Sélectionnez votre langue

سيرورة الأقلمة والانتماءات القبلية في بلدية سيدي خطاب (ولاية غليزان)


انسانيات عدد 79| 2018 | عدد متنوع| ص31 -51| النص الكامل


Samir REBIAI:Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie.
Université Oran 2, Département de Sociologie, 31 000, Oran, Algérie.

Abdelkader LAKJAA: Université Oran 2, Département de Sociologie, 31 000, Oran, Algérie. 


مقدمة

تكشف التحولات التي تشهدها بلدية سيدي خطاب بولاية غليزان سيرورة ودينامية تتشكل بوتيرة سريعة على مستوى الإقليم والفضاءات[1] التي أصبحت تقدم صورة جديدة لمنطقة طالما وُصفت بأنّها ريفية، وهي الآن تسجل ضمن البلديات الأكثر تحضرا بحيث يعوّل سكانها في السنوات الأخيرة على فكرة "مستقبل وحلم بلديتهم في أن ترقى إلى مدينة جديدة مرهونة بنجاح المنطقة الصناعية"، هو إذن إقليم في طور الانبثاق (Territoire en émergence)، تشكل فيه قبيلة "قطع الواد"[2] أكبر القبائل من حيث العدد، وحدة النزاع والتنافس على ملكية الفضاءات وكذا التعديلات والتغييرات التي يشهدها الإقليم وفقا لمتطلبات وغايات الأفراد، سعيا منهم إلى مواكبة عملية التحضّر التي تشهدها المنطقة، إذ ينتج عن ذلك تمايزٌ وتباينٌ على مستوى التصورات والصور التي ترسم في الأذهان من جهة، وعلى مستوى الإقليم كميدان للنزاعات والاستراتيجيات التي تضبط حق الاعتراف  بهويتهم كأولاد عرش المكاحلية[3] من جهة أخرى.

أصبح التمايز الإقليمي في هذه المنطقة خارجيا، بمعنى أنه يتجاوز حدود منطقة سيدي خطاب، بحيث يربطها ويدخلها في شبكة من العلاقات والحراك مع وسط مدينة غليزان وباقي المدن الكبرى خصوصا ولاية مستغانم. "نحن الأوائل على هذه الأرض، إذًا لنا الأسبقية في الاستحواذ عليها"، تلك هي العبارة الإيحائية التي سنحاول من خلالها توضيح كيفية تجسيدها ميدانيا وفهم دلالتها الرمزية من خلال التطرق إلى مسألة سيرورة الإقليم وتملّكه من جانب الشعور بالانتماء القبلي[4].

إن سياق القبلية يبقى ناقصا لأنه يحصر السّكان في هويتهم التاريخية، في حين أنّ المسألة تتجاوز هذا. فالمتتبع لعبارة : "نحن ولاد الدوار، ولاد العرش" و"هم ولاد المدينة، البراوية" يلاحظ أنّ حدود الإقليم - وإن كانت لسانية (رمزية) - هي أيضا تحمل طابعا انتمائيا (نحن وهم(، فالأسماء ليست محدّدة وثابتة ولكن تتغيّر مجاليا وزمنيا سواء تعلق الأمر بالقرية أو بالدوار، فالاسم الذي يتبع اسم الأب " فلان ولد فلان " يمكن أن يتغيّر في تجمع قبلي موسع، يجب أن يضم الاسم اسم الفرقة أو التكتل القبلي حسب الظرف الزمني المعيش. فعندما يتعلق الأمر على سبيل المثال بالانتخابات المحلية، أو عندما نريد أن نعبر عن رفضنا لشخص غريب براني يريد أن يشاركنا - أو بالأحرى يقتحم فضاءنا - فنحن نسجّل أنفسنا في سجل "فلان بن فلان مكاحلي أو مجاهري أو ولد العرش"، "أنا وأخي ضد ابن عمي، وأنا وابن عمي ضد البراني"(Rachik, 2012, p. 166).

يظهر الشعور بالانتماء كسيرورة دينامية تدخل في صراع مع الارتباط والتباعد، تضبطه التنشئة الاجتماعية وتَلَقِي "معارف" تاريخية وجغرافية، وهذا باحتكار الفضاء وتملكه والحرص على أن نكون في حالة جيّدة فيه ونحس بالراحة وبالتوافق مع الممارسات والقيم المعمول بها داخل الإقليم.

إن التمايز الإقليمي الحاصل على مستوى بلدية سيدي خطاب (كوحدة إدارية) دفع بقبيلة "قطع الواد" إلى تثمين دورها وتسخير كل إمكانياتها المادية والرمزية من أجل التوسع داخل إقليم المنطقة، فمن إعادة سرد قصص وأساطير أقدميتها على هذه الأرض، إلى تداخل إقليمها مع مشروع المنطقة الصناعية، مرورا بالتجربة السياسية المحلية التي اكتسبتها مؤخرا بوصولها إلى الحكم لأول مرة في التاريخ السياسي للبلدية، تستوقفنا حكاية قبيلة "قطع الواد" مع أرضها، وسيرورة إقليمها، سيرورة يعيشها ويتجاوب معها أهل هذه القبيلة ليِؤكدوا لنا في نهاية المطاف أنّهم كغيرهم "حضريون".

إعادة إنتاج الرابط الاجتماعي في الوسط الحضري

حتى يسجل نفسه ضمن عادات وتقاليد "ولد الدوّار" ويُعبِّر عن انتمائه إلى "إقليم قبيلته أو عرشه" كثقافة واعتراف، ينتج ابن قبيلة "قطع الواد" روابط ويتعلق بفضاء وإقليم يعبر عنهما بتصورات وتأويلات مدعومة بنتاج معارف ومهارات تضبطها سلوكات وقواعد تتوافق مع نمط معيشته، ويتواجد ساكن الدوار أو القرية مجبرا على مقاومة التحولات التي تفرزها سيرورة تمدّن دواره. فكيف يحاول أن يوفق بين إرثه المحلي الذي لا يتعدى حدود إقليمه وما يستهلكه من مكتسبات أثناء تردده على المدينة أو وصول المدينة إليه؟ هل ترافق سيرورة الإقليم عن طريق الانتماء القبلي انبثاق أقاليم معيشة جديدة؟

إنّنا ننطلق من مبدأ كون سكان قبيلة "قطع الواد" يتعارفون في فضائهم الخاص، فهم يحملون نسبيا اللقب العائلي نفسه، إلا أنّ معرفة الذات تمرّ بمعرفة الآخر، وعليه عندما ندافع عن فكرة ربط الدُّوار بالمحيط الخارجي فلا يمكننا أن نعزله كفضاء قبلي عن القرية والمدينة. إن المسألة هنا لا تتوقف عند حراك ساكن الدوار وتعلقه بالمزايا والفرص التي تتيحها المدينة، بل يجب أن نرفع الستار ( كباحثين في حقل أنثروبولوجيا المعرفة الريفية الضمنية ) عن هذه الممارسات انطلاقا من فكرة كون استراتيجيات الفاعلين الاجتماعيين تظهر أيضا كقاعدة إقليمية، وأن الفضاء هو في الوقت نفسه قاعدة مادية ومورد استراتيجي ومصدر رمزي .(Dumond, 2009, p. 121)

في هذا السياق يتبادر إلى الأذهان السؤال التالي: ما هو الرابط الذي يجمع بين تحديد إقليم ما وتملُّكه والانتماء القبلي؟ كيف يظهر في الميدان إعادة التشكيل الإقليمي؟ بتعبير آخر ماهي واجهته الرمزية ؟ تسمح هذه التصورات للإقليم بتوضيح منطق الفاعلين واستراتيجياتهم (يجد هذا الفضاء معنى له في ظل هذه العلاقة الرمزية التي تربطه بمستخدميه).

