Sélectionnez votre langue

علي الكنز، عالم الاجتماع بين المحلية والعالمية بقلم عنصر العياشي


إنسانيات عدد 93، جويلية – سبتمبر 2021 ، ص. 07-11


 


من مدينة سكيكدة حيث رأى النور عام 1947، إلى مدينة نانت أين انطفأت شمعته في الفاتح نوفمبر 2020، تنقّل الأستاذ علي الكنز في جغرافية الأفكار والبلدان، والمهام المتنوعة التي منحت مسيرته معانٍ عديدة ومتنوعة تميّزت بتقاطع اهتماماته البحثية والتعليمية التي اضطلع بها مبكرا في حياته المهنية. تخرّج الكنز من مدرسة المعلمين بمدينة قسنطينة العريقة، قبل أن يكمل تعليمه الفلسفي بمدرسة المعملين العليا بالجزائر العاصمة. فدرس الفلسفة على يد أساتذة مرموقين كان لهم بالغ الأثر في توجّهه الفكري واهتماماته البحثية في مقدمتهم الفيلسوف والمناضل اللبناني مهدي عامل، والفيلسوف الفرنسي إتيان باليبار Étienne Balibar تلميذ ورفيق الفيلسوف الفرنسي الشهير لويس ألتوسير Louis Althusser، وجورج لابيكاGeorge Labica  وهنري لوفافر Henri Lefebvre. نال شهادة الدراسات العليا DES في الفلسفة سنة 1968، كما درس علم الاجتماع كونه متطلبا أساسيا لنيل تلك الشهادة. لكنه كان شغوفا أكثر بفكر ابن خلدون، والمناضل فرانز فانون، وأطروحات المفكر سمير أمين الذي ترأس مجلس تطوير العلوم الاجتماعية والبحث في إفريقيا CODESRIA (داكار عاصمة السينغال)، والذي عمل إلى جانبه بعد التحاقه بهذا المركز سنوات بعد ذلك.

استهلّ الكنز حياته المهنية الحافلة بتولّي عدد من الوظائف التعليمية والإدارية قبل أن يعمل مُعيدا في قسم الفلسفة بجامعة الجزائر (1969– 1972)، ثم مدرّسا متعاقدا بقسم علم الاجتماع (1974- 1976)، ليُنتدب بعدها أستاذا مساعدا بمعهد العلوم السياسية بجامعة الجزائر (1984- 1987)، ثم يترقى إلى رتبة أستاذ في علم الاجتماع بجامعة الجزائر بعد نيله درجة الدكتوراه بباريس 1983. بقي في ذلك المنصب إلى أن حدثت نقلة نوعية في حياته حيث اضطرته ظروف قاهرة للخروج من الجزائر سنة 1993 للعمل بجامعة تونس كأستاذ في قسم علم الاجتماع (1993- 1995)، لكنه غادرها بعد فترة قصيرة ملتحقا بجامعة نانت الفرنسية سنة 1996، واستقر هناك لغاية تقاعده في 2017. خلال فترة عمله بجامعة نانت بفرنسا، قضى علي الكنز سنة بالولايات المتحدة كأستاذ زائر بجامعة برينستون العريقة Princeton University.

عُرف الكنز بكونه أحد مؤسّسي علم الاجتماع العمل والتنظيم بالجامعة الجزائرية، وكان بينهم جيلالي اليابس، سعيد شيخي، وجمال غريد. كان لي شرف معرفة البعض منهم عن قرب والعمل معهم، حيث التقيت سعيد شيخي مرتين حين كنت بصدد تحضير أطروحة الدكتوراه في بريطانيا، قبل أن تخطفه المنية سنة 1993. كما ربطتني علاقة وطيدة استمرت لسنوات مع كل من علي الكنز أولا، ثم جمال غريد لاحقا لدى انضمامي لمركز البحوث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية بوهران بداية التسعينيات من القرن الماضي بصفتي باحثا مشاركا، ثم رئيسا لقسم أنثروبولوجيا العمل والمؤسسة، وعضوا في المجلس العلمي، وفي الهيئة الاستشارية لمجلة إنسانيات خلال الفترة (1990-2002).

ساهم الروّاد الثلاثة (علي الكنز، سعيد شيخي وجمال غريد)، بالإضافة إلى مجموعة صغيرة من الجيل الثاني الذي أنتمي إليه، بتشكيل حقل سوسيولوجيا العمل والتنظيم بالجزائر من خلال أعمال مرجعية كانت بدايتها دراسة قام بها الثلاثي حول مركب الحجار بعنابة تحت عنوان: "الصناعة والمجتمع: حالة مصنع الصلب والفولاذ بعنابة"، (الجزائر 1982). ثم تبعوها بأعمالهم الفردية على شكل رسائل دكتوراه الدولة، أنجزت الأولى من طرف علي الكنز بعنوان "منوغرافيا التجربة الصناعية في الجزائر: مركب الفولاذ بالحجار" جامعة باريس 1983، ونشرت لاحقا بفرنسا تحت عنوان: "التجربة الصناعية في الجزائر: مركب الفولاذ في عنابة"، باريس 1987. تبعه سعيدي شيخي بتحضير رسالة دكتوراه حول "المسألة العمالية والعلاقات الاجتماعية في الجزائر: العامل، الورشة والبيروقراطي" بجامعة باريس 7 سنة 1986. وأخيرا جمال غريد الذي قدم أطروحة الدكتوراه الموسومة: "التصنيع، الطبقة العاملة وعلم الاجتماع؛ نموذج الجزائر" بجامعة باريس 1994. وقد كان لي شرف إنجاز أطروحة الدكتوراه بجامعة ليستر في بريطانيا سنة 1992 تحت عنوان: "سيرورة تشكيل الطبقة العاملة في الجزائر".

ساهم الكنز في إثراء المكتبة وإتحاف القرّاء في الجزائر بإشرافه على إصدار سلسلة كتب "الأنيس" خلال الفترة 1989- 1993، وضمت السلسة كتب لأشهر المفكرين في التراث العربي الإسلامي أمثال (الجاحظ، الفارابي، ابن خلدون، ابن المقفع ...) وفي الفكر العربي الحديث أمثال ( رفاعة الطهطاوي، محمد عبده، الكواكبي، شكيب أرسلان، علي عبد الرازق ...). إلى جانب أعمال نخبة من كبار الفلاسفة والمفكّرين الأوروبيين قديما وحديثا أمثال (ميكيافيلي، سبينوزا، روسو، فرويد، همنغواي...).

فضلا عن ذلك، أشرف الكنز على إصدار سلسلة ثانية عُرفت باسم سلسة "الصاد" التي نشر فيها مجموعة من الكتب باللغتين العربية والفرنسية تعالج القضايا المعاصرة. من أشهر ما نشر فيها كتاب برهان غليون "اغتيال العقل"، وكتاب محمد حافظ دياب "سيد قطب. الخطاب والأيديولوجية"، وكتاب المؤرخ محمد حربي "الثورة الجزائرية. سنوات المخاض"، وكتابه رفقة محفوظ بنون" الصدفة والتاريخ؛ حوارات مع بلعيد عبد السلام" ...إلخ.

كما نشر الكنز عديد الدراسات والبحوث التي أنجزها بمفرده أو رفقة بعض زملائه بدءً بعمله "اقتصاد الجزائر" 1980 باسم مستعار (الطاهر بن حورية)؛ "كبار المفكرين" 1985؛ "الجزائر والحداثة" 1989؛ الصدفة والتاريخ (مع محفوظ بنون) 1990؛ على مدار الأزمة 1991؛ أوروبا والعالم العربي سنة 2003. يضاف إلى ذلك إشرافه على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه بجامعات الجزائر، وتونس، ونانت بفرنسا، وعديد التقارير العلمية والخبراتية حول موضوعات تتوزع بين سوسيولوجيا العمل والعمال؛ التكوين والتشغيل؛ النخب والتنمية والدولة؛ العلاقات المهنية والسلطة؛ الهجرة والاندماج؛ العلم وتكوين الجماعة العلمية، العلم والتكنولوجيا في البلاد العربية وغيرها من الأعمال.

كان علي الكنز أيضا عضوا في عديد المجالس العلمية في المؤسسات البحثية المرموقة مثل مجلس تطوير البحوث في العلوم الاجتماعية بإفريقيا CODESRIA، والمجلس العربي للعلوم الاجتماعية Conseil Arabe des Sciences Sociales وعضو مؤسس للجمعية العربية لعلم الاجتماع، ومعهد أوروبا -المغرب العربي Institut Maghreb Europe والمرصد الدولي للبدائل Forum International des Alternatives. بالإضافة إلى مبادرات أخرى متميزة أهمها اشتراكه مع صديقه أستاذ قانون العمل بجامعة نانت آلان سوبيوAlain Supiot ، في إنشاء معهد الدراسات المتقدمة Institute of Advanced Studies الذي يعمل بنظام الإقامة البحثية، ويستقبل سنويا باحثين من مختلف الجامعات ومراكز البحث حول العالم لإنجاز مشاريعهم البحثية في هذه المؤسسة العلمية. وقد فضلا تسميته معهد شمال جنوب Institute North South لاعتماده مقاربة نقدية تهدف إلى إعادة التفكير في النظريات والمقاربات والمفاهيم والمقولات التي تأسست على نظرة أيديولوجية أورو مركزية، ولأجل صياغة مقاربات ومفاهيم جديدة تتلاءم وخصوصية بلدان الجنوب. تولّى الكنز مهمة المستشار العلمي لهذا المعهد، وهو ما أهّله للربط بين شبكات العلماء والباحثين العرب والأفارقة، والجنوب أمريكيين والآسيويين في حوار فكري وفلسفي مع نظرائهم الأوروبيين والأمريكيين داخل هذا المعهد. وأثمر هذا الجهد نشر عشرات الأعمال العلمية المتميزة التي تعالج الإشكاليات والمقاربات التي وظفتها الجماعات العلمية في حوارها الدائم حول الوضع الراهن والمأمول، وبين الشمال والجنوب.

