إنسانيات عدد 97، جويلية – سبتمبر 2022، ص. 13-36
هدى جباس: Université Abdelhamid Mehri Constantine 2, Faculté des sciences humaine
et sociales, Département de Sociologie, 25 000, Constantine, Algérie.
يبحث مقالنا هذا في طوبونيميا قسنطينة، حيث يرصد دلالات أسماء المدينة فضلا عن أماكن أخرى ترتبط بتسميتها كالجسور والكهوف، وذلك بغية فهم أعمق لعناصر ثقافتها من خلال مقاربة إثنوغرافية؛ على اعتبار أنّ هذه الأخيرة قد "ظهرت بالعلوم الإنسانية بوصفها سيرورة دقيقة قادرة على توفير عناصر لفهم المجتمعات والثقافات والأنشطة البشرية") .(Cléret, 2013, p. 51وقد رأينا أنّها الأنجع التّي ستضمن لنا دراسة فعل تسمية المواقع بالبلدان والمدن. وبما أنّ الطوبونيميا التِّي "احتلت مكانة جدَّ هامة في تاريخ علم الأنوماستيك (l’onomastique)، تُعتبر دراسةً لأسماء الأعلام الخاصة بالأماكن؛ حيث إنها تهتم بالبيئة الجغرافية التي يرتبط بها تاريخ الإنسان بشكل عامّ" (Kouyaté, 2009, p. 101) فلقد قدّرنا أنّها ستكشف لنا عن خصائص تلك البيئة من خلال استنطاق أسماء أماكنها والبحث في دلالاتها الإيتيمولوجية وأصولها الأثنية.
فيما يخصُّ وسائل وتقنيات البحث والتحرِّي، ففضلا عن استنطاقنا للوثيقة التاريخية، ومُلاحظَتِنا لما يتِّمُ تداوله بين أهل قسنطينة من تسميات للمدينة. جاءت خطوات عملنا كالآتي:
- تعامُلُنا مع المبحوثين و/أو الإخباريين الذين قابلناهم حول ما يتعلّق بدلالة الطوبونيمات وترجمتها الصوتية.
- اعتمادنا الجانب التاريخي على الرغم من أنّ عملنا هذا ليس في التّاريخ؛ وذلك لأنّ حتمية المونوغرافيا الأنثروبولوجية جعلتنا نُّعرِّج على أهم المحطّات الفارقة في تأسيس المدينة، ناهيك عن هيكلتها الجغرافية. ونحن هنا أبعد ما يكون عمّا يقصده المعماريون من لفظ المدينة حينما يقصِرون حديثهم على المدينة القديمة دون غيرها.
لقد انطلقنا من فرضية عامة مفادها أنّ: للانتماء الأنوماستيكي تاريخاً ورمزيةً خاصة؛ تكشف عنها الحُمولات الدلالية للطوبونيمات. وهو ما حاولنا إثباته من خلال عناصر هذا المقال بإلقاء الضوء على أهم المحطّات الأنوماستيكية (الطوبونيمية) التّي نجحت في حفظ تاريخ المدينة الـمُثقل بالرمزية.
استهللنا مقالنا هذا بلمحة إثنوغرافية عن قسنطينة، من أجل التعريف بخصوصيتها الجغرافية والفلكية والتاريخية؛ ذلك أنّها شكّلت مادة خامة لطوبونيماتها عبر الزمن. ثم تطرقنا إلى طوبونيم سيرتا الذي وَسَمَ قسنطينة فيما سبق فطبَع ماضيها العبِق بالتاريخ؛ فوقفنا على جوانبه الِّلسانية والتاريخية بكلِّ صُوره الصوتية والمورفولوجية (سيرتا، قرتا، كرتا، كرتن، قرطن، كرطة، Cirta). كما قاربنا بالبحث الإثنوغرافي أيضا تلك الطوبونيمات التّي قدَّرنا من خلال تحقيقنا الميداني بأنها طَبَعَت مدينة قسنطينة حسب تاريخها السوسيوثقافي، ووفقًا لما وسمَها به الأكاديميون (نوميديا والباديسية، مدينة العِلْم والعُلماء، القلعة الحصينة، مدينة الهواء والهوى، المُتحضِّرة العريقة، أم الحواضر بين الماضي والحاضر)، وتماشيًا مع ما تّم تداوله بين أهلها من أسماء ثقافية (مدينة الجسور المعلقة، مدينة العلم والعلماء، مدينة الكهوف، قْسَمْطِينَة..). فما هي هذه الجسور التي تُنسب إليها المدينة؟ وهل حملت أسماؤها حُمولات دلالية مُعيّنة عبر التاريخ؟ ولمَ يربط القسنطينيون انتماءهم للمدينة بالصورة الصوتية لاسمها الجغرافي الثقافي؟ عرّجنا أيضا في مقاربتنا حول أصل تسمية ونطق طوبونيم قسنطينة، على الترجمة الصوتية لكتابته وذلك حتّى نجيب على التساؤلات التالية: هل يتطور الطوبونيم من الناحية المورفولوجية أم الدلالية؟ وما هي المحطات الزمنية المعتمدة في ذلك؟ وهل يتحدّدُ الانتماء لقسنطينة من طريقة تلفظ الطوبونيم الخاص بها؟
حول إثنوغرافيا المدينة
تبرز قسنطينة كــ"اللؤلؤة الخالدة التي تدخل الألفية الثالثة للميلاد في ثوب واسم «المدينة الكبيرة» كل شيء يشجعها على ذلك، ففضلا عن غناها التاريخي الذي أهّلها لأن تصنّف كتراث وطني سنة 1992، فإنّ خاصيتها الجغرافية كمدينة متفردة في العالم تجعلها ماضية في حلمها دونما عقدة" (مديرية الثقافة لولاية قسنطينة، 1999). وعليه فإنّها مدينة تتميّز جغرافياً وفلكياً وتاريخياً:
جغرافياً: تتموقع قسنطينة في الشمال الشرقي للجزائر، حيث تحوزُ "موضعا جغرافيا متميزا فوق صخرة وعرة، تأخذ شكلا مستطيلا غير منتظم الأضلاع، تمتد استطالته في اتجاه محور شمال شرق-جنوب غرب، يتدرج ارتفاعها على هذا المحور بداية من الناحية الجنوبية بين 564-664 فوق سطح البحر" (دحدوح، 2015،
ص. 31). وقد مرّت في تكوينها حتّى تظهر بشكلها الفريد، بعدّة مراحل جيولوجية تُفصح عنها ترسُّبات صخورها الكلسية. ويسمح المسار الذي يسير فيه وادي الرمال عندما يلتقي بوادي بومرزوق بتكوين خندق "يحيط بالمدينة من الجهة الجنوبية الغربية والجنوبية والشرقية ثم المنحدر في الجهة الشمالية ما يجعلها تأخذ شكل شبه جزيرة [..] يتواصل امتدادها مع هضبة 'كدية عاتي' بواسطة شريط أرضي عرضه حوالي 300م" (لعروق، 1984، ص. 27) ما يمنحها مناعةٍ طبيعية ضدّ أي اعتداء. فإلى موقعها يرجِعُ إذن سرُّ ما حظيت به من الزخم الحضاري والوزن الاستراتيجي عبر الزمن. وهو ما يُشرِّع أيضا لتسميتها بـ(مدينة الصخر العتيق).
فلكياً: تحتل منطقة متميزة بوقُوعها فلكيا على "خط طول 7.35 شرقا، ودائرة عرض 36.13 شمالا." (فيلالي، لعروق، 1984، ص. 120)، ما يعني أنّها تتوسط إقليم الشرق الجزائري؛ فهي تقع على خط التل المُشكِّل للمحور الذي تتلاقى فيه شبكة الطرق الممتدة عبر المدن الجزائرية، وهي بذلك عاصمة إقليمية تتباعد عن مراكز العمران بمسافات لها دلالاتها. ويعكس موقع قسنطينة المتميِّز بالنسبة لباقي المدن، مجموعة من الخصائص المتّصلة بالمظاهر الجغرافية الطبيعية، كــالتضاريس والمورد المائي وخط الساحل والحد الشمالي للصحراء. وهي الخصائص التي تقوم بدور كبير في رسم هيكل شبكة المدن وتوزيعها وأحجامها وتباعدها في الجزائر" (فيلالي، لعروق، 1984، ص. 120). وجود المدينة بمُفترق الطرق أكسبها الكثير من صفاتِ ما تعاقبَ عليها من حضاراتٍ عبر الزمن.
وعن مناخها: كشفت الدراسات الحديثة أنّ "موقعها في إقليم الهضاب العليا بين مناخ معتدل شمالا ومناخ قاري جنوبا، بين البحر في الشمال والصحراء في الجنوب [...] يجعلها عرضة لمؤثرات بحرية وأخرى صحراوية" (دحدوح، 2015، ص. 65). ويرى أهل المدينة بأنّ إنجاز سد (بني هارون)؛ قد أسهم في تغيُّر المناخ بقسنطينة، حيث أصبح الجوّ رطباً "ملِّي بنَاوَهْ ولاّت ميديتي، واللّه تَتْلبّطْ"[1]. والمعنى: ظهرت الرطوبة بالمدينة منذ بناء السدِّ لدرجة تُحسُّ بتأثيرها الدائم على جسمك.
تاريخياً: كشَفَت مُختلف الدراسات أنّ مدينة قسنطينة عاشت "طويلا وعمرت كثيرا، فطبقاتها تحتضن آثارا من بقايا العصور القديمة والحضارات المتوافدة عليها، والتي تدل على معالم الحياة البدائية لإنسان ما قبل التاريخ في الكهوف العديدة التي اختارها مستقرا له قرب مجاري المياه، ومنابعها، وبمحاذاة الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة والمناطق الرعوية والمروج، ويتضح ذلك من خلال الحفريات التي أجراها بعض خبراء الآثار الفرنسيين في الثلاثينيات من القرن الجاري، والتي كتشفت عن أدوات بدائية تعتبر من أقدم الأدوات التي استخدمها الإنسان الأول في حياته اليومية" (فيلالي، لعروق، 1984، ص.14 ). وقد ذهب محمد الصغير غانم المذهب نفسه، حينما أكّد بأنّ "اكتشافاتها الأثرية والجيولوجية تُؤكدان استقرار الإنسان في موقعها منذ أزمنة قديمة تعود إلى ما قبل التاريخ؛ ذلك أن الوادي شبه المحيط بالصخرة يعود في تكوينه حسب الجيولوجيين إلى نهاية الزمن الرابع الجيولوجي (عصر البلايستوسين الحديث- Pléistocène Moderne) الذي نحتت فيه المياه الصخور الكلسية ما أدى إلى توسع الشقوق الموجودة فيها. وبمرور الزمن تكوّن الأخدود الذي يُشبه وادي الرمال الحالي". (غانم، 1999، ص. 134، بتصرُّف).
سيرتا، قرتا، كرتا، كرتن، قرطن، كرطة، Cirta :
أطلق الفينيقيون على المدينة الطوبونيم "كرطة أو كرث" وهي لفظة سامية كنعانية معناها "القلعة" أو "المدينة" وهو الاسم الذي حرَّفه اللاتينيون -فيما بعد- إلى "سيرتا" ( فيلالي، 2002، ص. 11). ولقد ظهر الاسم القديم " خلال الفترة البونيقية (la période punique)، بالقرن الثالث قبل الميلاد وفي العصر القرطاجي (l'époque carthaginoise)، ولدت المدينة تحت اسم سيرتا. قلة من المدن لها ماضي يعود إلى تاريخ بعيد."(Bourouiba, 2013, p.11) فلقد كانت عاصمة للماسايسيل (seylsaeasM) تحت حكم سيفاقص ثم ماسينيسا ... وغالبا ما اعتبر الاسم "Cirta بمثابة اسم فينيقي (Q.R.T.N) ومعناه مدينة" (Aibeche, 2004, p. 16). كما يعني أيضا "القلعة أو المدينة المحصنة، وهو الاسم الذي ينطبق فعلا على موضع المدينة كما تجمع المصادر التاريخية والجغرافية على مر التاريخ" (دحدوح ، 2015 ص.17). لقد وردَ الطوبونيم مرّات عديدة على النقود النوميدية بالمصادر القديمة ؛ حيث "تم ذكر الملك سيفاقص (Syphax)، ماسينيسا (Massinissa) وسنواته الطويلة من الملك فضلا عن قصره وانتصاراته، ميسيبسا (Micipsa)، يوغورطا (Jugurtha) ويوبا الأول ( .(Juba1erوصفها سترابون (Strabon) كمكان قوي وموسوم بكلِّ هؤلاء الملوك ولا سيّما مسيبسا (Micipsa)، (Aibeche, 2004, p. 16) و يعتقدُ كلٌّ من لفبفر وجيلات Gillette et Louis Lefebvre أيضا بأنّ "اسم سيرتا (Cirta)، قسنطينة الحالية سامي الأصل وأنه تحريف للاسم الحقيقي الذي هو كرتن (Crtn)، ومعناه المدینة أو القلعة" (غانم، 1999، ص. 135). وهكذا فقد حمل الطوبونيم دلالات وصفات المــَـدنية والحَصانة الطبيعية، لكننا نجد للمستشرق الفرنسي استيفان اجسيل رأياً آخر مُخالفًا لهذا الطرح يُظهر به تحفظاً على هذا الاشتقاق"؛ لأن المدينة أيّة مدينة يُطلق عليها باللغة الفينيقية: قرت، بالقاف بدل الكاف. أما مدينة سيرتا فيكتب اسمها بالفينيقية بكاف ثم نون في آخرها: كرتن، حسب ما هو مثبت في النقود المعدنية التي اكتشفت بالمدينة. الأمر الذي يحمل على الاعتقاد بأن له علاقة بشخصية سُلالية أو اسم عَلَم لآلهة أو الاثنين معا" (بومهلة، 2010، ص. 11). وهو تقليد دأَب عليه الفينيقيون فيما مضى؛ حيث كانوا يُؤلِّهُون الشخصيات الكبيرة عندهم، ومن ثمّ يطبعون فضاءاتهم باسمها.
تُحيلنا إثنوغرافيا المدينة إلى وجود روايات أخرى حول أصل الطوبونيم (سيرتا):
الأولى: مفادها أنّه اسم والدة أول ملوك نوميديا (يوبا بن هرقل وثسبياس سرث Thespias Certhe) ، فهو"الذي أصبحت تعرف به المدينة بعد أن أسسها وصيرها عاصمة ملكه"(دحدوح، 2015 ص. 18). وبحسب محمد العربي عقون[2] فإنّ هذه الرواية غير مُؤسّسة تاريخيا، وهو ما يذهب إليه مرسي- Mercier حينما يُؤكّد بأنّ "بعض المؤرخين يعتقد أنّه من غير المحتمل أن يكون يوبا ملكًا لمدينة سيرتا كما يؤكد ديون-Dion، ويستندون في ذلك إلى بيانات المسكوكات وعلى حقيقة أن المقاطعتين في إفريقيا كانتا متحدتين في ذلك الوقت تحت سلطة مجلس الشيوخ". (Mercier, 1903, p. 31).
الثانية: تعتبرُ أنّ الإغريق والرومان هم أول من أشار إلى طوبونيم (سيرتا) في خضّم تأريخهم للأحداث الواقعة نهاية القرن الثالث قبل الميلاد فــــ"سيفاقس ملك سيرتا وماسينيسا ملك ماسيل، قد دخلا في حرب بينهما عدّة مراّت" انتصر ماسينيسا. [...] كما ساعد سيفون (Siphon)، على هزم سيفاقس والاستيلاء على المدينة [...] حكم ماسينيسا فيما بعد الممالك (royaumes) المجتمعة لــــماسيل في فترة ميّزها السلم" (Le Préfet I.G.A.M.E, le commissaire central, 1959, p. 110). وعليه عرفت (سيرتا) في حُكمه الازدهار فأصبحت عاصمة للمملكة النوميدية. وتحتضن المدينة ضريحه بمنطقة الخروب؛ وهي ثاني أكبر بلدية بولاية قسنطينة.
يجدر بنا التنويه هنا إلى أنّ قُرب قرطاج من قسنطينة، جعلها تُسدلُ عليها مظاهر الحضارة الفينيقية على حساب العنصر الثقافي النوميدي، خاصّة وأنّ ملِكها كان "معجبا بهذه الحضارة لأنه نشأ في أحضانها وحارب من أجلها، حتى أصبحت التقاليد والعادات والمعبودات واللغة والكتابة الفينيقية المتعامل بها هي السائدة في مدينة قسنطينة، كغيرها من المدن الفينيقية" (فيلالي، 2002، ص. 11). وهكذا تشبَّع القسنطينيون بالعناصر الثقافية الفينيقية على حساب نظيرتها النوميدية التّي لم يعمل ملوكها على إنعاشها. وذلك بفضل الدور الحضاري الذي لعبه ماسينيسا خلال السنوات العديدة التّي حكم بها سيرتا؛ فهو قد "انشغل أساسا بتزيين المدينة. ودعا المستعمرين اليونانيين إلى تلقين النوميديين ممارسة الفنون حتّى برعوا بها، وتمّ تكريم العمارة والنحت والنقش بشكل خاص، شجع حتّى الموسيقى [..] كما سعى إلى تحسين الزراعة ونشر مبادئ الزراعة الفينيقية بين رعاياه" (Mercier, 1903, p. 11).
لا يفوتنا أن نُسجِّل هنا أنّ الترجمة الصوتية لكتابة الاسم قد أفرزت عدّة نماذج خاصّة على صعيد اللّغة العربية، مما يعكس "هُوية أوتوماتيكية مُشّوهة خُطَّ فيها الطوبونيم الواحد بنُسُوخ كثيرة وغير مُوحّدة" (جباس، 2007)، أورد بلعطار أحمد بن المبارك في مؤلفه تاريخ بلد قسنطينة العديد من الصور الخطِّية المتباينة: "سيرتا، قرتا، كرتا، كرثن، قرطن، كرطة، سيرتة" (بلعطار، 2012، ص. 79 ).
بين قْسَمْطِينَة و قسنطينة
على صعيد تمثُّلات الأسماء وصورها بالمخيال الجمعي –ومن خلال العمل الميداني- سجّلنا بأنّ القسنطينيين يُراهنون على قياس انتماءهم الحضري للمدينة من خلال بعض الممارسات الأنوماستيكية: فمن الـمُعتقدات الـمُرسّخة عندهم، والتِّي لمسناها خاصّة لدى من يُصطلح عليهم محليّاً بـــالبّلْديّة[3]، أنّ من يلفِظُ اسم المدينة بالنُّون أي على الصيغة (قسنطينة) يُعتبر من الدُّخلاء الوافدين (برَّاني/ برَّانية) وليس ابن المدينة الأصلي. فالأصّح -بالنسبة لهم- أن ينطِقها بقلبِ النوُّن ميماً (قْسَمْطِينَة)، وفي العبارة الشعبية المتداولة "قْسَمْطِينَة ، وْلاَدْ سِيسَانْهَا ماشي اللِّي دَخْلُو عْلَى بِيبَانْهَا" ترسيخٌ لذلك، حيث تُصّور المدينة وكأنّها بنايةٌ أسُسُها (سِيسَانْهَا: جمعٌ؛ مُفرده ساس، وُيقابِلُه في العربية أساس؛ مفردٌ جمعهُ أُسُس) هم سكانها الأصليون، أولئك الذين بُنِيتْ المدينة بهم فكانوا أساسًا لها، وليس الّذين وفدوا من أحد أبوابها فلم يعرِفُوا حتّى لفظ اسمها (جباس، 2004، ص. 104).
تمّ تضمين هذا التعبير الأنوماستيكي عند البّلْديّة للتدليل على أصالة انتمائهم للمدينة، وهو ما يرمي إليه أحد المبحوثين حينما يؤكد اعتماده للفظ بمعية مشايخ المدينة بحكم أنه ابن زاوية: (بكري لقسنطينية يقُولو قسمطينة ماش قسنطينة[...] أنا ديما في تعليقاتي وفي أشعاري نقول قسمطينة [...] أبقى أسميها قسمطينة كيما كانوا أجدادنا، لعلمك أني إبن زاوية ومن أبناء الطريقة الرحمانية، وحتى مشايخ المدينة يقولو قسمطينة بحرف الميم)[4]. ولتسمية (قْسَمْطِينَة) علاقة وثيقة بالعرب، فــفندلين شلوصر أسير الحاج أحمد باي (1826-1837)، يشيرُ إلى أنّ اسم (قسطنطينة) كان متداولا بين الكتّاب، وبأنّ الكثير من الأتراك يُطلقون عليها قسنطينة أمّا "العامة من أهلها (العرب) فكانوا ينطقونها (قسمطينة)" (دحدوح، 2015، ص. 20، بتصرُّف) وهي "نفس التسمية التي وردت عند أبي دينار الذي ألّف كتابه خلال العهد العثماني"(دحدوح، 2015، ص. 20) وقد ذهبنا نحن في تحليل ذلك إلى الجزم بأنّ:
التمثُّلات الـمـُحدّدة للهوية؛ ثابتةً (غير مُتحوّلة) على مرِّ الزمن (جباس، 2018 )
فللممارسات الأنوماستيكية تفسيرها التاريخي الذي حتّى وإن لم يبدُ لنا واضحاً أحياناً، إلا أنّ به تأكيدًا لصدق فرضيتنا العامة: الحُمولات الدلالية للطوبونيم (قْسَمْطِينَة) تُثبت الانتماء لتاريخ المدينة؛ ذلك أنّ رمزية النُطق تكشف عن خُصوصية ينفرد بها أهل المدينة. لقد أجمع مبحوثونا على أنّ اعتمادهم للاسم الرسمي، سيجعل المكان غريبا عنهم وكأنّه لا يُّدلّ على الموقع نفسه! تحتفظ الصور الذهنية بالطوبونيم الثابت وترفض المُتحوِّل.
الثابت = الاسم الثقافي (المتداول)
المُتحوِّل= الاسم الإداري (الرسمي)
الترجمة الصوتية لكتابة طوبونيم قسنطينة
لقد وجدنا مذهبين حول الترجمة الصوتية أو النسخ الخطِّي لطوبونيم (قسنطينة) المعتمد رسميا في التسمية الحالية للمدينة:
المذهب الأول: يقول بأنّ الطوبونيم تعريب للاسم اللاّتيني (Constantine)، وهو مُستمد من اسم الملك (قسطنطين-Constantin)، ويرجع سياق التسمية إلى أنّه في "سنة 308 وقعت في سيرتا ثورة داخلية عنيفة في أيام الملك الغاصب دومينتيوس، أدّت إلى تخريب هذه الحاضرة تخريبا تاما وظلت خرابا إلى أن جدّدها الملك قسطنطين الأكبر وأعاد لها نشاطها فاستعادت سيرتها الأولى في العمران والازدهار فنُسِبَت إليه واشتق اسمها من اسمه. وأصبحت منذ ذلك العهد تعرف باسم قسنطينة اختصارا للفظ" (بن علي شغيب، 1980، ص. 10). وقد استقرَّ معها الاسم رغم اجتيازها للكثير من المحطات التاريخية المختلفة والتّي لا يسع المجال لذكرها هنا.
المذهب الثاني: يُناقش لفظ قسنطينة وكأنّه طوبونيم عربي، و"إذا كنا نجهل التاريخ الذي غزا فيه العرب قسنطينة، فنحن نعلم أنّه تم الحديث عنها في بداية القرن التاسع بوصفها خاضعة لحكم الفاطميين. على الرغم من أنّها كانت عاصمة المقاطعة في عهد الزيريين والحماديين، من نهاية القرن العاشر إلى منتصف القرن الثاني عشر، فقدت قسنطينة أهميتها في ظل الموحدين، من منتصف القرن الثاني عشر إلى منتصف القرن الثالث عشر؛ لكنها تمتعت بتألق خاص في عهد الحفصيين، إذ كانت أهم مدينة لديهم بعد تونس وبجاية لمدة ثلاثة قرون، من منتصف القرن الثالث عشر إلى منتصف القرن السادس عشر" .(Bourouiba, 2013, p. 11). يقف الطوبونيم العربي عند حرَكَات الأصوات وترتيبها، ولقد تمّ التعرضُ إليه بوصفه اسما مُبتَكَرا ومُقتصرا على علماء دون غيرهم:
قصر الطين أو قصر التين: وفقا لــ محمد بن محمد بن عمر العدواني، فإنّ اسمها "قصر تينا نسبة إلى ملكة تعرف باسم تينا، وتعرف بقصر التين أو قصر الطين" (دحدوح، 2015، ص. 21) وقد أثبت فيرو- Feraud أيضا بأنّ (قصر الطين) هو نفسه قسنطينة. ولم نقف على معرفة أو علم مُسبق بهذه التسمية عند أيِّ أحد من المبحوثين أو الإخباريين الذين قابلناهم.
قُسَنطِينة: حسب ما جاء به ياقوت الحموي، في مُؤلّفه « معجم البلدان » "قسنطينة، بضم أوله وفتح ثانيه ثم نون وكسر الطاء وياء مثناة من تحت ونون أخرى بعدها ياء خفيفة وهاء"(دحدوح، 2015، ص. 18). وهناك من ينطقها على هذه الصورة الصوتية بفضاء المدينة لا سيما الصحافيين بإذاعتها الجهوية.
قُسْـنْــــــطِينة: تسمية ذَهب إليها عماد الدين إسماعيل بن محمد أبو الفدا في مُؤلّفه «كتاب تقويم البلدان»، وهو مذهب أحمد بن علي القلقشندي نفسه، حيث يزيد قائلا: "هي بضم القاف وسكون السين وكسر الطاء المهملتين وسكون المثناة من تحت ثم نون وهاء، قال: وعن بعض المتأخرين أن بعد السين وقبل الطاء نونا، وحينئذ فتكون بضم السين وسكون النون" (دحدوح، 2015، ص. 18-19) ومن الصعوبة بمكان تلفظ حروف هذا الطوبونيم باللِّسان الحالي لأهل المدينة.
القسنطينة: طوبونيم يرجع إلى أبو عبد الله محمد الشريف الإدريسي، الذي أضاف لها أداة التعريف في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، لتبرُز على الشكل "القسنطينة" (دحدوح، 2015، ص. 19) وهو طوبونيم نادرٌ استخدامه حتّى بكُتُب من ألّفوا عن المدينة وفيها.
القسطنطينية: اسم أتى على لسان أبي القاسم النصيبي ابن الحوقل، ونجده يُضيف إليه "طاء بعد السين وقبل النون الأولى فصارت القسطنطينية بأداة التعريف ومن دونها" (دحدوح، 2015، ص. 19). وفي الاسم تعريب صريحٌ لاسم الإمبراطور الروماني. ويرى محمد الصغير غانم بأنّ "استمرار تسمية قسنطينة بهذا الاسم لا يلائم إعادة النظر في كتابة تاريخنا وتنقيته من الشوائب التي علقت به على مر الزمن" (غانم،1999، ص. 140) فهو يعتقد بأنّ تسمية المدينة باسم (قسطنطين) لا يزيدها عُمقاً في التاريخ.
أمام كلِّ هذه النُّسوخ المتباينة، نرى أنّه لزام علينا التطرُّق إلى التشويه الأنوماستيكي الذي يلحق بمُدننا جرّاء عدم اعتماد سياسة واضحة لــلرومنة (النبهان، 2009، ص. 63) ؛ وهو مصطلح اعتمدته "الشعبة العربية لخبراء الأسماء الجغرافية". (الخصاونة، 2016، ص. 4). ويشير إلى "كيفية تمثيل الحرف العربي بحروف لاتينيةأو اتِّباع طريقة مُوحدّة لرومنة (normalisation) أسمائنا الجغرافية" (187 Atoui, Benramdane, 2005, p.) فبالطوبونيم تنتقل التسمية من وظيفتها التعريفية لتصل إلى الوظيفة التصنيفية والهُوياتية من خلال العُمق التاريخي والحضاري للمكان عبر الزمان.
مدينة الجسور المعلّقة
تُعتبر الجسور طوبونيمات خالدة مُقاومة للتغيير، يُصطلح عليها محَلّياً بــــ(الڤناطر) وهو لفظُ جمعٍ مُفرده (ڤَنْطْرَة)، يُدلِّل على بناءات أوجدتها التضاريس الوعرة لمدينةٍ يتخلّلها أُخدُود وادي الرمال العميق ويشُّقها. أقيمت الجسور بفضاء المدينة على مرِّ الزمن لتسهيل حركة التنقل، لكنّها باتت تُدلّل أنوماستيكيا على مدينة اشتهرت بــــــ(مدينة الجسور المعلقة). لقد عُبئت الجُسُور هي الأخرى بشحنات دلالية رمزية استجابت لصفةٍ بفضائها، تماما كما توافقت مع تموضعها أو موقعها الأول على الأغلب (جباس، 2018، ص. 431- 432).
جسر باب القنطرة (Pont d'El Kantara) : بُنِي الجسر عام 1792 قبل انهياره عام 1857، وترجع تسميته إلى الحي القريب منه والذي يُطلق عليه باب القنطرة، ولقد كان الجسر مُغلقًا فعليًا بواسطة باب من أجل صدّ الأعداء، لأنه اعتبر تاريخيا بمثابة الطريق الرئيسي للوصول إلى قسنطينة، وهو ما جعله عُرضة للعديد من الهجمات التهديمية (1185، 1304، 1857... إلخ). افتتح الجسر القائم حاليا سنة 1863، بعدما تمّ بناءه على أنقاض ما هدمه الفرنسيون. تمتد القنطرة على واد الرمال بطول 128 متر وارتفاع 125 مترًا. ويُؤكد التاريخ السوسيولوجي للمدينة أنّ أهلها نعتوا الجسر بــ(الڤَنْطْرَة)، ثم نَسبوا الباب إليه (باب الڤَنْطْرَة). لكن الطوبونيم الفرنسي ترجم عبارة الجسر ووضعها أمام الّلفظ الدارج المُدلِّل عليه ليُصبح جِسْرُ الْجِسْرِ (Pont d'El Kantara). جاءت الإدارة الجزائرية بعد ذلك وترجمت الاسم الأجنبي إلى العربية مع إضافة لفظ باب، لكن دون أن تأخذ بعين الاعتبار خصوصية المحكي المحلِّي فيصبح المعنى الحرفي للطوبونيم العربي المعتمد رسمياً (جسر باب الجسر)! وللطوبونيم الفرنسي الرسمي (جسر الجسر) !
جسر سيدي مْسِيدْ (Pont Sidi M'Cid): سُمِّي الجسر الذي تمّ افتتاحه سنة 1912 نسبة للولي الصالح، وهو يصِلُ بين صخرتين ولا تسنده دعائم من تحته حيث يربط بين حي القصبة وبين المستشفى الجامعي، بطول يبلغ 168م وعلو يُقدّر بـ 175 م وعرض يصل لـــ ـ5.80م. لقد ابتكر له المخيال الشعبي طوبونيم (ڤَنْطْرَة لَحْبَاْل
Pont des- cordes -)، لأن بناؤه مسنود بدعامات من السلاسل. بالإضافة إلى طوبونيم (ڤَنْطْرَة السْبِيطَارْ) وذلك لأنّ أهل المدينة يُسّمون المستشفى (سْبِيطار) ولأنّ الجسر يُؤدِّي إليه. ونُنوه هنا إلى أنّ الشطر الثاني من التسمية يُنطق بفتح الباء وإسكان الياء: (سْبَيْطَارْ) عند من يُصطلح عليهم بين سكان المدينة بالبَّلْدِيّة. وتستخدم الكلمة عند أهل فلسطين بإضافة الهمزة المكسورة أولا (إسبتار) للدلالة على المعنى نفسه إذ يرى العلامة فانيامبادي عبدالرحيم بأنها لفظ "محرّف منhospital بالإنكليزية بحذف الهاء من أوله، وقلب اللام في آخره راء. والجدير بالذكر أن هذه الكلمة الإنكليزية نقلت إلى اللغة الأردية بصورتي «سبيتال »، و«إسبيتال »". (عبد الرحيم، 2011، ص. 25 ).
جسر سيدي راشد (Pont Sidi Rached): يحمل اسم الولي الشهير (سيدي راشد)، ويعدُّ أطول جسر حجري بالعالم، حيث يمتد على مسافة 447 متر وعرض 12 متر، ويرتكز على 27 قوسا، بدأت حركة المرور به سنة 1912. وقد بُنِي بالحجارة الضخمة المنحوتة بسواعد جزائريين، وبتخطيط وتصميم فرنسيين. يؤمِّنُ الجسر مرور الراجلين والمركبات، ويُروّج أنّ ما يزيد عن ألف سيارة تمرُّ عليه في اليوم الواحد. يتداول أهل المدينة تسميته بـ (ڤَنْطْرَة سيدي راشد) تيمنا بقدسية المُسمى عليه.
جسر ملّاح سليمان (Passerelle Perrégaux) : هو ممرٌّ حديدي مُعلّق، بُني ما بين سنوات 1917 و1925 وخُصّص للراجلين فقط، أطلقت عليه أولا تسمية (ممر بيريغو - Passerelle Perrégaux)، ثم حمَلَ بعدها اسم (ممر المصعد -Passerelle de L'Ascenseur) وهذا نسبة إلى المصعد الكهربائي المستخدم في الذهاب مِن الجسر وإليه. وقد كيّف أهل المدينة هذه التسمية وفقا للهجتهم المحليّة تحت مُسمّى (ڤَنْطْرَة الصَانْصُور). بعد الاستقلال منحته الإدارة الجزائرية هُوية أنوماستيكية جديدة فأصبح (جسر ملّاح سليمان).
جسر مْجاَزْ لَـغْنَمْ (Pont Mjez El Ghnem) : هو جسر حديدي يتواجد بين شارع رحماني عاشور المعروف بـ(باردو) وحي رومانيا، وبه كانت تمرُّ (تْجُوز) الأغنام بالزمن القديم ومن هنا جاءت التسمية. وهو ما يؤكد لنا أنّ الحُمولة الدلالية للطوبونيم بإمكانها أن تعكس التاريخ السوسيوثقافي للمكان.
جسر الشيطان (Pont du Diable) : جسر حجري صغير، يُرجع أهل قسنطينة تسميته إلى عدّة أسباب منها: صُعوبة المسلك المؤدي إليه حيث إنه يقع أسفل جسر سيدي راشد. ما تتداوله الرواية الشعبية حول وجود شيطان بتلك المنطقة، وهي أسطورة عزّزها سماع أصوات مخيفة منبعثة من الارتطام القويِّ لمياه وادَيْ الرمال وبومرزوق بالكهوف، واختراقها للصخور لينتهي بها المطاف تحت الجسر. فضلا عن وجود صخرة بمحاذاة الجسر منحوتة طبيعيا -بفعل المياه والرياح- على شكل وجه مخيف.
جسر الشلاّلات (Pont des Chutes) : يوجد على الطريق المؤدي إلى مسبح الحامة، وتحمله أقواس تخترقها مياه الشلاّلات التّي تصب بوادي الرمال، ومن هنا جاءت التسميّة. ويعتبر الجسر نهاية لما يُعرف بـ (درب السواح Chemin des Touristes)، وهو مسار سياحي تُوضّح المخطّطات الخاصّة به أنه يبدأ من جسر الشيطان، ثم يعبر بالأودية والكهوف المتواجدة بالمنطقة.
جسر صالح باي (Pont Salah Bey) : هو آخر الجسور إنجازا بالمدينة تمّ بناؤه بإشراف من المجمع البرازيلي المُتخصّص في إنجاز الجسور العملاقة (أندرادي غوتيرز-Andrade Gutierrez للهندسة المعمارية). يربط بين ضفتي نهر الرمال، ولقد دُشن في جويلية 2014، وهو ينتمي إلى "فئة الجسور المثبتة بالكابلات (ponts à haubans) حيث قدّمه مصمموه على أنه هيكل 'شفاف' لا يحمل أي تأثير سلبي على بانوراما المدينة[...]" (Bendaoud, 2016, p. 157)، وتُسهم تلك الدعامات أو الكابلات الفولاذية في دعم السطح وتوزيع القوى. يُمجِّد الطوبونيم الرسمي صالح باي الذي "حكم قسنطينة لمدة واحد وعشرين عامًا في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر [...] يُدرج اسم هذه الشخصية من بين الشخصيات القليلة الجديرة بالاستشهاد بها ضمن الرجال العظماء في تاريخ الجزائر. شكّلت حكومته إحدى الفترات الكبرى التي جسّدت تجربة قوة معترف بها ومرحلة ازدهار لا مثيل لها." (Grangaud, 2002, p.13). توفي مقتولا فحفظ المخيال صورته الرمزية بفضل مرثية (قالو لعرب قالو)، كما رسّخت الذاكرة الشعبية توشُّح نسوة قسنطينة وبعض مناطق الشرق الجزائري بالملاية السوداء حُزنا على وفاته، على اعتبار أنه جزء من التاريخ الثقافي لبايلك الشرق. وُسِمَ الجسر بأسماء أخرى لم يتم تداولها كثيرا بين القسنطينيين، نحو (جـسر الاستقلال)، لأنه الوحيد الذي شُيِّد في جزائر الاستقلال، و(جسر قسنطينة العملاق) نظرا لحجمه الكبير. لكن الميدان بيّن أنّ القسنطيني تبنَّى الطوبونيم الرسمي لأنّه توافق مع نسيجه السوسيو ثقافي.
مدينة الطوبونيمات الشواهد
وُسمت المدينة كذلك بطوبونيمات أخرى أخذتها انطلاقا من تموقعها الجغرافي أو من طبيعتها الجيولوجية أو من خُصوصيتها وتاريخها الحضاري. وفيما يلي أهم ما وقفنا على تداوله بالمراجع الأكاديمية، وبعض مواقع التواصل المتداولة بين أهل المدينة:
نوميديا والباديسية: اقترح الباحث محمد الصغير غانم تسمية المدينة باسمين مُبتَكَرين ومُقتصرين عليه، وسواء أصاب أم أخطأ فإننا نعرض المقترحين:
نوميديا: يرى مؤلفنا بأنّ "أفضل تسمية لهذه المدينة هي "نوميديا" على أساس أنها كانت عاصمة لأول دولة جزائرية عرفت بهذا الاسم " (غانم، 1999، ص. 140). وقد ابتغى بذلك الوفاء للخيار الطوبونيمي لمؤسِّسها الأول، فمن "سيرتا إلى قسنطينة، يوجد إرث أنوماستيكي من العاصمة النوميدية إلى التسمية الرومانية، حافظت المدينة على مضامينها على الرغم من بعض الجهود لإعادة النظر حول ذلك" (Guechi, 2004, p. 6).
الباديسية:أردَف غانم هذا الطوبونيم كخيار ثان في حالة ما إذا وُجد من يعترض على الأول، "إذا لم يكن هذا الاسم التاريخي القديم غير ملائم عند البعض، فإنّ تسميتها بــ'الباديسية' نسبة إلى رائد النهضة الجزائرية الإصلاحية عبد الحميد بن باديس يجعلنا نضمن الانسجام مع تاريخنا المعاصر قولا وعملا."(غانم، 1999، ص. 140). ويُدلِّل الطوبونيمان (بْلاَدْ العلم والعلماء) و(مدينة العلم) على المعنى نفسه؛ لأنّهما مشحونان بحُمولة العلم ولأنّ المدينة تُعتبر موطنا للعلماء وعلى رأسهم ابن باديس.
أضاف محمد الصغير غانم أيضا اقتراحاً ثالثاً يكمن في تسمية قسنطينة باسم أحد شهداء وأبطال مسيرة شعبنا المظفرة وما أكثرهم! وهو ما يجعلنا أوفياء -كما يقول-للحركة الوطنية ومسيرة الأنين والآلام والتحدي الذي جعلنا لا نفقد الأمل.
مدينة العِلْم والعُلماء: تميّزت قسنطينة بأنها كانت ولا زالت رحِما ولوداً للعديد من الشخصيات الأدبية والأكاديمية والدينية التّي ما فتئت تلمع بسماء المدينة. ولقد حقّق علماء المدينة "نهضة علمية وثقافية في عهد بني حفص لم تشهد لها من قبل مثيلا، فقد انتشر بها التعليم بواسطة الكتاتيب والمدارس والجوامع والزوايا، وكان بها عدد وافر من المدارس التي انتشرت عبر أحيائها، ومناطقها" (فيلالي، لعروق، 1984، ص. 72). ووعَى أهل قسنطينة ضرورة إنشاء المؤسّسات التعليمية التي تضمّ العارفين بميدانهم منذ القدم، إذ نجدها في الفترة التركية وقد ضمّت "أكثر من مائة جامع ومسجد وزاوية وكُتّاب يعمل بها أئمة ووعاظ ومرشدون ومؤذنون وقيّمون وحزاب ومعلمون للقرآن الكريم ومدرسون للعلوم الدينية والأدبية" (ابن العنتري، 2009، ص. 24) ؛ فقد كانت العلوم الدينية في ذلك الوقت مُبتغى العلم الأول ومنتهاه لتتنوع الدروس. وازدهرت الحياة العلمية بعدها بقدوم "عدد وافر من الأساتذة جاءوا من تونس والأندلس وبجاية، وتكوّنت بها المكتبات، وشجع أمراء قسنطينة وعلماؤها أهل المدينة على اقتناء الكتب وشرائها، وعلى التّأليف والتّصنيف والنسخ، حتى أصبحت البيوت الخاصّة بمدينة قسنطينة تزخر بالمجلدات وأمهات الكتب." (فيلالي، لعروق، 1984، ص. 72) كما يجزم أحمد بن عمار في مؤلّفه عن الدولة الحفصية. قطعت المدينة بعد هذا أشواطا من النهضة الثقافية العلمية جعلتها مدينة للعلم وأهله، فحافظت على مكانتها بين بقية الحواضر "قْسمْطينة، شَايْعَة مَنْ بَكري بَلْعُلَمَا تَاعْها"[5]. وقد حمل عدد من الأسر الكبيرة لواء البحث في العلم والاشتغال به ما أدى إلى بروزهم أكثر من غيرهم بوصفهم باترونيمات مُدلِّلة على الوجاهة العلمية بالمدينة، ولعلّ من أبرزهم: عائلة ابن الفقون بعلمائها وفقهائها، وعائلة ابن القنفذ، التي ذاعت سُمعتها في تقلُّد وظائف سامية مختلفة بالمخزن والقضاء، ومن أبنائها: أحمد بن الخطيب بن القنفذ القسنطيني. أسرة ابن باديس، التّي أسهمت في تقديم ثُلّة من أهم علماء المدينة، ونذكر منهم فضلا عن رائد النهضة عبد الحميد ابن باديس، المكي بن باديس. ويضاف إلى ما سبق الكثير من العلماء الرائدين الذين برّروا لتداول الطوبونيم، لكنّ المجال لا يسعنا لذكرهم ضمن طيّات هذا المقال.
القلعة الحصينة: يرجع الطوبونيم إلى ياقوت الحموي بمؤلفه «معجم البلدان» حيث قال بأنّها "مدينة وقلعة يقال لها قسنطينة الهواء، وهي قلعة كبيرة جدا حصينة عالية لا يصلها الطير إلاّ بجهد، وهي من حدود إفريقية مما يلي المغرب، لها طريق واتصال بأماكن متناسقة جنوبيها تمتدّ منخفضة حتّى تساوي الأرض وحولها مزارع كثيرة" (بلعطار، 2012، ص. 27). وقد أكّد المقدسي حصانتها الراجعة إلى موقعها الاستراتيجي حين أخبرنا بأنها مدينة "جاهلية، وهي مدينة قديمة وكبيرة وبها عدد كبير من السكان، مسالكها وعرة، وهي كالقلعة تحيط بها المياه من ثلاث جهات" (فيلالي ،2002، ص. 44). وقد سلَكت ايزابل غرنغود -Isabelle Grangaud المذهب نفسه، عندما وَسمت كتابها حول التاريخ الاجتماعي لقسنطينة في القرن 18 بــ:"المدينة الحصينة أو المنيعة-La ville Imprenable " (Grangaud, 2002) وذلك وسمُ القلعة. كما أسهم في إصباغ هذه الصِفة عليها موقعها الجغرافي الفريد من نوعه- كما سبق الإشارة إليه- وهو ما يُفسّر تسميتها أيضا بـ(مدينة عش النّسر) لعُلُّوها وصعوبة الوصول إليها. وهناك من يُرجع أصل التسمية إلى التواجد الكبير للنسور بمرتفعاتها فيما مضى من الزمن.
ولقد حملت قسنطينة في سالف الأزمان طوبونيم (الحصن الإفريقي) لمَنَعَتِها الجغرافية التّي حصّنتها من هجوم الأعداء، فهي "قلعة الحصن الإفريقي الذي استدار الوادي كالعقد على عنقها وجعلها تشرئب برأسها العالي الممثل في 'أسوس' لترقب البحر وقوافل الغزاة والوافدين على مرّ العصور" (بلعطار، 2012، ص. 43). ويؤكد مرسي- Mercier ذلك بقوله " لا شك في أنه منذ اليوم الذي وصل فيه سكان شمال إفريقيا إلى درجة كافية من الحضارة تمكنهم من مغادرة الكهوف والعيش في المدن، أي في الفترة الأولى من الحياة بالمجتمع المنظم، خدمهم موقع قسنطينة كمدينة، حتى إنه يمكننا القول بأنه كان بمثابة مدينة ملكية (Cité royale). في الواقع، من الصعب العثور على غلاف طبيعي محمي بشكل أفضل منها ويسمح بمقاومة الأعداء غير المسلحين بسهولة. يُصرِّح الجغرافي مانيرت-Mannert أنّ موقع سيرتا يوفر أعظم المزايا: فهو محمي من هجمات جحافل البدو ومُناسب لمقاومة أيِّ حصار منتظم" (Mercier, 1903, p. 1). كما يُردفُ أحمد بن المبارك بلعطار "أنّ قسنطينة من زمن ابراهيم وهي عامرة لم تطفأ لها نار ولا دخلها عدو قهرا" (بلعطار، 2012، ص. 97). وهكذا فإنّ موقعها المُتميِّز، لم يمنحها جمالاً ورونقاً فقط بل لقد أعطاها مَنَعةَ قلعةٍ عَصيّةٍ على الأعداء.
مدينة الهواء والهوى: هي (مدينة الهواء) الذي يحيط بها من كل جانب، و(الهوى) لأنّها معشوقة أبنائها الذين يهيمون بكلّ ما فيها من تراث من جهة، ولأنّها قد نجحت في الظفر بقلوب كلِّ من وطِئت قدماه أرضها من ناحية أخرى. لكنّ بحثنا الميداني قادنا إلى أنّ التراث الشفوي المحلِّي قد أسّس لأسطورة خاصة مُتعلِّقة بهذا الطوبونيم: تدور حول خروج أحد أبناء البايات كلّ ليلة للسهر مُتخفيا بالتحاف بُرنس أسود اللّون حتّى لا يفتضح أمره. لكنّ الرياح التي يُصطلح عليه محلِّيا بــ(لَهْوَا) قد أسقطت عنه لحافه في إحدى الليالي ما تسبّب بافتضاح هُويته أمام أحد الأولياء الصالحين الذي بادره بنُبوءة أضحت مثلاً مُتداولاً إلى يومنا هذا (الّلِي يْتَبَعْ الهْوَى يْطَيْحُو لَهْواَ)؛ والمعنى أنّ من يتبع هواه وينغمس في ملذّاته وأهوائه ستُسقطه الريّاح، وقد تحقّق وعد الوليّ؛ إذ دفعت الرياح سليل البايات من على ظهر حصانه حينما أقفل راجعا من ليلته الساهرة، لتُسقطه بقعر الوادي. وبهذا ترسّخ الطوبونيم بين أهل قسنطينة: (مدينة لَهْوَا والهَوَى).
المُتحضِّرة العريقة: لم يخف على الوزان الفاسي الغرناطي المعروف بــليون الأفريقي عراقة قسنطينة، فنعتَها بمُصنّفه الجغرافي التاريخي "وصف إفريقيا" بأنها ذات حجم كبير أهّلها بأن تمتلك الكثير من الموارد، وعليه فهي "متحضّرة جداً ومليئة بالدُور الجميلة والبناءات المحترمة، كالجامع الكبير والمدرستين والزوايا الثلاث أو الأربع" (الوزان الفاسى، 1983، ص. 56). ولقد وافقه في ذلك ابن فضل الله في تقريره بأنّها "بلد كبير متحضر في غاية الحصانة والمنعة" (فيلالي، 2002، ص. 44). وهي بهذا الوصف مدينة مُتميِّزة بـ"تاريخها وحضارتها وبتراثها العريق منذ فجر التاريخ؛ فقد عرفت الاستقرار البشري منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد" (فيلالي، 2002، ص. 7) وهو ما يعدُّ أول حجر في التأسيس لبناء أيِّ حضَارة.
لقد كانت قسنطينة عاصمةً للمملكة النوميدية التِّي "لعبت أدوارا سياسية وثقافية واقتصادية هامّة [...] وأدوارا عسكرية خطيرة في العصر القديم وفي جميع مراحل تاريخها، ولا زالت رائدة في هذا الميدان، حتى الوقت الحاضر وذلك بسبب موقعها الجغرافي الممتاز والمكانة الاستراتيجية الهامّة التي تتمتع بها، والتي قلما يوجد لها مثيل في العالم الغربي، فقد ميزها مناخها وتنظيمها المحيطي وبنيتها الأساسية عن باقي مدن الوطن" (فيلالي، 2002، ص. 10). وهي سِمة لازمتها فأضحت مُعرِّفة لها حتّى بين كبريات العواصم العربية والعالمية؛ إذ يُجزم مرسي- Mercier بأنّ سيرتا هي المدينة التّي "كانت في الغالب عاصمة البلد الذي يُدعى نوميديا والذي يتوافق تقريبًا مع إقليم قسنطينة (province de Constantine)" ((Mercier, 1903, p. 3.
أم الحواضر بين الماضي والحاضر: سجّل ـمحمد المهدي بن علي شغيب في تأريخه للمدينة، بأنّها ذات تاريخ طويل صادَف "عدّة مدنيات بشرية وحضارات إنسانية، أخذت منها أحسن ما فيها واحتفظت بتراثها، فكان ذلك سرّ خلودها وسبب عظمتها في أعين الأمم الغابرة" (بن علي شغيب، 1980، ص. 5). وهي على ذلك الوضع من العزّة والتميُّز إلى يومنا، رغم كلِّ ما تُعانيه من نُقص في التهيئة والمتابعة على غرار غيرها من المدن الجزائرية. لقد كانت قسنطينة بحق حاضرة ثقافية وملتقى لكل طالب علم أو مُدرِّس له، وقد ساعدها على ذلك موقعها الاستراتيجي؛ فهي تعدُّ من "أمهات المدن العريقة في بلاد المغرب على وجه العموم، وبلاد الجزائر على وجه الخصوص، لم يتغير موضعها مع تغير المدنيات والحضارات التي تعاقبت عليها"( فيلالي، لعروق، 1984، ص.17) فبقَت ثابتة بتعاقب الحضارات واختلافها. وهي الآن تُعرف بـ (جوهرة الشرق)، لأنّها تتوسط فلكياً إقليم شرق الجزائر، وقد استعير الاسم من بعض المواقع الإلكترونية مثل جوهرة الشرق (قسنطينة)[6] وقسنطينة جوهرة الشرق[7] وهي تسميات يؤكد بها أصحابها على انتمائهم للمدينة. لكن يجدر بنا التنويه هنا إلى سيرورة انتشار التسمية بجوهرة الشرق ببعض المدن كعنابة وتبسة.
الكهوف والمغارات، مرجعيات طوبونيمية تاريخية
يُفصِح صخر قسنطينة عن حقائقه التاريخية، فيكشفُ عن استقرار البشر به منذ الأزل، إذ تحكي المواقع (الكهوف، والمغارات) عن تواجد الإنسان بها في "فترة بالغة في القدم؛ فقد سكنوا على مقربة من مجاري المياه والمنابع، وعلى أراض توفر لهم نوعا من الحماية ضدّ غيرهم، أو ضدّ الحيوانات المفترسة" (Le Préfet I.G.A.M.E, le commissaire central 1959, p. 109). لقد كشفَت طوبونيمات الكهوف عن الكائنات الحيّة التي سكنت فضاءها، فدلّت بحمولاتها الرمزية على الطبيعة الجغرافية للمدينة بالزمن العتيق:
كهف الحمَام: وُسِم بذلك لأنّ الحمام كان أكثر الكائنات التٍّي عُثر على بقايا عظامها بالمكان الذي سُمي أيضابـ غار الحمام ومغارة الحمام. وهو موجود في "أنف الجبل الذي يقع عليه الحي الشمالي من القصبة " (بومهلة، 2010، ص. 13). وقد تمّ اكتشافه " على يد دوبريج سنة 1916 أثناء أشغال فتح الطريق[...]" (دحدوح، 2015، ص. 307).عُثِر بمحيط الكهف أيضا "على بقايا أثرية رومانية، وهو دليل على الامتداد التاريخي والحضاري لقسنطينة. كهف الدببة: أو ما يُعرف أيضا بـ(كهف السّحار)، يقع في " كاف سيدي مسيد، وقد عُثِر عليه أثناء أشغال فتح طريق السكة الحديدية وهي[8] تتجه نحو الشمال، يصل طولها إلى 60م وعرضها إلى 6م، وهي في بعض الأماكن ذات ارتفاع معتبر. وقد عرفت هذه المغارة بهذا الاسم نسبة إلى تواجد كمية كبيرة معتبرة من عظام الدببة فيها"(دحدوح، 2015، ص. 306). إلى جانب بقايا عظمية لحيوانات أخرى. ويشيع بين القسنطينيين الاسم الثقافي (غار زاهر)، يدفعنا هذا الاختيار إلى طرح التساؤلات التالية: هل يعكس اعتمادهم لهذا الطوبونيم صورهم الرمزية التي فضلت ربط الكهف (الغار) بالإنسان (زاهر)؟ وهل في هذا تأكيد على حيازة الإنسان للمكان؟ خاصة وأنّ الميدان كشف على أنّ الممارسات الأنوماستيكية تكشف عن تمثُّلات أهلها. كهف الأروى: يُجاور سابقه؛ إذ يتواجد بجبل (سیدي مْسِیدْ) أعلى ممرِّ السكة الحديدية بالطريق المؤدِّية إلى مدينة (سكیكدة)، وقد أخذت هذه المغارة "تسميتها من عظام الأروى التي تتواجد فيها بكثرة. وهي تضم أيضا بقايا عظمية حيوانية منها الضباع والكركدن"(دحدوح، 2015، ص. 307). والأَرْوى اسم جمعه أُرْوِيّةُ، الأُرْوِيَّة؛ وهو حيوان ثديي عاشب من الخراف البرية التي تنتمي إلى مجموعة الظباء الماعزية، وهو الضأن البربري والذي يعرف أيضا بالكبش البربري والأروي أو اوداد كما يسميه البربر. عطفا على ما سبق نخلص إلى أنّ: الطوبونيم يمتلك دوراً تأريخيًا لِما سبق حدوثه؛ فهو يحفظ الماضي بالذاكرة الجمعية التٍّي ستُحَفَّزُ لا محالة عبر السؤال الكلاسيكي لدى الأنوماستيكيين: لماذا هذا الاسم دون غيره؟
وجد السيّد دوبريج- Debruge بالمغارتين أعلاه، فضلا عن الحيوانات التّي شرّعت لبُروز الطوبونيم "بقايا إنسانية، وعظاما حيوانية، (ossement) انقرضت من تلك المنطقة منذ مدّة طويلة، كما وجد أيضا العديد من آثار الإنسان النيوليتي" (Le Préfet I.G.A.M.E, le commissaire central 1959, p. 110). ضمّت المغارات و/أو الكهوف المُخلفات الحجرية والفخارية للإنسان القديم، فضلا عن عظام لحيوانات كانت تعيش في المنطقة مثل "وحید القرن، الحمار الوحشي والخنزير البري والأيل والغزلان والأبقار الوحشية والأروى، ما يعطينا فكرة عن كون المنطقة كانت مناخيا شبيهة بالمنطقة الاستوائية في وقتنا الحالي من حيث توفر الرطوبة والنباتات"(غانم، 1999، ص. 134). استعمل القسنطيني الأول تلك الكهوف منذ العصر الحجري القديم الأسفل، كما واصل الاستقرار بها حتى الفترة الرومانیة، لينتقل بعد ذلك إلى فضاءات أخرى مثل السُّفوح، وضفاف الوادي، وغيرها من المناطق التِّي تُثبت أنّ قسنطينة قد بدأت "قرية صغيرة، ثم تطورت مع مرور الزمن إلى مدينة كبيرة وأصبحت فيما بعد عاصمة سياسية وإدارية ومركزا تجاريا هامّا، وهيمنت على بقيّة التجمّعات البشرية الأخرى المحيطة بها ؛ لأنّها تتوفر على مراكز للتخزين ومصانع رئيسية ومرفق للخدمات الاجتماعية والدينية، إضافة على كونها مقرا للحكم والسلطة المركزية" (فيلالي، لعروق، 1984، ص. 14). وهكذا كُتِبت صفحاتٌ أخرى من تاريخ المدينة تنكشفُ في كلِّ مرّة للمُؤرِّخين والجيولوجيين والأنثروبولوجيين وعُلماء الآثار من خلال ما تبقى من مُخلّفاتٍ على أرضها، وهو ما يُساعد في فهم أكبر للتاريخ السوسيوثقافي للمنطقة.
خاتمـة
شكّلت الأنوماستيك فضاء خصباً لاستنطاق الدّلالات واستخراجها؛ فبفضل استقرائنا لمختلف الطوبونيمات التّي منحت لقسنطينة، تعرّفنا على الحضارات التّي مرّت عليها. كما مكّنتنا أسماء كهوفها من الوقوف على الحيوانات التّي عمّرت أراضيها فيما مضى من الزمن، وهو ما كشف عن طبيعتها الجغرافية والمناخية. أمّا أسماء جسورها فقد رسّخت للمعتقد الشعبي ذو الانتماء الدِّيني، وإلى أنّ الثابت هو الاسم المتداول (الثقافي)، وليس الاسم الإداري الرسمي الذي يُعدُّ مُتحوِّلا بالنسبة للتداول اليومي بين أهل المدينة.
خلُص بحثنا أيضا إلى أنّ الطوبونيم يُشرِّع للانتماء للمدينة خاصة من خلال صورته الصوتية؛ إذ وقفنا على أنّ الثابت في الممارسات الاعتيادية عند أهل المدينة الأوائل (البّلْدية) هو استبدال النون ميما مع إسكان القاف ونصب السين أو رفعها (قْسَمْطِينَة). على عكس غيرهم ممن استكنى فضاء المدينة الذين شدّدوا على تلفظ النون (قسنطينة). أشرنا أيضا إلى التشويه الذي يمكن أن يلحق بطوبونيمات مدننا نتيجة اعتماد الترجمة الصوتية دونما رُجوع إلى سياسة واضحة لــلرومنة ونحن بهذا نفتح آفاقا بحثية أخرى حتّى نتمكن من الإحاطة التّامة بهويتنا الأنوماستيكية الجزائرية، لا سيما وأننا عمَدنا إلى طرح بعض الأسئلة التي تركنا شطرا منها مفتوحا ينتظر دوره في البحث، ليتسع بذلك الحقل المعرفي حول هذا الموضوع الذي يحتاج تضافراً بين مُختلف تخصُّصات العلوم الاجتماعية والإنسانية.
لقد نسجَت الطوبونيمات الممنوحة للمدينة عبر الزمن تاريخها الثقافي، كما أرّخت لموروثها الاجتماعي وكشفت عن زخمها الحضاري. وفي هذا دليل على أنّ التغيير أو التجديد في قسنطينة لا يطال ثوابت المدينة أو شواهدها التاريخية، فـ"يحدث أن تقاوم الأسماء تأثير الزمن بصورة ملفتة" (5 Ouitis, 2009, p.) لتظلّ راسخة رغم زوال سبب وُجودها الأول الـمُتمثّل في المكان الجغرافي أو البناء الذي سُميّت عليه. شهِدت أسماء الأماكن بفضاء هذه المدينة مساراً دلاليًا خاصّاً عبر التاريخ، ما أثبت أنّ للمُمارسة التسموية بـــــــ: الأنوماستيكية الطوبونيمية تاريخًا مُرتبطًا بمورفولوجيتها الجغرافية المُتميِّزة، وحِكاية حضارة متعلِّقة بخصائص وتمثلات الشعوب التّي مرّت عليها.
ببليوغرافيا
بلعطار أحمد بن المبارك، (2012). تاريخ بلد قسنطينة. تحقيق وتقديم وتعليق، عبد الله حمادي. قسنطينة : نوميديا.
بن العنتري محمد الصالح، (2009). فريدة منيسة في حال دخول الترك بلد قسنطينة واستيلائهم على أوطانها أو تاريخ قسنطينة. طبعة خاصة، مراجعة وتعليق، يحي بوعزيز. الجزائر: دار البصائر للنشر والتوزيع، ديوان المطبوعات الجامعية.
بن علي شغيب محمد المهدي، (1980). أم الحواضر بين الماضي والحاضر: تاريخ قسنطينة. قسنطينة: مطبعة البعث.
بومهلة التواتي، (2010). مدن الجزائر، نضال ثقافة وتاريخ: قسنطينة حصن إفريقيا. مراجعة تاريخية، احسن بومالي. الجزائر: دار المعرفة.
جباس هدى، (2004). الاسم: هوية وتراث، مقاربة أنثروبولوجية لدلالة الأسماء في قسنطينة. [رسالة ماجستير ، جامعة منتوري قسنطينة الـ CRASC، رسالة غير منشورة].
جباس هدى، (2007). مسألة النسخ الخطِّي (عربي-فرنسي) للأسماء في قسنطينة، مقاربة تولّدية لُّغوية (1901- 2001)، إنسانيات، 35-36.
جباس هدى، (2018). الـمُـمارســات الهُـويـــاتيـة بقــسنـــطينة. رهان للانتماء وهاجس لمُحاكاة الآخـر. مقاربة أنثروبولوجية للتمثُّلات الثقافية والأونوماستيكية. [رسالة دكتوراه، جامـعة محمد بن أحمد-وهـــران2، الـCRASC، رسالة غير منشورة].
الخصاونة عوني محمد، (2016). المملكة الأردنية الهاشمية والأسماء الجغرافية، مجلة الأسماء الجغرافية،.3 الشعبة العربية لخبراء الأسماء الجغرافية.
دحدوح عبد القادر، (2015). قسنطينة. محطات تاريخية ومعالم أثرية -دراسة تاريخية أثرية، ط.1. قسنطينة: نوميديا للطباعة النشر.
عبد الرحيم ف، (2011). معجم الدخيل في اللغة العربية الحديثة ولهجاتها. الطبعة الأولى. دمشق: دار القلم.
غانم محمد الصغير، (1999). قسنطینة عبر تاریخها القدیم، مجلة العلوم الإنسانية،12 . الجزائر: جامعة منتوري -قسنطینة.
فيلالي، عبد العزيز و لعروق، محمد الهادي، (1984). مدينة قسنطينة: دراسة التطور التاريخي والبيئة الطبيعية، ط.1، قسنطينة -الجزائر: البعث للطباعة والنشر.
فيلالي عبد العزيز، (2002). مدينة قسنطينة في العصر الوسيط (دراسة سياسية عمرانية ثقافية). قسنطينة –الجزائر: دار البعث للطباعة والنشر.
لعروق محمد الهادي، (1984). مدينة قسنطينة: دراسة في جغرافية العمران. الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية.
مديرية الثقافة لولاية قسنطينة، (1999). مرايا ونوافذ. قسنطينة: منشورات اللجنة الولائية لإحياء الذكرى 500 2 سنة على نشأة مدينة "سيرتا".
النبهان يعرب، (2009). اللغة العربية ورومنة الأسماء الجغرافية. التعريب، 37. سوريا: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم والمركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر.
الوزان الفاسى الحسن بن محمد (ليون الإفريقى)، (1983). وصف إفريقيا. ترجمة، محمد حجي، الأخضر محمد، الجزء الثاني، ط. 2. بيروت-لبنان: دار الغرب الإسلامي.
Aibeche, Y. (2004). De Cirta à Constantine. L’héritage antique. Dans F.-Z. Guechi. Constantine une ville, des héritages. Constantine : Média-Plus.
Atoui, B., Benramdane, F. (2005). Mondialisation et normalisation des toponymes et des écritures: le cas de l’Algérie, Dans B. Atoui, Benramdane F. (dir.), Normalisation et dénomination. Des noms de lieux, de tribus et de personnes en Algérie. Oran : CRASC.
Bendaoud, T. (2016). Constantine, Cité de l'Air et des passions. Algérie : Atoucha Edition.
Bourouiba, R. (2013). Constantine. 2ème édition. Algérie : Ministère de la culture.
Cléret, B. (2013). L’ethnographie comme démarche compréhensive: immersion dans les dynamiques consommatoires du rap en France. Recherches Qualitatives, (32), 2. ARQ : Association pour la Recherche Qualitative.
Grangaud, I. (2002). La ville Imprenable, une histoire sociale de Constantine au 18e Siècles. Paris : Editions de l'école de Hautes Etudes en Sciences Sociales.
Guechi, F.-Z. (2004). Constantine une ville, des héritages. Constantine : Média-Plus.
Kouyaté, B. (2009). Alliances interethniques et onomastique chez les Malinké. Synergies Afrique Centrale et de l’Ouest, 3. https://bit.ly/3DxjVPt
Le Préfet I.G.A.M.E et le commissaire central, Sous le patronage de (1959). Guide de la ville de Constantine. Algérie : Edition A votre Service.
Mercier, E. (1903). Histoire de Constantine. Constantine : J. Marle et F. Biron.
Ouitis, D. (2009). Concis de la toponymie et des Noms des lieux en Algérie, 1ère édition. Alger : Djoussour.
الهوامش :
[1] مقتطف من مقابلة مع السيد ض. ب. يوم 23 مارس 2016.
[2] نقلا عن عبد القادر دحدوح.
[3]أهل البلد (المدينة) الأوائل (وْلَادْ لَبْلَاْد) أو العائلات القسنطينية الكبرى.
[4] مقتطف من مقابلة مع السيِّد أ.ر. يُعرِّف نفسه على أنه: ناشط فيسبوكي بالمواقع المهتمة بتراث قسنطينة وعاداتها، أجريت: يوم 22-08-2020.
[5] مقطع من مقابلة أجريت مع السيِّدة س. ل. يوم: 4 أفريل 2016.
[6] https://bit.ly/3Nu9Uay
[7] https://bit.ly/3TSnC8N
[8]صيغة المؤنث، راجعة إلى أنّ مؤلّف المرجع اعتمد تسمية (مغارة) لمصطلحنا (كهف).