كيف نتطرق إلى مسألة الإقليمية التي أنتجها السكان والإقليم المتملك والموجّه من قِبل السكان أنفسهم ؟ فإنّ ما يجب الكشف عنه في هذا السياق في الحقل المعاصر للأقاليم - وللتذكير- هو مرئية الفضاء. تتميز الرمزية القبلية بتركيبة جغرافية و فضائية (مجال مادي) تقوِّيها وتجعلها أكثر هيمنة، وغالبا ما تعبّر عن تواجدها وتسجل حضورها من خلال الوساطة بين الاجتماعي والفضائي. فالانتماء في نهاية المطاف هو الاختلاف والتميّز عن الآخرين بالتأكيد على انتماءنا إلى فضاء أو إقليم، فالقبلية لها قاعدة مادية ضرورية كأرضية ترتكز عليها، فهي تدخل في الوقت نفسه في سياق فضاءات، إذ هناك تداخل بين عنصري القبيلة والإقليم، بحيث يشكّل هذا الأخير أرضية خصبة مادية ورمزية. فالإنتقال من الدوار إلى المدينة مرورا بالقرية يُعتبر تجربة ومسار يحققهما الساكن في فضاء يبدو تفاوضياً ومرتقيا
( (négocié et émancipéيتحرك فيه فرديا وجماعيا.

يتحدث المهتمون بحقل الأنثربولوجيا الحضرية اليوم عن فضاءات ريفية في طريقها إلى الزوال، وبالمقابل ظهور فضاءات جديدة بارزة ومنبثقة إلى العيان (émergents)، بينما يدافع الباحثون الريفيون عن بقايا (survivances) مجتمع ريفي تشكّله فضاءات هجينة  (hybrides)قبل حضرية (pré-urbains). أمام تداخل هذه الفضاءات أين وكيف تصنف قبيلة "قطع الواد"؟ كيف يكتسب أهلها تجربتهم الحضرية وهم يعيشون مرحلة تجاوز الانطواء والدخول تدريجيا في فضاء المدينة مرورا بفضاء القرية ؟

نتعامل هنا مع المعنى الذي يعطيه مبحوثونا لانتمائهم القبلي دون عزل ذلك عن هويتهم، لا سيما وأنهم في بحث عن معنى وتثمين لهم وللإقليم الذي يتقاسمونه،
ما يجبرهم على خلق توازن وانسجام في حياتهم اليومية وإن كان في بعض الأحيان على حساب النزاعات والتناقضات التي يدخلون فيها، نحن نفترض كذلك بشأن العلاقة التي تربط سيرورة الإقليم بالانتماء القبلي (في معنى التأثير الحاد) أسبقية العامل الثاني على الأول.

الإقليم العيني للدّراسة

تقع بلدية سيدي خطاب شمال غرب ولاية غليزان، تبعد عن مركز المدينة بحوالي 22 كلم. تتربع على مساحة تقدر بـ 182 كلم² بكثافة سكانية تصل إلى حوالي 77 ساكن /كلم²، تتوزع المنطقة على 23 دوارا وما يقارب الثلاثين عائلة من البدو الرحل (حسب آخر تعداد سكاني 2008)، يربط البلدية الطريق الوطني A90 للمحور مستغانم – الجزائر العاصمة عبر وادي رهيو. تشكل قبيلة "قطع الواد" أهم قبيلة في المنطقة من حيث التوسّع وعدد السكان ( يقدر عدد أفرادها بحوالي 10392 ساكنا على مساحة تقدر بحوالي800 هكتار). تتمركز القبيلة بجانب "واد القاعة"، أحد أقدم الأودية بالمنطقة (1848م)، تصبُّ فيه مياه وادي مينا (غليزان، سيدي سعادة وسيدي محمد) من الجهة الغربية ووادي شلف (مديونة، حمري، واريزان ومازونة) شمالا، مما يعطي القبيلة أهمية استراتيجية وأفضلية أراضيها الزراعية مقارنة بباقي القبائل. للتذكير في هذا السياق، فإن العقار الفلاحي بسيدي خطاب يشكل أولى مجالات النزاع والخلافات على المستوى القانوني الرسمي ( تعديل قانوني )، وعلى المستوى العرفي الاجتماعي ( تنافس السكان في استحواذهم على الأراضي واستراتيجياتهم في تغيير الأرض من فلاحية إلى أرض صالحة للبناء )  .

لا يمكن أن نتحدث عن منطقة سيدي خطاب دون ذكر المرحلة الانتقالية
" إقليميا " التي تعيشها كحدث وكمؤشر هو الآن في مرحلة تغيير طابع البلدية سواء على مستوى المورفولوجيا أو من جانب السمات السوسيو- ثقافية. المتمثل في مشروع المنطقة الصناعية، المتربع على مساحة 350 هكتارا من مجموع المساحة الإجمالية والتي تهدف إلى تشغيل حوالي 10392 يدا عاملة من مختلف المناطق الحضرية[5]، الأمر الذي نتج عنه حراك مهني وجغرافي دائم، جعل جو التغيير هذا من سيدي خطاب وقبائلها إقليما حضريا يتداخل مع باقي الأقاليم المجاورة. يعبر سكان سيدي خطاب عموما وأهل "قطع الواد" على وجه الخصوص عن رغبتهم[6] في أن ينجح مشروع التصنيع ببلدتهم لتترقى إلى مدينة جديدة.

 


 

الشكل 01 : موقع بلدية سيدي خطاب والدواوير المحيطة بها

الشكل 20 : سيرورة الأقاليم الجديدة جراء إنجاز المنطقة الصناعية، تحويل ملحقة البلدية والسكنات الاجتماعية


 

قبيلة "قطع الواد": الأقدمية في الأصل إذًا الأولوية في الاستحواذ على الإقليم

امتدت قبيلة "«قطع الواد» على الإقليم الذي تتواجد به، فمن 114 10 هكتارات (منذ وجودها على تراب بلدية سيدي خطاب سنة 1867) إلى حوالي 800  هكتار، أي ثلث مساحة المنطقة. وبالتالي حققت أقدمية في الوجود واستمرارية في الحفاظ عليه والتعلق به، وذلك من خلال تملّك الفضاء وتغييره وفق التطورات الحاصلة، فمن قبائل "الڨربي" والخيمة إلى منازل وعمارات يقطنها أفراد يعبّرون أحيانا عن رفضهم لصورة" العروبي" التي تنسب إليهم متخذين من ارتباطهم الوثيق بنمط العيش الحضري بديلا وموطن قوة. فكيف يتجسد ميدانيا استحواذ القبيلة على إقليم سيدي خطاب ؟

للإجابة على هذا السؤال انطلقنا من فكرة أنّ أقدمية قبيلة "قطع الواد" ليست فقط راسخة في الذهنيات، ولا تظهر كأسطورة أو مخيال اجتماعي مجرد وحيادي، بل هي في نهاية المطاف عقلانية من بين العقلانيات التي تبحث عن مجال لترسيم ملامحها. عقلانيات يترجمها الباحث عبد القادر لقجع (Lakjaa, 1997, p. 83) أنّها ذات أهداف من وجهة نظر فيبيريةZweckrationalität)  .(

ما نلاحظه ميدانيا هو أن سيرورة الإقليم ودينامية الفضاء تجد معنى لها على مستوى النزاع. ففي نظر أهل القبيلة، يتمتع القرويون بنصيب كبير من الاستفادة من مشاريع البلدية ( إقليم إداري)، التنموية، وهم الأكثر دراية وحظًا بحكم قربهم الجغرافي من السلطات المحلية، يصرح مبحوثونا أن" المعلومة تخبأ عنهم وهم آخر من يعلم بما يصل البلدية من جديد"، فتجدهم يتجمعون يوميا أمام مقر البلدية في شكل فرق لمعرفة ما يحدث، الوضع الذي لا يحبذه القرويون والذي يزعجهم إلى درجة أن البعض يخلق فضاءً مميزًا ومفرقًا، فضاء لاجتناب" العروبية "الفضوليين. وراء هذه الوضعية هناك أيضا طلب الاعتراف بوجودهم، وإن كان الاعتراف القبلي حاضرا بقوة إلاّ أنّهم يريدون اعترافا رمزيا من طرف السلطة المحليّة، اعتراف يعبّر عنه لوران بازا بالدين (Bazin, 2013) (dette)، ولهذا تجدهم يسخرون كل إمكانياتهم للتقرب من مقر البلدية. يعرف أولاد "قطع الواد" في المنطقة أنهم الأكثر طلبا للوثائق الإدارية والأكثر ترددا على المكاتب الإدارية[7]. "نحن الأسبق على هذه الأرض، إذًا نحن الأولى بغاز المدينة".

تعرف المنطقة مؤخرا نزاعا حادّا حول المسألة فبالنسبة لقبيلة "قطع الواد" يقف في طريقهم "البراوية". وهم القرويون من جهة، يطالبون بحق مشروع على أساس أنهم الأقرب إلى البلدية والأكثر تحضرا والمؤهلون بأن يعطوا صورة إيجابية ومكتملة عن تمدنهم مقارنة بسكان الدواوير الذين لا زالوا في نظرهم "عروبية" جراء انعزالهم وانطوائهم (لا يكتفي الباحث بوصف معطيات الميدان، بل هو مطالب بفهم دلالتها الرمزية وتحليلها)، ومن جهة أخرى، الإداريون "القادمون من المدينة" والذين يمارسون البيروقراطية وينظرون إليهم باحتقار، الأمر الذي خلق نوعا من الاستياء والغضب لدى أهل القبيلة، كيف لا وهي قبيلة لطالما نُعِتت بالثائرة. يظهر هنا البرنامج التنموي المحلي مدخلا للتصنيفات التي تقوم بها القبيلة من زاوية الانتماء "نحن وهم"، ومن زاوية الفضاء "ننجز المشروع على أرضنا". حضور القبيلة في مختلف المشاريع وتمركزها على معظم فضاءات المنطقة نلاحظه من خلال عدّة مظاهر في الحياة اليومية في سيدي خطاب. جماعة "القمرق" (أفراد يتقاضون أجرا مقابل الحراسة) التي تسهر على سير ومراقبة سوق سيدي خطاب الأسبوعي للملابس (السوق المعروف بسوق الشاوية) والمعروفة بجماعة أولاد أحمد، إحدى فرق القبيلة. معظم أراضي البناء التابعة للبلدية والتي قسمت لتباع في المزاد العلني على مستوى البلدية لبناء سكنات فردية في الأحياء الجديدة، اشتراها أصحاب المال والنفوذ من أهل القبيلة، إقليم المنطقة الصناعية هو الآخر أصبح مسرحا لتملك المجال، ويفرز إنتاجات سسيولوجية جديدة، للتذكير فإن أغلب الأراضي ببلدية سيدي خطاب تابعة للبلدية، يتقاسمها السكان ويتوارثونها أبا عن جد. ما شجع على تمركز القبيلة بشكل موسع في الإقليم.

في مقابلة أجريناها مع أحمد، شاب جامعي( مهندس معماري) منحدر من قبيلة "قطع الواد"، صرح لنا قائلا : " يجب أن نغتنم فرصة المنطقة الصناعية، حلمنا أن نطور أرضنا (إقليم قبيلة "قطع الواد")، وتكون لنا بلدية لوحدنا لأنّنا الأكثر عددًا .

يعد أحمد من الشباب المُعوّل عليه في القبيلة مستقبلا، يشتغل بمكتب الدراسات الهندسية وهو بصدد اكتساب خبرة في مجال السياسة، يتلقى الدعم من طرف أبناء العم الذين ينشطون على مستوى المجلسين البلدي والولائي. يحضّر أحمد لتأسيس جمعية "شباب عين القطار" الرامية إلى التعريف بأصل المنطقة وكذا مساعدة الشباب على الاندماج في الحياة الثقافية للمنطقة، كما يشتغل كمقاول يشرف على السكنات المنجزة في قبيلته، هو إذا نموذج حي لمسار حضري. يذهب سكان "قطع الواد" إلى أبعد من ذلك في إصرارهم على الاستحواذ على
المنطقة "، فلنتتبع ما حدث عندما تمكنت القبيلة من الوصول إلى السلطة المحلية لأوّل مرة في تاريخ المنطقة.  

