انسانيات عدد 79| 2018 | عدد متنوع| ص 09-29| النص الكامل
Mohamed GHALEM: Université d’Oran, Faculté des sciences humaines, Département d’histoire, 31 000, Oran, Algérie.
مقدمة
يقترح علينا أبوراس الناصري في تأليفه : "عجائب الأسفار ولطائف الأخبار" بحثًا حول تحرير مدينتي وهران والمرسى الكبير سنة 1792، يتناول فيه قضايا الحصار والمواجهات العسكرية والرباطات والمفاوضات ثم الجلاء، بطريقة مغايرة تركز على التمثلات الاجتماعية أكثر مما تهتم بالحدث السياسي.
لم يكن فتح وهران على يدّ الباي محمد الكبير حدثا عاديا، لأنه ترك صدى عميقا في المخيلة الاجتماعية لساكنة الغرب الجزائري وساكنة بلاد المغرب الكبير عامة. لقد كان حديث الناس في تونس والشرق الجزائري؛ يقول أبوراس في هذا الصدد :"لما خرجنا من البحر في شهر شعبان سنة خمس ومائتين وألف وجدنا خبر محاصرة المنصور بالله سيدي محمد بن عثمان لوهران بسوسة والمنستير وصفاقس. ووجدنا خبر الجهاد عند أهل جربة وأيضا أهل تونس سمعوا.." (محمد بن أحمد أبي راس الناصري، 2005، ص. 33). وحين انتهى به المطاف إلى ديار الوطن كان "خبر الجهاد قد انتشر في الإيالة القسنطينية : مدنها وأريافها" (محمد بن أحمد أبي راس الناصري، ص. 33).
تؤكد شهادة أبي راس مدى اهتمام الساكنة المغاربية بكل حدث يثير شعورها الإسلامي الحاد ويبعث فيها روح الأمل في ظرف دولي يتزايد فيه الخطر الغربي على البلاد الإسلامية وبالمقابل يعكس مثل هذا الشعور نهاية معاناة ساكنة الغرب الجزائري من الوجود الإسباني.
تحفل المصادر المحليّة بأخبار الأولياء الصالحين وكراماتهم وتكثر فيها الخرافات والأساطير عن الجن والإنس، لا لإثبات أحداث تاريخية بل لتجسيد هموم شرائح اجتماعية عريضة في المدن والأرياف، فهي تكشف عن المتخيّل الاجتماعي وعلاقته بالواقع الاجتماعي.
إن مثل هذا البعد الرمزي لا يزال منقوصا في جزء كبير من البحث التاريخي في الجزائر، فإذا تمكنا من الوصول إلى فك روابطه المعقدة، عبر دراسات جديدة تؤرخ للذهنيات، لدخلنا في أعماق المجتمعات. ألا يهدف علم التاريخ إلى تصوير الأحداث كما عايشها الناس وشعروا بها ؟
من الحدث إلى الرمز: أهمية التأريخ للذهنيات
ماذا يمكن أن نضيف للبحث التاريخي ونحن نحيي كل سنة ذكرى تحرير وهران والمرسى الكبير من الاحتلال الإسباني[1] إذا كان اهتمامنا منصبا على دراسة الحدث ومقاربته بالطريقة التقليدية، أي التاريخ الحدثي ؟ لا شيء تقريبا. فمنذ فترة ليست بالقصيرة والباحثون الجزائريون وغيرهم يحلّلون المصادر المحلية والأجنبية، وقد أحاطوا بالحدث وجزئياته وتناولوا ظروفه وملابساته[2]. لدينا معلومات مفصلة عن الحصار الذي فرضه الباي محمد بن عثمان على الحامية العسكرية الإسبانية في وهران والمرسى الكبير: أطواره ونتائجه. ونعرف الشيء نفسه عن الرباطات والمواجهات العسكرية ثم المفاوضات بين الداي والإسبان إلى توقيع الصلح سنة 1785 دون تسوية مسألة وهران. ونعرف عن الحصار الحقيقي بعد الزلزال الذي أصاب المدينة في أكتوبر 1790 وفشله نتيجة وصول الإمداد الإسباني والخلل في خطة الحصار، ثم عودة الباي محمد الكبير إلى معسكر لوضع خطة عسكرية جديدة وإعداد الجيش وتزويده بالمدافع التي أتى بها من جبل طارق، ثم تنقلّه من جديد إلى وهران لإحكام حصارها الأخير إلى أن وافق الإسبان على الجلاء.
وتتوفر لدينا معارف شتى عن تركيبة الجيش والمتطوعين والطلبة المرابطين براس العين : عددهم وعدتهم وتنظيماتهم وقيادتهم ومواقعهم. يقول أحمد بن سحنون "فجاءهم في جند عظيم. شديد البأس يحتوي على خمسين ألفا. وقد قسّمه، فترك معظمه معه وأنزل الباقي مع ابنه الأنجب السيد عثمان، وبعضه الآخر مع صهره الأجل السيد محمد بن إبراهيم، كل منهما على جهة بمحلة عظيمة، مع الأول أهل تلمسان وأحوازها وقبائل من الأعراب كفليتة وغيرهم، ومع الثاني أهل مازونة ومستغانم وأعراب الشرق" (أحمد بن سحنون، ص. 220).
وعن العتاد والسلاح يقول: "ولم يزل جادا في جمع الآلات والبارود والرصاص وكور المدافع، فوجه رسله إلى بلاد الإنجليز لشراء ذلك.. وبعث أيضا إلى ناحية زواوة من أتاه بكثير من البارود، وجمع أرباب الصنائع من النجارين والخراطين والحدادين وصُنّاع البارود من كل بلد، الجزائر وتلمسان ومستغانم، وبعث إلى ناحية فقيق من يأتيه بحفرة الألغام فقدم عليه بمائة منهم وألحقهم بالطلبة... " (أحمد بن سحنون، ص. 248).
وتتحدث المصادر المحلية عن الطريق الذي سلكه الباي محمد بن عثمان بجيشه من معسكر قاعدة البايلك إلى سيق، ومن سيق إلى وادي تليلات ومنها إلى أغبال ومسولان(الكرمة حاليا)، ثم تموقع الجيش والمتطوعون في المبرك (أو جرف المبرك) ومسرغين ووادي الهايج (يمتد على طول: حي أسامة وحي العثمانية ثم حي عبد المؤمن)، ونزل الطلبة برباط رأس العين بجبل المائدة، ثم تُسردُ أخبارٌ قيّمة عن المعارك حول الأبراج وعن المفاوضات ثم الجلاء ودخول محمد الكبير المدينة في موكب بهيج يتقدمه العلماء وهم يقرؤون البردة.
