Sélectionnez votre langue

علوم الاجتماع المرئية: عرض لمسارها


انسانيات عدد مزدوج 80-81| 2018 | الصحة في الحياة اليومية بالبلدان المغاربية| ص 65-93| النص الكامل


Samira CHOUCHENE: Université de Tunis, Faculté des Sciences Humaines et Sociales, Département Histoire, 1007, Tunis, Tunisie.

Nadia CHAOUCH: Université de Tunis El Manar, Institut Supérieur des Sciences Humaines de Tunis, Département de Sociologie, 1007, Tunis, Tunisie.

Safouane TRABELSI:  Université de Tunis El Manar, Institut Supérieur des Sciences Humaines de Tunis, Département de Sociologie, 1007, Tunis, Tunisie.

Raja AMRI: Université la Manouba, Facultés des Lettres, des Arts et des Humanités, Département Histoire, 2010, Tunisie.


مقدمة

تضمنت بعض الأفلام السينمائية الأولى منذ بداياتها مضامين إثنوغرافية خصت بالأساس الشعوب الخاضعة للاحتلالات الأوربية. ولكن وعلى الرغم من ذلك، تحفظ علماء الأنثروبولوجيا على اعتماد منتوجات الصورة المتحركة التي كانت قد بدأت بفرض نفسها على التخصّصات العلمية المختلفة. وإذ لم يحصل إجماع حول المزاوجة بين البحوث الميدانية الإثنوغرافية واستخدام الصورة السينمائية للتوثيق والتسجيل والوصف، فقد ظهر "تيار محافظ" تمسّك باعتماد اللغة ولا شيء غير اللغة في وصف حياة الشعوب ودراسة ثقافاتها. ومع ذلك كرّر عدد من الباحثين والمولوعين بالتصوير إنجاز أفلام وأشرِطة إثنوغرافيا لفتت الانتباه إلى أهمية اعتماد محامل غير اللغة المكتوبة وإلى ضرورة إخراج العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجية منها خاصة من "عزلتها الأكاديمية" وتيسير رواجها لدى المختصين وغير المختصين، وفي أنحاء متعددة من كامل العالم. وصار من المعتاد تسمية ما يتولّد عن تلك المزاوجة من إنتاج علوم اجتماعية مرئية مع التصرّف في تسميات مجاورة مثل الأنثروبولوجيا المرئية وعلم الاجتماع المرئي...

لكن هذه المزاوجة بين تقنيات السينما والعلوم الاجتماعية واجهت العديد من العوائق وهي من طبيعة إبستيمولوجية تتعلق بجملة من الأسئلة/التحديات. ومن هذه الأسئلة/التحديات ما هو نظري من قبيل: كيف يمكن التوحيد بين الفن والعلم؟ ومنها ما هو المنهجي من قبيل: هل من الممكن ضمان حيادية حامل الكاميرا وموضوعيته؟ ومنها ما هو الإيتيقي من قبيل: كيف يمكن ضمان عدم انتهاك حرمة من يقع تناولهم بالدرس خاصة وأن استخدام تقنيات التصوير السينمائي غالبا ما ارتبط بدراسة شعوبٍ موْصُومة بالبدائية؟

يتناول المقال بعض هذه الجوانب منطلقا من استعادة تاريخية سريعة لمنجز العلوم الاجتماعية البصرية، ليصرف الاهتمام بعد ذلك إلى ما يثيره هذا المنجز من إشكاليات نظرية ومنهجية وإيتيقية، ليختم بالنظر في مستقبل علوم الاجتماع البصرية.

تاريخية علوم الاجتماع المرئية

تبلورت الأنثروبولوجيا المرئية أو الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي جراء تفاعل الممارسات الإبداعية ومثيلتها التنظيرية. تعالقت فيه السينما كفن، والأنثروبولوجيا كعلم. بشكل تقاطع فيه البعدين العلمي والجمالي، وبفضل رجال السينما وعلماء الأنثروبولوجيا، الذين جعلوا من الكاميرا أداة لإنتاج المعرفة، إذ مزجوا بين تقنيات السينما وبعض خطوات البحث العلمي (الملاحظة، الفرضية...) ومناهج البحث الأنثروبولوجي الموظف للصورة السينمائية ساهمت في إثراء المعرفة الإنسانية، بقدرتها على تسجيل ثقافات الشعوب، موثقة للذاكرة الإنسانية. وعبر رهانها على الصورة، تمكنت من حفظ ممارسات سوسيو-أنثروبولوجية لجماعات ثقافية وإثنية، موظفة الخلفيات النظرية في مختلف الحقول المعرفية التي تقارب الظاهرة الإنسانية في بعدها السوسيو-أنثروبولوجي[1].

من الكلمة إلى الصورة

اللغة هي نظام رمزي يستخدم فيها الإنسان جهازه الصوتي ليُظهر أصواتها التي تدرك من خلال الجهاز السمعي، وهي بالتالي كيان ذو وجهين (بنفنيست، 2005، ص. 41-43). ينعكس هذا النظام الرمزي، في حالة اللغة المكتوبة، في ذهن قارئ النص مجموعة من الصور الذهنية. ومنذ وقت طويل، كان هناك اقتناع لدى المختصّين في النقد الأدبي بكون الشكل والصورة يلعبان دورا مهما في المجاز اللفظي، ومن ثمة أصبح لكلمة "تصويري" أو "تشكيلي"، بمعنى الإحالة على الصُّوَر البصرية، دور مهم في تقبل النص. وقد ارتبط هذا أيضا بالقبول العام لوجود علاقة قويّة بين الشعور والتصوير (عبد الحميد، 2005، ص. 171)، وتدعّمت العلاقة بين فكرة الصورة البصرية والنظام اللغوي الرمزي في القرن التاسع عشر، على اعتبار أنّ الكاتب يعتمد على حاسة البصر ليصف وينقل صورة تفصّل المحيط والأحداث (عبد الحميد، 2005، ص. 172)، "... ذلك الوصف الخاص والتفصيلي للأشياء، كان الهدف منه الإيحاء بصورة بصرية للأشياء من خلال السرد البصري المكثف" (عبد الحميد، 2005، ص. 176).

مثلت اللغة، إذن بعلاماتها، مكونا أساسيا للرؤية البصرية خاصة في النصوص الشعرية التي تكون بمثابة لوحة تشكيلية أو "صورة بصرية يتوارى فيها المدلول وراء هيمنة الدال ومركزية العلامة" (Bal, 1995, p. 147-173). وهو ما اعتبره رضا
بن حميدة تطوّرا في فنون السرد الأدبية، تزاوج تطوّر فنون التصوير والرسم والفنون البصرية، وصولا إلى الفنون الفوتوغرافية الحديثة (بن حميدة، 1996،
ص. 95-107).

ولم يكن نقل الصور البصريّة باعتماد النظام اللغوي الرمزي حكرا على الأدباء والشعراء، بل اشترك الإثنوغرافيون معهم في ذلك، حيث ارتبط ظهور الاثنوغرافيا بالرحلات الاستكشافية والاستعمارية التي كانت تدخل إلى أغوار ما أسموه "المجتمعات المتوحشة". وكانت هذه الرحلات عبارة عن عمليات مسح يقترب فيها الرّحالة إلى أدنى حدّ ممكن من "البدائي" ( لوكلرك، 1990، ص. 22). وإذ ارتبطت تلك الرحلات والبعثات الاستكشافية بالتوسّع الاستعماري الأوروبي في أواسط القرن التاسع عشر، فقد ساعدت على نهب ثروات المناطق غير المطروقة من جهة وعلى التعرّف على الشعوب التي تمتلك تلك الثروات من جهة ثانية. لذلك كانت الإثنوغرافيا- الإثنولوجيا عبارة عن "دراسة هذه الشعوب وتصنيفها على خرائط وبيانات قبل البدء بعملية نهبها" (لوكلرك، 1990، ص. 22)، فبالنسبة إليهم "تساهم هذه الرحلات المسلّحة والبعثات المجهزة تجهيزا جيدا وبإدخال العلم إلى إفريقيا، وبإدخال الصناعة إليها بطبيعة الحال" (لوكلرك، 1990، ص. 22). وبما أنّ الاثنولوجيا الوصفية (اثنوغرافيا) كأنت "تشير أولا (نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين) إلى وصف عادات وتقاليد الشعوب التي تنعت ب"البدائية""(أوجيه، 2008، ص. 13) فإنّ الكلمة كانت وسيلة الباحث الوحيدة لتحقيق غاياته ورغباته، فاعتمد قلمه ومذكراته لوصف الانسان "البدائي" ولنقل صور بصرية فيها كل التفاصيل المحيطة به.

ثم اعتمدت هذه الرحلات على "الأساليب المتاحة زمن ذاك للإيضاح البصري الذي يقرّب الصورة ويثري الوصف ويساعد على مزيد من الفهم" ( شكري، 2002، ص. 7). فكانت مؤلفات الإثنوغرافيين تحوي رسوما وصورا تفصيلية ودقيقة لمظاهر من حياة هذه المجتمعات تنجز باليد. ونذكر في هذا الصدد الرسومات اليدوية التي قدمها المستشرق والمترجم وعالم اللغويات البريطاني وليام لين
(Edward William Lane 1801-1876) في كتابه "المصريون الحديثون" (نشره سنة 1836) والذي اعتُبر آنذاك أفضل وصف قدّم عن حياة الشرقيين والبلاد الشرقية. وتواصل اعتماد هذه التقنية حتى بعد ظهور الصور الفوتوغرافية التي مثلت بديلا عن الرسوم والصور اليدوية لم ينتشر استخدامه إلا تدريجيا.

