إنسانيات عدد 93، جويلية – سبتمبر2021 ، ص. 55-60
تناولت مجلّة أسطور[1]، في العدد 14 الصادر في جويلية 2021، ست مقالات شملت المسائل التاريخية والسياسية والمنهجية، انطلاقا من مسألة التجديد لدى مدرسة الحوليات الفرنسية بين الانفتاح والتفتت، مرورا بمختلف الدراسات التاريخية التي اهتمت بالمغرب والمشرق العربيين خاصة في القرن 19 ميلادي.
في المقال الموسوم "الطريق إلى التجديد، مدرسة الحوليات الفرنسية من الانفتاح إلى التفتت"، عالج ناصر الدين سعيدوني مسألة التجديد الذي جاءت به مدرسة الحوليات الفرنسية في مجال التاريخ وأدوات الكتابة من خلال الانفتاح على العلوم الاجتماعية منذ روادها الأوائل مارك بلوك ولوسيان فيفر إلى فرنان برودال وإرنست لابروس. وقد اعتبرها المؤلف تجربة تاريخية مميزة ورائدة في البحث التاريخي بفرنسا لمدة قرن من الزمن. وركز على الآباء المؤسسين لهذ المدرسة وما عرفته من تجديد وأزمات ارتبطت بما سمي تفتت التاريخ واستغراقه في الحدود المنهجية.
من جهته، رحال بوبريك في مقاله "تجارة الرق في مغرب القرن 19م"، تناول تجارة العبيد الذين كانوا يُجلبون من ما كان يسمى بالسودان الغربي ليباعوا في المغرب الأقصى في القرن 19م. واعتمدت الدراسة على مجموعة من الإحصائيات، حيث درس المؤلف ظاهرة تجارة العبيد آنذاك والأسئلة المنهجية التي تطرحها مثل هذه المواضيع. إذ يشير إلى طرق البيع في الأسواق وكيفية تنظيمها بالمدن المغربية الداخلية، حيث كان هناك ما يمكن تسميته نظام مؤسساتي يتكفل بالظاهرة وكيف كان المغاربة في تلك الفترة ينظرون إلى هذه الفئة من العبيد التي تباع في الأسواق. هذه الدراسة لم تعط الأهمية لما يسمى بالعبودية بقدر ما ركزت على "تجارة العبيد" باعتبار أنها محرمة في الكثير من المجتمعات رغم أنها كانت تقر بالعبودية. كما شملت الدراسة مواقف بعض "علماء المغرب" المناهضة لتجارة العبيد ورغم ذلك فإن هذه التجارة أو ما يعرف بسوق النخاسة ظل موجودا في المنطقة إلى غاية النصف الأول من القرن العشرين.
أما موسى سرور، من فلسطين في دراسته المعنونة "إشكالية الديني والسياسي في العلاقة بين الدولة السلطانية والأوقاف المسيحية في القدس العثمانية"، فتعرض إلى ما سماه الدولة السلطانية العثمانية، التي رغم تمسكها بالقانون الشرعي "الإسلامي" إلا أنها تبنت في الفترة (1839-1878) سياسة عدائية اتجاه الأوقاف الإسلامية، في حين حافظت على نظام الأوقاف المسيحية.
يحاول المؤلّف أن يفسر السّر الذي جعل نوعا من الازدواجية تتجلى لدى السلطة العثمانية آنذاك، حيث لم تمس الأوقاف الخيرية المسيحية بالقدس، فرأت أن الوقف الإسلامي يحرمها من مصادر دخل مهمة. أما حفاظها على الوقف المسيحي، فيرجع إلى سبب شرعي ديني وسبب سياسي يعود إلى سعي الدولة العثمانية آنذاك إلى إرضاء الدول الغربية التي كانت راعية للطوائف المسيحية.
تحت عنوان "أغفلتهم المصادر وأنصفتهم المحاضر-القوى المرجحة في الكويت خلال حراك مجلس 1938"، تطرّق عبد الرحمن الابراهيم إلى دراسة تهدف إلى إعادة قراءة أحداث مجلس النواب الكويتي 1938 بطريقة تحليلية تتجاوز ما كان يطرح في الخليج على أنه صراع فقط بين الشيوخ الحكام من آل الصبّاح وفئة التجار. تناقش هذه الدراسة ما سماه المؤلف القوى المرجحّة ويقصد بها فئة الشيعة العجم والبدو القرويين، والشباب والمثقفين، وهي القوى المعارضة التي أثرت بشكل أو بآخر على سير الشؤون السياسية في الكويت وخاصة مجلس النواب. وللتذكير فإن أحداث 1938 وقع فيها دستور مكتوب سمح بسحب سلطات الحاكم منهم في زمن المشيخة والإمارة وأعطيت لنواب المجلس التشريعي.
يتساءل عبدالمجيد آيت القايد في مقاله المسمى "المخزن والبايلك: ملاحظات حول مظاهر سلطة وآليات الحكم في البلاد المغاربية، تونس والمغرب نموذجين"، حول آليات الحكم في كل من المغرب الأقصى وتونس في مرحلة ما قبل الاستعمار وكيفية تمثل مفاهيم السلطة في الخطاب المحلي الداخلي وفي الخطاب الكولونيالي. عمل المؤلف هنا على الكشف عن مظاهر التقاطع والتماثل في تاريخ البلدين، حيث تبين مدى التشابه الموجود بين التجربتين المغربية والتونسية على مستوى الثقافة السياسية وأدواتها وكذلك على مستوى التقاطعات الموجودة بين دوائر الحكم ومكونات المجتمع. ومع ذلك، يرى المؤلف أنه توجد مؤثرات خارجية مختلفة أسهمت في تحديد مسارات التطور التاريخي للبلدين. وهنا نسجل مدى التركيز على ما سماه الكاتب آليات السلطة الرمزية في البلدين والمتمثلة في البيعة بالنسبة للملك أو الباي، إلى جانب سلطة الإكرام والإنعام أو الإحسان "سلطة الكرم".
انطلاقا من مراجعة وإعادة قراءة بعض المصادر التي اشتغلت حول بناء ذاكرة الدولة في كل من المغرب وتونس، يقوم القرسي في مقاله "ذاكرة الدولة ومجالها بين الذاكرة والتاريخ، تونس والمغرب ما قبل الاستعمار" ببناء نقاش معرفي بين التاريخ والذاكرة. كما يعمل على استخراج مدى التداخل بينهما، اعتمادا على تحليل الخطابات المهتمة بإشكالية بناء الدولة في السياق وظروف النشأة. ويركز المؤلف على مصدرين أساسيين: "المؤنس في أخبار إفريقية وتونس لابن أبي الدينار[2] بالنسبة لتونس. وبالنسبة للمغرب الاقصى كتاب "العز والصولة في معالم نظم الدولة" لعبد الرحمن بن زيدان[3] وبناء على مقارنة بين الدولتين وعملا بجدلية الذاكرة والتاريخ، يصل الكاتب إلى أهمية عوامل مثل البيعة والتحركات السلطانية وظاهرة الأعيان في ضمان المركزية السياسية الداخلية للدولة في كلتا البلدين.
في محور الترجمات يقدم علي حاكم صالح عرضا لكتاب المؤرخة الأمريكية سوزان باك موريس "هيغل وهايتي والتاريخ العالمي"، والذي ترجم قسمه الأول، حيث يتناول التاريخ بصفته فلسفة سياسية يقوم على العقلانية والعالمية والإنسانية. يبين المترجم أن المؤلفة قامت بتحليل مسألة العبودية في الغرب الأوربي وعلاقتها بالرأسمالية وانتقاد المفاهيم الغربية وبالتالي نقد الموقف السلبي الذي اتخذه هيغل من قضية هايتي، وما عرف فيما بعد بالعنصرية الثقافية. وقد تعهدت المجلّة بتقديم ترجمة القسم الثاني في العدد المقبل.
في المراجعات، قام سعيد بنحمادة بمراجعة كتاب "مغامرة ابن بطوطة: الرحالة المسلم في القرن 14م" للمؤلف روس.إ. دان وترجمة أحمد بوحسن (روس .إ. دان، 2020)، حيث يشير المُراجع إلى مؤلف ابن بطوطة الشهير "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، مبرزا النظرة إلى الآخر والتاريخ المقارن الذي ميز فتر القرن 14 ميلادي. وقد أنتج ابن بطوطة، حسبه، رحلة بالمعنى الأنثروبولوجي ليشكل حكاية مغامر يرسم صورة شاملة للعلماء والتجار ومختلف الأجناس التي عرفتها تلك الحقبة من الحضارة الإسلامية. ويرى صاحب المراجعة بناء على رأي روس إ دان، أن ابن بطوطة يؤرخ لأزمة متعددة الأبعاد ويشمل كل متفرقات المؤلفين المسلمين الآخرين في تلك الفترة.
أما المراجعة الثانية لفهمي رمضاني "مراجعة كتاب" أخبار التونسيين: مراجعات في سرديات الانتماء والأصول (لطفي عيسى، 2019). يعمل المُراجع على مساءلة السردية الجماعية للتونسيين بإرجاعها إلى انتماءاتها المختلفة وإعادة ترتيبها وفقا لقضايا الراهن. كما أن الكتاب يشمل القضايا الإبستمولوجية للمعرفة التاريخية وفلسفتها. إن المؤلف حسب المراجع يعود إلى الثوابت التونسية والاستثمار في المصادر والموازية، ما يجعل على حد تعبيره، الهوية أرض متحركة ومتجددة تتوي التنوع والتعدد والاختلاف.
في محور وثائق ونصوص محمود محارب، يعالج الأرشيفات في إسرائيل والرواية التاريخية الإسرائيلية ونكبة 1948، حيث كشف النقاب عن التقرير الذي يدحض الرواية التاريخية الإسرائيلية. وقد اعتمد على إحصائيات دقيقة ومفصلة حول مسألة تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، مبينا وجود وثائق إسرائيلية تتناقض مع أرشيفهم وروايتهم التاريخية. وتعتمد الدراسة كليا على وثيقة مهمة للمخابرات الإسرائيلية بتاريخ 30 جوان 1948، عنوانها "حركة هجرة عرب "أرض إسرائيل" في الفترة من 01-12-1947 إلى 01-06-1948". وقد تم الكشف عن هذه الوثيقة في 2019 وهي تُحمل الجيش الإسرائيلي ومنظماته مسؤولية تهجير الفلسطينيين.
كما تشتمل المجلّة على محور آخر يسمى ندوة أسطور، اشتمل على ندوة بعنوان: "الكتابة التاريخية في العراق نوفمبر 2020" وهي استمرار للندوة المسماة إشكالية البحث في التاريخ العربي الجارية في أفريل 2016. وقد عملت هذه الندوة على تعميق النقاش بين المتخصصين في البلد الواحد وهو العراق، وتعدد المقاربات التي تهدف إلى تطوير المعرفة التاريخية في العالم العربي. وقد شارك فيها كبار المؤرخين العراقيين مثل حيدر سعيد الذي تناول مسألة المؤرخ والدولة، جميل موسى النجار، الدراسات التاريخية الأكاديمية المعاصرة في العراق، مقاربات نقدية في دراسة التاريخ الحديث، نمير الكعبي، "الموسوعات التاريخية المعاصرة"، وقد تعاقبت في تحولاتها من الشمولية إلى المحلية أو المناطقية. وهي تهتم بالظاهرة التاريخية العراقية من كل الجوانب كما تناولت الندوة اتجاهات التأرخة (الإستوغرافيا) العراقية قبل وبعد 2003 لمحمد النوري، وتحديات الكتابة التاريخية في العراق وآفاقها في مرحلة ما بعد 2003.
ويتخلل المجلّة تقديم لبعض الكتب التي أصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، نذكر منها كتاب "مارك بلوخ، الهزيمة الغربية شهادة نظمت في عام 1940"، ترجمة عومرية سعيد سلطاني، يوسف حسن عمر، "تركيا التاريخ السياسي الحديث والمعاصر (1923-2018)". محمد حمشي، "مدخل إلى نظريات التعقد في العلاقات الدولية". وبول فاين، "كيف نكتب التاريخ"، ترجمة سعيد المولى ويوسف عاصي.
في الأخير، نسجل أن هذه المجلّة التي تعنى بالدراسات التاريخية اهتمت في هذا العدد بالجوانب المنهجية والإبستمولوجية في الدراسات التاريخية، إلى جانب عدة نماذج ركزت على فترات تاريخية وجغرافية عربية.
عبدالوهاب بلغراس
بيبليوغرافيا
روس .إ. دان، (2020). مغامرات ابن بطوطة: الرحالة المسلم في القرن الرابع عشر ميلادي، ترجمة أحمد بوحسن، الدار البيضاء: المغرب، دار توبقال للنشر.
لطفي عيسى، (2019). أخبار التونسيين: مراجعات في سرديات الانتماء والأصول، تونس: دار مسكلياني للنشر والتوزيع.
الهوامش
[1] دورية نصف سنوية تعنى بالدراسات التاريخية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بقطر.
[2] محمد بن أبي القاسم الرعيني القيرواني المعروف ب ابن أبي الدينار (ت 1698م)، المؤِنس في أخبار إفريقية وتونس، المكتبة العتيقة ، تونس، 1869.
[3] أبوزيد عبدالرحمن بن محمد بن عبدالملك بن زيدان بن السلطان اسماعيل العلوي (ولد 1878 بمكناس)، "العز والصولة في معالم نظم الدولة، الرباط، المكتبة الملكية، 1961.
