إنسانيات عدد 95، جانفي–مارس 2022، ص 132-129 .
تنطلق أطروحة هذا الكتاب من خلاصات أبحاث ميدانية أجراها الباحث في الفترة ما بين 2015 و2020 في كليات علوم الشريعة في جامعات تسع (9) بلدان عربية وإسلامية من المغرب والجزائر غربا إلى ماليزيا شرقا مرورا بمصر وسوريا ولبنان والأردن وقطر والكويت. وإذا كانت العلاقة بين التراث والحداثة والعلوم الدينية والعلوم الاجتماعية مسألة مستنفذة بحثا على مستوى القراءات النظرية في مشاريع نقد التراث من فترة الإصلاح إلى مفكري الإسلام الجدد، بتعبير رشيد بنزين، فإنّ الجديد في هذه الدراسة الميدانية أنها تعود إلى مضامين برامج التعليم الديني الجامعي في الكليات الشرعية اليوم ومخرجاته من أطروحات ومقالات ، وترصد التغيّرات التي طرأت عليه واختلافات التجارب التعليمية في الجامعات موضوع الدراسة .
يجمع الكتاب بين دفّتيه خمسة أبواب تتضمّن أربعة عشر فصلا، و يستفتحه صاحبه بنص مقتبس من كتاب" أليس الصبح بقريب" لرئيس مشيخة جامع الزيتونة في أربعينيات القرن الماضي الشيخ الطاهر بن عاشور، والذي يتناول مسألة إصلاح التعليم الديني، ولا يردّ أزمة تعليم علوم الشرع إلى العوامل الخارجية من استعمار وهيمنة غربية بل إلى عوامل داخلية مرتبطة بالممارسات التعليمية في الجامعات والكليات الإسلامية.
يتناول الباب الأول السياق النظري والتاريخي الخاص بالتعليم الديني أو ما سمّاه حنفي بالانتقال من "الجوامع إلى الجامعات"، ويقف عند التجارب التعليمية لجامعات القرويين والزيتونة والأزهر، مع إشارة مقارنةٍ إلى بعض معاهد التكوين الإسلامي في أوروبا، وفرنسا بالخصوص. وفي هذا السياق يصنّف اتجاهات التعليم الديني السائدة اليوم إلى ثلاثة: الاتجاه التقليدي، والاتجاه السلفي، والاتجاه المقاصدي. وينتقل في الباب نفسه إلى مناقشة تحوّلات الحقل الديني وفاعليه ومؤسّساته في العالم العربي وطبيعة علاقته بالدولة، شارحا في ذلك ما سمّاه " بالمسارات العربية للعلمنة الجزئية أو مدنية الدولة". وفي الباب الثاني والثالث، يعرض الباحث نتائج دراسته الميدانية في كليات العلوم الشرعية، فيبدأ بجامعات المشرق والخليج ( سوريا، والأردن، ولبنان، والكويت) مصنّفا نمط التعليم في بلاد الشام ضمن الاتجاه التقليدي، وفي الكويت ضمن الاتجاه السلفي. وينتهي في الباب الموالي بجامعات المغرب والجزائر، حيث يقف في الحالة الجزائرية عند كلية الشريعة بالخروبة (جامعة الجزائر) وجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة، ويختصر تجربتيهما في العنوان التالي:" التعليم الشرعي الجزائري: التعدّدية المنهجية وبروز الانفتاح المقاصدي".
وفي الباب الرابع، يعتبر حنفي أن هناك ثلاثة نماذج رائدة في تعليم علوم الشرع هي: كلية الدراسات الإسلامية بجامعة قطر، ومؤسسة دار الحديث الحسنية بالمغرب، والجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا. وإذا كانت قيمة النموذج الأول والثاني في اعتمادهما الاتجاه المقاصدي، واستعادتهما لما أسماه الباحث "بالجانب الأخلاقي في علوم الشرع"، أي ربط الفقه بمتغيرات الواقع وفق النظرة المقاصدية التي أسّسها الإمام الشاطبي من قبل، فإنّ أهمية النموذج الماليزي في كونه "مختبرا" لتجربة حديثة في العلاقة بين علوم الشرع وعلوم المجتمع هي "أسلمة المعرفة"، والتي تطوّرت في نظر الباحث لتتجاوز البعد الهويّاتي الأيديولوجي الذي عرفته في ثمانينات القرن الماضي، وأصبحت أقرب إلى نموذج مختلف في "تبيئة المعرفة". وفي الباب الخامس ، يقدّم حنفي نتائج ملاحظاته حول التعليم الديني في كليات الشريعة، وأهمها: "التراوح بين التأييد والرفض للتداخل بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، أسلوب الرتابة والتقليد والحشو في المضامين البيداغوجية والعملية التعليمية، التخصّص المفرط، هجر مضامين القرآن، الضعف الأكاديمي لرسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه، ورهانات التأنيث وآثارها".
