انسانيات عدد مزدوج 80-81| 2018 | الصحة في الحياة اليومية بالبلدان المغاربية| ص 95-100| النص الكامل
تحدث المؤلف في الفقرة الأولى من الكتاب عن تجربته الخاصة التي عاشها في صلب المجتمع الليبي، حيث كان الخطاب الرسمي في عقد السبعينات من القرن العشرين مؤثرا في جيل، من كثير من الشباب والمراهقين. وفي النصف الثاني من الثمانينات 1986 قرر الباحث السفر ورؤية الترجمة الميدانية الفعلية لهذا الخطاب السياسي الرسمي والخطاب الإعلامي في الوقت نفسه ، واكتشف وجود بون شاسع بين المنطوق والمعلن وبين المعيش الاجتماعي اليومي للمجتمع الليبي. هذا ما دفعه إلى اتخاذ قرار محاولة فهم هذا البون؛ إذ أن المنطلق الأساسي لهذا الاهتمام البحثي هو منطلق الاشتغال على سوسيولوجيا البَوْن، بين ما يُعلن وما يُطبق وما يُنفّذ، وفهم أسباب ذلك، وإيجاد قراءة أنثروبولوجية وسوسيولوجية.
ولهذا، وبدءًا من 1986، عمل الباحث على إنهاء أطروحة المرحلة الأولى من دكتوراه الدرجة الثالثة، وقرر أن يشتغل ميدانيا على هذا المجتمع. ليتمكن من بناء خلال 26 سنة شبكة متميزة من العلاقات الإنسانية البشرية، واكتساب ثقة العديد من الزملاء الأساتذة الجامعيين والباحثين الليبيين، وحتى موظفي الدولة الذين يملكون المعطيات ويريدون إيصالها إلى الباحثين، في مواجهة الانغلاق السياسي والمؤسساتي الرسمي. هذه الشبكة التي وفّق الباحث في بنائها كانت مهمة، مع دولة لا توفّر إحصائيات ولا تقدّم معلومات، وتتعامل بريبة كبيرة مع من يبحث، وتراقبه مراقبة يومية لصيقة.
اعتمد الكاتب على الملاحظة الأنثروبولوجية والمقابلات في بلد تنعدم فيه إمكانيات توزيع الاستمارة، خلال 26 سنة لم ينجز الباحث إلا 35 مقابلة فقط؛ وذلك لأنه كان عليه أن يتخير الشخص ويُجري بحثا وحول علاقاته بالأوضاع القائمة وتاريخه الشخصي، ويتحقق من صدق أقواله، فكل شخص يحتاج إلى أكثر من نصف شهر للتأكُّدِ من سلامة الوضع.
والغريب أن رجال العهد الملكي من رئيس الحكومة، وزير، مدير، ووكيل وزارة كانوا من المبحوثين، وفيما بعد أُخضعت جميع هذه المعطيات إلى التحليل السوسيولوجي.
يحتوي الكتاب على فصلين رئيسيين: يتناول الأول جذور الأزمة والإخفاق والعنف في صلب المجتمع الليبي، أما الثاني فيتناول المدنيةَ الليبية الجديدة شروطَها ومراحلَها.
اهتم الباحث في الفصل الأول بعرض تجربته الميدانية في البحث واكتشاف جذور هذه الأزمة، وهي جذور موجودة في صلب المجتمع الليبي؛ فحوالي 42 سنة، أي من 1969/2011 وإلى حد الآن، لم يحصل تحديث فعلي في المجتمع، ولم تُبن دولة قوية قادرة على صهر البُنَى الاجتماعية الأولية ودمجها، وفي مقدمتها القبيلة والعشيرة وغير ذلك، مثلما لم يُفضِ البترول إلى تفكيك المجتمع القديم، خاصة المجتمع القبلي؛ بل على النقيض من ذلك، فقد استعملت السُلطات المختلفة، بما فيها الملكية قبل 1969 ثم ما بعدها أي العسكرية، القبائلَ والعشائر في عملية إعادة إنتاج السلطة جغرافيًّا.
كما تمَّ إعادة إنتاج السلطة في مناطق بعيدة، فكما هو معلوم، فإنّ ليبيا إمبراطورية صحراوية بنسبة 96/97%، وأن الشريط الساحلي الليبي الذي ينطلق من الحدود المصرية من مرسى مطروح إلى غاية بن غردان لا يمثل من الجغرافية الليبية سوى 2 أو3%، وأن ليبيا مستغلة بنسبة 5% فقط و95% متروكة للفراغ، وأن إقليم مثل فزان في الجنوب الليبي والذي يمثل أربع مرات مساحة فرنسا، يعتبر بمثابة إمبراطورية صحراوية، فهو إقليم صحراوي بنسبة 98% به بعضُ المدن القليلة مثل سبها، أم الأرانب وبلداك، وتصل إلى غاية الحدود التشادية النيجيرية وغرب السودان، وهي صحراء قاسية، ويتطلب اجتياز إقليم فزان يومين أو أكثر.
وقد اكتشف الباحث أن جذور الصعوبة تكمن في مستويات ثلاثة، يتمثل الأول في طبيعة الجغرافيا الليبية وصعوبتها ووعورتها، خاصة هيمنة الطابع الصحراوي عليها. ولهذا لم يوجد في تاريخ ليبيا نظام قادر على حكم هذه الجغرافيا؛ فقد حكم العثمانيون 236 سنة وسيطروا على مدينتين كبيرتين هما طرابلس وبنغازي، وحكم الملك 17 سنة. وعلى الرغم من سطوته الدينية واحتمائه بالجمعية الصوفية السنوسية، وعلى الرغم من البترول، حكم جزءا بسيطا من ليبيا وأبقى على السلطة الفعلية في التخوم الليبية في الوسط الليبي في الجنوب لدى شيوخ القبائل ووجهاء المناطق وقادة العشائر.
بعد الحكم العسكري 1969، كان لابد من إيجاد حل تمثل حينها في البترول، وهذه مشكلة أخرى عويصة صنعت المشكلة الثانية، كَوْن من يقتربْ يستفدْ من البترول، ومن يبتعدْ لا يستفدْ، إذًا لم تُبن لا مواطنة ولا ولاء للدولة والمجتمع، ولا نخب محلية تساعد على إدارة الحكم والسيطرة على الجغرافيا الليبية المترامية الأطراف، ذات المساحة الجغرافية غير العادية: حوالي 1.760.000 كلم2 منها 2000 كلم حدود بحرية (ساحل). ويقول الليبيون إن الثروات البحرية والسمكية التي لم تُستغل إلى حد الآن قادرة على أن تضمن عيشا كريما لليبيين بغض النظر عن البترول.
المشكلة الثالثة، ونظرا إلى المساحة الجغرافية الشاسعة للبلاد، تم الاعتماد على القبائل وتقريبها من السلطة، وإدماجها في الاستفادة من خيرات البترول الوفيرة. ولكن -أيضا- بالتوازي مع استعمال العنف، تستعمل السلطة العنف السياسي بتفويض القبائل في مناطقها لاستعماله، لهذا حصلت حالات من الإقصاء، من التشظي المجتمعي ومن التقرّب أو الابتعاد، مع تحمّل الليبيين اختيار أحدهما، وهو ذو كلفة اجتماعية وقبلية وسياسية وحتى أمنية.
وتم العمل في الفصل الثاني على أساس كل الملاحظات التي استقاها الباحث من الميدان والاستنتاجات التي قام بها، ليناقش عنصرا مهمّا أسماه "إدارة العيش المشترك الليبي"، أو مدنية ليبية جديدة تساعد على تنظيم العيش المشترك؛ فبغض النظر عن قراءة ما حصل في فبراير 2011، وبغض النظر عن المواقف الفكرية وحتى الإيديولوجية، وعن الموافقة أو الرفض، فإنّ ما يُستنتج هو أن فبراير 2011 أعلن عن موت العيش المشترك الليبي، ضعفه ووهنه، وأعلن رفض الليبيين لحق التمايز بعضهم عن البعض، ولهذا اشتغل المؤلف على مسألة التمايز في المجتمع الليبي وكيفية بنائه، بناء عقد اجتماعي وأخلاقي جديد يقي من العنف المسلح وتصفية الآخر الذي يختلف فكريا أو سياسيا.
ودرس أيضا سبل بناء مواطنة جديدة وإنجاز قيمها وبناء العقل الليبي الجديد، الدولة الجديدة، (دولة قوية وعادلة)، ثم تنظيم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. فما استنتجه الباحث خلال عقدين ونيّف من الملاحظة الأنثروبولوجية الميدانية، هو أن المشكلة العميقة تكمن في لا عدالة توزيع الثروات الليبية؛ فقد يتغاضى اللّيبي عن الانغلاق السياسي، لكنه لا يتغاضى البتة عن سوء توزيع الموارد البترولية والطاقوية، ولا يتسامح إزاء تقسيم المجتمع إلى فئتين كبيرتين: أهل "الباور" (bower/power) أو النفوذ، والفئة الثانية هي "راقدين ريح"، معناه لا قبيلة ولا أموال ولا علاقات ولا نفوذ ولا حتى أي شيء. هكذا انقسم المجتمع الليبي خلال 66 سنة من تاريخ الاستقلال 24/12/1951 إلى سنة 2017، هناك من هو قريب وهناك من هو بعيد أو مستبعد.
هكذا وصل الباحث إلى استنتاجه الأول، وهو أن هذه الأزمة العميقة والعارمة هي جراء ما أسماه الشراكة في إنتاج الإخفاق وصناعة الأزمة، يعني أن مجموعة من المكونات الأساسية في المجتمع تشاركت في إنتاج الأزمة، بين العسكريين الذين حكموها من 1969 إلى غاية مارس 1977 بشكل مباشر وأداروا الطاقة والملفات الكبرى والمفاوضات الخارجية، وبناء الجهاز الأمني والمخابراتي، ونظموا الحياة الاجتماعية والسياسية. والفاعل الثاني أو الشريك، هو ما سمّاه فاعل النخبة أي التكنوقراط. وهناك في الكتاب إحصائيات عن إعداد التكنوقراط الذين شاركوا في اللجنة الشعبية العامة ومؤتمر الشعب العام ونسبتهم 75% ما بين 1969 إلى 1977، و54% ما بين 1977 إلى 1999، وكانوا مجرد أدوات تنفيذ تصب في إعادة إنتاج النظام السياسي. كما كانوا منزوعي الأظافر رغم نسبهم التي بلغت 57%في الحكومات المتعاقبة.
والفاعل الثالث هو الفاعل القَبَلي، فأغلب شيوخ القبائل من الوسط الليبي، أي من بن غردان إلى غاية الحدود الليبية التشادية النيجيرية السودانية المشتركة، شاركوا في إعادة إنتاج النظام غير منبّهين إلى أخطائه. أما الفاعل الرابع فهو الفاعل المتشتت، وأغلب هذه المجموعات حملت السلاح وتحالفت مع قوى خارجية عديدة وشاركت في العنف.
والمفارقة العجيبة التي أشار إليها الباحث تكمن في عدم القدرة في عهد النظام السابق، الموجود على مدى 42 سنة، على توزيع استمارة. فقد كان الأمر غير ممكن وغير مسموح به، كما لم يكن أيضا متاحاً الحصول من الميدان على أية إحصائية جاهزة من الميدان؛ إذ أنّ اللجان الثورية تراقب تُحاكم وتُسجن. والغريب أنه بعد 2011 وجدت مجموعات متشددة تمنع الدراسة الميدانية. فقد زار المؤلف غرب ليبيا في سنة 2012 لحماية قبَيلة معروفة تقع في إقليم الزنتان إلاّ أنه لم يتمكن من ممارسة البحث.
أهم النتائج التي توصل إليها الأستاذ المنصف وناس بعد عقدين ونيف من الدراسة
- حينما ندرس هذا المجتمع علينا أن نتجنب -فكريا وعلميا ومنهجيا-اعتماد الأدلجة والذاتية. ويعرفها علم اجتماع الأزمات على أنها - أولا وقبل كل شيء - شراكة بين عدد من الفاعلين، كل منهم يؤدى وظيفته، وكل يسهم في إنتاج مَفْصل من مفاصل الأزمة العميقة والعارمة.
- بعد 16 فبراير 2011، حينما كان يقتل الليبي ليبيًّا آخر لكونه مدير مدرسة ابتدائية أو لأن لقبه القذافي، فهذه مشكلة وإعلان رسمي لموت قيّم الجيرة والتعايش وقبول الآخر، إعلان موت الوطن والمجتمع، وإعلان عن الغياب التام للعقل.
- تنجُمُ الأزمات العميقة بفعل التواطؤ أو ما يسميه الباحث الشراكة؛ إذ لا توجد أزمة بسبب شخص واحد، بل إنّها نتجت خلال حصيلة زمنيّة مقدرة بــ 42 سنة وبالشراكة التي رآها الباحث بالعين المجردة على جميع المستويات.
- أنتجت شراكة الأزمة والإخفاق ما يسمى "المجتمع المعطل"
(the stranded society). فحاول الباحث بناء هذه النظرية على امتداد 66 سنة، ليس فقط بعد 1969 بل منذ 1951؛ إذ لم يتم تفكيك البُنى العروشية والعشائرية القبلية ولم تُدمج. ولم تقم الدولة بدورها الصاهر أو الدامج، في حين أن فلسفة الدولة الحديثة تقوم على الدمج وعلى ما يُسمى (l’État intégrateur). وبقيت القبيلة قوية ومصدر الموارد والوساطة مع النظام القائم. - لم يحصل -على امتداد 42 سنة- اقتناع بضرورة بناء الدولة. والغريب أن الفكر الاجتماعي في أوروبا منذ قرون قرّر بأن الدولة ضرورة اجتماعية؛ فقد أكّد هيجل أن أساس المجتمعات هي الدولة التي تحمي من الفوضى وسطوة العسكر. واستنتج المؤلف أنه لم توجد دولة قوية في ليبيا منذ 1951؛ إذ أن النظام الملكي منذ 17 سنة كان واهنا وضعيف التمثيل في مجتمع صحراوي. أما النظام الثاني ممثلا في العسكر، فلم يترسخ رغم 42 سنة من ممارسة السلطة.
بلعيد بن جبار