غير أن المؤرخ اليوم مطالب بالانتقال من الحدث إلى أبعاده الرمزية، فلا يجوز له أن يكتب التاريخ بطريقة تجزيئية وجافة، بل يتناوله كما عايشه معاصروه في مستوى شعورهم وتصوراتهم. عليه أن يتساءل عن الذهنيات العامة التي رافقت الحدث، وعن التَّمثلات و المواقف التي ميّزت "الوعي الجمعي" وقتذاك.
يعتبر المؤرخ البولوني يوهان هوزنكا "حقل المتخيل والعاطفة بقيمة الاقتصاد نفسها" (لوڤوف، ص. 284)، ويؤكد المؤرخ الألماني نوربير الياس "أن النفسيات العامة لها قيمة أية حقيقة تاريخية أخرى" (لوڤوف، ص. 279-280)، فالذهنيات العامة لا تقل أهمية، في منظور المؤرخ الجديد، عن الأحداث السياسية والظواهر الاقتصادية والثقافية.
نجحت مدرسة الحوليات في إدخال الذهنيات إلى مجال التاريخ، فالمؤرخ -اليوم- مطالب بإعادة قراءة المصادر من زاوية مغايرة وبمنظور جديد، فيسعى إلى إعادة بناء "المواقف الذهنية والتمثلات الاجتماعية التي تجسد تصورات العالم والإنسان والطبيعة. لأن الناس كانوا يربطون ما يُرى بما لا يرى في حياتهم اليومية وفي معتقداتهم. إن هذه الظواهر النفسية هي التي أدخلها تاريخ الذهنيات في إشكالياته العامة ومباحثه المتنوعة" (لوڤوف، ص. 305-306).
تتكون البنية الذهنية من جملة التمثلات الناتجة عن التجارب الإنسانية والجماعية. فلكل ثقافة أو مستوى ثقافي ذهنيته: اليأس والخوف من المجاهل المقلقة للحاضر والمستقبل، الأمل وعودة الحياة ومقاومة المخاوف من الفواجع الطبيعية والحروب والأهوال والأمراض، كلها عناصر نفسية تشكل المخيال الجمعي في لحظة زمنية معينة ... (لوڤوف، ص.(306-305.
يسعى تاريخ الذهنيات إلى الغوص في اللاوعي الاجتماعي عبر تطور التصورات وإلى البحث عن المعنى من خلال منظومة التمثلات والمكانة التي تحتلها داخل البنى الاجتماعية وفي الواقع، فالغرض هو التمييز بين حتميات الواقع وتصورات العالم. فالمقاربة التاريخية الموضوعية لا تكتفي بوصف الظواهر النفسية والطريقة التي يرى بها الناس عصرهم، بل تهتم بالدرجة الأولى، بالعلاقة بين الظواهر النفسية وما أحدثها في الواقع. إن جدلية الذهني والاجتماعي هي الإشكالية التي يعتمدها المؤرخ المختص في الذهنيات )برودال، 1958). لقد كسب تاريخ الذهنيات شرعيته وأثبت مصداقيته العلمية منذ خمسينات القرن العشرين، لأنه تاريخ يُعنَى بالكتل الاجتماعية وبالشعوب لا بالأفراد والبطولات.
في الواقع يجب أن نكف عن التأريخ للأبطال والأفراد، بل نكتب تاريخ الناس الذين اختبروا الحياة، فعاشوا وفرحوا وتألموا. إنها دعوة إلى أنسنة التاريخ. يؤكد المؤرخ الفرنسي الشهير فرناند برودال : "إن البنى الذهبية تتغير بتغير الأطر الاجتماعية والثقافية، غير أن تطورها يتم بإيقاع أبطأ من إيقاع الأحداث السياسية السريع. إن زمنها هو المدى الطويل.." (برودال، 1958).
المخيال الجمعي في الغرب الجزائري
منذ أن احتل الإسبان مدينتي وهران والمرسى الكبير في مطلع القرن السادس عشر، مرّ المخيال الجمعي لساكنة بايلك الغرب بمرحلتين متميزتين :
الزمن الكارثي: إخفاقات، يأس وخوف
تمكن الأتراك منذ قدومهم إلى الجزائر من تحرير المدن الساحلية التي احتلها الإسبان بين 1505 و1512، عدا مدينتي وهران والمرسى الكبير، ورغم المحاولات المتكررة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، و الخسائر البشرية الكبيرة التي تكبدوها فإنهم لم ينجحوا. فتارة يصل الجيش والمتطوعون إلى أسوار المدينة، فيدكونها بالمدافع ويحدثون ثغرات فيها أو يستولون على أحد الأبراج فيها لكنهم يفشلون في الأخير. وتارة أخرى، يفرضون حصارا شديدا عليها بحرا وبرا، ويمنعون الأهالي من تموينها ويطول الحصار، لكن شدّة مقاومة الحامية الإسبانية و مناعة أسوار المدينة تحولان دون تحريرها.
هكذا كان الحال خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر وذلك رغم دعوات العلماء المتكررة لتجديد الجهاد وتفعيله مهما كانت الظروف. فالعالم أبو محلى، نزيل واحة بني عباس في الصحراء يؤكد بوضوح أن شرعية النفوذ العثماني متوقفة على تحرير السواحل المغربية كاملة:
ألستم أخذتم دار ملككم التي \ من أشرط فتحها وذا فى العلائم (أبوراس الناصر، ص. 45)[3]
ودعا قاضي الجزائر محمد بن عبد المؤمن الداي محمد بكداش قائلا (أبوراس الناصر، ص. 45 46 -)[4]:
نادتك وهران فلب نداها \ وانزل بها لا تقصدن سواها
وقد سبقه الشيخ محمد القوجبلي من علماء القرن 17 سنة 1656 م حين خاطب الباشا أحمد خوجة قائلا (أبوراس الناصر، ص. 46).
وبغربنا وهران ضرس مؤلم \ سهل اقتناع في اعتناء سرور
فانهض بعزمك نحوها مستندا \ بالله في جد و في تشمير
هكذا تكررت دعوات النخبة الدينية، لا لأن الجهاد واجب ديني فقط بل لأن البلاد – والعباد- صارت مهددة في وجودها.
خسائر بشرية هامة، انهيار النشاطات الاقتصادية وأزمة اجتماعية - نفسية
تسبب الوجود الإسباني في وهران بأضرار وخيمة منذ القرن السادس عشر إلى مطلع القرن الثامن عشر. و لم تتوقف الغارات العسكرية على الأهالي وامتدت إلى محيط وهران والأقاليم البعيدة مثل غريس ومستغانم وتلمسان إلى جبال ندرومة. فقد دأب الجيش الإسباني على شن الهجمات العسكرية تلو الأخرى. و كان غرضه نهب الأموال وسبي النساء و الأطفال وقتل الرجال إلى درجة إبادة قبائل بكاملها، فقد كان يباغت الأهالي في قراهم ليلا ونهارا بفضل جواسيس كانوا يراقبون حركات تنقل التجمعات السكانية ويرصدون مواقعها، ويتم له ذلك دون أن يجد مقاومة تمنعه من الفساد. إلى ذلك يشير أبوراس قائلا : "وكان طاغية النصارى يشن الغارات على المسلمين إلى أن دخل في طاعته فرق من بني عامر وغمرة. وتعددت غزواته على الأقربين والأبعدين" (أبوراس الناصر، ص. 71).
تحولت أحواز وهران إلى "دار البارود" بعد أن كانت تلقب ببساتين وهران، "لأن الحامية الإسبانية أرادت تأمين المدينة. فاضطرت قبائل كاملة إلى هجرة أراضيها. فقرية "عين الترك" تكرّرت هجمات الإسبان عليها إلى "أن استأصلوا سكانها وهرب الجل الباقي" فصارت خرابا (أبوراس الناصر، ص. 126)[5]. أما قرية سيرات من عمالة مستغانم وملاتة من عمالة عين تموشنت "فأصبحتا من جملة بلاده يتردد بهما في ليله ونهاره"، وتكررت غزواته على هبرة من إقليم المحمدية الحالية. والحرب بينهم وبينه سجال إلى أن تلاشوا واضمحلوا " (أبوراس الناصر، ص. 44)[6].
ومن الأقاليم التي عانت من ويلات الغزوات الإسبانية "بنو شقران" برمال عين الفرس الشرقية، فأثخن فيهم إثخانا عظيما وسبيا." و"امتدت غاراته على غريس ووادي التاغية، فقتل الرجال وسبى النساء والأطفال واستولى على الزرع والماشية." (أبوراس الناصر، ص. 45).
يؤكد الباحث تركي حساين الذي درس الوثائق الرسمية الإسبانية بمدريد على النتائج الوخيمة التي ترتبت عن احتلال وهران :"أفضى العدوان الإسباني على المرسى الكبير ووهران إلى خسائر بشرية فادحة وتهجير واسع لساكنتها نحو المدن الأخرى والأرياف وإلى زوال أنشطتها الحرفية والتجارية"، ثم يوضح: " لقد جهَّز حكام وهران الأوائل جيشا ضخما كان يشن الغارات على الإقليم لتوسيع مناطق نفوذهم في البلاد وللنهب والسلب، وخلال القرن السابع عشر وصلت هذه الهجمات العسكرية إلى ذروتها، إلى درجة أن المدينة كانت تعيش حصرا على تجارة الأسرى والغنائم، فقد بالغ الجيش الإسباني في استعمال القوة المفرطة ضد السكان العزّل .. وقد قارن حاكم وهران العسكري : فاليخو (1734-1738) هذه الغارات بغارات التتار على أوربا" (تركي حساين، 2004).
تقلصت الساكنة بفعل الحروب والغارات، فهجوم الإسبان على وهران سنة 1509 أودى بحياة 4000 نسمة، وأسر أعدادِ كبيرة من الأهالي: 8000 حسب المصادر(المدني، ص. 111-112 و Julien p. 252و De Grammont p. 13) ، وأبيدت قبائل بكاملها، وتحولت الأراضي الزراعية الشاسعة إلى أراضِ بور ترعى فيها الماشية، وتدهورت المبادلات التجارية، وانهارت الحرف والصنائع. فأصبحت مجرد قلعة تحيط بها أسوار وتعاني من الجوع قبل العدو. أما المرسى الكبير فقد كان قبل احتلاله سنة 1505 - حسب الرحالة مارمول- أحسن مرفأ في شمال إفريقيا غير أن تجارته مع المدن الإيطالية توقفت بفعل الاحتلال الإسبانيّ، كما انقطعت مبادلاته مع الأرياف المجاورة. ويشير الرحالة نفسه إلى سهل البطحاء الخصب الذي هجره سكانه ورفضوا غراسته خوفا من اعتداءات الإسبان المتكررة.
كانت إرادة الأوروبيين ثابثة تسعى إلى احتكار التجارة البحرية، وهذا ما تم للإسبان في النهاية بعدما خربوا موانئ المغرب. إنها فترة بئيسة من الانحطاط والتفكك والتقهقر، انهارت فيها مدينتا مستغانم ومزغران، "لأن صنّاعها مياسير، لكن سقوط وهران في يد الإسبان قد أثر على صناعتها إذ كان أهلها يبيعون ما ينتجون في أسواقها، كذلك كان حال مستغانم القريبة منها التي اشتهرت بالمنسوجات، فقد اختلت صناعتها عند احتلال وهران") ليون الإفريقي، ص. 88).
تضررت الحياة الاقتصادية بإقليم تسالة وحصنه، فانتقل السكان إلى الجبال المجاورة له، مما جعل الرحالة الإسباني مارمول كرفخال يعلق على هذا الأمر قائلا": "المسلمون لا يجراون على تعمير هذا الحصن خوفا من المسيحيين"(حساني، ص. 155). وتعرض إقليم ندرومة إلى التخريب بسبب هجمات الأسطول الإسباني على سواحله. يستعرض صاحب كتاب وصف إفريقيا الحالة البائسة التي وصلت إليها هنين-ميناء تلمسان- حين زارها، فيقول: "تألمت كثيرا للحالة التي صارت عليها المدينة بعد أن خربها أسطول شارل الخامس سنة 1531، وحتّى الفواكه التي كانت ببساتينها تسقط في الأرض ولم تجد من يقطفها"، لأن ساكنتها غادرتها إلى جبال ترارة المجاورة. أما قرية الكرط القريبة من معسكر فغادرتها ساكنتها الفلاحية والتجأت إلى جبال كسانة شرقي غريس وحلّ قسم منها بمضارب مغراوة ووادي فروحة" (حساني، ص. 16).
ويقدم الجامعي -شارح أرجوزة الحلفاوي- شهادته عن انقطاع المبادلات التجارية في إقليم تلمسان قائلا: "تعطلت حركة المبادلات بين المدن والأرياف وكانت الركاب العظيمة تعجز عن قطع المفازة البعيدة خوفا من النصارى ومن انضم إليهم"[7]. ويضيف عن الحالة العامة ببايلك الغرب: "كثرت على المسلمين غاراته واشتدت شوكته . فلا يزال الطاغية يدس لهم الجواسيس والطلائع المعروفين بالمغاطيس حتى يرصدوهم له في الأمكنة التي يستطيع الإغارة عليهم، فيصدهم هناك بخيله ورجله، فيقتل المقاتلة ويسبي الذرية وينهب الأموال ويأسر النساء والرجال. فما زال كذلك حتى خافته المدن فضلا عن القرى" (الجامعي، ورقة 45).
