إنسانيات عدد 100، أفريل-جوان 2023، ص. 11-14
الاستقلال سنة 1962! كلمات ساحرة أسفرت عن ميلاد دولة يحكمها رجال ونساء تحرّروا من آثار قانون الأهالي، من سوء المعاملة ومن العنف والاحتقار، تحرّروا من 132 سنة من الاضطهاد الاستعماري.
خُصّص هذا العدد من مجلة إنسانيات للذكرى الستين لاستقلال الجزائر، باستحضاره مسارا طويلا محفوفا بالصعاب، إنّه مسار بناء وإعادة بناء المجتمع وفاعليه. يتعلّق الأمر بتمرين للذاكرة ولكن أيضا بحصيلة للمعارف. ركّزت النصوص المقترحة على مسائل البراديغمات وأيضا على الشروط التي سمحت بممارسة العلوم الاجتماعية في ميادين متعدّدة. وإذا ظهر أنّ تجارب الأجيال بعد الاستقلال مختلفة عن تجارب من سبقوهم، فإنه يمكن للحقائق الموروثة من الماضي أن تكون راهنة دائما. وعليه، هناك محاولة لتوضيح السيرورات التي واجهها الجيل الحاضر، وبالخصوص ما تعلّق بمقاربات بناء ممارسات ومعايير ما زالت سائدة في المجتمع.
بعد عشر سنوات من تنظيم الكراسك لملتقى - شهر نوفمبر سنة 2012 بمناسبة خمسينية الاستقلال- حول "التفكير في التغيير بين الاستمرارية والتحول"1، يأتي هذا الإصدار الجديد ليقف على وضع تطور المجتمع في بعض الميادين المختارة من قبل المؤلّفين، باعتبار سنة 1962 محطة رئيسية لإعادة تملّك الجزائر تاريخها. وهذه اللحظة المتعلقة بالذكرى السنوية ذات الرمزية العالية سبقها تذكير آخر كان موضوع كتاب عرض حوصلة المعارف في العلوم الاجتماعية والإنسانية من سنة 1954 إلى 20042، والذي تضمّن حصيلة النتائج وتفكيرا حول تنمية مختلف الميادين التي تدرس الإنسان والمجتمع من خلال الحالة الجزائرية.
يتوافق هذا الإصدار مع العدد مائة من مجلة إنسانيات التي تعدّ فضاء لتقاطع التخصصات والموضوعات التي تتقارب أو تتباعد في مقارباتها وميادينها ومناهجها.
يحتوي هذا العدد على سبعة إسهامات، تقدّم ثلاثة نصوص منها حصيلةً عن تحوّل الأرياف، المهندسين المعماريين الجزائريين والشعر الشعبي، في حين يستكشف نصاّن آخران التاريخ والمعيش المرتبط بالذاكرة في علاقتها بالجمعيات في المقاومة الوطنية، المنطقة ذات القيادة الذاتية لوهران. وتتنوّع النصوص المتبقية بين الإصلاحات التربوية واستراتيجيات الهجرة.
أقدَم عمر بسعود على إنجاز حصيلة عن الزراعة قبل الاستعمار وأثناءه وفترة ما بعد الاستقلال، فقد تعرّضت الزراعة في الجزائر إلى تحوّلات بنيوية أثّرت عميقا في العلاقات الاجتماعية. انطلاقا من الإصلاحات الزراعية سنوات الستّينات والسبعينات وإخفاقاتها، وصولا إلى إعادة تأهيل القطاع الخاص، يتساءل الباحث عن مستقبل الزراعة باعتبار الجزائر بلدا متوسطيا معرّضا لشحّ المياه وتدهور الموارد الطبيعية وعوامل أخرى، إذ تتطلب عوامل الخطر هذه صرامة في "إعادة تأسيس السياسة العمومية الزراعية والريفية".
من جهته أحمد أمين دلاي قدّم بحثا حول الملحون. فهذا الشعر المُغنَّى له خصوصية، كونه بالعربية الدارجة ومنقولا شفاهيا منذ قرون. يغوص المؤلف في الأعمال المنجزة قبل الاستعمار وأثناءه، حيث يبيّن أهمية المعالم التي وضعها المترجمون العسكريون منذ بداية الاستعمار، قبل أن تسهم "المؤسسة الأكاديمية الكولونيالية" في الحفاظ عليها. لم يكن الاهتمام بالآداب الشعبية بعد الاستقلال مدعوما بشكل كاف، في حين تصدّر الملحون في السنوات الأخيرة مكانة لا يستهان بها في البحث والنشر، سواء باللغة العربية أو الفرنسية، وقد أسهم المؤلف نفسه في ذلك بشكل واسع بأبحاثه ومنشوراته.
تناولت عمارة بكوش موضوع المسار التكويني للمهندسين المعماريين الجزائريين خلال ستين سنة من الاستقلال من خلال معالجة السؤال التالي: هل تعكس الزيادة المعتبرة في عدد المعماريين نوعية وتحكما في أبجديات المهنة؟ تشير الباحثة هنا إلى اختلالات ونقائص، بحكم أن فعل البناء بحاجة إلى تظافر الوسائل إضافة إلى "اعتبارات اقتصادية اجتماعية، ثقافية، إيكولوجية ورمزية". وعليه، تتساءل المؤلفة عن نوعية تكوين المتخرّجين حاملي الشهادات، كاشفة عن غموض النصوص القانونية التي تعيق هذه المهنة، منتهية إلى الدعوة إلى تفكير عميق حول هذه المسائل من أجل إصلاح المسار التكويني ومحتواه.
يكشف صادق بن قادة النقاب عن مرحلة تاريخية لمدينة وهران خلال ثورة التحرير الوطنية، إذ كانت المنطقة ذات القيادة الذاتية لوهران سرّية تماما أو مجهولة. ويؤكّد المؤلف بخصوص ذلك على ندرة الأرشيف وندرة الشهادات الموثوقة، إلاّ أنه متمسك بتتبّع آثارها وإثبات وجودها. وقد عرفت هذه الفترة القصيرة (الممتدة من أفريل إلى سبتمبر 1962) التي تواجد فيها ذلك النمط الإداري الاستثنائي توتّرات على مستويات كثيرة أهمّها أزمة صائفة 1962 والنشاط الإرهابي للمنظمة السرّية المسلحة (OAS) التي شكّلت تهديدا على اتفاقيات إيفيان. وعليه، فقد أدّت هذه المنطقة ذات القيادة الذاتية على غرار الجزائر العاصمة دورا جديرا بأن يوضّح ويُعرَف.
تركّز حورية جيلالي في مقالها على العلاقة بين الدينامية السياسية والاجتماعية والثقافية التي أسهمت في ظهور الحركة الوطنية من جهة، والحركة الجمعوية في القطاع الوهراني بين سنتي 1919 و1945 من جهة ثانية. وفي هذا الشأن، توجّه الباحثة اهتمامها نحو الجمعيات المنتسبة إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والكشافة الإسلامية الجزائرية، وتقدم جردا لها في تلك الفترة، تٌعرّف من خلاله بحيثيات نشأتها وعلاقة أعضائها بأحزاب وتيارات الحركة الوطنية.
يحلّل خالد كريم طرق ومسارات هجرة الأنتلجنسيا الجزائرية بعد الاستقلال، وهو يرى بمناسبة تطرّقه إلى حالة أحمد مضوي بأن ذلك يعبّر عن "أنماط تنشئة اجتماعية متميزة أساسا بسيرورات القطيعة، المنفى والعودة". كما يلاحظ الباحث أن تلك العودة يمكن أن تكون "حنينية" أو "استراتيجية" أو الاثنين معا. وتتميز هذه الأنتلجنسيا التي ذهبت إلى أماكن أخرى وعادت إلى بلدها "بحضورها المزدوج ومعاناة المنفى المضاعف"، حيث يظهر أن هذه الازدواجية العاطفية هي السائدة عند هذه الفئة الممزّقة بين مكانين.
يتضمّن العدد أيضا مساهمتين قيّمتين، الأولى حول المدرسة حيث تبيّن فيها نورية بن غبريط-رمعون كيف أنّ الدولة الجزائرية الناشئة جعلت من التربية أولويتها، حيث صار التعليم إجباريا و مجّانيا منذ دستور سنة 1963. تعود الباحثة إلى مسألة تطوّر هذا القطاع الذي تمّ اعتباره منذ الاستقلال وسيلة لبلوغ التطوّر، وإلى مسألة اعتبار التعليم حقّا أساسيا واصفة ذلك بـ "الثورة" المُبهِرة، خصوصا مع سرعة تجاوب العائلات مع فكرة تمدرس الفتيات والذكور. وبعد التذكير بمختلف الإصلاحات، تطرح الباحثة أسئلة مهمّة حول ضرورة تغيير النظام التربوي، والابتعاد عن هيمنة النظام الموروث عن الاستعمار.
وتقف المساهمة الثانية، التي تنشرها مجلة إنسانيات تكريما لروح المؤرخ الراحل محمد غالم، عند موضوع الكتابة التاريخية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر من خلال عدد من الكتابات المحلّية لجزائريين إباّن الفترة العثمانية أمثال: أبي راس المعسكري وابن سحنون الراشدي وأحمد بن هطال التلمساني والحسين الورثلاني. ويحلّل الباحث في ورقته سياق بروز كتابة تاريخية في تلك الفترة تُشرعِنُ للمؤسّسة السياسية العثمانية، لكنّها تتجاوز منطق كتب السِيَر والمناقب، وإن لم تتخلّ عن "الشرعية الفقهية في الدفاع عن السلطة المركزية".
إضافة إلى ذلك، يجد قراء إنسانيات في هذا العدد مقابلة مع المؤرخ الاجتماعي حسن رمعون، تتمحور بشكل رئيسي حول مسائل التاريخ والذاكرة والمواطنة.
وفي الأخير، لا تدّعي المداخل والمقاربات الواردة في هذا العدد الإلمام الشامل بكل الموضوعات، بل تحتاج إلى أن تُثرى بأعمال أخرى. ولن تتوان مجلة إنسانيات، كسابق عهدها، أن تتناول في أعدادها القادمة الأبحاث التي تستهدف متابعة النقاش وإثراء المعارف في ميادين التفكير المتعددة.
لجنة تحرير مجلة إنسانيات
ترجمة محمد حيرش بغداد
1 Algérie 50 ans après l’indépendance (1962-2012). Permanences et changements. Insaniyat, (57-58). En arabe
2 بن غبريط-رمعون نورية، حداب مصطفى (تحت إشراف) (2008). الجزائر 50 سنة من بعد: واقع المعارف في العلوم الاجتماعية والإنسانية (1954-2004). وهران: منشورات مركز البحث في الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية والثقافية -كراسك-.