بتكليف من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، نظمت الندوة الجهوية لجامعات الغرب بالتعاون مع المركز الوطني للبحث في الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية (الكراسك)، ملتقى وطنيا حول "التعليم العالي في الجزائر بعد ستين سنة"؛ تخليدا للذكرى الستين لاستقلال الجزائر تحت شعار: "تاريخ مجيد، عهد جديد". يدخل الملتقى في إطار برنامج التظاهرات العلمية الجامعية لسنة 2022. ويهدف إلى تحليل وتقييم المسار التاريخي لقطاع التعليم العالي الذي شهد تطورا في الهياكل والموارد وتغيرا في الاستراتيجية كونه جزء فاعل في مسار التطور الاجتماعي والاقتصادي.
استهل الأستاذ إسماعين بلاسكا، رئيس الندوة الجهوية لجامعات الغرب ومدير جامعة وهران 2، كلمته الترحيبية بالتنويه بأهمية الملتقى وبرنامجه ومحاوره الأساسية. كما أكّد أيضا وزير التعليم العالي والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي الأستاذ الدكتور عبد الباقي بن زيان، خلال إعلانه الافتتاح الرسمي للملتقى عن أهم المحطات التاريخية التي مر بها القطاع، مبيناً سياق جزأرة المناهج والتكوين العلمي بعد الاستقلال، مع استحداث هيكلة جديدة للتعليم العالي، علاوة على تقديم إحصائيات حول الهياكل الجامعية والأساتذة والطلبة التي عرفت ارتفاعاً ملحوظا؛ إلى جانب ترتيب الجزائر في مجال الموارد البشرية بحيث أصبحت تحتل المرتبة الأولى مغاربياً والثالثة إفريقياً والسابعة عربياً. ولم يغفل الوزير التطرق إلى مختلف التشريعات التي شهدها القطاع والمراسيم المنظمة له، والتي فتحت الباب واسعاً أمام ارتفاع عدد مراكز ووحدات البحث، واستحداث وكالات موضوعاتية للبحث العلمي، وتطور في الخدمات الجامعية، خاصة مع اعتماد تقنية التعليم العالي عن بعد، داعيا في الأخير إلى تقديم تصورات تثري قطاع التعليم العالي بهدف تحقيق التنمية المستدامة ومواجهة التحديات المستقبلية.
تمحورت الجلسة العلمية الأولى حول مراحل تطور نظام التعليم العالي في الجزائر، حيث تطرّق الأستاذ عبد الحميد جكون، مدير مركز البحث في العلوم الصيدلانية بقسنطينة، في مداخلته الموسومة بــــــ: "إصلاحات 1971: ميلاد الجامعة الوطنية"، إلى واقع حال إصلاح التعليم العالي منذ إنشاء الوزارة سنة 1970، مشيراً إلى أهمّ المخططات والقوانين المنظمة له ووضعية التربصات والمنح والتعليم، منتقداً أساليب التكوين في الجامعة التي تخصص وقتا أكبر للامتحانات على حساب التعليم، مقترحا العودة إلى الإصلاحات المطبقة دوليا مع ضرورة تبادل الخبرات والتعاون الدولي في التعليم والتكوين. وفي سياق الاصلاحات دائماً، قدم الأستاذ عبد الكريم حرز الله من جامعة مسيلة مداخلة حول "إصلاحات 1984 وظروفها: عناصر للنقاش"، سرد خلالها الإصلاحات المقررة مع بقية البرامج التدعيمية التي تلتها، منوهاً بالسياق العام الذي جاءت به وربطها بمجموعة من المتغيرات منها الاقتصادية في إشارة إلى تراجع أسعار البترول، والسياسية من خلال تعاقب الوزراء على القطاع، كما بيّن السمات البيداغوجية والتاريخية للفاعلين المساهمين في الإصلاحات. وفي تقديمه لقراءة "راهن التعليم العالي لإصلاحات نظام ل. م. د"، بين الأستاذ بن عاشور جعفر من الجلفة أنّ هندسة التعليم وفق هذا النظام الذي تم اقتراحه شهر مارس 2004 ساعد في إعادة إصلاحات فترتي 1971 و1984، باعتباره يرتكز على التوازن بين النظري والتطبيقي، كما أنّ المتابعة العلمية، حسبه، كانت تتم بطرق تقليدية ما حال دون ظهور نتائج تطبيقه، علاوة على انعدام المتابعة الدورية لطرق وآليات تطبيقه. وقد اقترح في آخر مداخلته ضرورة العودة إلى الاصلاحات الدولية في إطار تبادل الخبرات.
عالجت الجلسة العلمية الثانية من الملتقى قطاع التعليم العالي من المنظور التاريخي، حيث تطرق الأستاذ عابد سلطانة من جامعة وهران 1، إلى "التعليم في الجزائر في الفترة الاستعمارية: 1830-1962"، مبيّنا أنه كان يخدم أجندة المعمرين السياسية والثقافية. وحول "واقع التعليم العالي للفترة الحديثة" تساءلت الأستاذة فوزية لزغم من جامعة تيارت، عن واقع وجود جامعة جزائرية لتقرّ استنادا على وثائق تاريخية أنّ نظام التعليم لهذه الفترة كان يستند على المدارس العليا الثلاث التالية: مدرسة الأندلسيين، مدرسة شيخ البلاد ومدرسة القشاشية مع وجود "الجامع الأعظم" بإيالة الجزائر وكل هذه المؤسسات كانت تقدم تعليما عاليا. وخلال عرضه لموضوع "التعليم العالي في الجزائر: من نهاية الاستعمار لغاية الاصلاحات الأولى (1962- 1971)"، قدم الأستاذ قدور وهراني من جامعة تلمسان، حوصلة تاريخية وإحصائية لواقع حال التعليم، مؤكداً بأنه بالرغم من إحراق الاستعمار مكتبة الجزائر يوم 7 جوان 1960، إلّا أنّ ذلك لم يمنع من رفع قدرات التعليم وتأطير الطاقات البشرية، تزامناً مع تأسيس أول جامعة جزائرية يوم 20 ديسمبر 1967 في وهران، بفضل تنازل الجيش الشعبي الوطني عن ثكنة في السانيا، لتشهد الجامعة الجزائرية بعد ذلك تطوراً خاصّة بعد تأسيس وزارة التعليم العالي سنة 1970.
كان موضوع "المدارس العليا في الجزائر: أقطاب الامتياز"، محور نقاش الأساتذة المتدخلين في الجلسة العلمية الثالثة من الملتقى، حيث بيّن الأستاذ مولود كوديل من المدرسة العليا للإعلام الآلي في الجزائر، دور المدارس العليا في التكوين النوعي للموارد البشرية وفعاليتها والذي يسهم في تأمين الجودة وفي التطوير الاجتماعي والاقتصادي انطلاقاً من استغلال الرقمنة، مستشهدا بعرض نموذج طالب جزائري أبدع في مجال تطوير الإنسان الآلي. وفي السياق نفسه تطرقت الأستاذة زبيدة سنوسي من المدرسة الوطنية المتعددة التقنيات بوهران وباحثة مشاركة في الكراسك، إلى "تكوين الأساتذة والتحديات المهنية حالة المدارس العليا للأساتذة"، بدءًا من تاريخ إنشاء أول مدرسة عليا بالقبة سنة 1964، مذكّرة بسياق تكوين الأساتذة في ظرف استعجالي ارتكز على جمهرة التعليم، وذلك استناداً على نتائج برنامج وطني للبحث أشرف عليه مجموعة من الباحثين من المركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجية الاجتماعيّة والثقافية. وفي الجلسة العلمية الرابعة المتعلقة بالدكتوراه، التكوين والبحث العلمي تطرق الباحث فؤاد نوار من الكراسك، إلى موضوع "تشغيلية حاملي الشهادات الجامعية وانتقائية سوق الشغل: عناصر للنقاش"، حيث بيّن الباحث واقع إدماج حاملي الشهادات العليا في سوق العمل وصعوب، وفق ما بينته دراسته والتراكمات العلمية المنجزة على مستوى المركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجية الاجتماعيّة والثقافية (تحقيقات، مشاريع ومنشورات)، مقراً بوجود مجموعة من المؤشرات تحتكم إليها ظروف التشغيل انتجت واقع تشغيل متباين من حيث المسارات، باعتبار عملية الإدماج تعتمد على انتقائية صارمة ما أثّر عكسيًّا على نوع وتخصص التكوين العالي، وجعل الحصول على شهادة جامعية لا يعكس بالضّرورة ترقية اجتماعية.
تخلل الجلسات العلمية عرض شريط تاريخي عن ظروف ومسار تأسيس جامعة وهران مع التّركيز على مشرفيها ورهاناتها عبر محطات تاريخية طبعتها مجموعة من التحديات في مجال التكوين والتأطير والمصير.
تمحورت الحلقات النقاشية حول، وحالات مخرجات نظام ل. م. د، في ظل التحديات التنموية في المجالين الاجتماعي والاقتصادي، علاوة على كيفيات الاستغلال الأمثل للمدارس العليا في سوق العمل مع طرق التفكير حول مستقبل التشغيل لحاملي الشهادات في العلوم الإنسانية والاجتماعية بشكل يحقق التوازن بين التكوين والتشغيل.
انتهت أشغال الملتقى الوطني باستعراض قدّمه الخبير لدى الندوة الجهوية لجامعات الغرب بوهران الأستاذ عبد الرحمن للو، حوصلة تقييمية في شكل مخرجات الملتقى استخلص فيها أن التعليم العالي انبنى على إرث ثقافي واجتماعي تاريخي عرف تطورا في المناهج والتكوين عبر مراحل إقرار الإصلاحات وتطبيقها، لذلك يستلزم تكييف واقع التعليم العالي مع واقع اقتصادي متطور، واقتراح إنشاء مرصد وطني لإدماج حاملي الشهادات في سوق العمل، بالإضافة إلى ذلك أُثريت مجموعة من التساؤلات يمكن مناقشتها في المواعيد المقبلة لسلسلة الملتقيات الوطنية المبرمجة.
نجاة لحضيري