يعلن الباحث، في الفصل الأخير، عن رأيه في التقريب بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، وأنه يتجاوز خطاب "أسلمة المعرفة" السائد من قبل، ويقترح تبيئة العلوم الحديثة في الدراسات الدينية وفق ما أسماه "بمنهج الفصل والوصل"، والذي يجاور نموذجي المنهج المقاصدي، والمقاربة الأخلاقية للدين. والفصل والوصل منهج لغوي منطقي، في أصوله، اقتبسه الباحث من اللغوي الشهير عبد القاهر الجرجاني، ويعني أن موضَعة أي علم تحتاج إلى "خطوات ثلاث: الخطوة الأولى هي تحديد الموضوع ، فإذا كانت القضية علمية بحتة، تمّ اعتماد المنهج الخاص بها، وإذا كانت القضية علمية-دينية ننتقل إلى الخطوة الثانية أي يتمّ الفصل بينهما بدراسة كل قضية بناء على منهجها الخاص بها، ثم تأتي الخطوة الثالثة لتنشئ علاقة التكامل بين القضيتين". وبذلك يمكن بناء قضايا علمية – دينية استنادا إلى "نظرة موضوعية للذات عن العالم"، وفي الآن نفسه "لا يتجاوز العلم حدود المعايير الأخلاقية المستمدة من الدين"، أو ما يسمى بمقاصد الشريعة.
وإذا كان منهج الفصل والوصل منهج منطقي غير مرتبط بنظرة "جوهرانية هوياتية" ، في نظر الباحث، ويمكن إسقاطه على كل العلوم والثقافات، فالأحرى أن يتمّ اعتماده في تركيب المعرفة بين ماهو ديني أخلاقي وما هو علمي اجتماعي . وفي هذا السياق، يرى حنفي أنه يمكن إنتاج علوم دينية مستندة إلى علوم اجتماعية حديثة ويمكن تحصيل علوم اجتماعية باعتماد أدبيات محليّة بما فيها الأدبيات الدينية، بل وقد يحدث الانسجام بين منتجي العلوم الدينية وبعض المدارس الفكرية والاجتماعية الحديثة التي تناهض نتائج الحداثة المعاصرة مثل "مدرسة فرانكفورت أو علماء البيئة أو التآلفيين convivialistes، أو علماء الاجتماع المناهضين للنزعة النفعية".
وأهم ما في أطروحة التقريب التي يقترحها، ساري حنفي، في هذا الكتاب هو "المقاربة الأخلاقية للدين" ومعناها، بشكل مختصر، "قلب أولويات الدين بتثبيت الأخلاق وتحريك الفقه والتشريع لمناسبة الأخلاق"، ليصبح التقريب بين علوم الشرع وعلوم المجتمع مبنيا على "براديغم الدين بوصفه أخلاقا لا الدين بوصفه فقها وتشريعا". وبدلا من تعميم شعار " الشريعة مصدر كل القوانين"، كما هو سائد في برامج التعليم الديني اليوم، يمكن التوافق على أن المجتمعات تحكمها نظم، منها ماهو تقاليد وأعراف وأحوال شخصية وتشريعات دينية، ومنها ماهو قوانين وقيم سياسية حديثة.
يبدو أنّ هدف الكتاب يتأرجح بين البعد السوسوسياسي والبعد المعرفي، إذ يصرّح الباحث من البداية أنّ الهدف هو "التغلّب على الانقسامات الإيديولوجية"، فانطلاقا من تجربة معرفية وشخصية أحيانا، يرى حنفي أن علاقة القطيعة الحاصلة بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية مردّها سببان: سبب سياسي هو انقسام النخب وتكريسها لخطابات صدامية أثّرت على مضامين خطاباتها بما فيها الخطابات "العلمية"، وسبب معرفي تاريخي هو طبيعية الممارسة في إنتاج وتعليم المعرفة الدينية في فترات ماضية وفي العصر الحديث خصوصا.
ومادامت العلوم الدينية والعلوم الاجتماعية منتجات لحقل ديني وسياسي مأزوم، فلا مناص، إذا ما أردنا التقريب بينها، من "تسوية تاريخية" بين نخب هذا الحقل. وتمّت الإشارة في خاتمة الكتاب إلى مثال النقاش العام في تونس سنة 2018 حول المساواة بين الجنسين في الميراث، وكيف تحاور الفاعلون الاجتماعيون حول الموضوع باستخدام النصوص الحديثة والنصوص الدينية بشكل عملي "غير استبدادي" للوصول إلى فهم جديد يقرب بين النخب داخل حقل سياسي- ديني متعدّد . ولذلك كانت مهمّة الباحث، من خلال هذا العمل، هي "إعادة تفعيل الأصالة " في كونها تتجاوز التكرار و تتجه نحو "تخليق الأصل"، وإعادة قراءة الحداثة في كونها "حداثات"، والاعتراف بـ "علمانية جزئية" كواقع سوسيولوجي لا مفرّ منه ناتج عن تحوّلات تعرفها المجتمعات العربية والإسلامية . وعليه يظهر جليّا في أبواب الكتاب ذلك الذهاب والإياب بين سوسيولوجيا النخب وسوسيولوجيا المعرفة.
جيلالي المستاري