انفلات الأمن وانقطاع السبل، يعقبهما يأس وخوف عام
انفلت الأمن وانقطعت السبل وانزوت الجبال عن نفسها، فانتشرت اللصوصية وتحولت إلى حرابة منظمة؛ فإقليم أنجاد الذي كان خاضعا للدولة الزيانية "أصبح مأوى لصوص من الأعراب على استعداد دائم ليفتكوا بالمارّين بالطريق المؤدية من تلمسان إلى فاس. وقلّما ينجو التجار من سطوهم ولاسيما في فصل الشتاء" (ليون الإفريقي، ص. 26).
ولم تكن اللصوصية شائعة في الأسواق والطرقات بل تحولت إلى حرابة يكتسب أصحابها منها أموالا طائلة، وامتدت إلى أعراض الناس في القرى والبوادي. فالمزيلي يمتعض من الحالة التي آلت إليها ناحية غريس قائلا: فانتشرت الفوضى في إقليم غريس بسبب أعمال عصابة من ذوي الضلال، شأنهم سفك الدماء وهتك الحرام وسلب الأموال.
ويرسم محمد بن سليمان التلمساني في كتابه "كعبة الطائفين" لوحة قاتمة عن إقليم تلمسان قائلا :"لا نجد نحن من هذا القرن الحادي عشر إلا العقارب و اللفاع والشقاق والنزاع وظهور الهمج والرعاع الموثورين سبل الشر والابتداع، ومالنا من دفع ما نزل بنا قدرة ولا قوة لنا على التحول من أهل هذا الحال ولا طول" (سعد الله ص. 138).
إنها صورة مجتمع قد استنبط الخوف من الحاضر بسبب عجز النخب عن رفع التحدّيات والاستجابة لرهانات الحاضر. وعن حالة الذعر الذي أصاب المجتمع قبل الفتح الأول لوهران سنة 1708. يقول الجامعي "قبل عهد بكداش، كان الناس مروعين لا يهدأون ولا ينامون ولا يتلذذون بنوم وغيره لشدة خوفهم من عدوهم. فالنوم يكون عادة مع الأمان وفراغ القلب من الأحزان". وفي ضاحية تلمسان "أخبر المرابط، الخير أبو الحسن على أبو الحسون العبدلّي أنهم كانوا لا يهنأ لهم في بلدهم منام إلا إذا جعلوا من يحرسهم ومهما ينم أحد تجده يهذي بإغارة النصارى عليهم ويصرخ في نومه من شدّة خوفهم"[8]. وفي إقليم القلعة، انتشر اليأس وعمّ الذعر ونشأت أزمة نفسانية اتخذت بالضرورة لونا غريبا سنشرحه.
يقول الجامعي على لسان الفقيه الرماصي، مستعظما حالة الذعر التي أصابت قلوب الساكنة: "كنت وفدت عقب الفتح (أي سنة 1708) على العلامة سيدي مصطفى القلعي الرماصي، فوجدته يسكن بأهله بيوت الشعر قرب غابة في رأس جبل يأوي إليه ليلا ويظل نهارا في داره ومسجده، فسألته عن ذلك، فقال لي: كنا على هذه الحالة على عهد النصارى خوفا منهم لأننا كنا لا نأمن منهم في الدور من أن يصكونا ليلا" (يداهمونا ليلا). ويضيف قائلا: "فانظر إلى أين بلغ بالمسلمين خوف أولئك الطواغيت، فلا يعرف حلاوة الأمان إلا من ذاق مرارة الخوف".
إضافة إلى ذلك فقد رضخت الساكنة إلى أشكال من المذلة والإهانة لم يعهدها المسلمون من قبل أي تولية اليهود عليهم وقد عبر الجامعي عن ذلك قائلا "ولما ملكوا وهران أنزلوا اليهودي بهذا البرج (برج زهوة) وفوضوا له التصرف في الخرجات البرية والبحرية وتوارثها عنه بنوه من سنة تسع مئة وخمس عشرة إلى ثمانين . فكان يخرج العامل اليهودي من المرسى الكبير إلى مضارب بني عامر في زي الملوك بخدم من أسارى المسلمين . فيحكم بين أهل المسلمين في شكاياتهم ويأمر وينهى ويفصل ويقتل ويضرب . حاصله يتصرف كيف شاء وهذا أكبر المصائب وأفضح المعايب" (أبوراس الناصر ، ص.69).
يتأسّف أبو محلى للحالة التي آل إليها المغرب في عصره بسبب الخطر الأجنبي وعجز الأمراء على ردعه قائلا : "وقد طال ليل الكرب، وفاض دمع الأسف، تعطلت قلائد الشكر واسودّ وجه الزمان وعمّ البلاء الأركان ولا مغيث يرجوه الغريق، ولا حيلة لأحد من الخلق مع ما أنزل بهم من البؤس" فيرد عليه أبوراس بنفس النبرة "فاتصلت علينا أواصر النكبات والبليات من الخوف والجوع والروع الذي في الفؤاد مودوع" (نقلا عن مقدمة الثغر الجماني ص 46). وتأثرت الحياة الثقافية بما أحدثته الغارات الإسبانية المتكررة من انعدام الاستقرار في ربوع القطاع الوهراني، فحتى الزوايا والمراكز العلمية الأخرى أصبحت عرضة للغزو. فلما فشل الحصار الذي ضربه الباي شعبان على المدينة قبل مقتله، اشتدت شوكة الإسبان على الأهالي، إذ "غزوا ولي الله سيدي بلاحة بمهاجة القعدة فأخذوا زاويته وقتلوا وسبوا وأسروه هو وبناته"، ثم جاء دور زاوية الشيخ محمد بن يحيى مقري الجن، "فلقوا خيلا من بني عياد أحد بطون الحشم، فتحاربوا واستشهد منهم العروسي، وأخذوا رأسه، وانقلبوا إلى وهران" (ابن سحنون، ص.60-59).
ملامح المخيال الجمعي: شؤم وخرافات وغيبيات
سيطر الرعب على حياة الناس واكتسى عدّة أشكال، فالظواهر الطبيعية كالبرق والشهب، تعرض الماشية والمحاصيل الزراعية إلى الإتلاف، وأقوال المجانين تنبئ بالشؤم، فالجبال مسكونة يتحكم فيها الجن، والأنهار والأودية غير آمنة خاصة بين المغرب والعشاء، والطيور مثل البوم تنذر بالمصائب والمخاطر. أجيال كاملة عانت من هذه الأزمة النفسية العامة، تربط بين الحياة والموت، فالعالم أصبح ملكا لغير الإنسان: السماء والأرض، المياه يتساكن فيها الحي والميت الموجود والمتخفي، الطبيعة والغيب، المعقول واللامعقول.
في ظل هذا الجو القاتم يلجأ الناس إلى وساطة الأولياء، فيتبركون بأضرحتهم ويؤمنون بكراماتهم وخوارقهم، وتنتشر في أوساط العامة الروايات العجيبة لتهدئة المخاوف والحماية من الأمراض ومقاومة الأهوال والفواجع.
يروي لنا أبوراس قصة رجل من أهل العلم قتل ثعبانا فإذا هو من الجن على حسب ما كتب "فاختطفه جن آخر قريبه وألقاه في أودية الجن، فوجد شيخا كبير السن وكأنه القاضي شمهروش فقص عليه الحال، فقال له إذا أقبل سلطان الجن فقف، اُطلب الشرع. فلما أقبل وقف عليه الإنسي وشكى له من الجني، فأحضره السلطان وسأله عن موجب خطفه .. فقال لقتل أخي، فقال الإنسي إنما قتلت ثعبانا فدعا السلطان برد الإنسي إلى بلاده بالمغرب" (أبوراس الناصر، ص، 111).
حتى العلماء مثل أبي راس يعتقدون أن البشر يتعايشون مع الجن، قد يلحقهم ضرر إذا قتلوا حيوانا أو عبروا نهرا. تعرض المصادر المحلية قصّة الولي الصالح سيدي عيسى بن موسى التيجاني[9] : كان مقيما في زاويته شرقي وادي التاغية، فأتته قنبرة وصارت تذري التراب وتزقزق، "فأمر أهله بالرحيل وكان عارفا بزجر الطير، فعبروا النهر ودخلوا غابة يقال لها دار الهناء، فلم تمر فترة قصيرة وإذا بالجيش الإسباني واقف في حافة الوادي الشرقية، فلم يعثروا على أحد فرجعوا دون أن يعبروا النهر" (أبوراس الناصر، ص. 125).
ويسرد الزياني صاحب دليل الحيران قصة عجيبة عن الولي الصالح سيدي بلاحة المهاجي واعتقاله فيقول : "فأخذوا زاويته وأسروه هو و بناته الثلاث، فبقوا بوهران سنة ثم فُدي وفُديت إحدى بناته من قبل شيخ أولاد سليمان أبي عزة بن حميدة وفدى الأخرى الشحط شيخ أولاد علي فزوجها له. وبقيت الثالثة فكثر بكاء أمها عليها، فخرج أبوها بساحة بيته فتوضأ ودعا الله وإذا بها مقبلة فقال لأمها اخرجي لابنتك، فسئلت فقالت كنت أمشط رأسي فنقرني طير أبيض فتبعته حتى وصلت إلى وطني"(الزياني، ص. 150-151)[10].
كانت رغبة الأهالي في التحرر من هذه البلايا كبيرة، لكن فشل المحاولات لتحرير وهران أفضى إلى انتشار ظاهرة المهدي المنتظر. تنتشر هذه الظاهرة المهدوية حين يستحيل على الناس إيجاد السبل والوسائل للتخلص من الظلم، فيتحول العجز إلى أمنية حفاظا على روح المقاومة.
ومن الروايات التي شاعت عن فتح وهران على يد المهدي المنتظر رواية يذكرها أبوراس : "إن فتحها لا يكون إلا على يد الإمام المهدي. فكانوا يترقبونه وينتظرون لهذا الثغر (وهران) وروده" وقال أبو محلي في كتابه "الإصليت في الرد على العفريت النفريت" "أن وهران ستخرب على النصارى أو تزول من أيديهم ثم يفتحها المسلمون على يد الإمام المهدي"( الزياني، ص. 161) وقبيل فتح وهران الأول سنة 1708 على يد الداي محمد بكداش ظهر الإمام الهواري الذي دعا على وهران وتوعّدها عند مقتل ابنه وبدا في منام بعض الحرفيين ليلة الفتح، فقال لهم "اصنعوا لي تابوتا يكون على قبري بوهران، وصرح أنه الإمام الهواري، فقال له النجار يا سيدي إلى أن نفتحها، فردّ عليه قد فتحت هذه الليلة"[11].
استئصال الخوف وعودة الأمل: ولاية محمد الكبير
بدأ التغيير في الذهنية العامة والانتقال من حالة الذعر إلى حالة الأمن قبل تعيين الباي محمد الكبير على الناحية الغربية بزمن غير بعيد، غير أن الملامح العامة للذهنية الجديدة تبلورت في ولايته.
عود على بدء : تحرير وهران الأول 1708-1732
خلال عام 1708 استغل الداي محمد بكداش الحرب الأروبية حول عرش إسبانيا، حيث كان ملك فرنسا لويس الرابع عشر يواجه تحالف باقي ملوك أوربا، فأرسل أسطولا حربيا بقيادة صهره حسن أوزن لإحكام الحصار البحري على وهران، ثم طلب من الباي مصطفى بوشلاغم بتطويق القاعدة الإسبانية برّا.
توجت الحملة بالنصر وخرجت الفرق الإسبانية من القاعدتين، وفور جلائها، نقل الباي عاصمته إلى وهران، فأعاد تعميرها بعد نزوح الجالية المسيحية عنها وأقام المساجد وزيّن ساحتها العامة بالأقواس، فانتعشت الحرف والصنائع وازدهرت التجارة وعادت العلاقة بين المدينة وريفها إلى ما كانت عليه من قبل. وتحول ميناؤها إلى أكبر قاعدة تجارية بعد الجزائر العاصمة. عاد الأمن والاستقرار من جديد إلى المنطقة وعادت الساكنة إلى نشاطاتها السابقة دون خوف على الأرزاق والأرواح فانقشع ليل الغارات القاتلة لكن لمدّة قصيرة.
في سنة 1732، اعتلى عرش إسبانيا فليب الخامس من أسرة بوربون الفرنسية، فكان عليه أن يمسح عار الهزيمة (تركي حساين، ص.197-222) [12] فجهز حملة عسكرية ضخمة استعاد بها المدينة ومرساها رغم أن الخسائر البشرية كانت ثقيلة من الجانبين.
تركت الهزيمة أثرا عميقا في الوعي الجمعي، إذ عادت الغارات الإسبانية العنيفة على الإقليم وتوالت الهجمات القاتلة على ساكنته. إلا أن ميزان القوى العسكرية بدأ يتغير لصالح السلطة والجماعات السكانية؛ ففي نوفمبر 1732، تصدت قوات الباي بوشلاغم لهجوم إسباني وكبدته خسائر فادحة (800 قتيل و1500 جريح) وفي جوان 1733، أسفرت المواجهات العسكرية على مقتل 800 جندي إسباني وإقالة الحاكم العسكري لوهران (تركي حساين، 2004).
وأعلنت القبائل النفير ودعت النخب الدينية إلى الجهاد وقرر البايات إحكام الحصار الاقتصادي على القاعدتين، فمنعوا السكان المجاورين من تموينهما وبثوا العيون والجواسيس لترقب حركات العدو.
حرب استنزاف طويلة : (1732-1785)
استمرت المناوشات وتجددت المعارك وأثمرت سياسة الحصار الاقتصادي، فامتنعت كرشتال وكنستال عن التعامل مع الحامية الإسبانية. أحكم الباي ابراهيم مند 1775 الحصار وواصله خليفته الباي خليل الذي تمكن في أكتوبر 1777 من الزحف على الحصون الإسبانية وراح يستفز الجيش الإسباني للمعركة. وفي سبتمبر 1780، قام محمد بن عثمان بتخريب المسالك المائية التي تمون المدينة.
عندئذ اشتدت الضائقة الاقتصادية على الحامية الإسبانية واختلت المواصلات بينها وبين إسبانيا. فعانت الأمرّين وانهارت معنويات الجنود، فلجأ بعضهم إلى الهروب عبر السفن القادمة من الموانئ الإسبانية واستسلم بعضهم للمسلمين(تركي حساين، 2004). يؤكد محمد الميلي : "بلغت تكاليف احتلال هاتين المدينتين 4 ملايين ريال وألف قتيل في كل سنة" (الميلي، 1964، ص. 239 و De Grammont p. 343).
تغيّر ميزان القوى بوضوح حين فرض الباي الجديد محمد الكبير حصارا طويلا على وهران بدأه سنة 1785 حسب المصادر المحلية. فتوقفت الغارات الإسبانية على السكان وانتقل الخوف، هذه المرّة، إلى الجانب الإسباني فقد توقف التموين وقلّ الغذاء والماء في المدينة، فعانت الجالية الإسبانية من ويلات الجوع في انتظار وصول الإمدادات من إسبانيا.
فتح وهران (فبراير 1792): تدخل الأولياء و " الروحانية الجديدة"
اعتبر العلماء الباي محمد الكبير "نموذج الأمير العادل" الذي تحلم به الجماعة الإسلامية، فقد تميز بالحزم بمقاومته الفتن المتفشية في البلاد وأخضع القبائل المنشقة عن الدولة، ومهدّ السبيل وتفقّد الأقاليم الصحراوية، فتحققت بفضل سياسته وحدة السلطة والجماعة، واستقر الأمن واختفت الحرابة "فكانت في عهده الشاة ترعى مع الذئب" (أبوراس) و عاد الناس إلى أعمالهم وانتعشت الفلاحة ونمت التجارة والصنائع.
منذ توليه الإمارة كان تحرير وهران والمرسى الكبير شغله الشاغل فأحيا فريضة الجهاد باعتباره "عنوان وحدة الأمة" واستعد للقتال وأنفق من ماله الخاص لتزويد الجيش بالمدافع الكبيرة، وتكفل بتمويل الطلبة المرابطين بجبل المائدة وتموينهم بالسلاح والغذاء، و حشد المتطوعين من كافة الأقاليم وألحقهم بجيشه للقتال.
يقول أبوراس في هذا الصدد : "فكان آنذاك أكثر همته مصروفه لحربها (وهران) والتضييق عليها نحو اثنتي عشرة سنة إلى أن حاصرها محاصرة الفتح."( أبوراس الناصر، ص157) أما سياسة الرعية فقائمة على العدل، يحفظ حقوق العامة دون التفريط في حقوق الخاصة، يرعى شؤون العلم والعلماء، يبني المساجد والمدارس في معسكر ووهران والمدن الأخرى، ويجلب الكتب ويحيي التعليم، ويعمّر المدن ويحيي تجارتها وينعش الحرف والصنائع. تغنى بمآثره الشعراء وأحبته العامة : "وما قيل من المدح فيه حال سكناه لمعسكر وحال فتحه لوهران مشهورة. ألف فيها العلماء كالحافظ أبي راس والحافظ السيد مصطفى بن عبد الله الدحاوي وغيرهما عدة تآليف، وصنف فيها ما بين النثر والنظم جملة تصانيف") الزياني، ص (201. عاد الأمل من جديد إلى الناس وزالت المخاوف من الغارات الإسبانية وانفراط الأمن وعمَّ الاستقرار في ربوع البلاد. وسادت المخيالَ الجمعي روحانيةٌ قوية، كل عمل يجب أن يباركه الأولياء الصالحون واستدعاء وساطتهم أمر ضروري ولو كان الموقف حاسما.
صحيح أن الباي محمد الكبير كان يعدّ للحرب ويجهز الجيش بأحدث الأسلحة، لكنه لم يأمر بانطلاق المحلة من معسكر إلا بعد التماس موافقة الأولياء. يقول ابن سحنون في هذا الشأن: "وبعث إلى البلدان البعيدة، فأوتي بجميع أعلام أوليائها الأكابر كسيدي عبد الرحمان الثعالبي والسيد أبي مدين الغوث والسيد أحمد بن يوسف الملياني والسيد محمد بن عودة الفليتي وشيخ الحضرة السيد عبد القادر الجيلي وغيرها ليحضر بها القتال تبركا بها واستعانة بأهلها.. " (ابن سحنون، ص. 274). ويشير ابن زرفة الدحاوي إلى أن غاية محمد الكبير من تجنيد الطلبة كان التبرك بهم وبدعواتهم؛ ففي رسالة وجهها إليهم، يقول : "يكفيكم الرباط وقراءة القرآن والعلم، فإنما قدمنا تبركا بكم والتماس صالح دعواكم. (ابن زرفة الدحاوي، ورقة 112) ويؤكد ابن سحنون هذه الفكرة "فكان أكثرهم (أي الطلبة) لا علم لهم بالحرب ولا بكيفية أخذ السلاح شأن المنشغلين بالقراءة"( ابن سحنون، ص. 242)
يروي لنا الزياني قصّة تدخل الأولياء والصلحاء في اختيار الطريق الذي سلكته محلة الباي محمد الكبير وزمن الفتح قائلا :"خرج من معسكر قاصدا فتح وهران سنة 1731، فنزل بسيق، ثم ارتحل من الغد قاصدا وادي تليلات ثم ارتحل من الغد صباحا فنزل بوطء وادي الهايج، واجتمعت عليه الأعراش. وكان الوقت وقت الحصاد الذي فيه تجمع عيشها سائر العباد، فتفاوضوا معه وتشاوروا، وقالوا له يا سيدنا الرأي الذي لدينا أن تدع هذا القتال لوقت الخريف لتذهب الناس لجمع عيشها. فقال لهم رأيكم فيه حكمة وصواب. ولكن نحن وأنتم في رأي الأولياء والعلماء أولي الألباب فبعثوا من حينهم لولي الله الشهير السيد محمد بن دية الضرير وهو بجبل تسالة فأتوا به في أكمل حالة فاجتمع به وشاوره، فقال له الولي المذكور قولته الكاملة: إنك لا تفتح وهران في هذه السنة وإنما تفتحها يوم الاثنين من رجب سنتك القابلة ، فسّربها الباي وفرح" (الزياني، ص 165).
ولم ينته المشهد على هذه الحال، محمد الكبير بجبروته يذعن إلى مشيئة وليّ ضرير بل "ولما كانت 1206 هـ قدم لفتح وهران في مئة فسطاط ونزل بتليلات فجاءه ولي بهلول من أولياء الله المفتوح لهم عجاب الكشف وصار يقول في المحلة: أيها الباي إذا أردت فتح وهران فاتِ لها على جنين المسكين، وكان هذا الجنين ببلاد أولاد علي فلما سمع الباي ذلك أحضره لديه وقال : ماذا تقول يا هذا السيد، فقال له : القول هو ذاك، فرجع الباي إلى معسكر وخرج بمحلته على أبي حنيفة، ثم نزل بسفيزف وجاء على القعدة فنزل بجنين المسكين ثم قدم تليلات فجاء الولي وقال له:الآن تفتحها بإذن الله تعالى، ثم ارتحل ونزل بالضاية (البحيرة المالحة) قبلتها ثم ارتحل ونزل عليها وحاصرها" (الزياني، ص. 165).[13] وعشية الهجوم على برج العيون وبدء الحصار الأخير، أقام الباي محمد الكبير "طعم" (حفل) الولي سيدي الهواري "فحضره العام والخاص من الحاضرة والبادية ولعبوا بالخيل والبارود" (ابن سحنون، ص. 274).
مثل هذه الروحانية نلمسها عند الأولياء والفقهاء والزهاد. فالعالم أحمد بن سحنون يعتبر الزلزال الذي أصاب وهران في أكتوبر 1730 "تجلّى الحق سبحانه للأرض"، وهو علامة ربانية ترمز إلى تعاظم الغضب الإلهي على الإسبان الكفرة ونذر بقرب ساعة فتحها على يد محمد الكبير." ثم إن الله الذي جلت قدرته وعظم سلطانه أتاه وأظهر له (أي للباي) الأسباب المنبهة لفتحها" (ابن سحنون، ص. 205.) ومن بشائر الإرادة الإلهية "أن العيون العظام التي لم تُغِر قط غارة بسببها (الزلزلة) ، ولم يجر ماؤها أياما عديدة ثم أنها لما أرسلت فارت بماء أحمر على صفة الدم حسب ما أخبر به التقاة".
وكأنه يقول الآن انتهى عهد اليأس والإخفاق، وعلامات النصر واضحة، ثم يستدل بالرؤية من الغيب قائلا : "وأخبر حراس النصارى أنهم رأوا بأبصارهم قبيل وقوعها (الزلزلة) أربعة أشخاص في هيئة المسلمين يمشون في الهواء وسط مدينتهم، ووقف كل واحد منهم على زاوية من زواياها وأشار أحدهم بثوبه وهم ينظرون ولا يقدرون على الكلام، فلم تتم إشارته حتى مالت بهم الأرض وسقطت الدور على أهلها"(ابن سحنون، ص. 205 و 208).
ولكي لا يستغرب القارئ هذا القول الصادر عن عالم يعتبر نفسه سلفيا، ينقل مؤلفنا حديثا نبويا: "لا شك في صحة الاستدلال بالرؤيا على ظهور ما تؤول به والركون إلى ذلك"، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "الرؤيا الصادقة جزء من تسعة وتسعين جزءًا من النبوة"( ابن سحنون، ص. 208).
يدل ذلك على أن النخبة العالمة (قضاة وعلماء) لا تجد تناقضا بين الالتزام بالسنة والإيمان بكرامات الأولياء الصالحين، على ألا يدفع ذلك إلى القول بالحلول. ألا يقوم الإسلام المغاربي على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني المعتدل؟ ولنا في مشهد دخول الباي محمد الكبير إلى وهران بعد جلاء الإسبان عنها دليل على قوة الإيمان العميق والروح الصوفية العميقة.
"وجاء الخبر بذهابهم جميعا، فبعث بالأعلام الإسلامية فنصبت على شواهق الأبراج، ثم أمر جنود المدفعية بتعمير الأبراج، عندئذ انتقل الجيش بقيادة الباي يتقدمه طائفة من العلماء يقراون البردة - على الطريقة المغاربية، ويحملون على ظهر بغلة كتاب البخاري". (أبوراس الناصر ، ص. 39 ).
يتضح مما عرضنا أن الذهنية الجزائرية عند فتح وهران وانجلاء ليل الاستعمار عنها كانت تميّزها روحانية عميقة سنية تعترف للأولياء الصالحين بمناقبهم دون الخروج عن القرآن والسنة، وتؤكّد رعاية الله ورسوله للأعمال الصالحات كالجهاد من أجل حماية أرض الإسلام والحرص على مصالح العباد. دليلنا في ذلك حرص أبي راس على اختتام كتابه عن فتح وهران : "عجائب الأسفار ولطائف الأخبار"بقصيدة رائعة للشاعر التونسي علي الغراب في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم،
يقول فيها :
بدأت باسم الله فيما نظمته \ وثنيت حمد الله فيما ذكرته
لمدح رسول الله قلبي صرفته \ نبي الهدى المبعوث مهما ذكرته تجلى
به همي وزال به كرب (أبوراس الناصر)
كان دأب العلماء الجمع بين الشريعة والحقيقة وبين الفقه والتصوف. فمن النادر "أن تعثر على متفقه لا ينتمي إلى طريقة،" فإنهم كانوا يقرون بصحة الكرامات والخوارق التي رسخت في ذهنية العامة لكنهم لم يكونوا من المغالين يقولون بالحلول والاتحاد" (عابد بن حنفية، 2004، ص. 83).
مثل هذه الذهنية العامّة لا يعارضها أبوراس، بل يباركها لأنها تحشد الجموع وتهيئُهم إلى عمل الخير، يقول : "ليس لنا أن نسيء الظن بأحد من المسلمين عاميا أو غيره إذ المعرفة محلها القلب"(عابد بن حنفية، 2004، ص. 90).
تغيّرت المواقف الذهنية، فانتقلت من حالة القلق والخوف واليأس إلى حالة الأمل والعمل، تجسدت في روحانية متفائلة تستدعي كرامات الأولياء الصالحين، لكنها لا تركن إلى التواكل والخمول، تحث على التجنيد والاستعداد اللوجستي والعسكري للجهاد.مثل هذه الأطر الذهنية الجديدة هي التي ساعدت على حشد الساكنة (عامّة وخاصّة)، وتعبئة قواها المادية والمعنوية لتحقيق النصر: أي تحرير وهران.
قائمة المصادر والمراجع
المصادر
أبوراس الناصر، محمد بن أحمد (2005 و2008). عجائب الأسفار ولطائف الأخبار. 2ج. تقديم وتحقيق محمد غالم. وهران: كراسك.
ابن سحنون، أحمد (1973). الثغر الجماني في ابتسام الثغر الوهراني. تحقيق المهدي البوعبدلى. قسنطينة.
ابن زرفة الدحاوي، مصطفى الرحلة القمرية في السيرة المحمدية، مخطوط 3322. الجزائر: المكتبة الوطنية.
الزياني، محمد بن يوسف (1978). دليل الحيران وأنيس السهران في أخبار مدينة وهران. تحقيق المهدي البوعبدلي. الجزائر.
الجامعي، عبد الرحمان فتح مدينة وهران. مخطوط رقم 2521، م.و.ج.
المراجع
بلبروات، بن عتق (2002). محمد الكبير ومشروعه الحضاري. ماجستير دائرة التاريخ. جامعة وهران.
سعد الله، أبو القاسم (1980). تاريخ الجزائر الثقافي. ج2. الجزائر.
عابد بن حنفية، عبد القادر (2004). أبوراس الناصري المعسكري : حياته وتصوفه من خلال كتابه الحاوي . الجزائر.
العروي، عبداللّه (1999). مجمل تاريخ المغرب. 3 أجزاء. بيروت: المركز الثقافي العربي.
عيسى، لطفي )1994) مميزات الذهنية المغاربية خلال القرن السابع عشر تونس: سريس.
غالم، محمد (1998) التاريخ والمؤرخون في الجرائر. المجلة التاريخية المغاربية، عدد 92-91. تونس : رغوان.
لوڤوف، جاك (2009). (تحت إشراف)، التاريخ الجديد. (ت. م ط المنصوري). بيروت.
أبو راس، الناصري و محمد بن أحمد (2005). عجائب الأسفار ولطائف الأخبار. تقديم و تحقيق محمد غالم، وهران: منشورات الكراسك، المركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، ج. 2، ص. 33.
المدني أحمد التوفيق: د.ت.، حرب 300 سنة بين الجزائر واسبانيا: (1492-1792). ط1، قسنطينة.
الميلي، محمد (1964). تاريخ الجزائر الحديث. الجزائر.
الوزان، الحسن (1983). وصف إفريقيا. 2ج، (ط. 2) (ت. م. حجي و.م. الأخضر).بيروت: دار الغرب الاسلامي.
De Grammont H. (1887). Histoire d’Alger sous la domination turque. Paris. E. Leroux
Duby, G. (1998). Histoire des Mentalités. Dans Mandrou, G. (1998). L'Histoire et ses méthodes, Paris : Gallimard (Encyclopédie de la Pléiade).
Terki Hassaine, I. (2004). Oran au XVIIIe siècle. Insaniyat, 23-24, 197-222.
الهوامش
[1] كان هذا عنوان محاضرة ألقيت في الملتقى الثالث حول النخب الدينية وتحرير الأوطان. جامعة وهران، يومي 5-6 مارس 2013.
[2] أنظر على سبيل المثال، لا الحصر:
المدني، أحمد توفيق .(1976). حرب 300 سنة بين الجزائر وإسبانيا. الجزائر.
الميلي، محمد. (1964). تاريخ الجزائر الحديث، الجزائر.
بوعزيز ، يحي. (1993). المراسلات الجزائرية-الإسبانية في أرشيف مدريد. الجزائر.
Fey, L. (1858). Histoire d’Oran avant, pendant et après la domination espagnole. Oran.
Capot-Rey, B. (2012). Oran, capitale du Beylik de l’Ouest, 1792-1830. Alger.
Terki Hassaine, I. (2004).Oran au XVIIIe siècle. Insaniyat, 23-24.
[3] أبو محلي (1560-1613) : عالم وقاضي شهير، ثار على المولى زيدان السعدي لكثرة مظالمه، فتمكن من الاستلاء على مراكش غير أنه قتل في معركة سنة 1613. ساعد علماء الجزائر في الدعوة إلى جهاد الإسبان. له مؤلفات عديدة منها الاصليت وسلسبيل الحقيقة، اعتبر فيها الشرف شرطا غير كاف في حكم المسلمين.
[4] محمد بن عبد المؤمن، قاضي الحنفية بالجزائر على عهد الداي محمد بكداش وصاحب كتاب التحفة المرضية في أخبار الدولة البكداشية- تحقيق م. بن عبد الكريم.
[5] تقع عين الترك على بعد 16 كيلومترا غربي وهران.
[6] تبعد هبرة عن وهران ب 72 كلم . وتقع غريس بإقليم معسكر، أما وادي التاغية فتقع قريته على مسافة 50 كم جنوب معسكر. وتسالة من عمالة سيدي بلعباس تبعد حوالي 80 كلم على وهران.
[7]الجامعي، عبد الرحمان. فتح وهران ورقة 45: مخطوط رقم 2521 م.و.ج.
[8] الجامعي، عبد الرحمان. مخطوط فتح وهران رقم 2521 م.و.ج : مصطفى الرماصي فقيه وعالم له الحاشية على مختصر خليل معتمدة في المدارس المغربية وله فتاوى تدل جرأته، توفي برماصة قربة القلعة سنة 1137 هـ..
[9] من علماء القرن العاشر (السادس عشر) دفين وادي التاغية في منتصف الطريق الفاصل بين معسكر وسعيدة.
[10] قبيلة أولاد سليمان مضاربها ناحية زفيزف وقبيلة أولاد علي مضرابها بسيدي حمادوش. وسيدي بلاحة من علماء القرن 16، ضريحه بالقعدة قرب قرية زهانة.
[11] الجامعي، عبد الرحمان : مخطوط فتح وهران: نص الدعاء "يا وهران الفاسقة، يا كثيرة الجور والبغي والطارقة، يا ذات الأهل الباغية السارقة، إني بعتك بيعة موافقة النصارى مالقة وجالقة إلى يوم البعث والتالقة. مهما ترجعي فأنت طالقة" ثم أضاف بعد الحاح تلامذته "وللفرج لاحقة" فدخل الإسبان وهران 72 سنة بعد وفاته.
[12] حسب الرواية الإسبانية .
[13] القعدة، جنان المسكين وزفيزف : قرى معروفة حاليا تقع حاليا في ولايتي معسكر وبلعباس، اغبال واد الهايج والضاية تقع على الطريق الرابط بين تليلات ووهران. أما بوحنيفية تقع في ولاية معسكر.