ومنذ أواسط القرن التاسع عشر، اعتُمد التصوير اليدوي ثم الفوتوغرافي في الأنثروبولوجيا الفيزيقية وفي الإثنوغرافيا الثقافة المادية (لتصوير البيوت وقطع الأثاث والأزياء....) وفي مجالات أخرى ضمن علوم الاجتماع. ومن المهم هنا الإشارة إلى هاورد بيكرBecker الذي اعتبر أنّ لعلم الاجتماع والصّورة الفوتوغرافية لهما تاريخ الميلاد نفسه تقريبا، خاصة إذا اعتبرنا أنّ ميلاد علم الاجتماع كان مع نشر عمل أوغست كونت، فعندما كان هذا الفيلسوف الوضعي يضع الأساسات الأولى لعلم الاجتماع الحديث كان لويس داغير (Mandé Daguerre, 1857-1787) مبتدع النظام التقني للتصوير الفوتوغرافي (سنة 1839) يضع أمام العامة إمكانية إنتاج صور من خلال تقنية تثبيتها أو طبعها على قطع معدنية. إضافة إلى ذلك فإن بيكر اعتبر أنّ الرجلين اشتغلا منذ البداية على مشاريع متنوّعة ومن بينها استكشاف المجتمع
  p. 3),(Becker, 1974.

عند هذا المستوى من الترابط بين الصورة والاستكشاف الاجتماعي، كان لا بد أن تظهر إشكاليات حول العلاقة بين اللغة والصورة: فهل تعوض الصورةُ اللغة في الوصف الإثنوغرافي؟ وهل للصورة، بمفردها، قدرةٌ على تبليغ مراد الباحث؟ وهل من الممكن إنكار قدرة اللغة على نقل صور بصرية تحاكي الواقع؟

لقد أثارت تلك الإشكاليات جدلا، فقد تبنى البعض رأي الشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821-1867Baudelaire, ) مثلا، الذي عبر عن عدم ثقته بقدرة الكاتب على وصف العالم الواقعي من خلال اللغة، "خاصة وأنّ الكلمة عندما تصبح شيئا فإنّه لا يكون عليها أن تنسخ شيئا بل أن تجعل المرئي غير مرئي شيئا غائبا أو مفقودا"
)عبد الحميد، ص. 173-176)، وهو ما يجعل "الكلام المنطوق في حاجة ماسة لكلام صامت، كلام الصورة" (عالمي، 2004، ص. 35)، في حين رأى البعض الآخر، وعلى العكس من ذلك، أنّ اللغة بإمكانها أن تطوّر الصورة ليتم إدماج المرئي داخل المقروء (عالمي، 2004، ص. 55). لقد رأى أصحاب الموقف الأخير أنّ الصّور تدقّق الجزئيات التي لا يتمكن نظام اللغة الرمزي من أن يوحي بها، وتقرّب تفاصيل المجتمعات الموصوفة إلى ذهنية المجتمعات الدارسة أو المستكشِفة. ويرى آخرون أنّ التصوير يتفوّق على اللغة بقدرته على محاكاة الأحداث والواقع (دافنشي، 2005، ص. 33)، وهو ما يعنى أنّ كلا من اللغة والصورة نظاما علامات مستقل عن الآخر (هتشيون، 2009، ص. 262)، وأنّهما يساهمان، كل بطريقته في إنتاج المعنى، المرتبط بمجتمع معين وموجه لمتلقٍ، قارئ أو مشاهد، من المجتمع نفسه أو من مجتمع مختلف.

ولكن تجارب الإثنوغرافيين أثبتت أنّ الصورة المرافقة لوصف لغوي تساعد على الاقتراب من "الواقع" بجل تفاصيله. وبالمقابل لا يمكن فكّ شفرة أيّة صورة والتعبير عنها دون أن يُستثمر في ذلك الرصيد اللغوي الوصفي والتعبيري. وهو ما يجعلنا نعتقد أنّ العلاقة بين الكلمة المكتوبة والصورة في البحث الإثنوغرافي هي علاقة تكامل، (Ferchiou, 1995, p. 126-128) خاصة مع غياب التعارض بين عمق المعنى والكثافة الحسية )دوبري، 2002، ص. 37)، فالكلمات تقذف بنا إلى الأمام في حين أن الصورة تقذف بنا إلى الوراء (عالمي، ص. 54). تجعلنا رؤية صورة ما نبحث في كل قدراتنا المدّخرة لفهمها وإدراكها، ويتطلب منا ذلك فهم التاريخ والسياسة والاقتصاد، وهي كلّها أشياء تردّنا إلى الخلف، في حين أنّ المكتوب يُقرأ ويُفهم من خلال تسلسل الأحداث والتشّوق لمعرفة كل ما هو آت (عالمي، ص. 55)، هذا القول يتفق مع من يعتبر أنّ قراءة الصورة ليست إلا تأويلا (عالمي، ص. 55)، باعتبار أنّها نظام علامات تمنح نفسها للتأويل وتدعو إلى ضرورته، غير أنّها لا يمكن أن تقرأ (عالمي، ص. 45).

ومهما يكن من أمر، فإنّ الصورة هي بمعنى ما نصٌّ يُحدّد "باعتباره تنظيما خاصا لوحدات دلالية متجلية من خلال أشياء أو سلوكات أو كائنات في أوضاع متنوعة. إنّ التفاعل بين هذه العناصر وأشكال حضورها في الفضاء وفي الزمان يحدّد العوالم الدلالية التي تحبل بها الصورة. فالصورة، خلافا للنص الذي يتوسّل باللغة في إنتاج مضامينه، لا تستند في إنتاج دلالاتها إلى عناصر أولية مالكة لمعاني سابقة (الكلمات مثلا)، وإنما تستند إلى تنظيم يستحضر السُّنن التي تحكم هذه الأشياء في بنيتها الأصلية" (بن كراد، 2006، ص. 31). وهو ما يعني أنّ الصورة أو اللقطة بوصفها مجموع صور متتالية لا يمكن تجزئتها إلى مقاطع أو خطوط قابلة للمقارنة مع الكلمات والأصوات (دوبري، ص. 43).

إضافة الأدوات السمعية البصرية لحقل علوم الاجتماع

بهذا المعنى نفهم حرص الإثنوغرافيين على نقل أدقّ تفاصيل الواقع المحيط بهم بما جعل "التصوير الفوتوغرافي أكثر الوسائل شفافية ومباشرة في الاقتراب من الواقع" ( عبد الحميد، ص. 403 ). وقد تمكن هذا الأسلوب الجديد من التحرّر من قيود الصورة الانطباعية الجميلة إلى التركيز على الواقع بصرف النظر عن جماله أو قبحه. وقد يسرت الأدوات السمعية البصرية المستخدمة أثناء البحوث الاجتماعية الميدانية انتقال الباحث من نقل الصور لغويا ليتناولها بالدرس في مرحلة لاحقة، إلى استخدام الصور الفوتوغرافية المتتابعة لتثبيت ملاحظاته ومشاهدها بتفاصيل أدق وأغزر وأكثر أثراءً للبحث. وعلى ذلك تعاظمت أهمية الصور الفوتوغرافية التي يتكون منها الشريط في نقل جزئيات طقوس الممارسات الثقافية مثلا ذلك أن ظهور الفيلم السينمائي يسَّر تصوير الحدث الاجتماعي-الثقافي ومكّن من تقديم صورة دقيقة عنه، تطابق الأصل من بعض جوانبه على الأقل. وبالفعل ظهر التصوير السينمائي الإثنوغرافي مترافقا مع السينما التي صوّرت حركات المستعمَرين وأفعالهم في كل تفاصيلها (شكري، ص. 9). وفي سنة 1883، صوّر الطبيب فيلكس لوي رينو
(1938-1863Regnault, )، فيلم "سيدة في قبيلة وولوف"، وإستمر ذلك إلى أن سجل التاريخ إنتاج فيلم "نانوك[2] لـ " فلاهرتي (1884-1951Flaherty, ) سنة 1922[3]، وقد تلا هذه المرحلة استخدام الفيديو الذي مكّن الباحث من تسجيل الصوت والصورة معا وبجهد تقني أبسط.

ولكن ما هي الإضافات التي أدخلتها السينما على علوم الاجتماع؟

تقترب الصورة الإثنوغرافية المتحركة من شمول مناحي الحياة الاجتماعية خاصة وأنّ "الانسان يبثّ ويتلقى الدلالات بجسمه، وبالإشارات الحركية وبالنظرة واللمس والشم والصراخ والرقص والحركات الصامتة، وكل أعضائه الجسمية يمكنها أن تغدو أعضاء للبث والتوصيل والتواتر" (دوبري، ص. 36). ولذلك فأن اعتماد الباحث الاثنوغرافي للأدوات السمعية البصرية في عمله الميداني يمكنه من إدراك أعمق للحياة الاجتماعية في المحيط الذي يعمل فيه خاصة وأنه "ثمة قسم واسع من الحياة الاجتماعية والسيرورات المعرفية لا يمر إذا عبر اللغة بل يصعب التعبير عنه بطريقة شفوية" (أوجيه ، ص. 56).

وفي السياق نفسه اعتبر عالم الاجتماع والمصوّر الأمريكي دوغلاس هاربر
(1960Harper, ) أنّ قسم واسع من الحياة الاجتماعية والسيرورات المعرفية لا يمرّ عبر اللغة، بل يصعب التعبير عنه بطريقة شفوية  (Harper, 1988, p. 4). وهذا هو سر اقتناع علماء الإثنوغرافيا والجغرافيا والأنثروبولوجيا والتاريخ بأنّ اللغة السينماتوغرافية تساعد على تجميع المعطيات وتمكن من رؤية تفاصيل لا يمكن للملاحظ بالعين المجرّدة معاينتها وتثبيتها من أجل تحليلها. هذا بالإضافة إلى أنّ هذه المعطيات السمعية البصرية يمكن أن تتحوّل بعد عملية التركيب إلى أفلام إثنوغرافية تُوجه إلى جمهور يختلف باختلاف غاية المنتج، فضلا عن أنّ هذه الأفلام يمكن أن تكون مادة تشرح مفاهيم تستخدم لتدريس الأنثروبولوجيا
)آش، ص. 176 .(ويعني ذلك أنّ الباحث الذي يستخدم الصورة السينمائية يصير بإمكانه أن ينظر إلى الواقع من زوايا مختلفة في الآن نفسه، ولذلك قال مخرج الأفلام الوثائقية الروسي دزيغا فيرتوف[4] "لا تنقلوا المناظر كما تتلقاها الأعين" .إنّ إمكانية إعادة المعاينة وفي بعض الأحيان إعادة بناء وضعيات الملاحظة وتعميق النظر فيها كفيلة بإيصال الباحث، وفي الدّراسات الكيفيّة خاصة، إلى حالة تشبّع من الحالة المدروسة بحيث يمكن أن ينتقل إلى مرحلة التحليل المعمق لتفاصيلها. وبذلك مكّن اعتماد الأدوات السمعية البصرية الباحثين من توثيق العديد من الوقائع والمعطيات، اعتُمد بعضها وثيقةً مؤيدة لبحوثهم الكتابية فيما وظّف البعض الآخر في إنتاج أفلام وثائقية أدرجت ضمن البحوث الأنثروبولوجية أو وُجهت للعروض الخاصة والعمومية. ولذلك تُعتبر المادة الإثنوغرافية المصورة التي يتم جمعها حجر أساس لانطلاق بحوث أنثروبولوجية عديدة يمكن أن تشمل دراسة العلاقات بين الثقافة وحركات الحياة اليومية كما يمكن أن تسمح بدراسة الصوت والصورة بوصفهما نتاجا ثقافيا للمجتمعات(Ferchiou, p. 127) .

كما يعتبر الفيلم الاثنوغرافي وسيلة قادرة على توضيح بنية النسيج الاجتماعي وتكوينه ودراسة ظواهره باعتباره وسيلة قائمة الذات وليست مجرد أداة مكملة للنص. وعلى هذا الأساس قامت الأفلام الإثنوغرافية بكسر فكرة التمركز حول الذات بفتحها مجال الاطلاع على خصوصيات المجتمعات دون اختزالها في فكرة أو كلمة، وهو ما دعم فكرة ضرورة النظر إلى الثقافات المدروسة على أنّها ثقافات مستقلة لا يمكن فهمها أو النفاذ إليها دون احترام قيمها وأنساقها
(كولين، 2002، ص. 61). وبالفعل تميزت الأفلام الإثنوغرافية بكونها شكلا تعبيريا قادرا على نقل أدق تفاصيل وضعيات الأجسام وحركات الأيادي وأفعال الأفراد وايماءاتهم ونظراتهم وتعابيرهم عن مشاعرهم وغيرها من مفردات الحياة اليومية (أوجيه، كولاين، ص. 56). إنّ الصورة السينمائية الإثنوغرافية تكشف، وتبرز، وتكبّر، وتُخرج السمات التي لا يمكننا رؤيتها، لأنّها ممتزجة بالسلوك اليومي.

بذلك تخاطب الأفلام الوثائقية ذات الطبيعة الإثنوغرافية إحساس المتلقي وذكاءه، ولذلك قالت المصورة الفوتوغرافية الأمريكية ساراه إيدوارد تشارلزوورث (1947-2013Edwards Charlesworth, ) التي اعتبرت نفسها مُصوِّرة استقصائية: "إن سبب استعمالي ما يُدعى عموما "صورا مملوكة" أي صورا مستمدة من الثقافة الشعبية، هو أني أرغب في وصف ومخاطبة حالة عقلية هي نتاج مباشر للعيش في عالم مشترك" (هتشيون، ص. 131)، ذلك أنّ الفيلم، وكما يصف ويكشف، يخفي عناصر ضمنية مستترة لأنه كما يقول عالم النفس باتريك لاكوست
(Patrick, 1998): "يوحي ولا يفصح" (هيريته، ص. 45). فهو يخاطب في المشاهد "جهازا شعوريا قادرا على فكّ رموز ومكنونات اللاشعور عند الآخرين"
(عبد الحميد، ص. 281) على اعتبار أنه يظهر ما لا تمكن رؤيته.

ويمكن تفسير هذه القدرة الفائقة للأفلام على مخاطبة الحواس بخصائصها الفيزيائية المميزة المتمثلة في حضور متلازم للحركة والصوت، إذ تمكن الوسائل السمعية البصرية من تجسيم الصوت، وكذلك استعمال الموسيقى والتصوير بتقنية البعد الثالث وغيرها من المؤثرات. إنّ لكل هذه المؤثرات أثرا يُمكِّن الصُّوَر السينمائية من قوى تعبيرية غير عادية، تضع المشاهد في "قلب الأحداث" وتكون فعالة من الناحية الفنية ومؤثرة من الناحية السيكولوجية، ذلك أن السينما عمل فني يهاجم كل حاسة من حواسنا123)   .(Sturken, Cartwright, p. وقد فتحت ولادة تيار السوسيولوجيا المرئية الباب ليس فقط أمام دراسة الصورة والصوت بوصفها ظواهر اجتماعية، بل مكنت أيضا من استغلال التكنولوجيا السمعية البصرية بوصفها أدوات بحث وملاحظة وأرشفة ونشر للبحوث العلمية الاجتماعية. لكن اختلاف طرق جمع هذه المعطيات وتسجيلها وتنوع أهداف مستغليها مع تعدد مستعمليها، أدى إلى جدل علمي-فني-تقني حول إمكانية اعتماد هذه الأفلام بوصفها مكونا من مكونات البحوث الأكاديمية، ومن ضمن محتويات هذا الجدل عملُ المختصين على تصنيف المعطيات السمعية البصرية المصورة حسب أهداف الباحث.

فروع علوم الاجتماع المرئية وتصنيفاتها

يشير دوغلاس هاربر  (Harper, p. 55)إلى وجود تيّارين داخل علوم الاجتماع المرئية(La Rocca, 2007, p. 38) :

  • يختص التيار الأول في سوسيولوجيا الصورة، أي تحليل الصورة التي ينتجها فاعلون آخرون غير الباحثين. إنّنا نتحدّث هنا عن الصور التي نتعامل معها يوميا كصور الإشهار والأفلام الروائية والأخبار والصّور الصحفية ومختلف مخرجات الحملات التواصلية.
  • أما التيار الثاني فيختص بالسوسيولوجيا عبر الصورة: ويتمثل في استغلال الأدوات والتقنيات والتكنولوجيا السمعية البصرية من أجل تقديم فيلم سوسيولوجي طبقا لمجموعة من القواعد المنهجية التي تضفي عليه صفته العلمية وتجعله مقبولا لدى الجماعة الأكاديمية وقابلا في الوقت نفسه للاستهلاك من قبل جمهور أعم يتجاوزها. وينقسم هذا التيّار بدوره إلى فرعين
    (Durand, Sebag, 2015, p. 71-96):
  • يرى الفرع الأول أنّ مهمة التقنيات السمعية البصرية يجب أن تنتهي عند مرحلة التحليل، أي أنها مجرّد أدوات لتجميع المعلومات والمعطيات وتفكيكها وتخزينها نافيا عنها قدرتها على بناء خطاب علمي متناسق كما هول الحال بالنسبة للنص المكتوب.
  • أمّا الفرع الثاني، فيرى أنّ لهذه الأدوات والتقنيات قدرات أوسع. فهي تتيح لنا اكتشاف قدرة الصورة على تفكيك الواقع الاجتماعي، عندها يكون النقاش حول كيفية التقاط الصورة وتخزينها وتقطيعها وإعادة بنائها في مسار سردي يبني المعنى من خلال تكثيف الدلالات والمؤشّرات المرئيّة. فالصورة تفرض منطقها لأنّ الإدراك البصري (عنوان أحد كتب هاربر هو الفن والإدراك البصري) تفكير بصري حسب تعبير المنظر السينمائي وعالم النفس والباحث في الفن الألماني رودولف أرنهيم
    (1904-2007 Arnheim,) (La Rocca, p. 34).

بناءا على ذلك لا يمكن لكل الأفلام الإثنوغرافية والسوسيولوجية أن تنضوي تحت الخانة نفسها. فمنها ما اقتصر دوره على توثيق وجمع المعطيات والظواهر الاجتماعية والاثنوغرافية ومنها ما نقل الواقع باعتماد تقنيات دقيقة مكنت من توجيه النظر والفهم والتحليل. لذا ميّز عالم الآثار والمتحجرات والباحث الأنثروبولوجي الفرنسي أندري لوروا-غورهان (1911-1986Leroi-Gourhan, ) بين ثلاثة أنواع من الأفلام الإثنوغرافية والتي تعتبر كلها مصدرا للمعلومة بالنسبة للباحث وهي (De Heush. 1962):

  • الفيلم البحثي: يمثل وسيلة للتسجيل العلمي، ويستحسن تصويره من طرف الباحثين الذين يتقنون استعمال آلات التصوير، وهو نوع يشمل الأفلام التي تجمّع الملاحظات السينماتوغرافية يوميا دون تخطيط مسبق، وينتج منها فيلم منظم موجه للجمهور دون غايات مادية وهو وسيلة تعليم دقيقة.
  • الفيلم الوثائقي الموجه للجمهور العريض وغير المختص بالضرورة أو الفيلم الغرائبي وهو من ضمن فيلم الرحلة. ويرى لوروا-غورهان أنّه نوع واجب الاضمحلال حتى نحُول دون تزييف الحقائق من خلال التعليقات المرفقة والموسيقى.
  • فيلم الوسط (le film de milieu) له قيمة علمية خفية إذا كان مصورا بشكل جيد بحيث يتقاطع مع الفيلم الموجه للبحث.
  • ولم تقدم الباحثة السوسيولوجية والأنثروبولوجية التونسية صوفي فرشيو تصنيفا يتعارض مع التصنيف الذي قدمه لوروا-غورهان إذ ميزت بين ثلاثة أنواع من الأفلام هي:
  • الفيلم الوثيقة (Le film-document): الذي يسجل بشكل مباشر وحي الأفعال البشرية والإنتاج المادي لمختلف الثقافات، مثل المعارف المادية التقليدية.
  • فيلم المؤلف (Le film d’auteur): وهو الذي يتناول موضوعا محددا ويقدم نظرة شاملة لظواهر يمكن ملاحظتها، وهو يندرج ضمن "سينما الحقيقة" أو "السينما المباشرة"، ويتطلب معارف تقنية دقيقة.
  • الفيلم المحادثة: وهو تمثل أداة لتطارح الإشكاليات التي غالبا ما تتناول البلدان التي تكون بها إشكالات كبرى أو مواضيع مركزية مثل دول ما يسمى بالعالم الثالث(Ferchiou, 127-128) .

تبيّن هذه المناقشة بين المختصين أنّ الشريط المصور المستخدم في البحوث الاجتماعية يثير إشكالات علمية من طبيعة منهجية ونظرية، كما يثير إشكالات تتعلق بموقعه من بناء المعرفة. ولذلك، ورغم تعدّد الخدمات التي تقدمها الوسائل السمعية البصرية للعلوم الاجتماعية باختلاف تصنيفاتها، فإنّها واجهت ولا تزال انتقادات عديدة حالت في بعض الأحيان دون اعتبارها من ضمن دائرة المعرفة العلمية التي يمكن الوثوق بها.


 

إشكاليات اعتماد الوسائل السمعية البصرية في حقل علوم الاجتماع

جدلية ثلاثية: التقني- الفني-العلمي

يتأسس اعتماد الأدوات السمعية البصرية في مجال العلوم الاجتماعية على إمكانية الجمع بين البحث العلمي والمعرفة الفنية بالسينما[5]. وقد كانت النتائج الأولى لمحاولات اعتماد هذه الأدوات في البحث الإثنوغرافي متواضعة إذ لم يكن للباحثين حينها معارف ولا مهارات في مجال التصوير وهو ما دفعهم إلى الاهتمام بالمضمون مع إهمال الجوانب الجمالية والفنية. إذ غالبا ما نجد "تصوير المشاهد مليئا بأخطاء الضبط، والكادرات سيئة حيث لا تقدم تصميما حقيقيا للمشاهد السينمائية المُعبرة ولا تنوعا يسمح بمونتاج متماسك" (كولين، ص. 55). لقد توفّرت المادة العلمية الخام إلا أنّها افتقدت لقواعد الاستمرارية السردية وللتسجيل الصوتي الجيد" (كولين، ص. 55).

في مقابل ذلك أنتج السينمائيون أفلام "الحقيقة"، فكانت مطابقة للقواعد الفنية، إلا أنهم لم يتمكنوا من الاندراج في منطق البحوث خاصة وأنّ هذه الأفلام يتم إنتاجها لحساب الشركات السينمائية التجارية ثم لفائدة القنوات التليفزيونية، فكان السينمائيون خاضعين لما "يرغب الجمهور في مشاهدته أو سماعه" (كولين، ص. 56)، وقد كانوا في ذلك يهتمون بالجوانب الفنية والجمالية ولكن مع التضحية بالمضمون.

وكان من بين الحلول التي اعتمدها الأنثروبولوجيون تصوير أفلامهم بالاستعانة بمختصين في التقنيات السينمائية، إلا أنّ ذلك خلق نوعا آخر من العراقيل، إذ تجلت صعوبة رسم الحدود بين كل من الباحث والتقني (المخرج، المصور، القائم بعملية المونتاج...) في حياكة الفيلم الإثنوغرافي أو السوسيولوجي. فالباحث يتمسّك بالصرامة العلمية والموضوعية أمّا السينمائي فإنّه على الغالب، يقوم بمهمته حسب وجهة نظر فنية تقرب أكثر إلى الاتصاف بالذاتية والخيالية. وقد صوّر لنا العالم الأنثروبولوجي وصانع الأفلام الوثائقية جون بول كولين (1949Colleyn, ) العلاقة بين الباحث والسينمائيين بقوله "أمام المخرج علماء راغبون في التحليق أعلى فأعلى فيما أقسم هو على عدم الإقلاع، وبينما هم يسعون للكمال هو يريد المحاولة دون كبير اهتمام بمعايير الانتقاء، وهم يبحثون عمّا وراء الظواهر أما هو فيبحث عن صورة رائعة" (كولين، ص. 176). وبما أنّ جمالية الصورة، واعتماد التقنيات السينمائية ضرورية لإنتاج فيلم إثنوغرافي، فقد اعتبر بول هنلي أنّ تصوير الفيلم من قبل الشخص نفسه الذي يكتب البحث هو الحلّ لتحقيق التكامل، وهو ما اعتبر احتمالا نادرا بسبب القيود الزمنية وتواضع الموارد التي يخضع لها الباحث عندما يعمل داخل مؤسسة جامعية (هنلي، ص. 224).

وقد أكد كل من مارك أوجيه (1935Marc Augé, ) وجان بول كولين أن الأنثروبولوجي السينمائي الفصل بين العمق والشكل خاصة، وأنّ تصوير فيلم إثنوغرافي يتطلب بعدا جماليا، "فتأثيرات المعرفة لا تكون متاحة عبر المضامين فحسب، بل أيضا عبر الأصوات والصور والتقنيات والأسلوب". فإنجاز فيلم أنثروبولوجي يتطلّب الاعتناء بتركيب جمله والبحث عن التعابير المناسبة أضف إلى ذلك الإيقاع والرواية والشعور (مارك، كولاين، ص. 62).

إن الوثائقي في معناه العلمي الاجتماعي فن يجمع بين التأطير والتقطيع والتجميع وعرض الألوان ومزج الأصوات ويحترم وحدة المكان والزمان ويبرع في إظهار المواقف والوضعيات والتفاعلات الاجتماعية وجوانب من الحياة، بمعنى آخر يلمّ بكل التفاصيل الفنية والواقعية، ولكن هل يمكن للباحث ذاته أو من يمسك بالكاميرا أن تتجلى في هذه التفاصيل؟

الموضوعية والذاتية

أن قراءة الصورة تجعلنا بالضرورة نقرأ الواقع فهي "تشكيل إبداعي حي نابع من الحياة والواقع" (مخلوف، 2004، ص. 31)، يمكّن المشاهد من عيش الحقيقة المعروضة دون تفسير شفاهي أو كتابي(De Bromhead, 1982, p. 145-152)  خاصة وأنّها تتوجه إلى العقل ولكنها تتوجه أيضا إلى الأحاسيس والمشاعر والعواطف.

تعتبر الصورة إطارا لواقع تعكسه وتؤوله، خاصة وأنّها مثقلة بدلالات تستحق التفكيك والتأويل. فهي إذا "صورة" وليست هي "الصورة" (هيريتيه- أوجيه، ص. 29(، ولذلك تبقى عملية التأويل منوطة بالمتفرج، وعلى ذلك يمكن أن يكون للجمهور وجهات نظر متضادة (De Bromhead, 1982, p. 151). إضافة إلى أنّ الباحث عند اعتماده آلة التصوير لا ينقل سوى جزء من الواقع أو الحقيقة المرتبط ببحثه ليس إلا، إذ لا يمكن للفيلم أن يبرز إلا ما هو موجود في مجال تغطية حقل الكاميرا، أما الأشياء والوقائع التي تدور خارجه، فإنّها غير موجودة بالنسبة إلى المتفرج. وبالتالي فإنّ عملية الانتقاء هذه يمكن أن تحجب حقائق أخرى، وهو ما يجعلنا نعتبر أن الفيلم أخطر من نص مكتوب(De Bromhead, 1982, p. 151) ، فهو في الوقت نفسه سحر وسلاح، يتكلمنا أكثر مما نتكلمه ويبصرنا أكثر مما نبصره) مخلوف،
ص. 181(.

من هذا المنطلق هل يمكن اعتبار الصورة (سواء كانت ثابتة أم متحركة) خادعة؟ وهل يمكن القول بأنّها أنتجت لخدمة توجه أيديولوجي يتبناه الباحث؟

يقول هيدغر "التقنية وسيلة من صنع الإنسان لغاية موضوعة من طرف الإنسان"10)  Heidegger, 1980, p.)، والصورة وسيلة تطوّرت عبر العصور لتحقق غايات مختلفة للإنسان منها العلمية والفنية والسياسية والاقتصادية إلخ... وبما أننا لا ندرس هنا إلا الصورة المعتمدة في حقل البحوث الاجتماعية فإنّ الغاية المقترنة بها ستكون أساسا علمية. في هذا المنظور لا ندري أن كانت الصورة ذات بعد شفاف في كل الحالات خاصة وأن الباحث، وفي الكثير من الأحيان، لا يقدر على الفصل بين ذاته وموضوع بحثه "فمن العسير التسوية بين عين المصور الذاتية المؤطرة وحيادية تكنولوجيا آلة التصوير، والواقعية الشفافة لتسجيلها" )هتشيون، ص. 247 .(وقد تسبب هذا الإشكال في اتهام التكنولوجيا السمعية البصرية بعدم الحيادية العلمية ما جعل اعتمادها وثيقة أكاديمية أمرا متعسرا إذ "ليس التصوير الفوتوغرافي نافذة مطلة على العالم، من خلالها نرى الأشياء كما هي. أنه مصفاة ترشيح ذات انتقائية عالية، وضعتها يد معينة هنا، وعقل معين"[6].

عدم الفصل بين الذاتي والموضوعي وبين الفني والعلمي وجّه آلات التصوير نحو الاندراج ضمن أيديولوجيات مختلفة من خلال الدلالات التي تشير إليها، حيث تفتقر إلى الحيادية إذ يرتبط وجودها "بإنتاج مدلولات تتلاءم مع حقيقة ما ولا تعكس الحقيقة برمتها") مخلوف، ص. 69(. إلا أنّ ذلك لم يفقد الأدوات السمعية البصرية شفافيتها في نقل الواقع ولم يحل دون خلق المتعة-الاستفادة لدى المشاهد الذي قد لا يعي توجهها الأيديولوجي) هتشيون، ص. 250(.

القول بعدم حيادية الصورة لا يخصّ فقط لحظة التقاطها وانتقاء المشاهد لتصويرها وإنّما هو موجّه إليها كذلك أثناء عملية التركيب (المونتاج) التي طالما اعتبرت "تزييفا للحقيقة". خاصة وأنّها "تبيح التواءات جد متعددة... ولكن كل هذه الصور مهما كانت طبيعتها ومهما كانت درجة كذبها يبقى منطلقها الأصلي دائما "ماضٍ حقيقي" وصورة حقيقية التقطت في زمن ما" (مخلوف، ص.174). ولكن كيف يمكن لصور ومشاهد التقطت لشخوص في عصرهم لتثبّت حدثا عاشوه أو لحظة زمنية معينة عاصروها أن تكون غير حقيقية أو أن تكون كاذبة، في حين لا يمكن الاستعاضة عنها في التاريخ لذلك الحدث أو لتلك اللحظة إذ غالبا ما تكون فريدة؟

لا يعتبر القول بأنّ الفيلم الوثائقي لا يمكنه تقنيا إلا أن ينقل جزءً من واقع حياة الناس الذين يصفهم ويرغب في التعريف بهم وتقديمهم لنا، وأنّه لا يقدر على تقديم الحقيقة كاملة، قولا حاسما. تلك هي طبيعة الكلمات الواصفة أيضا، والفقرات والنصوص المكتوبة وإن طالت وامتدت على مجلدات. ولذلك فهو أمر لا ينقص من مصداقية المنتوج السمعي البصري العلمي الاجتماعي، ولا يجعلنا نعتقد أننا نبصر أوهاما أو خداعا. وقد فسّر جون روش (2004-1917Jean Rouch, ) هذا الوضع حين اعتبر أنه بخلاف بعض الجزئيات التي تتعلق بالحدث أثناء وقوعه والتي تتطلب من الشريط أن يعيد تشكيل جانب من الحقيقة، فإنّ الجزء الباقي منه كله ينطوي ضمنا على عمليات قطع وتركيب (مونتاج)، ولكن بالرغبة نفسها المؤكدة في قول الحقيقة: هي الحقيقة التي تراها عين الكاميرا، وهي موضوعية لأنها تصف لحظةَ مُعايشةٍ، عاشها بعض الممثلين، لأنه تمّ وضع هدف معين نصب أعينهم (اريتيه- أوجيه، ص. 29). وهي كذلك الحقيقة من وجهة نظر من يمسك بالكاميرا لأنّه يعيشها ولأنّه سعى لتثبيتها لمعالجة مباحث علمية سوسيولوجية وإثنوغرافية. وتضيف الناقدة الأدبية ليندا هتشيون (...-1947Linda Hutcheon, ) إلى ذلك اعتبارها أنّه لا يمكن التملص من البعد الأيديولوجي المُتضَمَّن في البعد النظري الموجود هو ذاته في بنية الفن الفوتوغرافي وجودا واقعيا، "فالأعمال ذاتها تشكلت وأنشئت من النظرية: فمكوناتها اللغوية غالبا ما تكون بيانات تقرأ الصّورَ البصرية بصورة متواجه معها أو بشكل متَّسق معها" (هتشيون، ص. 264).

وعليه لا يمكن رفض الأدوات السمعية البصرية واستبعاد العين الناظرة من حقل العلوم الاجتماعية وتبرير ذلك بعدم موضوعية الصورة وانعكاس الجانب الذاتي لملتقطها خاصة وأنها تمكننا من قراءة أخرى للواقع مغايرة لما يصور كتابيا. وفي مقابل ذلك يمكن رفض الأدوات السمعية البصرية إذا ما قامت بخرق كل الأخلاقيات وتحولت من مدافعة عن الحق في الاختلاف إلى حارسة للأيديولوجيات والتمركز الثقافي أو الاثني.

ايتيقا استعمال الوسائل السمعية البصرية

يعود السؤال عن الايتيقا ليسجل حضوره في العلوم الاجتماعية لكن ليس من أجل مساءلة ما يسمى بالعلوم الدقيقة ودعوتها لمراجعة نفسها من أجل عالم أكثر إنسانية ولكن لدفع تلك العلوم الصحيحة إلى مراجعة نفسها بنفسها في إطار النقد الذاتي ذلك أنّ العلوم الاجتماعية تدرس الظواهر الأخلاقية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى مثيرة الأسئلة الايتيقية التي يثيرها كل بحث علمي مهما كان مجال هو لأنّ هذه الأسئلة التي يطرحها الأفراد والمجموعات أيضا، تطرح بطريقة مختلفة أو بعبارات أخرى غامضة يكون على البحث العلمي الاجتماعي أن يوضحها  (Gagnon, 2001). وثانيا تظل الغاية الإيتيقية هي الغاية النهائية، كما أكّد على ذلك الشاعر فرانسوا دو ماليرب
(1555-1628de Malherbe, ) منذ زمن بعيد، حيث أن كل موضوع يخلق كل يوم معناه الخاص وطريقته الخاصة في أن يصبح أكثر إنسانية وأخيرا تدور الإيتيقا على الارتباط الوثيق بتعلم الحوار لأنّ جوهر أخلاقيات التعلم هي بطريقة ما تعلم الحوار وتحليل الذات والآخرين بالحوار وفي الحوار، في الآن نفسه  (Martinau, 2007).

منذ بعض عقود، يزداد الاهتمام بالايتقيا في العلوم الإنسانية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال أحدثت في الجامعات الأمريكية لجان خاصة بالايتيقا لمراقبة بعض جوانب من البحوث المنجزة من قبل الباحثين لتشمل البحوث الإنسانية والاجتماعية بداية من 1981. نفس هذا الالتزام فرض على الباحثين في العلوم الاجتماعية الإنسانية في كل من كندا سنة 1998 وانكلترا سنة 2005، والهدف من هذه اللجان هو التأكد قبل بدء البحث كونها لا تضر بمصالح الأشخاص المشاركين فيها(Vassy, Keller, 2008, p. 128-141) .

ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذه اللجان أحدثت كثيرا من الجدل خاصة في فرنسا. فمن الممكن أن تحدّ من حرية الباحث، وقد تخفي وراءها مصالح معينة في إشارة إلى توجيه البحوث نحو وجهة معينة مرتبطة بمصالح نفعية خدمة لأجندات سياسية أو غيرها. إضافة إلى أنها ستشكل أداة ضغط على الباحثين الشبان خاصة مما يحدّ من إمكانياتهم نحو التطلع إلى التطرق لمواضيع مختلفة. يستفاد من المناقشات المختلفة أن الاعتبار الإيتيقي في العلوم الانسانية والاجتماعية يفترض مراعاة ثلاثة شروط كبرى:

  • الأول: إلزام الباحث بتحصيل موافقة واضحة من المشاركين في بحثه قبل البدء في جمع المعلومات عنهم.
  • الثاني: التأكد من أن الباحث يحافظ على عدم الكشف عن هوية المشاركين طوال البحث.
  • الثالث: ضمان ألا يضر الباحث بالمشاركين في بحثه من خلال الكشف العشوائي عن البيانات الشخصية وألا يسبب لهم صدمات نفسية من خلال استحضار ذكريات مؤلمة (Vassy, Keller, 2008, p. 128-141).

ومما يزيد من ضرورة التأكيد على هذه الجوانب الإيتيقية أن اعتماد الكثير من البحوث في العلوم الاجتماعية على التحليل الكيفي لفهم السلوك الإنساني لا يحجب عن أعيننا ضرورة النظر إلى المخاطر المرتبطة بعدم وجود حماية كافية للخصوصية. فالمقاربات المستعملة، بما في ذلك الاستبيانات الورقية والانترنت والصور والمشاركة بالملاحظة والمقابلات المتعمقة، كلها تؤدي إلى مجموعات جديدة من المخاوف والحذر حول الموافقة السرية الخصوصية. كما يمكن أن تشمل المشاكل المثارة الخداع الناجم عن إخفاء المعلومات عن المشاركين كاللجوء إلى الموافقة الشفوية أو غير الموقعة بدل الموافقة الكتابية أو حتى التنازل عن الموافقة في ظروف خاصة مع إمكانية اعتماد البصمة[7].

وقد طرح عدد من الباحثين ولا سيما أنصار اتجاهات مثل النسوية أو أنثربولوجيا ما بعد الاستعمار...مبدأ وضع ميثاق إيتيقي يضع حدود أخلاق المهنة. وقد أكدوا على أنّه يحق لشركاء البحث ضمان خصوصيتهم وأن يعرفوا بالتالي الشخص الذي يتعاملون معه حتى يستطيعوا أن يقرروا ما إذا كانوا سيشاركون في البحث أم لا، فاستغلال طيبة المبحوثين وحسن نواياهم أمر يستحق الشجب والتوبيخ مهما كانت أهداف الباحثين ذات قيمة علمية )جوبو، 2014، ص. 233-234، 301(.

إن الحماية الأنجع لشركاء البحث وتعزيز التحلي بالمسؤولية من قبل الباحثين وتحذيرهم من الانحرافات الممكنة تتأكد على الخصوص إذ نجد أنفسنا ضمن علوم الاجتماع البصرية إزاء مقاربة تستدعي ضرورة الكشف عن هوية المستجوبين من خلال تصويرهم والغوص أحيانا في تفاصيلهم الشخصية من خلال متابعة تفاصيل أفعالهم وأعمالهم وأنشطتهم المختلفة مما يطرح مشاكل أخرى بحيث أن تأويل ما يتم تصويره يختلف من شخص إلى آخر ومن مجموعة إلى أخرى.

الآفاق الأكاديمية لعلوم الاجتماع المرئية

شروط إنتاج المحمل السمعي البصري ومراحله

باتت علوم الاجتماع السمعية البصرية تيّارا بحثيا متكاملا داخل الحقل العلمي الاجتماعي يؤمن بضرورة استغلال التقنيات السينماتوغرافية والأدوات السمعية البصريّة في السيرورة البحثية. كما يعتبر أن المُخْرَجَ السمعي البصري، الفنّي في ظاهره، يمكن أن يكون مخرجا علميا إذا ما احترم مجموعة من الشروط المنهجيّة. حيث ينطلق عمل الباحث بتحديد فرضية بحث واشكالية تعالج ظاهرة محددة. على أن يرتكز عمله على دمج وتحليل القراءات النظرية والملاحظة الميدانية. كما يستوجب انتاج محمل سمعي بصري حذق الباحث لمجموعة من المهارات كالقدرة على استخدام الادوات السمعية البصرية والمعرفة بتقنيات التركيب والتميز بأسلوب كتابة سينماتوغرافية  .(Durand, Sebag, 2015)  

وتتطلب مراعاة هذه الشروط من الباحث معرفة سوسيولوجية عميقة بالإضافة إلى ثقافة سينماتوغرافية واسعة، خصوصا وأن كثيرا من الباحثين يرفضون الاستعانة بمختصين وتقنيين من خارج المجال السوسيولوجي لتجنّب الضغط الذي تخلقه مساهمة متدخلين من اختصاصات متعددة (اختصاصات علمية وفنية وتقنية) لها منطق عمل مغاير وتفكير مختلف وأولويّات متباينة. لكن سيرورة البحث السمعي البصري تفرض في غالب الأحيان هذا التعدد في الاختصاصات نظرا لطبيعة المُخرج الذي يتطلب إنتاجه معرفة تقنية-فنية عالية في أغلب الأحيان.

ضمن هذه الرؤية متعددة الاختصاصات والمهارات، يمر العمل على الفيلم الوثائقي العلمي الاجتماعي بأربعة مقاطع أساسية وهي (Durand, Sebag, p. 79-81):

  • التأطير النظري: يتم خلال هذا المقطع اختيار موضوع البحث وتعريفه والقيام بقراءات في خصوصه واستخراج المفاهيم المركزية في علاقة به.
  • كتابة السيناريو الأوّلي: يتم خلال هذا المقطع تنظيم ورشات نقاش تجمع أعضاء الفريق (تقنيون وفنّانون وباحثون) ويتم خلالها عرض الإشكاليّة وبناء تصوّر هيكلي للمُخْرَج النهائي ثم تتم كتابة السيناريو الأوّلي الذي يحتوي على مجموعة من الوضعيات المركزيّة.
  • التصوير: يتم خلال هذا المقطع وضع مخطط أولي للعمل الميداني (التصوير) ثم معاينة المواقع والاتصال بالفاعلين والميسّرين المحليين حتى يتم الوصول إلى المرحلة النهائية التي يتم خلالها النزول إلى الميدان من أجل تصوير الوضعيات. عند الممارسة الفعلية للتصوير لا تكون الوضعيّات المركزية التي تم تصوّرها في السيناريو الأوّلي سوى نقاط انطلاق، إذْ يفرض الميدان نسقه فيما بعد وهو ما يفرض إعادة بناء مستمرة للسيناريو من دون أن يخرج عن سياقه النظري المحدّد.

التركيب: يتم خلال هذا المقطع تفريغ المادة المصورة ومعاينتها وأرشفتها ثم انتخاب المواد الصّالحة وهي صلوحية ذات أساسين: الإستيتيقا من ناحية أولى والدلالة العلمية الاجتماعية من ناحية ثانية. وعلى هذا الأساس يتم تركيب المواد المنتخبة ووصلها طبقا لتسلسل منطقي معقلن يعكس تطور معالجة الإشكالية معالجة تحليلية وذلك على ضوء وجهة النظر المستخلصة من التأطير النظري والمفهومي (الأطروحة). وبهذا المعنى يمكن اعتبار التركيب عملية كتابة ثانية تعاد فيها صياغة السيناريو طبقا لمستجدّات العمل الميداني.

المقاطع الأربعة السابق عرضها تمثل مرحلة الإنتاج وهي مرحلة تعقبها مرحلة ما بعد الإنتاج، حيث يتم تعديل إضاءة الصورة وتنسيق الأصوات وتحضير الجينيريك وكثيرا ما يكون الباحث خلالها في حاجة إلى الاستعانة بتقنيين محترفين.

وبالاعتماد على المراجعات التاريخية يمكن القول إن الباحثين والسينمائيين الذين تعرضنا إلى بعض تجاربهم التزموا على العموم بضوابط إنتاج الفيلم العلمي السوسيولوجي والأنثروبولوجي ومراحله خلال تناولهم للمواضيع والظواهر على ضوء خبرتهم في دراستها وتناولها في الجامعات وفي مراكز البحوث أو على ضوء حساسيتهم الاجتماعية. ولكن، ومع التطور الهائل في الإمكانيات التقنية من جهة، وفي فنيات التصوير السينمائي من جهة ثانية، وتشعب المعارف العلمية الاجتماعية من ناحية ثالثة، بات هذا الالتزام يشترط اليوم لدى كل باحث يسعى إلى التخصص في علوم الاجتماع المرئية أن يتلقى تكوينا متكاملا بين العلوم علوم الاجتماع وعلوم السينما والتصوير وتقنياتهما.

ففي فرنسا كان الباحثون في مجال الأنثروبولوجيا يتلقون تربصا في معهد الاثنولوجيا بمتحف الإنسان في باريس ويتعلمون فيه التقنيات السينماتوغرافية خاصة وأن هذا المعهد يحوي قسما خاصا بالسينما مجهز بطريقة جيدة ويعمل مع اللجنة الفرنسية للفيلم الاثنوغرافي التي تضع على ذمة الباحثين أدوات التركيب وأدوات صوتية  .(De Heush, p. 67)

أمثلة عن واقع علوم الاجتماع المرئية في جامعات مختلفة

لم يكن اعتماد الوسائل السمعية البصرية في جامعات علوم الاجتماع وكلياتها أمرا يسيرا، إذ لاقت رفضا من كل الباحثين الاجتماعيين المعتدّين باللغة. إلا أن السعي الدؤوب لعدد من الباحثين إلى إتقان استعمال تقنيات التصوير الفوتوغرافي والسينمائي ثم تقنيات الفيديو، والنجاح الذي حققته الكثير من التجارب الميدانية جعلا الجامعات في العديد من البلدان الأوروبية والأمريكية تعتمد المنتج العلمي السوسيولوجي السمعي البصري مادة للتوثيق والتسجيل والتفكير والمحاورة العلمية، بعد أن كانت المتاحف الإثنوغرافية والتراثية والأثرية والتاريخية والأنتروبولوجية أول من تبنى هذه اللغة البحثية-الفنية المتميزة.

وبعد نجاح الكثير من الباحثين في إنتاج أفلام وجدت لها موقعا ضمن حقل علوم الاجتماع بوصفها بحوثا علمية مرئية، انشغلت العديد من الجامعات والمعاهد والمتاحف بإحداث مكتبات سينما تضم أفلاما موجهة للتدريس. ونجد في مكتبات السينما هذه إما أفلاما تم تصويرها أثناء بحث علمي أو أفلام أنجزت خصيصا للتعليم العالي (Colleyn, De La Tour, Piault, 1992, p. 213-216). لم ترتكز هذه المكتبات في بدايتها على تنظيم خاص بها وهو ما دفع بعدد من الباحثين إلى السعي نحو بعث بنك معلومات. ولم يقتصر دور هذه المكتبات على توفير أفلام تعليمية للباحثين والطلبة بل كانت تستغل لإنجاز عروض بالمدارس وبمركز الدراسات الإفريقية حتى تتمكن من الانتشار العلمي (Colleyn, De La Tour, Piault, 1992, p. 213-216) كما قد تم استغلال هذه الأفلام أحيانا لتدريس تلاميذ الابتدائي والثانوي . (De Heush, p. 66)

وفي بلجيكا نظم معهد السوسيولوجيا سولفاي (Institut de Sociologie Solvay) التابع لجامعة بروكسال الحرة سنة 1959 ندوة حول الفيلم والسينما الوثائقية، وصارت الجامعة تضم لجنة للسينما العلمية. وقد اهتمت اللجنة بتعزيز استعمال السينما أثناء البحوث السوسيولوجية. ووفرت الجامعة أدوات تصوير وتسجيل ووضعتها تحت تصرف كاتبي السيناريوهات الذين يشتغلون بالتعاون مع الباحثين المنتمين إلى الجامعة .(De Heush, p. 66)

في بعض الجامعات بالبرازيل، ورغم رفض بعض الباحثين اعتماد الوسائل السمعية البصرية في البحوث العلمية، أسست مجموعة من الباحثين مركز الأنثروبولوجيا المرئية والتوثيق، CODEVAN في الجامعة الفيدرالية بريو دجينيرو. وحققوا مع مدرسين وباحثين من مخبر العلوم الاجتماعية مشاريع بحث مرئية. ولكن أعضاء مركز الأنثروبولوجيا المرئية والتوثيق، لم يتمكنوا من ضمان اعتماد الصورة مصدرا علميا موثوقا لتقصي المعلومة، وظلت الصور تعتبر وثائق مكملة. وكانت التجارب في مجال علوم الاجتماع المرئية مستوحاة من النماذج الأوروبية والأمريكية. كما سعت بعض المتاحف إلى اعتماد هذه الوسائل(Peixoto, 1992, p. 49-58).. أما في المعاهد فإنّ الاثنوغرافيين والأنتروبولوجيين استعملوا الوسائل السمعية البصرية أدوات الاستقصاء (Peixoto, 1992, p. 49-58) ولكن ظل الفيلم الاثنوغرافي يتبع نفس تمشي الأفلام الوثائقية التوضيحية التي تقتصر على وصف بعض الظواهر الثقافية والاجتماعية للواقع البرازيلي  (Peixoto, 1992, p. 56).

واقع علوم الاجتماع المرئية في الجامعات العربية

إن إمكانية اعتبار الفيلم الأنتروبولوجي محملا معتمدا لإنجاز الدراسات العلمية أو اعتماده وثيقة أكاديمية في الجامعة التونسية مازالت تلاقي صعوبات جمَّة، فهي مازالت تعتبر وسيلة لجمع المعلومة قصد تسهيل عملية كتابة نص. وربما عاد رفض الباحثين للصورة وثيقة علمية سواء للبحث أو التدريس إلى أن العين في الدول العربية "مازالت تعاني من أمية بصرية، وعليه يتوجب المراجعة الفكرية لتفعيل دور العين والبحث عن بديل أفضل يكون بمستوى التحديات والتطلعات، وإعادة فحص وظيفة الصورة على ضوء المعطيات والتطورات العالمية" )مخلوف، ص. 181(. هذا إلى جانب أن مباحث الصورة في العالم العربي" تعاني الضعف والوهن، كما أشار فريد الزاهي، نظرا إلى هيمنة اللغوي على البصري في حقل الثقافة العربية المعاصرة، وللتعقد المنهجي الذي تفرضه مقاربات الصورة بمختلف أنواعها وأنماطها" )دوبري، ص.6(.

وعلى الرغم من هذه العراقيل، اعتمدت مصر الفيلم الاثنوغرافي والوسائل السمعية البصرية في جمع التراث الشعبي وتدريسه بجامعة عين شمس، إضافة إلى إنشاء "مخبر أنثروبولوجي واجتماعي مستقل تابع لقسم الاجتماع بكلية البنات" وبعث شعبة للفلكلور وشعبة للأنثروبولوجيا تدرس فيها التقنيات السمعية البصرية )شكري، ص.14(. واستطاعت بحوث الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا البصريتين أن تبلغ مستوى ناضجا من النمو والاستقلال، واتخذ هذا النضج بعض الرموز ذات الدلالة كظهور مجلات علمية متخصصة وانعقاد المؤتمرات في مواعيد منتظمة وتزايد عدد الطلاب الذين يتخصصون في دراسة هذا المجال )شكري، ص. 14 (.

أما في تونس، فان ارتفاع كلفة التجهيزات السينمائية يحول دون توفيرها في كليات العلوم الانسانية والاجتماعية التي تعاني أصلا من نقص التمويلات. وربما حال ذلك دون تمكين الطلبة من تلقي تكوين تقني في كيفية التصوير والتقطيع والتركيب. ولذلك تبقى المحاولات فردية ومعزولة ومتقطعة مثل الفيلم السوسيولوجي الذي أنجزه طلبة علم الاجتماع بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس (جامعة تونس المنار) سنة 2015 تحت عنوان بعد الربيع يأتي الشتاء وكان فيه التعاون مع مختصين من جامعة جنوة الإيطالية. كما تظل النتائج المتحصل عليها غير مضمونة سواء من الناحية التقنية أو العلمية وفي كل الحالات تبقى مجرد تجارب مرافقة ومؤيدة للبحوث المكتوبة.

الخاتمة

مثَّل استعمال الأدوات السمعية البصرية في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية نقلة نوعية في طريقة البحث. وصارت علوم الاجتماع المرئية ركيزة أساسية في الدراسات البحثية العلمية والأكاديمية المعتمدة في العديد من الجامعات العالمية على الرغم من اتسامها، في المراحل الأولى من انتشارها واستعمالها، بضبابية مفاهيمها وتعدد تصنيفاتها. وبينت الأنثروبولوجيا البصرية مثلا أنها تختلف في كيفية توظيف وثائقها العلمية عن الأنثروبولوجيا المكتوبة وكذلك الأمر بالنسبة إلى السوسيولوجيا المرئية والسوسيولوجيا المكتوبة. ولقد تطلب ذلك عقودا من التطوير المتوازي للعلوم الاجتماعية من جهة ولاعتماد التقنيات السينمائية فيها ومواكبة تقدم طرائق تجميع المعلومات وعرضها.

السينما العلمية السوسيولوجية المرئية (أو البصرية) تدرس اليوم في العديد من الجامعات التي تعتمد تكوينا لطلبتها في استعمال التقنيات السمعية البصرية. ومما يحفز ذلك أن الإضافة التي حققها استخدام الأدوات السمعية البصرية في علوم الاجتماع لم تقتصر على محسنات تقنية في الوصف والتسجيل والعرض فقط، بل أعطت إمكانات أكبر للمعارف العلمية الاجتماعية من حيث عمق التحليل وتعدد زواياه فضلا عن رواجها وتكاثر جمهورها بما وسع من دائرة تأثيرها في النقاشات العمومية وصناعة الراي العام.

إن الحديث عن علوم الاجتماع المرئية حديث عن اختصاص علمي قائم الذات بتياراته وفروعه التي تجتمع عند نقطة التقاء هي استغلال الأدوات والتقنيات السمعية البصرية في إنتاج مخرج أكاديمي علمي طبقا لمجموعة من القواعد المنهجية والشروط العلمية. ولذلك فإنّ حسن استغلال هذه البحوث البصرية يحدث آثارا معرفية في المجتمعات ويسهم في صنع الذاكرة وتوسيع مجال التجربة الإنسانية، كما يساهم في انتقال الأفلام العلمية السوسيولوجية إلى مستويات بحثية وتحليلية أكثر عمقا. إنها تفتح آفاقا أخرى للكتابة العلمية وللتفكير النقدي وللممارسة البحثية.

إن اعتبار الفيلم العلمي الاجتماعي وثيقة أكاديمية متكاملة الشروط يساعد على خلق الظروف التي لم يحظ بها حتى الآن الطالب والباحث في الجامعة التونسية إذ مازالت علوم الاجتماع المرئية فيها تلاقي صعوبات جمة. ولعله من المفيد أن نبدأ بالتدرّب، باحثين وطلابا، على استغلال الوثائقيات التي تكاثرت ضمن إنتاج القنوات التليفزيونية العربية وكذلك على قنوات اليوتيوب العامة والخاصة وفي بعض حسابات شبكات التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك.

القائمة البيبليوغرافية

تيموتاي، آش (2002). كيف أقوم بتدريس الأنتروبولوجيا المرئية، في، السينما الاثنوغرافية سينما الغد. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

أمايور، محمد بلقائد. الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي، http://www.aranthropos.com/anthropologie

أوجيه، مارك. جان بول، كولاين ( 2008). الأنثروبولوجيا. ترجمة جورج كتوره. سلسلة نصوص. بيروت: دار الكتب الجديد المتحدة.

بن حميدة، رضا (1996). الخطاب الشعري من اللغوي إلى التشكيل البصري، في، فصول، السنة، المجلد 15، العدد 2.

بنفنيست، إيميل (2005). ما الُّلغة؟ في، اللغة. إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السَّلام بنعبد العالي، سلسلة دفاتر فلسفية، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر.

بن كراد، سعيد (2006). سيمائية الصورة الاشهارية: الاشهار والتمثلات الثقافية. الدار البيضاء: أفريقيا الشرق.

جوبو، جيامبيترو (2014). إجراء البحث الاثنوجرافي. ترجمة محمد رشدي. القاهرة: المركز القومي للترجمة.

دافنشي، ليوناردو (2005). نظرية التصوير. ترجمة وتقديم عادل السيوي. القاهرة. الهيئة العامة المصرية للكتاب.

دوبري، ريجيس (2002). حياة الصورة وموتها، ترجمة فريد الزاهي. الدار البيضاء: أفريقيا الشرق.

شكري، علياء (2002). تقديم الترجمة العربية، في، السينما الاثنوغرافية سينما الغد. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

عالمي، سعاد (2004). مفهوم الصورة عند ريجيس دوبري. الدار البيضاء: أفريقيا الشرق.

عبد الحميد، شاكر (2005). عصر الصورة السلبيات والايجابيات. والآداب. سلسلة عالم المعرفة. الكويت: المجلس الوطني للثقافة.

كولين، جان بول (2002). أساس المشكلة، في، السينما الاثنوغرافية سينما الغد. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

كولين، جان بول (2002). الجامعي والصحفي والجمهور العريض، في، السينما الاثنوغرافية سينما الغد. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

لوكلرك، جيرار (1990). الأنتروبولوجيا والاستعمار. ترجمة جورج كتوره. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.

مخلوف، حميدة (2004). سلطة الصورة: بحث في أيديولوجيا الصورة وصورة الايدولوجيا. تونس: دار سحر للنشر.

هتشيون، ليندا (2009). سياسة ما بعد الحداثة. ترجمة حيدر حاج إسماعيل، بيروت: المنظمة العربية للترجمة.

هنلي، بول (2002). الكلمة والصورة لابد أن يتوحدا، في، السينما الاثنوغرافية سينما الغد. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

هيريته، فرانسواز (2002). أين ومتى تبدأ الثقافة، في، السينما الاثنوغرافية سينما الغد. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

Becker, H. S. (1974). Photography and Sociology. Studies in the Anthropology of Visual Communication, 1, 3-26.

Colleyn, J. P, De La Tour, E. Piault, M, H. (1992). Une Expérience A L’EHESS : Enseignement, Recherche et Documentation en Anthropologie Visuelle. Journal des anthropologues, 47- 48.

Crimp, D. (1979). Pictures. In The MIT, Press, Spring, http://www.jstor.org/stable/778227.

De Bromhead, T. (1992). Réalité, film et anthropologie. Journal des anthropologues, 47-48 (numéro thématique : Anthropologie visuelle).

De Heush, L. (1962). Cinéma et sciences Sociales. Panorama du film ethnographique et sociologique, Série Rapports et Documents de Sciences Sociales, 16. UNESCO,

http://unesdoc.unesco.org/images/0013/001359/135914fo.pdf

Durand, J. P. Sebag, J. (2015). La sociologie filmique : écrire la sociologie par le cinéma ? L'Année Sociologique, vol. 65, 71-96, DOI 10.3917/anso.151.0071.

Ferchiou, S. (1995), Rhétorique du regard. L’anthropologie visuelle. Sciences Sociales Sciences Morales, ALIF, IRMC.

Gagnon, E. (2001). Remarque sur l’éthique dans les sciences sociales. Les cahiers du droit, 2, Vol. 42.

www.erudit.org/fr/revues/cd1/2001-v42-n2-cd3826/043639ar.pdf.

Harper, D. (2012). Visual sociology. London: Routledge.

Heidegger, M. (1980). Essais et Conférences. Traduction de l’Allemand André Préau. Paris : Gallimard.

Landot, J. P. Considération éthique relations à la recherche avec des sujets ; préambule à une application éthique des technologies de pointe dans les opérations militaires de L’OTAN. http://www.journal.forces.gc.ca/vo11/no3/04-landolt-fra.asp.

La Rocca, F. L’instance monstratrice de l’image. La sociologie visuelle comme paradigme phénoménologique de la connaissance. Visualidades. Revista Do Programa De Mestrado Em Cultura Visual- Fav I Ufg. https://www.revistas.ufg.br/VISUAL/article/viewFile/18039/10753

La Rocca, F. (2007). Introduction à la sociologie visuelle. Sociétés, 95. DOI 10.3917/soc.095.0033 : URL : http://www.cairn.info/revue-societes-2007-1-p. 33.htm

Martinau, S. (2007), L’éthique en recherche qualitative : quelques pistes de réflexion. Dans Recherches Qualitatives, 5, 70-81, Hors-Série, Actes du colloque Recherche Qualitative : Les Questions De L’heure.

Mieke, B. (1995). Reading the Gaze: The Construction of Gender in “Rembrandt”. Vision and Textuality. Stephen Melville and Bill Readings, Durham, N. C, Duke University Press.

Lacoste, P. (1998). Brèches du regard. Contribution psychanalytique à la culture de l’image. Paris : Circé-Poche.

Peixoto, C. (1992). L’Anthropologie Visuelle au Brésil. Journal des anthropologues, 47-48.

Rouch, J. (1953). Renaissance du Film Ethnographique, https://www.geogr-helv.net/8/55/1953/gh-8-55-1953.pdf Sturken (Marita) and Cartwright (Lisa), Practices of Looking. An Introduction to Visual Culture. Oxford : University Press, Sophie.

Ferchiou. (1995). Rhétorique du regard L’anthropologie visuelle. Sciences Sociales Sciences Morales ? IRMC, ALIF.

Vassy, C. Keller, R. (2008). Faut-il contrôler les aspects éthiques de la recherche en sciences sociales et comment ? Mouvements, 55, 128-141.

[1] محمد بلقائد أمايور، "الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي":

http://www.aranthropos.com/anthropologie/

[2] العنوان الكامل للشريط هو

Nanook of the North (also known as Nanook of the North: A Story of Life and Love in the Actual Arctic)

[3] Jean Rouch, Renaissance du Film Ethnographique, https://www.geogr-helv.net/8/55/1953/gh-8-55-1953.pdf

[4] كما عرف باسم (دينيس كوفمان) .David Abelevich Kaufman  دافيد ابيليفيتش كوفمان        (اسمه الحقيقي Denis Kaufman, Dziga Vertov; (1896-1954)).

[5] يعتبر فابيو لا روكا (Fabio La Rocca) أن أول عمل سينمائي ميداني يعود إلى ألفراد كورت هادون (Alfred Cort Haddon) الذي يعتبر بذاك "اب الأنثروبولوجيا البصرية". كما يشير إلى أنّ عمل الزوجين الأنثروبولوجيين، الإنجليزي غريغوري باتسون (-19801904Gregory Bateson  والأمريكية مارغريت ميد (1978-1901Margaret Mead ) الذي اعتمد 25 ألف صورة وحمل عنوان The Balinese Character (1942) اعتبر اللحظة الفارقة التي ارتقت فيها التقنية البصرية إلى مصف الأداة البحثية، وإن لم يصر مصدر إلهام، لدى هوارد بيكر وأيرفنغ غوفمان، إلا خلال سبعينات القرن العشرين. أنظر:

Fabio La Rocca, L’instance monstratrice de l’image. La sociologie visuelle comme paradigme phénoménologique de la connaissance. Dans VISUALIDADES. REVISTA DO PROGRAMA DE MESTRADO EM CULTURA VISUAL - FAV I UFG; https://www.revistas.ufg.br/VISUAL/article/viewFile/18039/10753

[6] Douglas Crimp, « Picture. » in :Catalogue for Pictures Artists Space (3) (New York : Committee for the visual Arts, 1977) Dans:

ليندا هتشيون، سياسة ما بعد الحداثة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، مركز دراسات الوحدة العربية، ص. 247.

[7] Jack P. L, « Considérations éthiques relatives à la recherche avec des sujets ; préambule à une application éthique des technologies de pointe dans les opérations militaires de L’OTAN », http://www.journal.forces.gc.ca/vo11/no3/04-landolt-fra.asp

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche