إنسانيات عدد 90، أكتوبر – ديسمبر 2020، ص. 9-13
يعالج هذا العدد من مجلة إنسانيات إشكالية تتّسم بالتعقيد ولا تزال موضوع الساعة لارتباطها بمسألة مشاركة المواطنين في حياة المدينة. يختفي وراء لفظي "المواطنة" و"المشاركة"، اللذان يندرجان بشكل أساسي ضمن المفردات المتداولة ذات الدلالات السياسية، بعدان مختلفان لكنهما متكاملان خصوصا إذا نظرنا إلى الأشياء من زاوية قريبة. فمن جهة، نسجل خلال السنتين الماضيتين انتشارا واسعا للنقاشات حول مفهومي المواطنة والديمقراطية في السياق الجزائري (الحَراك)، ومن جهة أخرى، يُظهر الواقع عدّة حقائق متناقضة حول مشاركة المواطنين في ممارسات محلية عفوية تسعى أساسا إلى تحسين ظروف معيشهم في أماكن إقامتهم وأحيائهم السكنية، و تقدّم هذه الممارسات ضمنيا أجوبة عن الأسئلة الأساسية المتعلّقة بإشكالية المشاركة.
إذا اعتبرنا أنّ فكرة مشاركة الناس العاديين والمواطنين -المتساوين في الحقوق والواجبات- في شؤون المدينة تمثّل نموذجا مثاليا وأصل النموذج الحديث للديمقراطية، فعودة ظهورها ضمن مطالب الحركات الاجتماعية الحالية يُعبّر عمّا يسميه بارجيي (Berger) ودي مونك (De Munck) "بخيبة الأمل من السياسة التي لم تكن في مستوى التطلّعات "(2015)، إذ يؤكّد الباحثان على أنّ ممارسات المشاركة -التي تطوّرت على المستوى المحلي- تمثّل حلاً قد يُستدعى "لإنقاذ الديمقراطيات التي تواجه الأزمة"، أو اعتبارها على الأقل حلاً للعجز في الأداء الديمقراطي الذي تعاني منه العديد من المجتمعات المعاصرة. تترجم المشاركة نوعًا من الدعوة المنبثقة "من الأسفل" من أجل استحداث رابط جديد بين السلطة السياسية والجماعات المحلية، كما تعبّر بشكل موضوعي عن مطلب الاندماج السياسي الذي ينتج المعنى ويقدّم بديلاً للأداء الديمقراطي المحلّي ويرضي إلى حد مطالب المواطنين.
توضّح حصيلة الأعمال البحثية التي أنتجتها الجامعات الجزائرية و غيرها عمق التعطّش للمشاركة المواطنية ودمقرطة الحياة العامة في المجتمع الجزائري، بما يعكس الأهمية البالغة التي أولتها الجماعة العلمية للبحث في التجارب المرتبطة بالتهيئة التشاركية التي تطوّرت داخل مدن الجزائر وقراها. تكشف الأوراق البحثية المقترحة في هذا العدد الموضوعاتي أنّ التجارب التشاركية التي تمّ توثيقها في السنوات الأخيرة في العديد من الدراسات الجامعية بالجزائر[1] وخارجها لم تكن مجرّد ظواهر ثانوية ونادرة تثير الفضول، بل مثّلت فقط الجزء المرئيّ لجبل جليدي ضخم يخفي أسفله "كمّا هائلا من المبادرات المحليّة والمشاريع التنموية التشاركية الصغيرة التي مسّت الساحات والفضاءات المهجورة والشوارع والمباني، وغيرها من الأماكن المهملة، أو التي تخلّت عن تهيئتها مخطّطات التنمية والسلطات المحلية". وفي هذا السّياق، بيّنت الأوراق بطريقة ملفتة للنظر نضال الجمعيات المحلية لاستعادة الأوعية العقارية المتنازع عليها والأماكن التي تمّ التخلي عنها أحيانًا أو خصخصتها من قبل فاعلين اجتماعيين آخرين، كما وصفت المسارات المثيرة لتعبئة الروابط الجماعاتية /القروية وأشكال تنظيمها خصوصا عندما قاومت هذه الأخيرة سيرورة المدّ الحضري الفرداني المتسارع. أخيرًا، تظهر المقالات أنّ المقاربات التشاركية الفاضلة، بالمعنى المجتمعي للمصطلح، قد تحدث نتائج ناجحة في السياق الجزائري، طالما أنّ الجهات الفاعلة الممثّلة في السلطات السياسية والإدارية المحلية مشاركة في هذه المبادرات وتقدّم مساهماتها الفعّالة في ذلك وتضع مواردها في خدمة المواطن العادي.
تقدّم الورقة الأولى لـــــــمدني صفار زيتون تحليلا نقديا لطرق تنفيذ المقاربات التشاركية وأقلمتها وفق مبدأ "من الأسفل إلى الفوق" “bottom up”[2] خلال الفترة الممتدّة من ثمانينات القرن الماضي إلى يومنا هذا، إذ يبيّن من خلال ذلك المسارات الصعبة لتطبيقات المقاربة التشاركية بسبب "الذهنيات" والممارسات المركزية للإدارة الجزائرية، كما يوضّح الباحث تأثر التراكم الذي شهدته الممارسات التشاركية خلال سنوات التسعينات بارتفاع عائدات المحروقات بعد سنوات 2000 والتي قضت على المبادرات التشاركية المؤسساتية القليلة التي أمكن بناؤها ووضعها قيد التنفيذ من طرف فاعلين عموميين في مشاريع البناء والتهيئة العمرانية.
وفي السياق التحليلي ذاته، تقدّم حناء رواجعية في مقالها الموسوم " الالتزام من أجل البيئة بين انتظار إعادة التوزيع والبحث عن الاعتراف " إضاءة حول "دوافع الالتزام التشاركي" لسكان الجزائر العاصمة ومرسيليا المنخرطين في حركات حماية البيئة والدفاع عنها ، إذ توضّح أنّ قيم المواطنة والمشاركة التي تتضمنها الإيديولوجية ذات النزعة البيئية ليست حاضرة في تمثلات كلّ الفئات الاجتماعية لسكّان العاصمة، فعلى الرغم من كونها لا تتّسم بطابع " الثبات و السّكون" إلا أنّه يمكنها أن تكون "قيما سائدة متملّكة من قبل "الأسفل"، ومؤشرات على مدى حضور المجتمع وتحرّره". كما تثري الباحثة النقاش والتساؤل حول صعوبات التزام الفئات الشعبية بالمقاربات التشاركية.
تفتح استنتاجات المقال السابق المجال أمام مضامين الورقتين المقترحتين من طرف كلّ من فتيحة طماني جبري ومريم شعبو عثماني ورجاء بن سويح حول التجربة التشاركية "الناجحة" للحدائق المتقاسمة في حي سكني بالجزائر العاصمة، ودنيا شرفاوي حول المقاربة التشاركية في إنجاز ساحة عمومية بالمدينة نفسها. ففي هذه الدراسات التي تحيل إلى حالات بعينها نقف عند تقييم هذه المقاربات التشاركية ودرجة تبيئتها في السياق الجزائري، ومن خلال توصيف تلك الجوانب التنظيمية، والتقنية والعملياتية التي تم تنفيذها من قبل مجموع الفاعلين المؤسساتيين والسكان المحليين. سنكتشف مدى استدعاء القيم البيئية واستخدامها أداتيا. أظهرت هاتان المساهمتان الدور الذي يؤدّيه الفاعلون الرسميون في إمكانية "تمرير" المشاريع وإضفاء طابع الشرعية عليها لدى السلطات الوصيّة. كما وضّحتا أنّ هذه المشاريع منشآت فريدة تتميز بهشاشة عقارية لأنّها مرتبطة بظرفية العلاقات السياسية والإرادة الفردية المحلية التي أوجدتها، ومع كل ذلك يمكن أن نرى ما يستحقّ التأكيد لاحقا القدرة المعتبرة للسكّان على المشاركة محليا في المشاريع الجماعيّة.
ويعالج حاتم كحلون في مساهمته الموسومة "المجتمع المدني التونسي ومحكّ المشاركة في مشاريع التنمية الحضرية: التعبئة والضغط والتوافق" مدى قدرة المجتمع التونسي على تلقي وتقبّل المساهمة في المشاريع ذات الطابع التشاركي سواء كانت تحت رعاية السلطات المحلية أو مموّلة من طرف هيئات دولية مهتمة بهذه المشاريع. ويصف الباحث حالة غليان المجتمع المدني الذي شهد "تحوّلات بيّنة في هيكلته وأساليب اشتغاله" غداة ثورة 2011، ومحاولاته التدريجية إضفاء القيم الجديدة للمواطنة والديمقراطية التشاركية على أرض الواقع.
يتضمّن هذا العدد مقابلة أجرتها حياة نموشي مع روبرت ايرن ( الجغرافي والأستاذ بجامعةCaen Normandie )، تتناول دور الجغرافيا الاجتماعية في تحليل "حوكمة أقاليم الأزمة" أو "أزمة حوكمة الأقاليم". يؤكّد الباحث روبرت ايرن ما تمّ التطرق إليه في مختلف الأوراق الواردة في هذا العدد، ويركّز على دور الرؤية المجالية للأشياء التي تمكّن من فهم الحقائق المعقّدة وترسيخها إقليميا، خصوصا عندما لا يتمّ النظر إلى المقاربات التشاركية على أنّها كيانات مجرّدة ومثالية، بل هي مقاربة يمكنها أن تنتشر في سياقات إقليمية محدّدة وتتطلّب تعبئة موارد لحوكمة خاصة.
في الختام، يمكننا القول أنّ المقالات المقترحة في هذا العدد الموضوعاتي ما هي إلّا مساهمة علمية ضمن حقل واسع وغني يُسائل العديد من الممارسات الاجتماعية الموجودة في مختلف المجتمعات المدنية عبر العالم وفي الجزائر خصوصا. يجدر التذكير أنّ هذه الأوراق يمكن إدراجها ضمن خانة التراكم المعرفي للأبحاث التي تمّ إنجازها في مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية حول إشكالات المواطنة وتطوّر الرابط الاجتماعي في مدننا[3]، ونعتقد أنّها ستساهم في مواصلة النقاش العلمي الراهن حول الحركات الاجتماعية التي تؤثّر وبعمق في المجتمعات المغاربية. نأمل أن تساعد أيضا في اكتساب المعرفة بهذه الحركات الاجتماعية وإصلاح الممارسات السياسية والحوكمة بشكل عام.
مدني صفار زيتون
ترجمة سارة بن عبد القادر
الهوامش
[1] يمكن العودة لأعمال بحثية أخرى منها:
Cf. entre autres les travaux de Abbadie, M. (2001). La politique nationale de l'habitat : la requalification participative dans les grands ensembles, cas de la cité Soummam-Bab Ezzouar. [Mémoire de magister en aménagement urbain, Université des sciences de la technologie Houari Boumediene (Alger)]
Anouche, K. (dir), (2005). Requalification urbaine participative à Alger, Rapport final Projet Pilote de la Cité Soummam. [Mémoire de DESS, URB-6031, Université de Montréal]
Benmohamed, T., Maïza, Y. (2010). Une expérience participative à la cité de la SELIS (Béchar). Dans A, Bendjelid. (dir.), Villes d’Algérie. Formation, vie urbaine et aménagement. Editions du CRASC : Oran, p. 197-214.
Hissar, H. (2006). Le renouvellement de l’action publique algérienne à l’épreuve du réel : le cas du projet de « requalification » de la cité Diar el Kef, Alger. » [Mémoire de Master, IEP, Université d’Aix-Marseille III].
Safar Zitoun, M. (2009). L’ingénierie participative dans les programmes publics de logement social. Contenu et limites de l’expérience algérienne. Dans Habitat social au Maghreb et au Sénégal.
[2]يقصد بالمنهجيات "من القاعدة إلى الاعلى “Bottom-up” في اللغة الدولية مجموع المبادرات والمشاريع التي تنطلق من "القاعدة" أي السكان لتصل إلى "الأعلى" أي السلطات والهيئات الصانعة للقرار.
[3] أُنظر:
Derras, O. (2002). Le mouvement associatif au Maghreb. Les cahiers du Crasc, 05, p. 213 ; Remaoun, H., Hennia, A. (dir.), (2013). Les espaces publics au Maghreb. Au carrefour du politique, du religieux, de la société civile, des médias et des NTIC. Les ouvrages du CRASC, p. 605 ; Remaoun, H. (dir.), (2012). L’Algérie aujourd’hui : Approches sur l’exercice de la citoyenneté. Les ouvrages du CRASC ; Derras O. (dir), (2004). Les acteurs du développement local durable en Algérie : comparaison Méditerranéenne. Les ouvrages du CRASC, p. 251 ; Bendjelid, A. (dir.), (2010). Villes d’Algérie. Formation, vie urbaine et aménagement. Editions du CRASC : Oran, etc…