عُرف الأستاذ الكنز بكونه مفكرا موسوعيا غرف من مختلف أنواع الفكر من الفلسفة إلى علم الاجتماع، مرورا بالتاريخ والاقتصاد والفنون الجميلة مثل المسرح والموسيقى. كما عُرف بتفكيره النقدي، وتمسكه بحريته وابتعاده، بل رفضه القاطع والمستمر لمحاولات تدجينه أو احتوائه. فلم يقبل الانتماء لأي تنظيم أو هيئة عدا التنظيمات والهيئات العلمية والأكاديمية (عدا انتمائه لحزب الثورة الاشتراكية
في مرحلة الدراسة وسنوات العمل الأولى بالعاصمة). بقي محافظا على حريته الفكرية، ونقاء أفكاره من شوائب الانتماءات الحزبية والسياسية والأيديولوجية الضيّقة، مفضّلا أن يكون مناصرا للفكر النقدي، ومدافعا عن المثل العليا الإنسانية؛ مثل الحرية والكرامة والحق في العيش الكريم، ومناصرا قوياّ وفياّ لجميع الفئات الضعيفة، الهشّة والمستبعدة أينما كانت.

يمثّل علي الكنز أحد أعمدة الفكر النقدي الملتزم بقضايا مجتمعه وبيئته على المستويات المحلية، الإقليمية والعالمية. لقد بدا ذلك واضحا ليس في مساره الفكري والمهني كما يشهد إنتاجه العلمي الغزير فحسب، بل في مساره الإنساني كذلك. بدأت عالمية الكنز في شبابه وهو لم يغادر الجزائر بعد من خلال نهله من الثقافة العالمية، واطلاعه الواسع على الفلسفة بكل تياراتها، وممثليها من مصادرها الكلاسيكية في العالمين الإسلامي والغربي، إلى الفلسفة الحديثة مرورا بعصر الأنوار في أوروبا، وصولا إلى فلسفات الحداثة وما بعد الحداثة. كما تجسدت هذه العالمية في مساره المهني من المدرسة العليا للأساتذة في قسنطينة إلى جامعة الجزائر، فجامعة الأزهر بالقاهرة أين تابع دروس اللغة العربية، إلى تونس حيث تولى التدريس في جامعتها العريقة (1993- 1995)، إلى مجلس تنمية العلوم الاجتماعية CODESRIA بالسينغال، فجامعة نانت الفرنسية حيث عمل أكثر من عقدين من الزمن (1995- 2017)، إلى جامعة برينستون الشهيرة بالولايات المتحدة الأمريكية حيث عمل أستاذا زائرا لمدة سنة (1999- 2000).

ارتبط علي الكنز في جميع هذه المحطات بصداقات علمية، وكان عضواً نشطاً في الجماعة العلمية أينما حلّ، كما ساهم في تكوين أجيال من الطلبة والباحثين وعلماء الاجتماع من كل الأقطار والأعراق، وساهم في تطوير البحث العلمي وإثراء الإنتاج الأكاديمي والنقاش الفكري بعضويته النشطة في أهم الجمعيات العلمية والمراكز البحثية. تجسدت عالمية علي الكنز بشكل واضح في أعماله وأبحاثه التي اتسمت بمقاربة عالمية من خلال التصورات، المفاهيم والمقولات التي أطرت فكره وإنتاجه العلمي، وتأتي في مقدمتها فكرة النظام العالمي، بمستوييه المركز والهامش أو المحيط، والنظام الرأسمالي بعوالمه في الشمال والجنوب. لكن رغم هذا الترحال والمسار الغني والمتنوع الذي أنتج أبحاثا ودراسات وصداقات علمية مع زملائه حول العالم، بقي اهتمام الكنز مركزا حول الجزائر أولا، والعالم العربي ثانيا، ثم إفريقيا وبلدان الجنوب ثالثا. هكذا كان الكنز منذ البداية عالميا في محليته، وبقي محليا في عالميته.

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche