Sélectionnez votre langue

البعد الاجتماعي للجائحة


حسين أيت عيسي :Centre universitaire Morsli Abdellah (SETS), 42 000, Tipaza, Algérie

عمّار مانع: Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie


Télecharger le PDF


مثّلت جائحة كوفيد 19أزمة صحية عالمية بالغة الخطورة، فرضت وضعية استثنائية بشيئ فجائي، ما سبّب توقّفا في وتيرة الحياة الاجتماعية الاعتيادية في كل أنحاء العالم1. إن القاسم المشترك بين كل الكوارث الطبيعية هو أنها تؤثر في المجالين معا، الديمغرافي والاقتصادي، لكن ميزة جائحة (كوفيد 19) هي أنها وباء عالمي، بدرجة خطورة غير مسبوقة، غامضة في طبيعتها، ومعقدة في تحوراتها ونمط انتشارها، كما أنها أزمة مستمرة حيث دامت أكثر من عامين، وهذا ما ساهم في تعميق انعكاساتها الاجتماعية، لقد كان التحدي الاجتماعي صعبا ومعقدًا، إذ كان ينبغي أن تستمر الأنشطة الضرورية، لكن وفق شروط وقائية صارمة. وهذا ما أثّر على المجتمع حيث فُرض عليه التماسك في ظل التباعد، التفاؤل ولكن بحذر شديد جدّا.

يعرض المقال رؤية تحليلية أولية للعلاقة الجدلية بين الجائحة والمجتمع وعلم الاجتماع، انطلاقا من ملاحظات وتجربة معايشة زمن الجائحة في المجتمع الجزائري، ووفق منطق التحليل السوسيولوجي، وقد ركزنا فيه على تجليات البعد الاجتماعي للجائحة من خلال إبراز تأثيرها في المجتمع وطبيعة التغيرات التي طرأت على أنماط التفكير والسلوك في المجتمع الجزائري خلالها.

أي دور لعالم الاجتماع في زمن الجائحة؟

برز خلال زمن الجائحة طلب اجتماعي على المعرفة السوسيولوجية، نظرا لطبيعة الظواهر والتساؤلات والنقاشات التي أفرزتها الجائحة على مسرح الحياة الاجتماعية وكذا في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. كما رصدنا بروز أهمية بعض تخصصات علم الاجتماع وكذا مواضيع وإشكاليات التفكير والبحث السوسيولوجي، كعلم اجتماع الصحة أو علم الاجتماع الطبي وعلم اجتماع المخاطر، وكذا قضايا الثقافة والتربية الصحية والمؤسسة الاستشفائية والتضامن الاجتماعي والرقمنة والإدارة الإلكترونية والتعليم عن بعد، وغيرها من المواضيع. فقد أبرز الوضع الجديد الأهمية غير المسبوقة لقضايا وتساؤلات ذات صلة بثقافتنا الصحية والاستهلاكية وقيم التضامن الاجتماعي وبدائل التعليم الحضوري وغيرها، لكن تبين أنه مجرد فضول عابر نتيجة التغيرات المفاجئة على مستوى أسلوب الحياة والعلاقات الاجتماعية ومختلف الظواهر المرضية التي عقّدت تلك الأزمة.

إن أهمية الرصد والتحليل لا تنحصر في إنتاج المعرفة العلمية، وإنما تتعداه إلى تحقيق هدف عملي يتمثل في التحكم، وذلك من خلال توظيف تلك المعرفة للمساهمة في تحسين أنماط استجابة وتكيّف المجتمع والدولة مع مثل تلك التحديات والمخاطر، بما يقلص أضرارها المتعددة. وقد كان (إميل دوركايم) أبرز علماء الاجتماع الذين أكدوا على إمكانية وجدوى التكامل بين المعرفة السوسيولوجية و(الإصلاح) الاجتماعي، فقد كتب في مقدمة الطبعة الأولى لكتاب (تقسيم العمل الاجتماعي): "الأولوية التي نمنحها لدراسة الواقع لا تعني تخّلينا عن تحسينه، بل إن بحوثنا لن تستحق ساعة عناء إذا لم تؤدّي سوى لفائدة نظرية. أما حرصنا على الفصل بين المشكلات النظرية والمشكلات العملية فليس لإهمال هذه الأخيرة، بل بالعكس، لنكون في حالة تتيح لنا حلها بصفة أفضل" (Durkheim, 1991, p. 2). وابتداء من سبعينات القرن الماضي، شرع (ألان توران) بتطبيق منهج التدخل الاجتماعي، الذي كان في بداياته مكرسا لدراسة الحركات الاحتجاجية والصراعات الاجتماعية. فهو يقوم على أساس الربط والاحتكاك بين الباحثين والفاعلين المعنيين، أي التواصل بين التحليل السوسيولوجي والفعل الاجتماعي، بهدف معرفة كيف يُبنى الفعل الجماعي والحركات الاجتماعية. بالنسبة للفاعلين فإن وعيهم بعملية تشكل أفعالهم الجماعية ضروري لتحسين نضالهم الاجتماعي الذي يكتسي أهمية قصوى. (Dubet, 1981, p. 115). وبهذا يساهم عالم الاجتماع في الفعل الاجتماعي الذي يلاحظه، ليس كفاعل وإنما من خلال المعرفة العلمية التي تجعل الفاعلين الاجتماعيين على وعي بأنفسهم (Beitone, 2002, p. 122). غير أن ما يميز علم الاجتماع، بالإضافة إلى الموقف النقدي المتجذر، هو تلك الرؤية الكلية للشأن الاجتماعي، حيث يدين هذا التحليل بنجاعته إلى تبني مبدأ الكل المتضامن، الذي تعززت مبرراته بعودة النزعة الموسوعية الأصيلة تحت مسمى التجسير بين العلوم، كما تتضح مبررات ومعالم ذلك من خلال المؤلف الجماعي الذي أنجزه فريق البحث (Dulac)، والذي حمل عنوان "من أجل علم للإجتماعي" (Grataloup, 2020).

تظهر أهميةالدراسة السوسيولوجية للصحة والمرض، في قدرتها على تحديد التمثلات الاجتماعية لهما، الدراسة الوصفية لوضعيتها وتوزيعها الاجتماعي، وكذا تفسير الأنماط الملاحظة (سكوت، 2011، ج2، ص. 102)، وذلك وفق العوامل الاجتماعية التي تلعب دورا حيويا في تحديد كل الجوانب السابقة. وقد تجلّت هذه الأهمية، وبالتالي أهمية تدخل علماء الاجتماع، خلال أزمة الجائحة، خاصة بما أن فيروس (كوفيد 19) ينتقل أساسا عبر الاحتكاك والتقارب الاجتماعي، أي من خلال شبكة ونمط العلاقات الاجتماعية، ما يبرر تبني استراتيجية وقائية تعتمد أساسا على التباعد الاجتماعي والحجر والعزل، وتوقيف بعض الأنشطة الاجتماعية، الشعائر التعبدية والتعليم والعمل والتجارة، أو تغيير نمط ممارستها بما يقلص احتمالات انتقال العدوى. وبما أن أنماط السلوك تتمخض عن أنماط التفكير، فإن إدراك طبيعة التمثلات الاجتماعية حيال الجائحة من شأنها أن تكشف للهيئات الرسمية المعنية بإدارة الأزمة مكامن القوة والضعف على مستوى تخطيط وتطبيق استراتيجية التكيّف، وكذا أفضل سبل التأثير على السلوك الجماعي بما يعزز الانخراط والانضباط الطوعي، فالتصورات التي يحملها الأفراد حول المرض والصحة، وبخاصة الأمراض الوبائية، قد تكون تصورات علمية وصائبة أو العكس، وهو ما يوّجه ردود أفعالهم ودرجة التزامهم بالإجراءات الوقائية، وبالتالي فإما أن يدعم الاستراتيجية العامة لمجابهة الأزمة أو أن يعيقها، وهو ما يثير التساؤل عن نمط تكيّف المجتمع مع إكراهات زمن الجائحة، بما في ذلك الالتزام بإجراءات الحجر والتباعد وارتداء القناع الواقي والتعقيم والخضوع للتحاليل المخبرية والإبلاغ عن الإصابات. وكذا محاولة تحديد العوامل الاجتماعية المؤثرة في درجة الوعي والالتزام بذلك. فلنذكر على سبيل المثال أن تحقيق ذلك الالتزام، وبخاصة إجراء التحاليل المخبرية المكلفة والاقتناء اليومي لمواد التعقيم والأقنعة الواقية للأطفال المتمدرسين، قد شكل عبئا ماليا مرهقا جدا لأرباب الأسر ذوي الدخل الضعيف، خاصة أولئك الذين توقفت أنشطتهم المهنية فجأة لأسباب وقائية، وقس على ذلك عديد الوضعيات الاجتماعية الصعبة التي لفتت انتباهنا إلى أن مستوى الوعي وحده لا يكفي لتفسير ضعف الالتزام بالإجراءات الوقائية، وأن الإمكانيات المادية لها تأثيرٌ حاسما لا يقل أهمية.

يبدو أنّ مختلف أشكال ردود الفعل من جهة على مستوى الالتزام بالإجراءات الوقائية بين الحيطة والانضباط، والمجازفة والتمرّد من جهة ثانية، تتأثر بعديد المتغيرات الاجتماعية كالفئة العمرية والمستوى التعليمي والثقافي والمستوى الاقتصادي والوضعية المهنية ومجال العمل وكذا نمط الإقامة والحي السكني وغيرها من العوامل التي تتدخل على ثلاثة مستويات على الأقل: هي درجة الوعي بطبيعة التهديد، الشعور بالمسؤولية الأسرية والمجتمعية وعدم توفر الظروف والإمكانيات، فلقد لاحظنا أن تأثير الحجر في الأحياء الراقية لم يكن مثل ما عايشته الأحياء الشعبية، خاصة منها الفقيرة والمكتظة، ولا شك أن صعوبة تطبيق التباعد بين أفراد أسرة صغيرة في مسكن واسع ليس مثل تطبيقه على أسرة كبيرة في مسكن ضيق، وبالمثل فإن صعوبات الزمن الاجتماعي للجائحة تختلف بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية، نظرا لأسباب عديدة، خاصة منها درجة العزلة ونمط التضامن الاجتماعي وغيرها من الخصائص، ولهذا فإن الدراسة السوسيولوجية للواقع والظواهر الاجتماعية المرتبط بزمن الجائحة كفيلة بالمساهمة بتقوية مناعة المجتمع وترشيد أنماط تكيّفه مع مثل هذه الأزمات الصحية.

التكوين والبحث في علم الاجتماع زمن الجائحة

من بين التغيرّات التي أثارت الانتباه خلال زمن الجائحة تلك المتعلقة بالتحولات القسرية التي فرضها خطر الانتشار الوبائي ومجمل الإجراءات الاستراتيجية الوقائية التي فرضتها السلطات الرسمية على المؤسسة الجامعية الجزائرية، وهي تغيرات تكيفية تمت في وقت قياسي واستهدفت خاصة التوفيق بين المحافظة على استمرارية الحد الأدنى الضروري من النشاطات البيداغوجية والبحثية مع الالتزام بكافة الاجراءات الوقائية للمحافظة على سلامة الطلبة والأساتذة والموظفين، وقد كانت تلك التغيرات موحدة على مستوى كل الجامعات، بغض النظر عن ميادين وشعب التكوين، بما في ذلك أقسام علم الاجتماع.

لم يكن البحث الأكاديمي بمعزل عن تأثير الجائحة، فخلال مدة عامين على الأقل وقع تركيز للاهتمامات البحثية على الجائحة وكل ما، وكل ما يرتبط بها، فشكلت محور اهتمام أساسي طغى نسبيا على كل المواضيع والقضايا البحثية الأخرى. وأفرز هذا التوجه مواضيع بحث غير معهودة، هي ثمرة تقاطع المواضيع التقليدية مع الوضع الاجتماعي الجديد، ما يعكس حالة بحثية صحية ومرونة في الممارسة السوسيولوجية ، وقدرة على التكيّف المعرفي مع التغيّر الاجتماعي المفاجئ ومواكبة حركية المجتمع، وهي المرونة التي لوحظت على مستوى تكيّيف المقاربات المنهجية الذي فرضته ضرورات موضوعية وميدانية. إذ بينما يستند البحث السوسيولوجي أساسا على التحقيق الميداني والاحتكاك بالأشخاص كفئات اجتماعية متواجدة في بيئات ومؤسسات اجتماعية واقعية، فإن وضعية الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي والإجراءات الوقائية فرض على الطلبة توظيف مناهج وتقنيات البحث التقليدية بطريقة غير تقليدية، وقد اعتمد هذا التكيّف البحثي على توظيف بدائل وتعديلات منهجية وتقنية، كتعزيز نزعة استخدام تقنية الاستمارة في البحث، التي كانت مسيطرة أصلا قبل زمن الجائحة مقارنة بتقنيات المقابلة والملاحظة، وتوظيف نمط الاستمارة الإلكترونية بالذات على نطاق واسع، ما أثر على مستوى التزام المعايير العلمية للمعاينة، بل على اختيارات مواضيع البحث ذاتها، حيث برز الميل لتلك التي تفي معها الاستمارة بالغرض، بما في ذلك هيمنة المقاربة الكمية ككل.

كما تمّ أيضا إعفاء الطلبة من إجراء التحقيق الميداني عند إنجاز ومناقشة مذكرات الماستر، وهو لبّ البحث السوسيولوجي، وكدا تكييف نمط الإشراف مع الإجراءات الوقائية، فطغى عليه الإشراف عن بعد، حيث يكتفي الأساتذة المشرفون غالبا بمراجعة وتصحيح المادة النظرية للتحقيق الميداني، مع تقليص قياسي للتفاعل المباشر بين الأساتذة والطلبة، إضافة إلى إلغاء جلسات مناقشة المذكرات، والاكتفاء بتقييم المذكرات من طرف أعضاء اللجان، وثمّة بالطبع فرق شاسع بين هذين النمطين من التقييم، خاصة بالنسبة للتكوين في مجال علم الاجتماع الذي يتسم بخصوصيات تفرض التركيز على القدرات النقدية والتنظيرية والتحكم في منهجية وتقنيات البحث الميداني.

يتعلق التكييف الآخر الذي طال الممارسة السوسيولوجية بالنشاطات العلمية، لا سيما الندوات والأيام الدراسية والملتقيات الوطنية والدولية، فقد تعمّم اعتماد نمط النشاطات والمشاركات العلمية عن بعد. وكان لذلك أثر مزدوج، فمن جهة خفّف تكاليف تنظيم هذه النشاطات، خاصة المؤتمرات الدولية، وأعفى الأساتذة والباحثين من مشقة وكلفة التنقل، وأدى من جهة أخرى إلى كثافة النشاطات العلمية، نظرا لسهولة تنظيمها مقارنة بالنشاطات الحضورية، لكن ذلك يثير التساؤل حول طبيعة تأثير تغيّر نمط التنظيم والمشاركة العلمية في النشاطات الافتراضية على الجودة والصرامة العلمية، خاصة بالنظر إلى الطفرة الكبيرة التي عرفها عدد المداخلات في الملتقى الواحد، بينما الكم عادة ما يعقد مهمة المحافظة على الجودة.

"مثلت تلك التكييفات (التنازلات) ضرورة لاستئناف التكوين، وبخاصة لتجنّب السنة البيضاء. لكن ثمّة قطاعات لا يمكن معها القبول بالحد الأدنى، كما هو الحال بالنسبة لقطاع التعليم العالي، فالحد الأدنى من الوسائل والشروط البيداغوجية للتكوين عن بعد، التي استأنفت الدراسة في إطارها خلال عامين، ليس دون تأثير على جودة وقيمة التكوين. خاصة أن الأساتذة لم تُتح لهم إمكانية تطبيق المعايير النموذجية للتقييم، بسبب نفس المبرر الذي عطّل كل مُسائلة ذات صلة بالجودة، "لقد فرض التعليم عن بعد نفسه خيارا لا غنى عنه ... لكن وبالرغم من أهمية هذه الصيغة البديلة لسدّ الفجوة البيداغوجية إلا أنها تفترض حوكمة بيداغوجية خاصّة وتفكيرا إجرائيا عميقا يأخذ بعين الاعتبار الفوارق الاجتماعية والصعوبات التقنية" (المستاري جيلالي، 2022، ص. 17)، وعلى كل حال فإن الظروف الاستثنائية في كل مجتمع تفرض بالضرورة إجراءات وأنماط عمل استثنائية، لكن الضرورة ينبغي أن تُقدر بقدرها، خاصة بالنسبة لقطاع استراتيجي كالتعليم العالي، بحيث لا تتحوّل الأزمة إلى فرصة أو مبرر لمختلف التجاوزات والتنازلات حيال الشروط والمعايير النموذجية للتكوين والبحث والنشاط العلمي الأكاديمي. ما يستدعي القيام بدراسة تقييمية شاملة وموضوعية لأنماط تكيّف المؤسسة الجامعية زمن الجائحة، وانعكاسات ذلك ، وكذا دور الفاعلين ضمنها من طلبة وأساتذة.

الزمن الاجتماعي للجائحة وأنماط تكيّف المجتمع

فرضت "غريزة البقاء" تكيفا اجتماعيا قياسيا، على مستوى كل الحقول والمؤسسات المجتمعية، كالأسرة والجيرة والعمل والتعليم والتجارة والنقل والرياضة والترفيه وغيرها، بما في ذلك تكييف الشعائر التعبدية وتقاليد إقامة الجنائز والاحتفال بالزواج، لذلك بدا الزمن الاجتماعي للجائحة بمثابة فرصة استثنائية للعقل السوسيولوجي، إذ أتاح اكتشاف جوانب خفية وغير متوقعة على مستوى أنماط تكيّف المجتمع مع الخوف الجماعي من خطر الموت وأنماط التفكير والسلوك المستجدة، فثمة بالضرورة أبعاد وانعكاسات ومحددات اجتماعية للكوارث التي تضرب المجتمع الإنساني، وذلك بحسب روبرت ميرتون، لأنها "تتيح فرصا مهمة للبحوث السوسيولوجية، على اعتبار أن الظروف الناجمة عن تلك الضغوط والمشقات الجماعية تختصر العمليات الاجتماعية إلى مدى زمني قصير واستثنائي، كما أنّ تلك الظروف تجعل من السلوك الخاص سلوكا عاما مُتاحاً للدراسة، وأنها تكشف على جوانب النظم والعمليات الاجتماعية التي يحجبها عنا عادة روتين الحياة اليومية" (سكوت، 2011، ج1، ص. 601).

إن الجائحة، كغيرها من التحديّات والمخاطر الكبرى التي تواجه مجتمعا ما، هي بمثابة "مختبر مفتوح" يتيح لعلماء الاجتماع بوجه خاص تقدير الوعي الصحي وكذا درجة الانضباط والتضامن الاجتماعيين وغيرها من الجوانب ذات الصلة بجاهزية المجتمع للتكيّف الفعّال والصمود أمام تهديد وبائي، قد يتكرّر فجأة بشكل مختلف وبخطورة قد تكون أشد، وإذا كان ذلك التكيّف يتحدد على مستوى المجتمع من خلال الوعي والانضباط وروح الجماعة والتضامن، فإنه يتحدد على مستوى المؤسسات والأنظمة من خلال دقة الاستشراف والتخطيط والتنظيم وسرعة الاستجابة والتكيّف والاكتفاء الذاتي، وكذا جاهزية المؤسسات المعنية مباشرة بتحمّل أعباء مضاعفة، وعلى رأسها المستشفيات، ولقد كشفت الجائحة أيضا حجم الفوارق الاجتماعية وتأثيرها على فرص النجاة أمام المخاطر الصحية، بما في ذلك واقع الفقر الاجتماعي والظروف الصعبة للفئات الاجتماعية المهمشة والهشّة، سواء في الأرياف أو المدن.

فقد كان زمن الجائحة عاملا مضاعفا ومعمقا لتلك الظروف الصعبة، لأن الصمود أمام الخطر الوبائي يتطلب إمكانيات مادية ورعاية وخدمات صحية لا تتوفر للجميع بنفس المستوى والنوعية، إذ فقدت نسبة معتبرة من الجزائريين مصدر العيش خلال الجائحة. لقد تبيّن مرة أخرى وجه آخر لواقع تفاوت الحظوظ في المجتمع الواحد، يتعلّق هنا بحظوظ المرض والوفاة، بما في ذلك فرص تلقي الرعاية الصحية النوعية في الوقت المناسب، والتي تحدّد فرصة النجاة من الموت.

إن الإقصاء الاجتماعي، بحسب عالم الاجتماع سارج بوغام، يمرّ عبر ثلاث مراحل، يفقد فيها الفرد أو الفئة الاجتماعية تدرجيا صلته بالمجتمع: مرحلة العوز أو الهشاشة، ثم مرحلة التبعية، ثم مرحلة القطيعة (Beitone, 2002, p. 394)، وهو يقصد بالقطيعة حالة الشعور بانعدام الانتماء إلى للمجتمع، فلقد تبيّن أن عديد الخصائص السوسيو ديمغرافية تتقاطع لتنتج لنا وضعيات اجتماعية جد متباينة حيال حظوظ مقاومة الجائحة والتكيّف مع الوضع الاستثنائي الذي فرضته، خاصة تلك المتعلقة بالوضعية المهنية وقطاع ونمط العمل، أو طبيعة المهنة ومستوى الدخل والمستوى التعليمي والحالة العائلية والانتماء الجغرافي ونمط الإقامة الحضرية ونمط الإقامة السكنية ونمط السكن وحجم الأسرة.

لقد خلص عالم الاجتماع صفار زيتون إلى أن هذه" الأزمة الصحية قدوضعت على المحك مجمل الأبعاد المشكلة للرابط الاجتماعي" (Safar Zitoun, 2022, p. 138)، وفي هذا السياق أتاحت الجائحة إدراك أهمية الجماعات والروابط الأولية،أو ما يطلق عليها البنى التقليدية للمجتمع، وبخاصة العائلة. تمكنت العائلة الجزائرية بفضل قيم التضامن من سدّ ثغرة كبيرة وتأدية دور تعويضي وتكميلي حاسم على مستوى التكفل الذاتي بالفئات الهشة والضعيفة، مثل كبار السن وذوي الإعاقات والأمراض المزمنة. تلك الفئات التي لم تستطع المؤسسات الرسمية للرعاية الاجتماعية، التكفل بها.

أتاح الزمن الاجتماعي للجائحة إدراك الأهمية المحورية للمدرسة، كمؤسسة تعليمية وتربوية، وأيضا كنشاط يومي يمتص فراغا كبيرا لدى الأطفال والمراهقين في الأطوار التعليمية الثلاث. فقد كان لتوقف 9.561.350 تلميذا عن التعليم، ابتداء من مارس 2019، تأثيرا على وتيرة الحياة لدى العائلات الجزائرية، خاصة تلك التي تعاني من ضيق السكن، ما عقّد من تطبيق الإجراءات الوقائية كالحجر الصحي المنزلي والتباعد، بالإضافة إلى مشكلة انعدام بدائل استغلال أوقات الفراغ والترفيه بما يخفف من الضغط والتوتر، خاصة مع استمرار وطول فترة الأزمة. وقد سمح هذا الوضع المستجد بإدراك أولوية تعزيز وتسريع عملية الانخراط الفعّال في الرقمنة الشاملة والإدارة الالكترونية على مستوى كل قطاعات النشاط الاجتماعي، حيث برزت تلك الحاجة الانتقالية خلال زمن الجائحة على مستوى التسيير الإداري والعمل والتعليم والتجارة، فهي دعامة موازية للنمط التقليدي وبديلا له في الظروف الاستثنائية، على أن تشمل هذه العملية بوجه خاص إحداث ثورة في الذهنيات وأنماط التفكير.

وخلال الأزمة برز مشكل آخر بتعلق بإنتاج ونشر الإحصائيات الرسمية. وحالة الشك في الإحصاءات المقدمة والتي تعمقت مع حالة الخوف. والقلق الاجتماعي، بالإضافة إلى تأثير الأخبار والإشاعات المروّجة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا الشك تعدى إلى الخطاب الرسمي المتعلق بعدد الإصابات والتعافي والوفيات مثلا، ما يلفت الانتباه إلى خطر وعائق أساسي يحول دون تجاوب المجتمع مع التعليمات المرتبطة بإجراءات الاستراتيجية الوقائية، خاصة على مستوى الالتزام الطوعي، حيث لا يمكن تحقيق الانضباط الجماعي الضروري لمجابهة فعّالة للجائحة، من خلال الاستناد فقط على الرقابة الخارجية واللجوء إلى الاكراه الجسدي وفرض العقوبات، كما هو الحال مثلا بالنسبة لاحترام المواطنين لأوقات الحظر.

في السياق نفسه أثارت مسألة الانضباط الاجتماعي الانتباه لتأثير العامل الديني ودوره في تفعيل الالتزام بإجراءات الاستراتيجية الوقائية، إذ لم تكن المؤسّسة الدينية، ولا الخطاب الديني ككل، بمعزل عن تحولات وتساؤلات المجتمع الجزائري في زمن الجائحة، بل لقد "كان الرهان الرئيس للإدراة الدينية في الجزائر خلال الفترة الأولى من جائحة كورونا هو تجسيد التدابير الصحية التي اتخذتها السلطات العليا في البلاد وتبريرها دينيا "(المستاري، 2022، ص. 143). تحولت الجائحة بسرعة إلى ظاهرة اجتماعية كلية أثارت تساؤلات ذات طابع فقهي، شمل الممارسات التعبدية وأحكام الجنائز والمعاملات أيضا، كما أتاحت هذه الأزمة ملاحظة دور المؤسسات الدينية، كالمساجد والزوايا وهيئات الإفتاء، وفاعليها من العلماء والأئمة. وأثار تساؤلات حول التمثلات والقيم السلوكية التي يؤسّس لها الإسلام حيال هذا الوضع الوبائي، سواء باتجاه الاحتياط والانضباط، أو التواكل والتسيّب. ولقد كشفت الأيام الأولى لظهور الوباء عن بعض الاختلالات على مستوى الوعي والخطاب الديني، وكان من مؤشرات ذلك ترويج فكرة مفادها أن هذا الوباء هو عقاب من الله للصين بسبب اضطهادهم للأقليات المسلمة، لكنه ما لبث أن اجتاح العالم بأسره، بما في ذلك العالم الإسلامي، وصل إلى الحرم المكي وفرض توقيف أداء مناسك الحج والعمرة، هذا التفكير اللاعقلاني، كما كشفت الجائحة عن وجه آخر للوظيفة الاجتماعية للدين الاسلامي، الذي انخرط، من خلال مؤسّساته وفاعليه، في معركة الوقاية ومعركة صناعة الوعي معا، إذ لوحظ التفاعل الإيجابي لعموم أئمة المساجد مع تحدّيات الأزمة، خاصة من خلال توظيف ثقل وفعالية الوازع الديني والسلطة الرمزية للعلماء لتأصيل ودعم القرارات الرسمية المتعلقة بمختلف، الإجراءات الوقائية، بما في ذلك قرار التباعد في صلاة الجماعة وغلق بيوت الوضوء ثم غلق المساجد كليا وتكييف فقه ومراسيم الجنائز، وما يتعلق بتغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه وتقديم العزاء، وذلك انطلاقا من اجتهادات فقهية لعلماء معاصرين من الجزائر ومن العالم الإسلامي (ليازيدي سليمان، 2023). وقد كتب رئيس هيئة العلماء والدعاة في ألمانيا طه عمر سليمان مقالا ثريا حول الموضوع أبرز من خلاله كيف أن جائحة كورونا أنتجت حراكا فقهيا كبيرا على مستوى العالم الإسلامي برمته (طه سليمان، 2020). غير أنه تجدر الإشارة أيضا إلى ظاهرة ذات دلالة عميقة ظهرت خلال الفترة الأولى من الجائحة، تتعلق بآراء فقهية معارضة لمنحى الخطاب الرسمي، خاصة بالنسبة لمسألة غلق المساجد، إلى أن ذلك الخلاف كان متوقعا بالنظر إلى ضعف سلطة مرجعية الفتوى في الجزائر وتباين أصول المذاهب الفقهية السائدة في ظل عولمة الفتوى.

دلالات أنماط مواجهة الجائحة وفعاليتها

لعلّ صعوبات وانعكاسات أزمة الجائحة قد أتاحت لمجتمعات "العالم الثالث" إدراك البعد الأهم والأخطر في إشكالية التخلف الحضاري، حيث تبين أهمية تحقيق التنمية والتقدم، خاصة في الظروف الحرجة وأزمنة المخاطر الكبرى، فمن خلال مقارنة سرعة الاستجابة والتكيّف وفعالية المجابهة ووفرة الإمكانيات والاكتفاء الذاتي والقدرة الخلاقة في إبداع الحلول الضرورية ونوعية التكفل الاجتماعي والصحي التي تميزت بها دول ومجتمعات عبر العالم دون غيرها، يظهر جليا أن قوّة الفتك التي يتميز بها فيروس كوفيد19 ليست هي العامل الوحيد المحدِّد لحجم الخسائر البشرية، وأنه متغير مستقل وتابع في آن واحد، إذ أن طبيعة المجتمع الذي ينتشر فيه، خاصة من حيث درجة جاهزية مؤسّساته وطبيعة ثقافته وردود فعل أفراده، هو العامل الاجتماعي الفاعل الذي يقلص تلك القوة أو يضاعف من شدتها.

في هذا السياق تحمّل القطاع الصحي في الجزائر الثقل الأكبر للأزمة الذي فاق قدراته البشرية والمادية. إذ لم تكن المنظومة الصحية مستعدة لمواجهة مثل هذا الخطر. وبتعبير نسقي، فإن المؤسسة الصحية في الجزائر قد تعرضت، خاصة في فترات الذروة الوبائية، إلى حالة من "الإرهاق" والعجز شبه التام، سواء على مستوى القدرة على الاستقبال والتكفل وتوفير الأسِرّة المهيئة والأكسجين والوسائل والتجهيزات الطبية، أو التعب الشديد الذي أصاب مستخدمي الصحة العمومية، خاصة الأطباء والممرضين، بسبب العمل المستمر دون انقطاع أو راحة، رغم تركيز الجهود على التكفل بمرضى كوفيد على حساب المصالح والتخصصات الطبية الأخرى، وقد صرح وزير الصحة آنذاك، عبد الرحمن بن بوزيد، أن "الوضعية الوبائية للموجة الرابعة بلغت ذروتها في 25 جانفي 2022 بتسجيل 2521 حالة إصابة، وأنه بعد تسجيل انخفاض في معدل الإصابة سيكون هناك استئناف "تدريجي" للنشاطات الطبية المتعلقة بالأمراض الأخرى بعد استعادة الأسِرّة التي تمّ توجيهها للمصابين بالفيروس، معتبرا بأن التكفل بالمصابين والاختلالات المسجلة خلال هذه الموجة أكسبت مختلف أسلاك القطاع "تجربة" (وكالة الأنباء الجزائرية، 2022). وهذه الملاحظة الأخيرة تكتسي أهمية بالغة،أي أهمية التجربة التي تم اكتسابها، على أن يتم استغلالها جيدا.

الانضباط الاجتماعي والشخصية القاعدية

منذ أن دقّت المنظمة العالمية للصحة ناقوس الخطر، اتخذت كافة الحكومات عبر العالم قرارات استعجالية ذات طبيعة وقائية لمواجهة الجائحة، خاصة بالنسبة لرصد المصابين ومنع انتقال العدوى. لكن كيف كانت ردود فعل مختلف المجتمعات إزاءها، أو مختلف الفئات الاجتماعية ضمن المجتمع الواحد؟ فتلك القرارات الرسمية، مهما كانت صارمة، تدين بفعاليتها لدرجة استيعابها وتقبلها وتبنيها والالتزام بها من طرف كل أفراد وشرائح المجتمع وتطبيقها فعليا بصفة دائمة وصائبة أيضا. وهو الدرس الذي تعلمناه من التجربة الصينية في فعالية مجابهة الجائحة بفضل تظافر كل من صرامة السلطة وانضباط المجتمع. ولقد أثبت عالم الاجتماع (تالكوت بارسونز) الأهمية الحاسمة لكل من التنظيم والضبط الاجتماعيين في تحديد حظوظ مواجهة المرض والتحكم في مدى خطورته وانتشاره (سكوت، 2011، ج2، ص. 102).

يحيلنا ذلك إلى تأثير العامل الثقافي-التربوي في تحديد طبيعة وفعالية رد الفعل الاجتماعي حيال الجائحة، ويتعلق الأمر بمفهوم الشخصية القاعدية (Megherbi, 1986).

حيث خلصت دراسة أجراها باحثون من جامعة ميريلاند الأمريكية، شملت خمسين دولة، إلى أن "الثقافات "الصلبة" مثل اليابانية والصينية هي الأقل تعرضا للوباء لأنها الأكثر التزاما بالقيود، لكنها أيضا أكثر خوفا من مجتمعات ذات ثقافات "رخوة" مثل الولايات المتحدة أو بريطانيا التي يتسامح فيها أفراد المجتمع مع كسر القيود لكن الثمن الذي تدفعه هذه المجتمعات هو نسبة الإصابات الكثيرة" (شبكة بي بي سي العربية، 2021).

رغم النزعة الاجتماعية لدى الانسان، التي تجعل الفرد "يميل إلى جعل أفعاله تلتزم بمعايير الجماعة، بغض النظر عن معتقداته الشخصية" (سكوت، 2011، ج1، ص. 196)، فإن ذلك لا يلغي أشكال الرفض والتمرد التي لاحظناها خلال الجائحة، فقد أتاحت لنا تلك الوضعية الاستثنائية ملاحظة تطبيق مبدأ "لا جدوى الفعل الفردي"، حيث كان لسان حال كثير من الناس: "إما أن نلتزم جميعا بالإجراءات الوقائية أو لن يلتزم أحد". لقد تحولت شبكة العلاقات الاجتماعية إلى سلسلة حلقتها الأضعف هي أولئك المتمردون، ومنهم من كان يصرّح علانية أن الفيروس مجرد مؤامرة، وآخرون تحججوا بالقدريّة، ما يبرر الحاجة إلى غرس قيم الامتثال المبدئي والمسؤولية الفردية المستقلة عن سلوك الجماعة، وعلى كل حال فإن تلك المفارقات تعكس الوجه الآخر لجدلية الروح الجماعية والروح الفردية، وهو ما يبرّر لجوء السلطة إلى إجراءات التوعية والرقابة والردع من خلال تطبيق نظام للعقوبات. ما يعني أن زمن الجائحة قد كان فرصة لعلماء الاجتماع لفحص العلاقة الديناميكية بين كل من الخطر والخوف والمسؤولية الجماعية والحريات الفردية والخضوع والتمرد والسلطة والرقابة والضبط الاجتماعيين والردع بالقوة.

يقترح جان ماري بوتيي توظيف النموذج التحليلي لـ إرفينغ كوفمان، القائم على فكرة العرض المسرحي، في دراسة العلاقات الاجتماعية خلال فترة الجائحة (Pottier, 2022). فخلال زمن الجائحة لاحظنا تعايش، أو تصارع، منطقين متناقضين لدى أفراد المجتمع في علاقتهم بالأزمة، الأول يتمثّل في موقف التضحية والمساعدة والمساهمة والتضامن مع الفئات الهشّة، والثاني يتمثل في موقف الاستغلال والأنانية والبحث عن تحقيق المصلحة الشخصية. قد يبدو هذا على مستوى التجارة والسوق واضحا، لكن الأهم والأخطر منه هو ما لاحظناه على مستوى النخبة، من الأساتذة الجامعيين والطلبة. متمثلا في اتخاذ هذه الجائحة مبررا للخمول والراحة والتملص من الواجبات والمطالبة بحقوق استثنائية. والمشكل الآخر يكمن في انسياق القرار الرسمي وراء منطق المطالبة بالحقوق بدل استثمار الأزمة في تغيير الذهنيات وإحياء قيم الواجب والتضحية.

الوظيفة الاجتماعية للخوف والمخاطر

يصنف عالم الاجتماع زيغمونت بومان الأخطار إلى ثلاث فئات: "فئة تهدّد الجسد والممتلكات، وفئة ذات طبيعة أعم، تهدد دوام النظام الاجتماعي والثقة به. وفئة تهدد موقع المرء من العالم – مكانته وهويته الاجتماعية (الطبقة والنوع والعرق والدين)، وبوجه أعم حصانته من الامتهان والإقصاء الاجتماعي" (بومان، 2017، ص. 25). وهو يرى أن "الشرّ في صورته الحديثة السائلة هو أكثر رهبة وخطورة من التجليات التاريخية الأخرى للشرّ، لأنها تتسم بالتمزّق والتفكّك والانفصال والانتشار، إنها تختلف بشدة عن الصور السابقة التي كانت تتسم بالتركيز والتكثيف والتمركز. ولذلك فإن الشر الحالي السيّال لا تدركه الأبصار، ويخفي طبيعته وما ينذر به" (بومان، 2018، ص. 20). إنّ هذا الوصف ينطبق تماما على الجائحة، فهي من الشرور والمخاطر السائلة.

إن الخوف الجماعي الذي ينتاب المجتمع يمكن أن يشلّ حركته عندما يسيطر "ذهان الاستحالة"، أي حين يستسلم الأفراد والجماعات للأمر الواقع بهم بحجة أن المواجهة أو المقاومة بلا جدوى، لكن المجتمع لا يستقبل الخوف بنفس الطريقة دائما، فأنماط ردود الفعل تختلف بحسب عوامل عديدة ومتداخلة، ذكرنا بعضها آنفا، ويمكن في إطار هذه الأنماط فهم وتفسير عديد الظواهر المرضية والمفارقات الاجتماعية. ولقد لوحظ خلال زمن الجائحة وجود علاقة شرطية بين الإعلان عن ارتفاع نسب الإصابات أو الوفيات وزيادة الالتزام بالإجراءات الوقائية، خاصة استخدام سائل التعقيم وارتداء الأقنعة الواقية والتزام التباعد ومسافة الأمان، وأنه ما يلبث أن يتلاشى ذلك الالتزام بمجرد استقرار أو انخفاض الإحصائيات المعلنة، كأن ذلك الالتزام لا يتأسّس على أيّة قناعة مبدئية ثابتة ومنطق عقلاني، ما يحيل إلى الوجه الآخر للوظيفة الاجتماعية للخوف، أو كيف يمكن أن تتمخض عنه نتائج عكسية.

إن الخوف الذي يشعر به الإنسان أمام المخاطر هو خوف يعاد إنتاجه اجتماعيا وثقافيا، فهو مرتبط بتجارب خوف سابقة، يطلق عليه بومان تسمية الخوف المشتق، ويعكس شعورا بالعجز وفقدان الأمان (بومان، 2017، ص. 25). ومن أجل تقليص حجم خطر وانتشار الجائحة رأينا كيف أن المجتمع الجزائري صار ينصاع لعديد التنازلات المتعلقة بوتيرة حياته الطبيعية وحرياته الفردية، ويتقبل الامتثال لقواعد صارمة جدا للوقاية والسلامة الفردية والجماعية، كارتداء الأقنعة الواقية لساعات طويلة والتعقيم المتكرّر والتزام الحجر الصحي في حالة الإصابة، وغيرها من التنازلات وأنماط التكيّف والخضوع لإكراهات الانتقال نحو نمط غير معهود للحياة الاجتماعية. فخلال هذه الأزمات، يستجيب المجتمع لمبدأ "اقتصاد الحرب"، والذي يعني التقشف المخطط على الصعيد الوطني، ويقتضي التركيز على أولويات صناعية واستهلاكية لمواجهة ضرورات المرحلة.

خاتمـة

مثّلت الجائحة فرصة لاختبار مدى جاهزية الدول والمجتمعات عبر العالم حيال حدوث أزمة مفاجئة وخطيرة ، فقد تبيّن بفضل هذه الأزمة الصحية، وما أفرزته من تجربة اجتماعية استثنائية، أن قيمة أي مجتمع في الفترات الحرجة لا تقاس فقط بكمية ما يملكه من إمكانيات اقتصادية وتكنولوجية وإنّما بقيمة ما يملكه من إرادة سياسية وتضامن وانضباط اجتماعيين، ولقد أحدثت الجائحة تحولا امتدت تحولاً بعض آثاره إلى ثقافة وشخصية هذا الجيل الذي شهد المأساة كتجربة إعادة تنشئة اجتماعية بالمعنى العميق للكلمة، ففجأة توجهت أنظار العالم بأسره إلى العلماء في مراكز ومخابر البحث والابتكار العلمي، تنتظر الفرج في صورة لقاح ينقذ البشرية. وعلى كل حال فقد لاحظنا بوضوح كيف انقسم العالم بأسره زمن الجائحة إلى قسمين، قسم تصنع فيه العقول العبقرية اللقاح داخل المخابر الضخمة وقسم ينتظر ظهور النتائج ليستورده.

لقد راجت عبر العالم رسائل الاحترام والتقدير والاعتذار موجهة إلى ما سمي العلماء والأطباء والممرضين، الذين أطلق عليهم تعبير رمزي عميق جدا هو: "الجيش الأبيض". لكن هل سيستديم هذا التغيير في ترتيب قيم المهن والأدوار الاجتماعية أم أنه مجرد رد فعل عابر، ونفس السؤال يطرح أمام عديد التغيّرات التي أحدثتها الجائحة بالنسبة لقضايا أخرى، مثل أولوية ترشيد الثقافة الصحية والغذائية والاستهلاكية، إضافة إلى ضرورة استكمال وتصحيح اختلالات الانتقال الرقمي في مجالات الإدارة والعمل والتعليم والتجارة، كما تبيّن أن قيم التضامن الاجتماعي والانضباط واحترام النظم والمؤسسات يكتسي أهمية قصوى في أزمنة الأزمات والمخاطر الجماعية، وأن الحرية الفردية والنزعة الفردانية لا تزيد تلك الأزمات سوى تعقيدا.

تُشكل الاختلالات التي سجّلت خلال ذروة الموجة الوبائية في مختلف أسلاك قطاع الصحة، إحدى أهم تأثيرات الجائحة، حيث تبيّن الخطر الوجودي لحالة إرهاق مستخدمي القطاع الصحي، ما يعكس أهمية الإفادة من تلك التجربة وتصحيح الاختلالات بناء على دراسة تقييمية شاملة ومستقلة وموضوعية، فلعلّ اكتساب "تجربة" هو "الغنيمة" الأهم لتلك المأساة، سواء بالنسبة لقطاع الصحة أو غيره من القطاعات، كقطاعي التربية والتعليم العالي والبحث العلمي. ولعلّه من الحكمة أيضا الاستفادة من تجارب الدول والمجتمعات الأخرى، التجارب الناجحة والفاشلة على حد سواء. فلقد تبين خلال زمن الجائحة ضحالة الثقافة والوعي الصحي في المجتمع، ما يستدعي مضاعفة الاهتمام بالتربية الصحية، خاصة عبر الأسرة والمدرسة والجامعة والمسجد ووسائل الإعلام والجمعيات.

يتبيّن أيضا من خلال هذه الأزمة أن الصحة والمعرفة والأمن، هي الثروات التي ستكون الأكثر أهمية وكلفة مستقبلا، وأن ثمة أربع ضرورات اجتماعية تبين أنها غاية في الأهمية، وتتمثل في التثقيف الصحي، تعزيز الثقة بين السلطة والشعب، إحياء روح وقيم التضامن الاجتماعي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجالي الغذاء والصحة بوجه خاص. ينبغي في هذا السياق إصلاح وتعزيز سياسة التضامن الاجتماعي، وترشيد قطاع المساعدة والخدمة الاجتماعية، وهو أحد التخصصات المهنية لعلم الاجتماع التي لم تحظ بالتأطير الأكاديمي والتثمين الوظيفي الكافي، فالبُنى التقليدية التي كانت في الماضي تضطلع برعاية الفئات الاجتماعية الهشّة، خاصة مؤسّسة الأسرة، قد تعرّضت لتحوّلات عديدة باتجاه هيمنة النزعة الفردانية وانحسار قيم التضامن والرعاية، ما يحيلنا أيضا إلى ضرورة تشجيع وتوجيه ودعم العمل الجمعوي ذي الطابع الاجتماعي والخيري، الذي ينبغي أن يجعل من بين أولوياته دعم الفئات الاجتماعية الهشّة

تؤدي المخاطر والتهديدات، التي تولّد الخوف الجماعي، إلى ترميم شبكة العلاقات الاجتماعية والتماسك الاجتماعي. فهي تنسي الناس، ولو مؤقتا، تأثير الخلافات والنزاعات . إذ يدرك الأفراد خلالها ضرورة وأولوية توحيد وتنسيق الجهود للتمكن من مجابهة الخطر. فالأزمات الكبرى التي تعصف بمجتمع تحيي فيه الروح الجماعية وقيم التضامن الاجتماعي.

يطرح الخوف إشكالا سياسيا بالنظر إلى ارتباط الحقوق بالواجبات في معادلة قيم المواطنة، وتحديدا علاقة حق الحماية بواجب الولاء.

أهمية استغلال الرؤى التي تبلورت في مجتمعات أخرى، قد تشبه أو تختلف تجربتها عن التجربة الجزائرية، وعقد مقارنات تحليلية لإدراك تأثيرات العوامل التفسيرية الثقيلة. أهمية التنظير السوسيولوجي المعمق والمكتمل للجائحة لتكوين حوصلة شاملة عابرة للتخصصات.

بيبليوغرافيا

ابن خلدون عبد الرحمن، (2004). المقدمة. اعتناء ودراسة أحمد الزغبي. بيروت: دار الأرقم.

ابن نبي مالك، (1984). مشكلة الثقافة. ترجمة عبد الصبور شاهين. سورية: دار الفكر.

ابن نبي مالك، (1986). المسلم في عالم الاقتصاد. الجزائر: دار الفكر.

باومان زيجمونت، (2017). الخوف السائل، ترجمة حجاج أبو جبر، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

باومان زيجمونت، دونسكيس ليونيداس، (2018). الشر السائل-العيش مع اللابديل. ترجمة حجاج أبو جبر، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

بوغام سارج، (2012). ممارسة علم الاجتماع. ترجمة منير السعداني، بيروت: المنظمة العربية للترجمة.

سكوت جون، مارشال جوردون. (2011). موسوعة علم الاجتماع. ترجمة الجوهري محمد، مصر: المركز القومي للترجمة.

نوتوهارا وبوأكي، (2003). العرب وجهة نظر يابانية. ألمانيا: منشورات الجمل.

المستاري جيلالي، (2022). الخطاب الديني الممأسس في الفترة الأولى من الجائحة في الجزائر. في مولوجي صورية، المستاري جيلالي (تحت إشراف)، المجتمع والجائحة. وهران: منشورات مركز البحث في الانثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية.

ليازيدي سليمان، ابن السايح محمد، (2023). أثر القواعد الفقهية في تأصيل فتاوى وبيانات اللجنة الوزارية للفتوى حول نازلة فيروي كورونا. مجلة الشهاب ، (9)، 3. الجزائر.

طه سليمان عامر، (2020). إضاءات حول المشهد الفقهي في جائحة كورونا . مدونات الجزيرة نت. https://urlz.fr/sNqM

موقع وكالة الأنباء الجزائرية. (2022).   http://surl.li/dshaim

موقع منظمة الصحة العالمية. (2023). https://urlz.fr/sNqU

شبكة (بي بي سي العربية). (2021). هل التباعد الاجتماعي مسؤولية الفرد أم المجتمع؟ https://urlz.fr/sNqX

Beitone, A. (2002). Sciences sociales. Paris : Dalloz.

Durkheim, E. (1991). De la division de travail social. France : PUF.

Morin, E. et Abouessalam, S. (2020). Changeons de voie - Les leçons du coronavirus . France : Denoël.

Megherbi, A. (1986). Culture et personnalité dans la société algérienne -de Massinissa à nos jours . Alger : ENAL - OPU.

Grataloup, Ch, et al., (2020). Pour une science du social. France : CNRS Éditions .

Aït Abdelmalek, A. (2022). La pandémie- un fait social complexe. Le Journal des psychologues , 400. https://urlz.fr/sNr8

Dubet, F. (2020). Les nouvelles inégalités, source de ressentiment. Revue Sciences Humaines, 328. https://urlz.fr/sNra 

Wright Mills, Ch. (1967). Le rôle de l’histoire. Revue L’homme et la société, 3. https://urlz.fr/sNrk

Dubet, F. et Wieviorka, M. (1981). L’intervention sociologique. International Review of Community Development / Revue internationale d’action communautaire , 5. https://urlz.fr/sNrN

Pottier. J-M. (2022). Erving Goffman La vie comme un théâtre. Revue Sciences Humaines , 351. https://urlz.fr/sNtk

Safar Zitoun, M. (2022). L’urbain algérien face à la crise sanitaire de la Covid-19 : des réponses habitantes contrastées à la crise des mobilités. Dans Mouloudji, S. El Mestari, D. Société et Pandémie. Oran : Éditions du CRASC.

Trécourt, F. (2022). Covid- Le vrai bilan de la pandémie. Revue Sciences Humaines, 346. https://urlz.fr/sNto

الهوامش :

1 في الجزائر، وبحسب بيان وزارة الصحة الجزائرية، فإن إجمالي الإصابات منذ بداية الجائحة وإلى غاية 23 أوت 2023 بلغ 271853 حالة، بينما بلغ مجموع الوفيات 6881 (وكالة الأنباء الجزائرية، 2023).

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche