملامح نظام السوق الشرق أوسطية.- أنظر كتاب شمعون بيريز .- الشرق الأوسط الجديد، ترجمة محمد حلمي عبد الحافظ .- عمان، الأهلية للنشر و التوزيع، 1994.- و كذلك أنظر أحمد يوسف أحمد (و آخرون).- التحديات الشرق أوسطية الجديدة و الوطن العربي.- بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية 1994.- و لا سيما ص.ص.127-183.
30 - د. عيسى، محمد عبد الشفيع .- مسارات غامضة و مصائر غير مؤكدة .- بحث في الخيار الشرق أوسطى و بدائله .- المستقبل العربي، العدد 194، أبريل / نيسان 1995.- ص.ص.40-41.
31 - المصدر نفسه.
32 - الإبراهيمي، عبد الحميد .- أبعاد الاندماج الاقتصادي العربي و احتمالات المستقبل .- بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، 1980.
33 - عبد الشفيع .- م.س.ذ.- ص.41.
34 - الباز، محمود .- م.س.ذ.