الإقليمية من منظور السلطة المحلية

بمجرد وصول قبيلة "قطع الواد" إلى السلطة على مستوى البلدية منذ الانتخابات المحلية لسنة 2012، أصبحت السيرورة الإقليمية للمنطقة تعرف دينامية جوهرية واسعة. " لطالما عشنا الحـﭭرة والتهميش، حان الوقت لننتقم"، هذه هي الصورة التي رسمتها القبيلة وجعلت منها مدخلا لمواصلة توسعها في الإقليم والاستحواذ عليه اجتماعيا وإداريا. بحيث شهدت المنطقة في سنة 2014 نزاعًا حادا بين الأعضاء المنتخبين المحليين حول المكان الذي ستنجز عليه ملحقة البلدية. تمكنت قبيلة "قطع الواد"(الممثلة في ستة أعضاء على مستوى المجلس البلدي) من الظفر بتجسيد المشروع على أرضها بدعم من سكان المنطقة، شيخ الزاوية وشبكة العلاقات التي تقيمها على مستوى المجلس الشعبي الولائي، لاسيما أخ رئيس البلدية وابن عمه. دام مشروع البناء حوالي سنة. وفي نوفمبر 2016 باشرت الملحقة مهامها تحت رئاسة النائب الثالث لرئيس المجلس البلدي الذي ينتمي إلى القبيلة.

يُعتبر تحويل الملحقة الإدارية إلى إقليم "قطع الواد" كنقطة انطلاق في مباشرة خطة "الاستقلال" التي يطالب بها أهل القبيلة. بُعد المسافة عن مقر البلدية الأصلي، الاطلاع على مشاريع التنمية لاسيما تلك المتعلقة بالسكنات الريفية ومشروع ربط الإقليم بالغاز، كلها عوامل شجعت على تجسيد هذا المشروع، إذ أصبح مشروع بناء ملحقة البلدية وسيلة لتهيئة جديدة للإقليم، وفرصة لتجاوز الإقصاء والتهميش وفي نفس الوقت طلب اعتراف على المستويين الاجتماعي والرسمي في معنى الارتباط الوثيق بالإدارة المحلية كوسيلة للانسجام وخلق نوع من التوازن (تباين كبير من حيث وفرة التجهيزات). بحيث أعطى مشروع الملحقة الإدارية على أرض القبيلة دفعا وتحفيزا لمخططات أخرى يقتحم من خلالها أهل "قطع الواد" الفضاء تدريجيا كمشروع إنجاز محطة بنزين خاصة، شراء مقهى ومطعم بمدخل البلدية، وهذا شكل آخر من أشكال تملك المجال والسعي إلى تحضر القبيلة باندماجها الفعلي والسريع في القرية.

يأتي المثال الثاني والأكثر دلالة وإيحاءً على عملية المقاومة الإقليمية التي دخلت فيها القبيلة جراء وتيرة التحضّر تحت غطاء المشاريع التنموية للبلدية في تجسيد مشروع بناء 90 مسكنا اجتماعيا من أصل 290 مسكنا على أرضية القبيلة، ممّا أدّى إلى خلق فيما بعد سوق عقار لكراء السكنات من طرف المشتغلين بالمنطقة الصناعية والمنحدرين من المناطق المجاورة، فتحوّل إلى فضاء استقطاب وجلب واستقبال بعد أن كان فضاء ينفر منه جراء العزلة والانطواء. وهنا يلحظ المتتبع لهذه المعطيات نقطتين أساسيتين:

أوّلاً: يجري توزيع المشاريع التنموية في إقليم سيدي خطاب على أساس قبلي محظ، فبين ضغط الجماعة وتنفيذ ما هو في النص، يختار المسيّر الجهة الأولى لأنها تظهر كموطن قوة يستمد منها شرعيته[8]، فنسجل على سبيل المثال إنجاز المشاريع ذات الأهمية الأولى من حيث المردودية والنقص المسجل فيما يخص إنجازها وكذا ما توفره من رفاهية( حصة السكنات الريفية، حيث يتم تخصيص حصة لكل عضو في المجلس البلدي سواء لتوزيعها على أحد الأقارب أو المتاجرة بها عن طريق الإشراف على بنائها، فظاهرة المنتخب-المقاول حاضرة بقوة في المنطقة، وكذلك ربط دواوير المنتخبين بشبكة الأنترنيت والغاز وتعبيد الطريق ليصل إلى مدخل منازلهم وهذا على حساب باقي الفضاءات والبيوت التي تفتقر إلى أدنى حد من التجهيز في بعض الحالات (Rebiai, 2016)[9].

ثانيا: مسألة الإقليمية: "نريد سكنات اجتماعية مثل المدينة "، "انتهى وقت الدوار" تظهر السيرورة الحضرية كحتمية وكواقع يفرض نفسه في بلدية تتداخل فيها كل الروابط وشبكات التحضر، "لا بديل أمامنا، وإن تطلب الأمر تجاوز القانون". نذكر من بين آخر مظاهر عملية تسيير قبيلة "قطع الواد" للإقليم وتملكهم له بهدف اقتحام فضاء القرية مشروع بناء محطة بنزين بمدخل البلدية يسهر على إنجازه أحد مقاولي القبيلة إلى جانب مشروع بناء فندق بجوار المنطقة الصناعية على مساحة تقدر بـ 28 هكتارا.

تواصل إلى حد اليوم قبيلة "قطع الواد" معركتها في الاستحواذ على أكبر مساحة من الإقليم الموزعة على مختلف فضاءات البلدية، تملّك يتستّر تحت غطاء مشاريع التنمية التي تشهدها المنطقة والتي يسعى من خلالها سكان القبائل والدواوير إلى تحسين ظروف عيشهم والتأكيد على حضريتهم، كما يسعى المسؤولون السياسيون بدورهم إلى اكتساب شرعية ممارساتية من مقر البلدية (كفضاء للقرارات) يستمدون منها قوة ممارساتهم السياسية وجلب المشاريع إلى أهلهم وأقاربهم في فضاء متقاسم بين أصحاب القرار بنظرتهم التكنوقراطية المشكلة في النصوص القانونية وسكان البلدية الذين يحولون الفضاء ويعدلونه حسب متطلعاتهم الاجتماعية (Benali, 1999). يظهر سيناريو استحواذ القبيلة -الممثلة خصوصا في بعض المنتخبين المحليين ومجموعة مقاولين- على العقار الفلاحي اليوم في سيدي خطاب أحد أشكال إعادة الإنتاج القبلي والتقاسم الريعي للعقار (معظم الأراضي تابعة للبلدية)، بواسطة اكتساب الشرعية أولا وبواسطة البحث الدائم عن أراضٍ خصبة ثانيا من أجل الوصول إلى الأهداف وقضاء المصالح.

إذا كان سكان "قطع الواد" ينعتون بـ" أولاد برا" (أبناء الخارج) من قِبل القرويين، فهم اليوم "أبناء المدينة الجديدة"، بملحقتها الإدارية، ومنطقتها الصناعية وسكناتها الاجتماعية. يتحول طلبهم من الاعتراف بملكية الفضاء إلى تبعيته واقترانه بالفضاء الحضري (مركز البلدية)، ويعبر جو النزاعات هذا في نهاية المطاف عمّا يصفه عبدالقادر لقجع بالمقاومة الإقليمية  .(Lakjaa, 1987)

الدّوار والقرية: فضاءان متمايزان لإقليم واحد

يتجسد ميدانيا تداخل الدوار والقرية كفضائين متلاحمين داخل إقليم سيدي خطاب من خلال الحراك اليومي الروتيني للسكان، الصور التمييزية التي نرسمها عن أهل الدوار والقرويين والاستعمال الزمني لكلا الفضائين. بالنسبة لساكن الدوار يعتبر القرويون هم أكثر حظا في التمتع بخدمات المركز ومرافقه ومزاياه بحكم قربهم الجغرافي من البلدية، نلاحظ نفس الشيء إذا تواجدنا في الفضاءات المجاورة للمدينة المستقطبة والجذابة. "يكفي أن ترى الإداريين وفتيات يسرن في القرية" يقول لنا أحد المبحوثين تعبيرا عن استيائه من روتين الحياة اليومية وعزلة دواره بالنسبة لزمنية الفضاء وجيله. بالنسبة للقرووبن يحدث الحراك من القرية إلى الدوار في المساء (غالبا الدواوير الأقرب إلى مركز القرية)، وهم في الغالب أفراد من الجيل الأول، بينما نسجل عزوف شباب القرية عن زيارة دواويرهم الأصلية أو موطن آبائهم حاملين في تصوراتهم ركود الفضاء وعزلته[10]. يحدث التنقل عادة يوميا مع تسجيل تردد يومي روتيني خاصة شباب الدوار على القرية في الفترة الصباحية، هذه تنقلات تأخد طابعا اجتماعيا قبليا للسكان الذين لا يملكون وسيلة نقل. يدل هذا على التعلّق بحضرية الفضاء، فحضرية تتيح فرصا ومزايا، فإذا كانت أغلبية السكنات في الدوار ذات طابع حضري محض لا سيما من خلال التعديلات المنجزة على مستوى فضاء المنزل (غرف مخصصة للأطفال، البلاط، حمام على الصورة العصرية لشقق المدينة...)، ففي القرية عدة ملاحظات نسجلها تعبر عن استمرارية تملك الفضاء بنفس طريقة تواجده في الدوار كظاهرة "الزريبة"، النزاعات الحاصلة حول مسألة الحد (رسم حدود التوسع خارج فضاء المنزل لاستعمال إضافي للفضاء، وهي ظاهرة شائعة في إقليم سيدي خطاب، سواء تعلق الأمر بالقرية أو بالدوار) وتخصيص مساحة بجانب واجهة الباب لبناء صالون لاستقبال الأقارب وأهل الدوار...

يشترك كل من سكان القرية وسكان الدوار في التصورات المقدمة حول المدينة، فكلهم يَنعتُ نفسَه بالعروبي ويتواجد في فضاء خارجي في معنى غريب عندما يتعلق الأمر بمركز المدينة "حنا العروبية تاع برا". إن رسم هذه الصوّر والتصنيفات والمعاني التي يقدمها الفرد لمعانيه تظهر في نهاية المطاف كعقلانية ومنطق تفكير، أطروحة حاضرة في جلّ أعمال الباحث عبد القادر لقجع حول تحضير المجتمع الجزائري وتحديثه من الأسفل أي من جانب الفاعلين والممارسات[11].

يجتمع السكان في "قهوة أولاد قطع الواد"، يقضون حاجياتهم من عند "عمي بوزيد" أحد رجال القبيلة، كما نلاحظ تجمّعهم بجانب المدخل الرئيسي للبلدية محتكرين موقف السيارات الخاص بعمال البلدية كفضاء حولوه بمرور الوقت إلى مكان تجمّعاتهم وأعطوه صبغة اجتماعية وروتينية. "كي تبغي تحوس على واحد من "قطع الواد" تلقاه عند بارك البلدية". للتذكير نحن لا نقصي هنا علاقة القرب والاحتكاك بين ساكن القرية وساكن الدوار مادامت تربطهما مصالح مشتركة ويتواجدون في إقليم واحد. يظهر رابط الجمع بينهما عندما يتعلق الأمر بترددهما على الفضاء المشترك "وسط مدينة غليزان" كإقليم مرجعي إلى جانب الصور التي يرسمها كل واحد عن هذا الفضاء. فعلى سبيل المثال عندما يتعلق الأمر بالإداري أو المعلم أو البيطري، يظهر أبناء المدينة في الفضاء كمنافسين وغرباء لأنهم يشتغلون بسيدي خطاب وخصوصا إذا كانوا حاملين لمشروع الاستقرار بالمنطقة. تستحضرنا هنا  عبارة الانتماء الإيحائية "أنا ضد ابن عمي، أنا وابن عمي ضد البراني". فالروابط الاجتماعية في الفضاءات الثلاثة تظهر محصّنة ومدعمّة نتيجة القرب الجغرافي لكل فضاء مع غيره، فنحن نحصي من مركز سيدي خطاب إلى وسط المدينة حوالى 22 كلم، ومن دواوير البلدية إلى القرية معدل 10 كلم بالنسبة للدوار الأكثر بعدا. تظهر الفضاءات الثلاثة: الدوار، القرية والمدينة كفضاءات تفاوُض ترسم فيها تمثلات يتبعها تسلسل تدريجي في تصور الفضاء واستعماله. فظاهرة الإقليمية غير الرسمية هي الأخرى حاضرة على ميدان القرية بكثرة. كظاهرة بناء الأكشاك والمحلات التجارية التي تعرف في الآونة الأخيرة اكتساحا لفضاء مركز سيدي خطاب. للتذكير فإنه في آخر حملة انتخابية سنة 2017، اغتنم شباب المنطقة فرصة منح رئيس البلدية  شفويا الترخيص لبناء محلات، من أجل إضافة مساحات بناء أمام المنازل دعما لحملته الانتخابية (هناك 50 قرار هدم- يبقى إلى حد اليوم حبيس التنفيذ- لخمسين حالة حسب إحصائيات مصلحة التعمير بالبلدية) إلى جانب ثلاث عائلات حولت كلاّ من المركز الثقافي البلدي، المقر السابق للحرس البلدي وقاعة كبيرة بالملعب البلدي إلى فضاءات سكنية في انتظار حصولها على مسكن اجتماعي. ونسجل في سيدي خطاب استراتيجيات وممارسات فيما يخصّ تغيير مكان الإقامة على المستوى الإداري لطلب الحصول على سكن أو عقد تشغيل، وهي ظاهرة تستدعي تحقيقا ميدانيا مدققا لما تحمله من حقائق وتحليلات نفتقر إليها اليوم في حقل الأنثروبولوجيا[12].

من الدوار إلى القرية :"فيلاج الكناين" مثال لتجربة حضرية

نأخذ كمدخل تحليل لمسألة اكتساب المهارات والمعارف في الفضاء الحضري فكرة الباحث في الأنثربولوجيا الحضرية "مهدي سويح"، الذي يرى أن ساكن ضاحية المدينة يمرّ بتجربة حضرية يتلقى خلالها معارف ليحقق في نهاية المطاف مسارا، الأمر الذي يكسبه ردود فعل وطبائعية (بمفهوم بيار بورديو) الرجل الحضري
(Souiah, 2015, p. 103).

يتعلق الأمر بحي حديث النشأة على مستوى بلدية سيدي خطاب الذي يعرف محليا بـ فيلاج الكنايين[13]، تسمية تحمل دلالتين : الأولى هوياتية (من أنا؟) والثانية فضائية (مع من وكيف أتواجد؟)، ويتربع هذا الفضاء على مساحة تقدر بحوالي
800 م²، تقطنها 75 أسرة (حسب الأرقام التي قدمتها مصلحة العمران بالبلدية). لماذا هذا الفضاء ؟

و الشائع هو أن الريفيين تستقطبهم المدينة وتجذبهم جراء ما تمنحه من فرص للعمل وللخدمات، في حين أن الانزلاق الحاصل في السنوات الأخيرة نتيجة عملية التحضيرالسريعة دفع بالمدينة كفضاء حضري بامتياز إلى اقتحام سوسيو- فضائي للقرية والدوار .هذا المعطى يتجسد ميدانيا في هذا الحي الذي يأخذ طابعا تمييزيا من خلال التركيبة الاجتماعية لسكانه والتعديلات التي يحدثونها في الحي، فأغلبيتهم من الشريحة العمرية 40-55 سنة، يشتغلون في القطاع العمومي، وفي الإدارة على وجه الخصوص. نسجل أيضا ضمن معطيات ميداننا حضور حالتي صيدلاني وطبيب خاص مؤخرا، قدما من وسط مدينة غليزان ليستقرا ويشتغلا في الحي. أمثلة عديدة تعبر عن تمدن قرية سيدي خطاب الفلاحية. هو إذًا حراك مهني يومي روتيني من وسط المدينة وإليها متعدد التمركز (multi-localisé). إن الاستقلالية بعد الزواج ومغادرة العائلة الموسعة، والنزاع الأسري الجيلي بين الوالدين والأبناء وتفادي العزلة والانطواء في الدوار إلى جانب الحرص على ضمان مستقبل الأطفال بتقريبهم من المدرسة...، كلها دوافع مشتركة وراء ترك "العايلة" و"العمومية" (أبناء العم) للالتحاق بسيدي خطاب مركز (العنوان الإداري الرسمي) كإقليم أصبح يشكل استقطابا إقاميا لساكني الدوار وخصوصا الشباب منهم (captivité résidentielle).

نسجل إلى جانب هذا غيابا شبه كليّ لملامح الدوار الأصلية كالغياب شبه الكلي للزريبة، وعلاقات الجوار تظهر محتشمة نسبيا في إقليم تطغى عليه روح الجماعة، فنادرا ما نلحظ تجمعات ما عدا تلك المتعلقة بلجنة الحي. أمام هذا التجمع التقليدي الذي ينسب أفراده إلى هويات غير متفاوضة، تأتي عملية التحضير لتغير انتماء جماعات متعددة وأقل ضغطا. تجبرنا سمات التحضير هذه المتداخلة في فضاء من أصل ريفي والدخيلة عليه على الكشف عن "خصوصية حضرية" للممارسات والتصورات، متجاوزين بذلك النظرة الكلاسيكية لثبات الريف وجموده (Fassin, 2008, p. 03).

تهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن العملية التكوينية التي يدخل فيها سكان المنطقة، بتسخير إمكانياتهم، فهم يحاولون من خلال التجربة الحضرية التي يكتسبونها تأكيد وجودهم بتثمينه وإعطائه معنى. ففي ظرف سريع وبعملية ذهنية تظهر من خلال الإصرار على الالتحاق بالقرية وترك الدوار من أجل تحقيق مشاريع وأهداف، خلق سكان "فيلاج الكنايين" فضاءً متميزا (espace distingué) من حيث تملّك المجال وتعديله. تسجّل عملية التمييز هذه حضورها على أرض الواقع، من جهة، في طلب الاعتراف إداريا (أي رسميا) بتمدن الحي، فنجد بعض السكان يطالبون الإدارة بتغيير عنوان الحي الرسمي من "قرية سيدي خطاب "إلى" سيدي خطاب مركز"، ومن جهة أخرى، ينعَت باقي سكان المنطقة هؤلاء بأنهم الأكثر تحضرا في القرية، فهم "القاريين" والمتحضرين(ولاد المدينة). هذا إلى جانب تحضير لجنة الحي في الآونة الأخيرة لمشروع إقامة حاجز وغلق مجمعهم السكني الذي أصبح يتداخل مع بقية فضاءات القرية لاسيما المحلات التجارية والأكشاك غير القانونية التي بدأت تبرز مكتسحة إقليم القرية بطريقة عشوائية. فمن الدوار موطن الإقامة الأصلي إلى القرية مرورا بالمدينة -فضاء الحراك المهني اليومي- يذهب السكان إلى أبعد من ذلك نتيجة التغيير الجذري الحاصل على مستوى فضائهم كغياب شبه كلي لسمات الدوار وتبقى تجمعات الجيران محتشمة إن لم نقل نادرة كما نلاحظ خروج الزوجة إلى الفضاء الخارجي من خلال ترددها على الفضاء العام (مكان العمل، مستوصف البلدية، المدرسة لمرافقة الأولاد). بل يذهب البعض منهن بعيدا لتأكيد استقلاليتهن الاجتماعية والمالية والتعبير عن تمدنهن بتعديل الفضاء المنزلي من فضاء داخلي للحرمة إلى فضاء خارجي نفعي. هكذا تحولت بعض الفضاءات داخل المنازل إلى صالون للحلاقة، فضاء للخياطة، قسم لإلقاء دروس خصوصية، محل لصنع الحلويات أو منزل صغير في شكل روضة أطفال. إن إعادة تشكيل الرابط الاجتماعي لسكان الدوار داخل القرية يُنتج في الأخير شكلا من أشكال التحضّر المموّه في فضاء غير محضَّر (Urbanité déguisée dans un espace non urbanisé). للعلم فإنه من بين العوامل التي تساهم ولو نسبيا في عملية التحضير المستمر في المنطقة نذكر ظاهرة عودة المغتربين من فئة المتقاعدين للاستقرار نهائيا بالبلدية والاستثمار في شراء العقار وبناء السكنات[14].

خاتمة

أحدثت عملية التحضير إفرازات وتغييرات جديدة في منطقة سيدي خطاب، سواء في الجانب الفيزيقي للفضاء من خلال توسعه وتداخل عناصر وفضاءات حضرية فيه، أو في الجانب المتعلق بالتركيبة السكانية الجديدة التي تحمل خصوصيات وسمات تعكس الطابع الحضري لإقليم هو في طور التشكل والبزوغ. يظهر اليوم الدوار والقرية ببلدية سيدي خطاب كفضائين متداخلين لإقليم واحد يرتبطان بالمدينة من حيث هي المجال الحضري الأول بامتياز. والإشكال الذي يعرفه الريف حاليا، هو تضارب يعكس الصراع القائم بين التمسك بالممارسات الموروثة من جهة، ومسايرة كل ما هو حديث، من جهة أخرى. مجتمع يريد في نفس الوقت إثبات مكانته عن طريق ما ينتجه من ظواهر قد لا تظهر للعيان ولكنها تأتي لتُعبِّر عن نفسها من خلال دلالات ورموز وترك بصمات على الفضاء المَعيش والمستعمل.

يبقى الانتماء القبلي في منطقة سيدي خطاب كغيرها من المناطق ميكانيزم دفاع من أجل تحقيق أهداف وغايات وطلب الاعتراف بممارسة الفضاء وتملكه، سواء من طرف المنتخبين المحليين لتأكيد شرعية ممارساتهم أو من طرف قبيلة "قطع الواد" لتأكيد أسبقيتها في الوجود وبالتالي أولويتها في الاستحواذ على الفضاء. تأخذ القبيلة معنى لها إذا سجلناها في السياق الظرفي لظهورها، فهي تبرز إلى الوجود وتستمد قوتها وتتدعم من خلال اكتساحها المجال والفضاء الذي يتحول إلى فضاء نفعي ثم تختفي لأسباب عديدة لتعود إلى الظهور في صور وأشكال تتجاوب مع الفضاء والظرف الذي تتواجد فيه.

يظهر اغتنام الظروف وانتهاز الفرص كشكل من الأشكال الجديدة لإعادة إنتاج القبيلة، فالمسألة متعلقة بمصالح مادية بالدرجة الأولى. نحن نقر اليوم بضرورة إعادة النظر في إشكالية تملّك المجال في المجتمع الريفي، علينا تجاوز النظرة الكلاسيكية لتلاحم أفراده وجمود إقليمه. ألا يظهر النزاع اليوم كميكانيزم ومدخل تحليل لفهم الممارسات والتعديلات الحاصلة في الفضاء؟ يبدي سكان سيدي خطاب اليوم نوعا من المقاومة الإقليمية التي تتجسد ميدانيا في الحفاظ على بقايا و أصالة الفضاء السكني تجاه ما تنتجه المدينة من إفرازات حضرية، كل هذا يظهر من خلال استراتيجيات الفاعلين التأقلمية (كما يصفها عبد القادر لقجع) وذلك في فضاء تفاوضي وهجين. ونحن نرى في الأنثروبولوجيا اليومية بديلا يكشف عن عملية التحضير بتداخل الفضائين مع أسبقية الثاني على الأول (الحضري على الريفي).

في الأخير نقترح من خلال هذه الدراسة تجاوز الثنائية الكلاسيكية ريف/ مدينة في الدراسات الأنثربولوجية المعاصرة للمجتمع الجزائري بما أن تركيبات هذا الأخير تظهر بأشكال أخرى مميزة تحاول إيجاد فضاء لها في عملية التحضير التي يشهدها المجتمع، الأمر الذي يوجب نظرة نقدية متجددة ومسايرة للتطورات الحاصلة من خلال تثمين العمل الميداني.

بيبليوغرافيا

Bazin, L. (2013). L’État endetté en Algérie, demande d’État, conflits sociaux et ressorts imaginaires du pouvoir. Dans Bernard H. et Ould–Ahmed P. Dette de qui, dette de quoi ? Une anthropologie économie de la dette (171-200). Paris : L’Harmattan.

Bénali, A. (1999). La tribalisation par la mondialisation. Alger : Casbah

Bulletin de la Société de Géographie et d'Archéologie de la Province d’Oran.

Fassin, D. (2008). L’expérience des villes. Des périphéries de Dakar et de Quito aux banlieues de Paris, Revue enquête, 4, 71-92.

Gouvernement Général de l’Algérie, Service des Cartes et Plans, (1900), Répertoire alphabétique des tribus & douars de l’Algérie, GIRLAT, Imprimeur du Gouvernement General.

Lakjaa, A. (1997). L’habiter identitaire, Eléments pour une problématique d’une urbanité en émergence. Insaniyat. 2, 77-103.

Lakjaa, A. (1987). Le rapport à l’espace, l’exemple des nouveaux citadins. Oran : URASC.

Lakjaa, A. (2009). Les périphéries oranaises : Urbanité en émergence et refondation du lien social. Les Cahiers d’EMAM, 18, 29-44.

Leveau, R. (1976). Le Fellah marocain défenseur de trône. Presses de Sciences Po

Rachik, H. (2012). Le proche et le lointain. Un siècle d’anthropologie au Maroc. Marseille : Parenthèses/MMSH.

Souiah, M. (2015). Espaces périphériques : Urbanité et lien social. Approche anthropologique d’Ain El Beida, Sid El Bachir et El Amel, quartiers oranais. (Thèse de doctorat). Université d’Oran.

Wacquant, L. (2014). L'habitus comme objet et méthode d'investigation .Retour sur la fabrique du boxeur. Actes de la recherche en sciences sociales. Paris : Le Seuil, (184), (108 -121).

 

 الهوامش

 [1]اجتنابا للخلط الحاصل بين مصطلحي الإقليم والفضاء نقترح في هذه الورقة التحدث عن الإقليم في معنى الحدود الجغرافية والرمزية للقبيلة العينية التي تسعى جاهدة إلى الاستحواذ على إقليم البلدية، (البلدية كوحدة إدارية)، وفرض توسعها فيه والهيمنة عليه. ونستعمل مصطلح "فضاء" عندما يتعلق الأمر بإبراز استراتيجيات فردية لتغيير المكان، وكذا وصف النزاعات الحاصلة لتملكه وفق ما يمليه منطق الشعور بالانتماء القبلي، وهو ما يدّل على أن سيرورة الإقليم القبلي  تتحرك فرديا وجماعيا.

[2] تفاديا لذكر اسم القبيلة الحقيقي نقترح "قطع الواد"، التسمية الشائعة في الإقليم –موضوع دراستنا - التي تطلق على الفرق الأربعة المكونة للقبيلة (أولاد أحمد، أولاد بن دنية، الجعاونية، القصارة).

[3] تنتمي قبيلة "قطع الواد" إلى عرش "عين القطار"، مقاطعة لقبيلة المكاحلية، تحولت إلى دوار-بلدية - بمرسوم 5 ديسمبر 1867. كانت آنذاك تتربع على مساحة تقدر بـ 10 114 هكتار، وكانت تتبع إداريا لولاية مستغانم. تُشكل القبيلة فرقتي "أولاد سيدي بوزيد" و"أهل عمور". يزعم أهل عرش المكاحلية أنهم كلهم من أصل عربي ولا يتمايزون إلا من خلال التسمية أو الانتماء إلى ولي صالح.

La Dahra occidentale. Bulletin de la Société de Géographie et d'Archéologie de la Province d’Oran. Compte rendu sommaire de la commission. (258).

Gouvernement Général de l’Algérie. (1900). Service des Cartes et Plans, Répertoire alphabétique des tribus &douars de l’Algérie, GIRLAT, Imprimeur du Gouvernement General, (116 - 101).

[4] نستعمل أحيانا الانتماءات القبلية (بالجمع) تعبيرا منا عن تعدد الوضعيات الملاحظة والمعاشة في فضاءات متباينة ومتمايزة إقليميا.

[5] حول الأرقام والمعطيات المتعلقة بالمنطقة الصناعية بسيدي خطاب، أنظر الرابط الخاص بالوكالة الوطنية الخاصة بالوساطة والتنظيم العقاري http://www.aniref.dz

[6] يتحدث الباحثون في السنوات الأخيرة عن " الرغبة"، تعبيرا عن عمق الفجوة الحاصل بين تطلعات الأفراد ومطالبهم وسياسة برامج الدولةالتي تطبق بعيدًا عن هده المطالب. في 2015 نظم قسم علم الاجتماع بوهران بالتعاون مع مركز الدراسات في العلوم الاجتماعية حول العوالم الافريقية، الأمريكية والأسيوية ( CESSMA, Paris 7) يوميين دراسيين حول " الرغبة في الدولة"، تحت تنسيق الباحثين مهدي العربي ولوران بازا، كما صدر حديثا في المغرب كتابا للكاتب محمد ناصري بعنوان رغبات في مدينة (Naciri, M. (2018). Désirs de ville. Ed Economie critique)

[7] في دراسة ميدانية مقارنة قمنا بها في إقليم إفران بالمغرب في سنة 2016، لاحظنا أن العلاقة مع الإدارة مختلفة وتكاد تغيب في بعض قبائل المغرب الأوسط ،حيث يرتبط سكان المشياخة (الدوار) بشيخ الدوار كوساطة بينهم وبين إدارة الجماعة القروية أو القيادة. فعكس مجتمعنا (شيخ الدوار موجود عرفيا)، في المغرب الريفي هو رجل دولة ومهامه محددة في النصوص القانونية. دليل على تحكم السلطة ومراقبتها شبه الكلية للمجتمع الريفي. أنظر في هذا الشأن أطروحة ريمي لوفي الشهيرة:

Leveau, R. (1976). Le Fellah marocain défenseur de trône. Paris : Presses de Sciences Po.

[8] يخصص السكن الاجتماعي للأفراد الذين يقطنون بمركز البلدية بينما تبنى السكنات الريفية في الدوار. ما حصل في بلدية سيدي خطاب هو أن مجموعة من المنتخبين المحليين وعلى رأسهم رئيس البلدية والذي ينتمي الى القبيلة، وجدوا أنفسهم مجبرين على المشاركة في" لعبة القبيلة"، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هم بدورهم عليهم اغتنام فرصة عهدتهم وتأكيد هويتهم وانتمائهم القبلي بتخصيص حصة 90 سكن لبنائها في إقليمهم. نحن اليوم أمام موضع تناقضي إيحائي، فسكان القرية يرفضون السكن في إقليم القبيلة بحكم بعد المكان عن مركز البلدية، كما، تعيد القبيلة إنتاجها وتظهر بقوة في ظرف يتيح للمسؤولين الانتهازيين اغتنام الفرصة ولو كان ذلك على حساب تجاوز القانون.

[9] نفس الظاهرة تعرفها أرياف كوت ديفوار فيما يخص الاستحواذ على فضاءات وتحويل مشاريع التنمية من طرف الإثنية التي لها قوة وزعامة في الإقليم.

[10] يشرف الباحث سويح مهدي على مشروع بحث بمركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية (2016-2018) حول "حضرية ريفية"، يتعلق بتطور القرى الاشتراكية بالجزائر .

نشارك بمحور بحث حول الحياة اليومية ومظاهرها من خلال قرية بلعسل المجاورة لسيدي خطاب. ونتطرق في بحثنا إلى ظاهره الحراك اليومي من القرية إلى الدوار محاولين إعادة النظر في أطروحة بيار بورديو في نهاية سنوات الخمسينات وبداية الستينات، لنحلل اليوم المسار العكسي من الاقتلاع إلى إعادة التجذر « du déracinement à l’enracinement »، دليل على جدارية بورديو الكبرى.

[11] يرى بعض الباحثين أن دراسة وتحليل عملية التحضر تبقى ناقصة إذا نحن اكتفينا بالنظر إليها من البنية التحتية أي المجتمع، فنحن بهذا نقصي دور السياسة وأجهزة الدولة" ما يصدر من الأعلى" بنظرتنا التكنوقراطية فيما يخص إنجاز المشاريع والتباين على مستوى النصوص القانونية.

[12] نلاحظ الشيء نفسه بالنسبة لغياب تحقيقات ميدانية -حسب علمنا- فيما يخص ظاهرة المناطق الصناعية الجديدة المبنية في فضاءات ذات طابع ريفي ومدى التغييرات التي تسجلها من حيث مورفولوجيا الفضاء والتركيبة السكانية بحراكها اليومي من وإلى هذه المناطق كما هو شأن المنطقة الصناعية بسيدي خطاب ومصنع رونو بوادي تليلات.

[13] حسب ما صرح لنا به أحد مبحوثينا والذي يعد من الأوائل الذين استقروا بهذا الحي، فإن تسمية "فيلاج الكنايين"، أتت نتيجة موجة شراء قطع الأراضي هذه في بداية سنوات الألفين من طرف "العرسان الجدد"، أغلبيتهم أشخاص كانوا بصدد تحضير زواجهم أو تزوجوا في تلك الفترة، حاملين مشروع استقلاليتهم وتركهم للدوار بعد الزواج، حيث قامت البلدية ببيع هذه الأراضي لهؤلاء ليلتحقوا بها رفقة زوجاتهم بعد أن بنوها وجهزوها على الطريقة الحضرية العصرية للمدينة.

 [14]اشتغلنا حول الموضوع في محور بحث موسوم بـ "هجرة العودة للسكان القاطنين بمدينة تولوز الفرنسية ، المنحدرين من أصل بلدية سيدي خطاب"، في إطار مشروع بحث بعنوان: تجارب للهجرة في الجزائر المعاصرة ، أبحاث من منظور أفاق عبد المالك صياد، كراسك، تحت إشراف الباحث محمدي سيدي محمد (2012-2015 .(

 

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche