Sélectionnez votre langue

رحلات علماء الجزائر إلى القدس:(1948-1967) دراسة أرشيف المستعمرات الفرنسية


موسى سرور: أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، جامعة بيرزيت، فلسطين. باحث مشارك في معهد الدراسات حول العالم العربي والإسلامي فرنسا (IREMAM)


Télécharger le PDF


"بصفتكم رسل لبلدنا الأصلي وللأمة التي تحمي وتضمن حمايتنا، يمكنكم أن تشاهدوا بأم أعينكم العذاب، الفقر الذي نعيشه اليوم بعد أن أضعنا كل شيء في إسرائيل: منازلنا، أعمالنا. نأمل بإعادة ما أضعناه ونضيعه يوما بعد يوم، السلطات الأردنية ترفض أن تقدم لنا أي معونة وأي عمل حيث تعتبرنا أجانب لسبب أننا نعتبر أنفسنا من فرنسا .لا يجب على الحكومة الفرنسية وإخوتنا المغاربة التخلّي عنّا. نريد أن نبقى في تواصل مع إخواننا المغاربة؛ لكن، كل الرسائل التي نبعثها تبقى دون إجابات. نشعر بروابط متينة معهم على الرغم من ولادتنا في القدس وننتظر الأمل بالعودة إلى البلد الأصلي، ولكن قبل القيام بأي شيء علينا البحث عن آبائنا وعن آباء يتكفلون بنقلنا بانتظار أن يتم استقبالنا وتبنّينا في بلد نجد فيه لقمة عيشنا"1(Archives nationales d’Outre-mer - ANOM) 2 .

لم يكن البعد الجغرافي الذي يفصل بين القدس والجزائر ووقوع كل منهما في قارة جغرافية مختلفة ليحوّل دون الارتباط الروحي والوجداني بينهما. فقد كانت القدس وعبر التاريخ حاضرة في وجدان المغاربة بشكل عام والجزائريين بشكل خاص؛ ولم يقدم الجزائريون فقط المال والدم دفاعا عن القدس وعروبتها وإسلاميتها وإنّما أيضا ارتبطت الروح بالجسد في الرباط فيها والدفاع عنها ضد الغزو الاستعماري بدءا من الغزو الصليبي وانتهاء بالغزو الصهيوني.

لقد شكّل الغزو الصليبي للقدس سنة 1099م حافزا لزيادة توافد المئات، بل آلاف المغاربة إلى القدس للدفاع عنها والرباط فيها بعد تحرير صلاح الدين الأيوبي للمدينة المقدّسة سنة 1187م. إذ تشير المصادر إلى أنّ السلطان صلاح الدين الأيّوبي قبيل توجّهه لفتح بيت المقدس قد طلب النصرة والمساعدة من سلطان المغرب يعقوب المنصور، والذي استجاب لنداء النصرة بتجهيز مئة وثمانين مركبا من المجاهدين. وبعد الفتح وتحقيق النصر استقر عدد كبير منهم في بيت المقدس للرباط واستعدادا للطوارئ، نظرا للوجود الصليبي في الساحل الفلسطيني (عرامين، 2011، ص. 20؛ الجعبة، 2019، ص207 .). واستمرّ وجودهم فيها عبر الحقب التاريخية المختلفة؛ واختلط مصيرهم بمصير أبناء عائلات القدس والوافدين والمقيمين فيها من شتى أنحاء العالم الإسلامي.

تعرّض هؤلاء المرابطون لنفس مصير سكان القدس خلال الاحتلال الصهيوني وعانوا من القتل والتهجير. حيث اختلط الدم بالدم والمصير بالمصير، الأمر الذي دفع الشعب الجزائري ممثّلا بعلمائه وشيوخه إلى تقديم الدعم والإغاثة لأبناء وطنهم المرابطين في القدس. فمنذ نكبة عام 1948 وتهجير الجزائريين من بيوتهم ومصادرة عقاراتهم الوقفية في قرية عين كارم (سرور، 2022)، هرع هؤلاء العلماء إلى القدس لتقديم الدعم والإغاثة لضحايا بلدهم رغم ارتباطهم بفلسطين أكثر من ارتباطهم بوطنهم الأمّ الجزائر، وذلك على الرغم من أنّ فرنسا الاستعمارية كانت صاحبة السيادة على وطنهم الأم الجزائر.

تحاول هذه الدراسة الإجابة عما يأتي: لماذا استمر الوجود الجزائري في القدس منذ تحريرها من الصليبين إلى ما بعد وقوعها تحت الاحتلال الصهيوني وعدم عودتهم إلى وطنهم بعد انتهاء دورهم في تحرير القدس من الصليبيين، واستمرار توافدهم إلى القدس؟ ولماذا سمحت، بل دعّمت فرنسا هؤلاء العلماء للسفر إلى القدس لإغاثة أبناء وطنهم المهجّرين من قبل دولة الاحتلال الصهيوني؟ وفي المقابل لم تمنحهم الجنسية الفرنسية كما سبق وأن فعلت مع اليهود المهاجرين من الجزائر إلى فلسطين؟ (سرور،2024 ) ولماذا بقي هؤلاء الجزائريون في القدس بعد الغزو الصهيوني لها ولم يعودوا إلى أوطانهم؟ بمعنى لماذا فضّل جزائريو القدس البقاء في القدس كلاجئين يتلقون الهبات والمساعدات ورفضهم العودة إلى أوطانهم الأصلية؟ وما هي المعاناة التي واجهها مغاربة القدس بعد النكبة ومنهم الجزائريون؟ وكيف تمّ استغلال نكبتهم لتحقيق المصالح والمشاريع الاستعمارية على حسابهم؟

هذا ما تحاول هذه الدراسة الإجابة عنه من خلال العودة بشكل أساسي إلى وثائق أرشيفات المستعمرات الفرنسية (ANOM) كمصدر أساسي لهذه الدراسة.

تهدف الدراسة إلى الكشف عن الروابط التاريخية بين الجزائر والقدس عبر التاريخ ورباط الجزائريين المستمر في القدس للدفاع عنها ضد الغزو الاستعماري الخارجي واستمرار الدعم والإغاثة الجزائرية للقدس والمرابطين فيها من أبناء الجزائر، وتفسير سبب استغلال فرنسا هذه المسألة في فرض حمايتها على لاجئي القدس من أصول مغاربية بشكل عام وجزائرية، بشكل خاص منذ عام 1951، هذا العام الذي شكّل بداية "الوصاية" الفرنسية على المغاربة وأملاكهم في القدس ورعايتها لرحلات علماء الجزائر للقدس بهدف تقديم الإغاثة لمغاربة القدس. وجاء هذا التدخّل الفرنسي في هذه المسألة في هذا التوقيت بناء على دعوة الاتحاد الفرنسي في الجزائر في جلسته المنعقدة في الجزائر في 14 ديسمبر 1951 الحكومة الفرنسية لاتخاذ قرارات مستعجلة للحفاظ على أوقاف المغاربة بشكل عام والجزائريين بشكل خاص في فلسطين المحتلة 3 .وأيضا رعاية رحلات الشيخ علي بن محمد بن صلاح الحيدوسي - شيخ مغاربة القدس والمتولي على أوقافهم - إلى الجزائر وتونس والمغرب من أجل تجنيد الدعم والمساندة لأبناء طائفته بتمكينهم من استمرار الرباط والصمود في القدس ورحابها.

كثيرة هي الدراسات التي تحدّث عن المغاربة في القدس ورحلاتهم إليها خلال العصور الوسطى (المغربي، 2000)؛ وتلك التي تناولت حارة المغاربة في القدس وبيوتها وتراثها المعماري وتدميرها من قبل دولة الاحتلال الصهيوني في حزيران عام1967 ؛ (الجعبة، 2019؛ التازي، (1972؛Lemire, 2022) ). بينما تقلّ الدراسات التي بشأن العلاقة بين فرنسا ومغاربة القدس، خاصة وصاية فرنسا على أملاك المغاربة وأوقافهم في القدس. (سرور، 2022)؛ (Sroor, 2018) أو تلك التي تحدّثت عن علماء الجزائر خاصة جمعية علماء المسلمين الجزائريين، ولم تتناول رحلاتهم إلى القدس .(Courreye, 2023)

ولكن لم تتطرّق هذه الدراسات رغم أهميتها وتنوعها وكثرتها إلى رحلات علماء الجزائر إلى القدس لتقديم الإغاثة إلى مغاربة القدس خاصة بعد تهجريهم من قبل دولة الاحتلال الصهيوني ومصادرة أملاكهم الوقفية منذ نكبة عام 1948؛ والرحلات المعاكسة التي قام بها شيوخ طائفة المغاربة في القدس إلى الجزائر لتجنيد الدعم لأبناء طائفتهم في القدس؛ والاعتماد في ذلك على الأرشيفات الأجنبية والمصادر المحلية وهذا ما نحاول تفصيله في دراستنا.

نكبة وبقاء: مغاربة القدس بين الرباط والتهجير

شكّلت حرب عام 1948 أو ما يعرف بالنكبة الفلسطينية نقطة تحول في تاريخ الوجود المغاربي بشكل عام والجزائري بشكل خاص في القدس. حيث شارك الجزائريون بصفتهم مواطنون مقدسيون باقي مكونات المجتمع الفلسطيني بآلام التهجير والنكبة ومصادرة أملاكهم وتحويل صفتهم من مواطنين متجذرين في القدس إلى لاجئين؛ ومن العيش بكرامة اعتمادا على مصادر رزقهم المتوارثة عبر قرون طويلة كأصحاب الأرض؛ وورثة أوقاف اكتسبت مكانتها وقدسيتها عبر التاريخ واحترمتها كافة السلطات التي حكمت القدس وفلسطين، إلى العيش على هبات ومساعدات يقدمها لهم أصحاب الخير والعمل الإنساني.

تعود بداية شعور علماء الجزائر بالخطر المحدق بالوجود المغاربي في حارة المغاربة في القدس، خاصة أعضاء لجنة " الدفاع عن فلسطين"4أمثال الشيخ الطيب العقبي 5 (طيطوش، 2020، ص. 386-399) (فتيحة، 2018، ص. 153-166) القاضي الجزائري بن حورة 6 المقيم في باريس وقتئذ إلى أحداث هبة البراق عام 1929 7 (خلة، 1982). والتي اندلعت إثر محاولات الحركة الصهيونية تغيير الوضع القائم في حائط البراق الملاصق لحارة المغاربة، والذي يشكل الجدار الشرقي لهذه الحارة. إذ لا يمكن لليهود من الوصول إلى هذا الحائط دون المرور بحارة المغاربة والاحتكاك بسكانها. وتعززت هذه المخاوف بعد اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، حيث بدأ التجنيد الفعلي الجزائري لدعم أشقائهم في القدس خاصة، وفلسطين عامة، وتجسد ذلك بتأسيس لجنة إغاثة فلسطين عام 1938 والتي ترأسها الشيخ الطيبي العقبي أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.(Courreye, 2023) إن تزعم العقبي لهذه اللجنة كان محط اهتمام فرنسا به خاصة بعد تشكيل المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون (Louis Massignon) 8 الذي كان من دعاة التقارب بين الأديان (سعد الله، 2008، ص.169) (1883-1962) عام 1947 للجنة المسيحية للتفاهم الفرنسي – الإسلامي والمعروفة بلجنة فرنسا – الإسلام، والتي ترأس فرعها في الجزائر الكاهن الفرنسي جون سيليس9 (Jeans Scelles) (سعد الله، 2008، ص. 167).

شكّلت أحداث النكبة الفلسطينية عام 1948 وتشريد جزء مهمّ من سكان القدس ووضع اليد على أملاكهم، ومن ضمنها أملاك مغاربة القدس ومنهم الجزائريين، والمتمثلة بأراضي قرية عين كارم الواقعة في الجزء الجنوبي من القدس القديمة نقطة اهتمام من قبل ماسينيون ولجنته (Massignon, 1952)، حيث أصبحت مسألة تشريد مغاربة القدس ومصادرة أملاكهم أولوية في الإعلام الفرنسي في المستعمرات الفرنسية في شمال افريقيا. وقد استغلت لجنته "فرنسا -الإسلام" هذه المسألة عبر تبني التعاطف الشعبي الجزائري تجاه القضية الفلسطينية بشكل عام، وقضية مغاربة القدس بشكل خاص، وتحريك علماء ومثقّفي الجزائر خاصة المتعاطفين مع فرنسا من أجل دعم جهود فرنسا ومساعيها في مسألة "تدويل المقدسات في القدس" والتي كانت تسعى إليها فرنسا في ذلك الوقت؛ وتقديم الدعم والإغاثة لمنكوبي المغاربة في القدس. فتمّ التحضير لإرسال بعثة جزائرية إلى القدس للالتقاء بالمغاربة المشردين وتقديم العون لهم. وفي هذا السياق تشير المصادر إلى أن جون سيليس (Jeans Scelles) قد اختار الشيخ العقبي رئيسا لهذه البعثة نظرا لعلاقة الصداقة التي تجمعهما لقيام برحلته إلى القدس عام 1950؛ واستغلال لجنة فرنسا - الإسلام مشاعر الشيخ العقبي الجياشة تجاه القدس وفلسطين وحقده الكبير على الصهيونية (سعد الله، 2008، ص. 168).

وقد أورد لنا المؤرخ الجزائري أبو القاسم سعد الله معلومات هامة عن زيارة العقبي للقدس. ويطرح أبو القاسم سؤالا مهما جداً حول تلك الزيارة حيث كتب: "هل كان العقبي يعرف ما وراء مشروع زيارته؟ إن هنالك بعض المؤشرات تدل على أن العقبي لم يكن يفهم كل أبعاد رحلته. هل كان ساذجا إلى هذا الحد؟" وفي هذا السياق يتناول أبو القاسم بعض صفات الشيخ العقبي مثل الاندفاع والإخلاص وقلة الدهاء. ويستشهد في ذلك بما حصل معه عام 1936 واتهامه بالتآمر لاغتيال المفتي كحول (سعد الله، 2008، ص. 167)؛ إذ سجن وقيد إلى المحكمة" كمجرم" (طيطوش، 2020، ص.389) .

سافر الشيخ العقبي عام 1950 إلى القدس برفقة القاضي محمد بن حورة. وتشير وثائق أرشيف المستعمرات الفرنسي أن رحلة الشيخ الطيب العقبي إلى القدس لم يكن بصحبته فقط القاضي ابن حورة وإنما ضمت أيضا البروفسورMontagne Robert 10 .وأن هذه الرحلة لم تحقق أهدافها المرجوة، حيث واجهت اللجنة مراوغة من قبل السلطات الإسرائيلية11.

لكن أهمّ الأهداف التي تحقّقت من هذه الرحلة كما وضحها الشيخ العقبي، هي الالتقاء بالمشرّدين الفلسطينيين من أصول مغاربية والوقوف على همومهم؛ ولقائه بملك الأردن عبد الله الأول (1882-1951) حيث كان على معرفة شخصية به من قبل، عندما كان في الحجاز خلال عمل العقبي لصالح أبيه الشريف حسين كمحرّر في "جريدة القبلة" (سعد الله، 2008، ص.174) .

خلال هذه الزيارة "أثنى الشيخ العقبي على الجهود الفرنسية في دعم الفلسطينيين." ومن القدس سافر إلى مكة لأداء مناسك العمرة. ولكن لم تنل رحلته الرضى من قبل الصحافة الجزائرية حيث شككت" جريدة الشعلة" الصادرة في مدينة قسنطينة والقريبة من جمعية العلماء من أهداف رحلة الشيخ العقبي للقدس والشرق، ورأت أنّ هذه الرحلة لم تكن من أجل الأمة ولم تكن لمصلحة المسلمين. إذ جاء فيها كما نقله عنها أبو القاسم:" بدت تفوح روائحها العفنة، ووصفت العقبي "بالطبل المثقوب"؟ الأمر الذي أثار غضب أنصار العقبي فأسسوا في الجزائر جريدة أسبوعية أسموها "عصا موسى" يديرها شخص يسمّى مبارك بن عبد القادر. حيث نشرت هذه الجريدة أخبارا تشير إلى أنّ: "العقبي قام بالمهمة التي كلفه بها مسلمو الجزائر خير قيام، وهي دراسة أحوال اللاجئين الفلسطينيين في القدس والأردن. كما قام نيابة عن مسلمي الجزائر بمهمة الدفاع عن أوقاف وحقوق المغاربة في فلسطين وشرقي الأردن ولا سيما وقف أبي مدين في القدس؛ وكان معظم هذا الوقف في عين كارم التي وجدها العقبي قد أصبحت في أيدي اليهود فلم يدخلها لأن نفسه كرهت أن ترى منطقة عربية تحت سلطة يهودية". (سعد الله، 2008، ص. 174) وتجدر الإشارة هنا إلى أن العقبي قد استقال من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عام 1938 نتيجة لخلاف مع رئيسها الشيخ ابن باديس وباقي أعضائها لأسباب يرجعها البعض برغبته في إبداء التعاطف مع فرنسا في حربها ضد دول المحور (طيطوش، 2020، ص. 384).

كما أثار ذلك أيضا غضب بعض الصحف الأخرى مثل صحيفة أم القرى التي تصدر بالحجاز المتعاطفة مع الشيخ العقبي إذ كتبت "لنصفع به الصحف الماسونية الصهيونية وهي الشعلة والبصائر والأسبوع"؟ حيث وصفت "صحيفة أم القرى" الشيخ العقبي بــــــــ: "فضيلة العلامة الكبير المصلح الشهير الكاتب القدير والخطيب المصقع الزعيم الديني في القطر الجزائري.... مدير جريدة الإصلاح ورئيس لجنة الدفاع عن فلسطين والجمعية الخيرية... وأمين مال الهيئة العليا لإغاثة فلسطين بالجزائر" (سعد الله، 2008، ص. 174).

القدس والجزائر: بين تهجير مستعمر وحماية مستعمر آخر

وعلى ما يظهر أن الدعم الذي قدّمته دول شمال إفريقيا لمغاربة القدس لم يكن كافيا؛ فالتقارير والرسائل المحفوظة في أرشيف ما وراء البحار الفرنسي (أرشيف المستعمرات الفرنسية) يوضح أن شيخ ونقيب مغاربة القدس والمتولّي على أوقاف المغاربة في القدس وزاويتهم الشيخ علي بن محمد بن صلاح الحيدوسي قد قام في شهر نيسان من العام 1952 بجولات في الجزائر وتونس والمغرب من أجل تعريف الناس بقضيتهم وجمع تبرّعات تساعدهم في الصمود بعد أن صادرت دولة الاحتلال مصادر رزقهم. ففي رسالة من الحاكم الفرنسي العام في الجزائر السيد لانوس جاند(Lanus Gand ) مرسلة إلى وزير الداخلية الفرنسي في باريس السيد برون (Brune) مؤرّخة بـــــ 25 نيسان 1952 يؤكّد فيها أنّ الشيخ الحيدوسي قد زاره في مكتبه مبلغا إياه برسالة من القنصل الفرنسي العام في القدس السيد رينيه نوفييل (1952-1899)(René Neuville) 12 تتضمّن توصية له لدى سلطات فرنسا في كل من الجزائر وتونس والمغرب لتسهيل مهمّته التي سافر من أجلها. إذ يشير حاكم فرنسا في الجزائر أنّ الشيخ الحيدوسي قدّم شرحا عن وضع المغاربة الصعب في القدس والذي يبلغ عددهم حوالي 2000 نسمة تقريبا من بينهم 700 جزائري، ويتواجدون في القدس والخليل وبيت لحم تحت الإدارة الأردنية. وكشف أن هؤلاء المغاربة تأثروا بشكل كبير بعد توقف الحركة السياحية بسبب الحرب العربية الصهيونية 4819-4719، وما نتج عنها من وضع دولة الاحتلال يدها على أملاكهم الوقفية؛ وأنّ هذه الدولة الاستعمارية لم تقم بإعادة هذه الأملاك لأصحابها؛ وأنّ هؤلاء المغاربة يعتمدون على إغاثات تقدمها لهم بين الفينة والأخرى القنصلية الفرنسية في القدس، والتي تقلصت بشكل كبير بسبب شح الأموال 13 .

يعرض الحاكم الفرنسي للجزائر السيد لانوس جاند على وزير داخليته في رسالته ما يطلبه شيخ مغاربة القدس من مساعدات، حيث يقدر الشيخ الحيدوسي حاجة مغاربة القدس إلى مبلغ من 10 إلى 15 مليون فرنك لتخفيف معاناتهم في فلسطين14.

ويبيّن الحاكم الفرنسي في رسالته أنّ السيد الحيدوسي، والذي هو من منطقة قسنطينة، يرغب في الحصول على دعم مادي لإخوانه الجزائريين في القدس. لكن، بسبب تركه البلد منذ 30 عاما ليس لديه أية علاقات أو معارف في قسنطينة. ويعتقد أنّ الزوايا القسنطينية يمكن لها في الوضع الطبيعي أن تقوم بعمل شيء لصالحه، ولكن هذا العام -1952- ونتيجة السنة الإنتاجية السيئة للمحاصيل الزراعية، لم يكن بالإمكان تقديم أي شيء، حيث شهدت هذه المنطقة وضعا اقتصاديا في غاية الصعوبة؛ لذا لم ين ثمة شيء يمكن انتظاره من قبلهم15.

ويكشف الحاكم الفرنسي أيضا أنّ الشيخ العقبي في رحلته سابقة الذكر إلى القدس مع لجنة فرنسا- الإسلام قد التقى بالشيخ الحيدوسي وتعرف عليه؛ لكن الشيخ العقبي لا يستطيع تقديم دعم مادي له، كما أنّ المؤسّسات التي يديرها السيد العقبي ليس لديها أية إمكانيات مادية. ونظرا لطلب الشيخ الحيدوسي دعما كبيرا للجالية المغاربية في القدس، فقد خطّط أيضا للذهاب من أجل الغاية المهمة إلى تونس والرباط. ويبين أنه لم يتم تخصيص أي مبلغ من ميزانية حكومة الجزائر لمصروفات من هذا النوع. لذا يتوجب الحصول على هذه الأموال من ميزانية الدولة الفرنسية.

ويقترح الحاكم الفرنسي للجزائر السيد لانوس جاند في حالة موافقة وزير الداخلية على هذا الطلب، تقديم دعم بشكل استثنائي في هذا الاتجاه من خلال تخصيص مبلغ خاص يمكن اقراره بالتوافق مع قرار البرلمان الجزائري بهذا الخصوص، ويرى أنه "يجب اعتماد هذا المبلغ في التصويب القادم لميزانية الجزائر. ويرى الحاكم أنه بكل الأحوال سيبقى هذا المبلغ بعيدا عن المبلغ الذي حدّده السيد الحيدوسي"16.

وبعد أربعة شهور من هذه الرسالة، أرسل الحاكم الفرنسي للجزائر لوزير داخليته، رسالة أخرى في تاريخ 20 آب 1952 يكشف فيها أنّ الشيخ الحيدوسي سيعود إلى الجزائر بعد زيارته للمغرب متمنيا أن يعود مباشرة إلى القدس دون المرور بتونس. ويبيّن في رسالته، أنه بناء على تصريحات سلطات الحماية الفرنسية في المغرب سافر الشيخ الحيدوسي إلى المغرب وقوبل هناك بأفضل استقبال من السلطات العليا للحماية ومن القصر. وقد حصل منهم أيضا على وعد بدعم بقيمة 2 مليون فرنك من سلطات الحماية الفرنسية، وأيضا على دعم آخر من الحساب الملكي للقصر17.

وفي رسالة أخرى يكشف الحاكم الفرنسي للجزائر السيد لانوس جاند أن الشيخ الحيدوسي عدل عن زيارته لتونس وأنّه سيعود مباشرة إلى القدس وأنّه لم يجد لدى أبناء وطنه في الجزائر الدعم الذي كان ينتظره، إذ أن لجنة المساعدة والدفاع عن أوقاف أبو مدين التي تم تشكيلها في تلمسان تحت رئاسة القاضي طالب شعيب لم تتمكن من توفير دعم مادي له18.

ولأهمّية هذه المسألة لا بد من الحديث عن هذه اللّجنة التي تمّ تأسيسها بعد النكبة الفلسطينية مباشرة في تلمسان، تلك المدينة التي ينتسب إليها العالم الجليل أبو مدين المؤسّس لأوقاف المغاربة في القدس والذي تعود إليه ملكية قرية عين كارم التي أوقفها عام 1320م لصالح مغاربة القدس القاطنين فيها والقادمين إليها من كل دول شمال افريقيا والتي وضعت دولة الاحتلال يدها عليها. كما سبق ذكره حملت هذه اللجنة اسم "لجنة المساعدة والدفاع عن أوقاف أبي مدين في القدس. وأهم ما نصّ عليه ميثاقها التأسيسي:

"تمّ تأسيس حسب قانون الأول من شهر تموز من عام1901 (قانون الجمعيات) لجنة أطلق عليها لجنة المساعدة والدفاع عن أوقاف أبي مدين في القدس والتي تأسست من قبل الشيخ أبو مدين بن سيدنا الشيخ صالح بن محمد يوم 29 رمضان 720 هجري الموافق 3 نوفمبر 1320م لصالح الحجاج المغاربة. وتهدف هذه اللجنة إلى الدفاع عن أوقاف أبي مدين في القدس"19.

وقد تشكّلت اللجنة برئاسة محمد أشاغي، وشغل منصب نائب الرئيس جلول بن عثمان إمام المسجد الكبير، وشغل منصب نائب الرئيس سماحي حربي إمام مسجد سيدي أبي مدين بتلمسان. كما شغل مصطفى مولاي شريف منصب سكرتير اللجنة وهو مدرس متقاعد .واحتلّ منصب أمين الصندوق أحمد بن إسماعيل أحد ملاك الأراضي. كما ضمت اللجنة عضوية رجل الأعمال العربي بن دمراد، وأحمد أبو بكر وهو موظف في مسجد سيدي أبي مدين (بتلمسان) وينتمي لطائفة الصناع. ومصطفى بن منصور وهو من رجال الأعمال ومن الصناع 20 أيضا.

واستكملت جهود علماء الجزائر بحشد الجهود والإمكانيات لإغاثة منكوبي فلسطين خاصة المغاربة منهم، بطرح هذه المسألة على الجمعية الجزائرية والتي شكلت هيئة برلمانية لأجل ذلك، حيث تقدم النائب مصباح في 17 حزيران 1952 بمقترح قرار يحمل رقم 22R 52 للتصويت عليه يتضمن الاعتراف بالأهمية الخاصة لوقف أبي مدين بالنسبة للمسلمين المغاربة؛ وجمع التبرعات لترميم زاوية ومسجد البراق الكائنين في حارة المغاربة في القدس من ميزانية عام 1953، ومن تبرعات دول شمال افريقيا. جاء ذلك استكمالا لجلسة 14 ديسمبر1951 والتي فيها اجتمع الاتحاد الفرنسي وهو اتحاد سياسي أنشأته الجمهورية الفرنسية الرابعة ليحل محل التنظيم الاستعماري الفرنسي القديم وذلك عام 1946 لإنهاء ما كان يعرف (بنظام قانون الأهالي) لمناقشة مقترح لدعوة الحكومة الفرنسية لاتخاذ القرارات الإجراءات الضرورية والمستعجلة لضمان الحفاظ على أوقاف المغاربة بشكل عام والجزائريين بشكل خاص في فلسطين والموقوفة لصالح حجاج شمال افريقيا المسلمين والمقيمين فيها. وتم إرسال محضر الاجتماع وما تضمنه من مطالب إلى الحكومة الفرنسية، مع توقيع جميع الشخصيات التي حضرت الاجتماع21.

وكشف المحضر أنه في عام 1950 تم إرسال بعثة جزائرية إلى عين القدس لعمل تحقيق على الأرض، تبين أن القسم الأكبر من هذه الأوقاف والذي له قيمة اعتبارية عالية يقع تحت الاحتلال الإسرائيلي وأن وضعه لصالح المغاربة لم يتم احترامه. لكن المغاربة المستفيدين من هذا الوقف لديهم الحق بحماية مصالحهم المادية والأخلاقية من قبل الاتحاد الفرنسي سواء كانوا مواطنين فرنسيين من الجزائر أو رعايا سلطان المغرب. بالضبط كما هو حال المسيحيين ومصالحهم المادية والثقافية وأبناء العائلات الفرنسية تحت رعاية سلطان المغرب وحمايته22.

وفي تاريخ 15 أكتوبر 1952 أرسل مستشار جمعية الاتحاد الفرنسي وسكرتير اللجنة المسيحية للتوافق فرنسا – الإسلام جون سيليس (Jean Scelles) رسالة إلى وزير الداخلية السيد برون (Brune) موسومة بـــــ "المساعدة الفرنسية الجزائرية لوقف أبي مدين" يوضح فيها: بأن متولي الوقف الشيخ الحيدوسي قد عاد من زيارة إلى دول تونس والمغرب بوعود من حكوماتها بتقديم مبلغ 4 ملايين فرنك سنويا كمساعدة لمغاربة القدس. كما يشير إلى أن فرنسا :" فرنسا والتي تشكل قوة عظمى إسلامية وصاحبة السيادة على الجزائر لا يمكن لها البقاء مكتوفة الأيدي ويجب عليها الاستمرارية ليس فقط في النهج الدبلوماسي ولكن أيضا في المشاركة المادية بدعم هذه المؤسسة –أوقاف وزاوية المغاربة في القدس– ذات الأصل الجزائري لأنها أسست من قبل حفيد سيدي أبي مدين من تلمسان الجزائرية. تقرير السيد رئيس الجمعية السيد مصباح بين وبشكل واضح الأوضاع كما هي. ... يجب على فرنسا أن تأخذ بعين الاعتبار المغاربة المقيمين في القدس لأن هذه المؤسسة الوقفية أعضاؤها من أصل جزائري ... لا يمكن لفرنسا أن تتخلى عن هذه الصفة الخاصة والتي كانت منوطة بها خدمات الأوقاف في المغرب وتونس. - بمعنى يجب ادراج وقف المغاربة تحت الحماية الفرنسية"23.

مغاربة القدس: بين تهجير وتهميش وإقصاء

كان لنتائج النكبة الفلسطينية تأثير كبير على واقع الوجود الجزائري بالقدس. فمن جهة حرموا من مصادر رزقهم العائدة من تأجير أراضي قرية عين كارم بسبب احتلال إسرائيل هذه القرية ووقوعها ضمن أراضي "دولة الاحتلال الإسرائيلي"؛ وتحويل جزء مهم من المغاربة خاصة القاطنين في قرية عين كارم إلى لاجئين بعد اخراجهم من أماكن سكنهم في القرية وتهجيرهم؛ وبالتالي حاجتهم إلى الإغاثة المادية لتمكينهم من البقاء والصمود فيما تبقى من القدس. ومن جهة أخرى حاجة العقارات التي يسكنونها في حارة المغاربة إلى ترميم، وعدم إيجاد مصادر لذلك.

دفع هذا الوضع الجديد الذي أحدثته النكبة فرنسا ممثلة بقنصليتها وإطاراتها الدبلوماسية إلى استغلال هذه الظروف الجديدة لمغاربة القدس والعمل على تقديم المساعدة المادية لهم باعتبارهم من رعايا مستعمراتها في شمال إفريقيا. ففي رسالة من القنصل الفرنسي العام في القدس السيد رينيه نوفييل (René Neuville) إلى وزير الخارجية الفرنسي في باريس روبير شومان (Robert Schuman) مؤرخة بـــ 5 نوفمبر 1952 حول وقف أبي مدين تمت الإشارة إلى حاجة الوقف إلى الأموال من أجل اصلاح المباني الوقفية وترميمها في حارة المغاربة لتكون ملائمة للسكن، وأنه يجب أن تصرف أموال التبرعات للجالية المغربية في القدس عن طريق القنصلية الفرنسية في القدس24.

وتكشف لنا هذه الرسالة أعداد المغاربة تحت الحكم الأردني في الضفة الغربية والقدس الشرقية وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والمقدر عددهم بــــ 2000 شخص. ويشير القنصل إلى أنه يعتقد أنه سبق وأن أبلغ الإدارة الفرنسية بأن عدد المغاربة في دائرته في المنطقة العربية هو أقل من 2000 نسمة وأنهم موزعين على النحو التالي: (القدس البلدة القديمة 700 شخص؛ بيت لحم 06 أفراد فقط؛ رام الله 50 شخصا؛ أريحا 200 شخص؛ الخليل 75 شخص؛ اللطرون 15 شخص ؛ نابلس 10 أفراد؛ وفي غزة 50 شخصا25.

ويرى السيد رينيه نوفييل أنّه وصل بدون شك إلى تقدير العدد بــــــــــ 2000 شخص يشمل العائلات ذات الأصول المغاربية التي تسكن في القدس منذ ثلاثة أجيال وأكثر، ولكن ممثليهم الحاليين أصبحوا إما فلسطينيين أو أردنيين ولم يعودوا يحافظون على ترابط وتواصل مع موطنهم الأصلي؛ حيث يقتصر ارتباطهم فقط على الحقوق أو المساعدات الإنسانية المعيشية بفضل عائدات الأوقاف. ولكن هؤلاء اختفوا منذ ما يقارب 25 عامًا. ويشير القنصل إلى أن أغلبية المغاربية الذين يسكنون في القدس هم أيضا موجودون في فلسطين منذ عدة سنوات وبعضهم لا يرغب بالإقامة في عين المكان ويحاول أن يخرج وبشكل طوعي للبحث عن عمل في الدول المجاورة. ويشير من جهة أخرى إلى أنّ الحُجَّاج الفقراء وذوي الحاجة القادمين من مكة والذين يحجّون إلى القدس قبل عودتهم إلى وطنهم الأصلي يسكنون في الزاوية وفي حارة المغاربة، ويصل عدد هؤلاء سنويا إلى 400 شخص وأغلبهم من كبار السنّ وذوي الحاجات الأكثر شدة في هذه الجالية. إذ جرت العادة أن يتم إيوائهم في مبنى قديم يحتوي على فناءين داخليين وفي أغلب الأحيان يكون هذا البناء مشغولا26.

ويصف القنصل السيد رينيه نوفييل أيضا في رسالته السابقة الظروف الصعبة التي يعيش فيها هؤلاء أثناء إقامتهم في القدس حيث ينامون على مصطبة مغطّاة بحصيرة وبسجادة قديمة أو بساط. كما أنّ هناك قاعتين مخصّصتين للعبادة موجودتين في أسفل البناء تستخدمان كمكان للحجاج عندما يكون هناك إقبال كبير، وتستخدمان أيضا لإيواء الحُجَّاج في حالة وصول أعداد كبيرة منهم للقدس. وتستخدم هذه الأمكنة أيضا كمسجد صغير داخل هذا التجمع الوقفي، وهناك نوافذ في كل مكان من الجدران لإدخال الضوء حيث لا يتوّفر لدى الساكنين أية امكانية للتدفئة أو الإضاءة. كما تأوي هذه الزاوية – زاوية المغاربة – أيضا من 40 إلى 70 رجلا ومنهم ما يقارب 30 بشكّل دائم. يعيش هؤلاء اعتمادا على عائدات إجارة العقارات الوقفية الخاصة بالمغاربة والموجودة في المدينة القديمة في القدس. إذ تصل هذه العائدات السنوية إلى 360 دينار أردني. ويرى القنصل أنّ هذا المبلغ أقلّ بكثير من قيمة الأجرة إذا ما قورنت بأماكن أخرى في القدس. ويوضّح السيد رينيه نوفييل في رسالته أن جزءً من هذا المبلغ يخصّص لخدمات المباني التي تتطلب تعميرا مستعجلا. كما تخصص مبالغ أخرى من أجل دفع التكاليف الصحّية والطبّية سواء لمراجعة الأطباء أو لتكاليف العلاج لمرضى هذه الجالية. ويكشف القنصل أنّ عائدات أوقاف الزاوية غير كافية، إذ توقّفوا عن تقديم الإغاثة لشحّ الموارد؛ ليس هذا فقط وإنما استدانت الزاوية عام 1950 مبلغ 200 دينارا لتغطية نفقاتها27.

أثّر هذا الوضع المادي المأساوي لمغاربة القدس بعد النكبة أيضا وبشكل خاص على تعليم أطفالهم، إذ يلتحق بمدارس القدس فقط خمسة عشر طفلاً من كل خمسين طفل من الذين يصلون العمر القانوني. ويتوجّب على العائلات المغاربية وبالرغم من مجانية التعليم الابتدائي تحمّل التكاليف الاضافية للمدرسة مثل كسوة أبنائهم بشكل مناسب؛ إذ الأغلبية ليس بإمكانها فعل ذلك. ويبيّن القنصل أن مؤسّسات فرنسا التعليمية في القدس مثل مدرسة الأخوة للذكور، مدرسة سيدات صهيون للبنات، هما المؤسّستان الوحيدتان اللّتان يدَرِسان الفرنسية. وهنا يجب التخوّف حسب تعبير القنصل الفرنسي في القدس "من أنّ أطفال المغاربة الذي يذهبون إلى مدارس أخرى بالإضافة إلى الأطفال الذين يُدفعون إلى الشارع سيضُيَعون كل رابط مع وطننا28.

ويختم السيد رينيه نوفييل حديثه بنتيجة مفادها أن المأساة الكبرى للمغاربة في القدس ستؤدّي حتما إلى دفع البعض إلى طريق السّوء، فرغم أنه لا يسجل لدى القنصلية "حالات بغاء لدى نساء مغاربة القدس" إلاّ أنّ الأوضاع المادية التي يعيشها المغاربة يمكن أن تدفعهم إلى الانفجار. ويشير إلى أن عددا كبيرا من المستفيدين من المعونات الفرنسية والمغاربية يتمسكون بكرامتهم ويعولون كثيرا على حماية فرنسا التي تشهد هذا الترابط29.

ويكمل السيد رينيه نوفييل رسالته بقوله:

"رعايانا من شمال إفريقيا تعرّضوا للسلب كما اللاجئين الفلسطينيين؛ كما أنّ الجزء الأكبر من وقف أبي مدين والذي كان ذا قيمة كبيرة جدّا ومعتبرة وُجِد بين عشية وضحاها تحت الاحتلال الإسرائيلي. وفي المقابل وفيما يتعلّق باللاجئين وجدوا مساعدة من الأونروا 30 على الرغم من أن قسما منهم أظهر اهتماما سابقا حول رغبته بطلب المساعدة الفرنسية لإغاثة هذه المؤسسة الوقفية ووجوب حفظ هذه الإغاثة وتخصيصها من أجل المحافظة على المغاربة في القدس وبشكل مستقل عن القرار المتخذ من أجل الحفاظ على ممتلكات هؤلاء المغاربة والاعتراف بحقوقهم هنالك حاجة كبرى لمساعدة مستعجلة تقرها الحكومة لمغاربة القدس".

والاقتراح الأكثر خطورة الذي يقترحه القنصل الفرنسي السيد رينيه نوفييل على وزير خارجيته روبير شومان يتمثّل بتهجير الشباب المغاربة الأكثر نشاطا في القدس إلى المستعمرات الفرنسية لاستغلالهم كأيدي عاملة منتجة، واخضاعهم أكثر للنفوذ الفرنسي.

حيث يقول: "أرى أن هنالك مصلحة من جانب آخر لتقديم التسهيلات للشباب المغاربة الأكثر نشاطا بإرسالهم إلى شمال افريقيا أو إلى القارة الفرنسية – فرنسا الأمّ. هذا يساعدنا في توفير أيدي عاملة لبعض الأعمال التي يتوجّب علينا أن نجلب لها أيدي عاملة من الخارج وهكذا نثبت تأثيرنا على المغاربة في القدس قبل أن يفوت الأوان"31.

ومن أجل الاطلاع عن كثب على أوضاع مغاربة القدس وأوقافهم، كان لدى وزير الخارجية الفرنسي رغبة بأن تقوم إحدى الشخصيات الإسلامية الجزائرية بمهمة إلى القدس عام 1954 بهدف زيارة أوقاف أبي مدين والتواصل مع الجالية المغاربية هناك وأيضا الاطلاع على المساعدات المالية المقدّمة من الجزائر لهذه الجالية. وفي هذا الخصوص كتب الحاكم العام الفرنسي في الجزائر جوزيف جاند في تاريخ 25 أيار 1954 إلى وزير الداخلية يخبره بهذا الأمر، وأنّه في البداية وقع اختياره على الشيخ الطيب العقبي للقيام بهذه المهمّة والذي سبق وأن قام بنفس المهمّة عام 1950 بناء على طلبه، لكن الشيخ الطيب العقبي في هذه الفترة كان وضعه الصحي لا يسمح له بالسفر، وأنّ اختياره يتطلّب أن يرافقه شخص آخر للقيام بمهمة الترجمة كما قام بذلك في العام 1950 القاضي بن حورة. ويشير جوزيف جاند أنّه وقع اختياره للقيام بهذه المهمة كبديل عن الشيخ العقبي، على السيد قرش أحمد والمعروف بجدو وهو أستاذ اللّغة العربية في ثانوية بليدة. ويكشف الحاكم العام أن هذا الشخص مضمون الانتماء والإخلاص وهو صديق مقرب من الشيخ العقبي وسبق له وأن تعرف على الشيخ الحيدوسي متولي أوقاف أبي مدين خلال زيارة هذا الأخير إلى الجزائر عام1952 . وبناء على هذا كلّه سيكون مناسبا للقيام بالمهمة كما يجب أن تكون. واقترح الحاكم أن يقوم هذا الشخص أي الأستاذ جدو بهذه المهمة في العطلة الصيفية خلال إجازته، خاصة وأن الأستاذ جدو يرغب بالحج إلى مكة خلال الرحلة نفسها ومن ثم زيارة القدس قبل عودته إلى الجزائر32.

رحلة الأستاذ قرش أحمد(جدو) إلى القدس

كشف الأستاذ قرش أحمد المعروف بجدو الأستاذ في ثانوية بليدة عن اللجنة التي تمّ تشكيلها للسفر إلى القدس وأهدافها كما كتب للخارجية الفرنسية تقريرا يفصّل رحلته إلى فلسطين والتي تمّت بين 24-29 آب من العام 331954.

ويكشف جدو المهام التي أوكلت به، وتتمثّل بدراسة التوقعات والتطورات المستقبلية في عين المكان في القدس وسبل تطوير المؤسسة الوقفية المسماة وقف أبي مدين، والوقوف عن كثب على أوضاع المغاربة هناك، وظروف معيشتهم، ومعرفة الرابط بين هذه الجالية والبلد المنحدرين منه، وافتتاح أو تأسيس مدرسة قرآنية وأيضا اختيار مديرا لها، ومعرفة ظروف قدوم الحجاج المغاربة إلى القدس، ومستقبل من يصلون إلى فلسطين بطرق غير شرعية، وبحث سبل إعادة اللاجئين المغاربة إلى بلدانهم الأصلية. هذه هي النقاط السبعة أو الثمانية التي تمت دراستها بالتعاون وبمساعدة الموظفين في القنصلية الفرنسية العامة في القدس. وأيضا بمساعدة الناس ذوي الشأن والعلاقة كما يقول الأستاذ جدو. ويعرض جدو طوال هذا التقرير الطويل أيضا نشاطات لجنته اليومية منذ اللحظة التي وطأته الأرض المقدسة، وحتى لحظة خروجه منها 34 .ويبين فيه مدى فرحة مغاربة القدس بقدومهم ونظرتهم لفرنسا كمفتاح الأمل لهم للخروج من هذه الأوضاع المأساوية التي تسبب بها الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية عام1948 .

وصل جدو مطار القدس عبر طائرة أردنية يوم الثلاثاء 24 آب1954 . وقد لقي باستقباله في القنصلية الفرنسية في القدس، القنصل الفرنسي السيد دولا سابلييه(De la Sabliere) (1959-1903) ، والذي حدّد له موعدا في نفس اليوم لزيارة حارة المغاربة ووقف أبي مدين برفقة الملحق في القنصلية السيد بييرستيجيه (Pierre Stiger) وسكرتير القنصلية السيد طبش (Tabache). وتمّ منحه مبلغ 250 ألف فرنك محولة إلى 250 دينار أردني لتغطية نفقات السفر والإقامة، وأيضا لتقديم الهدايا للمغاربة ولمساعدة عديد المؤسسات الخيرية الخاصة بهم. ويصف لنا جدو زيارته الأولى لحارة المغاربة وسكانها بقوله بعد الترجمة:

"كانت زيارتنا الأولى إلى الزاوية التي تشكل قلب وقف أبي مدين، تم استقبالنا من قبل المتولي الشيخ الحيدوسي الحاج علي الذي التقيناه قبل سنتين تقريبا في دائرة التقدم في الجزائر. كان سعيدا باستقبالنا، وكان محاطا بما يقرب من عشرين رجلا من المغاربة، وكان يمكن رؤية السعادة في وجوههم، إذ بالنسبة لهم نحضر لهم قليلاً من الأمل، وجئنا كنسمة هواء من أماكن بعيدة. السيد القنصل العام تأثر بهذا الاستقبال الذي تجسد لشخص يُمثل أُمَة حامية وواضعة بين أيديها الأمل لإعادة مساكنهم وممتلكاتهم المغتصبة في فلسطين"35.

يروي لنا جدو في تقريره أنه في حدود الساعة الثامنة مساء التحق بهم الحاج علي الحيدوسي الذي قام بعرض احتياجات الوقف واحتياجات المغاربة، وعرض برنامج زياراتهم لليوم التالي والأيام اللاحقة. وبحسب ما قاله، يشكل وقف أبي مدين أربعة وعشرون مبنى، 61% منها مساكن مجانية لـــ 700 شخص من المغاربة، و 19%تؤجر بعائد سنوي يبلغ 750 دينار. واحدة من هذه المباني هي الزاوية والمخصّصة لإسكان الحجاج المغاربة، وتحتوي على مسجد للحُجُّاج. ويقيم فيها أيضا جميع العاملين في مؤسسة الوقف والبالغ عددهم 30 شخصا. ويصف لنا أملاك المغاربة بشكل عام والجزائريون في القدس بشكل خاص والمتمثّلة بحارة المغاربة وقرية عيم كارم المقدسية والتي أوقف أرضيها العالم الجزائري أبو مدين عام 1320م. هذه القرية التي تضمّ أراضي زراعية، عيون ماء وآبار، وأماكن لسكن المزارعين وبساتين مزروعة بالأشجار المثمرة بالزيتون وأنواع أخرى، بمساحة تزيد عن يزيد عن 13 ألف هكتار موجودة حاليا في المنطقة المحتلة في القدس. ويذكر أيضا أن هنالك أملاكا وقفية أخرى تابعة للجزائريين موجودة في اللد والناصرة وغزة. ويكشف لنا في تقريره أن ممثلي فرنسا في اسرائيل طالبوا حكومة الاحتلال الإسرائيلي عبر القضاء الإسرائيلي بالاعتراف بوقفية أراضي قرية عين كارم المحتلة ورفع اليد عنها؛ بالإضافة إلى الدفع لمن طالبوا بتعويضات لمغاربة القدس بأثر رجعي منذ الاحتلال عام 361948.

ويشرح لنا الأستاذ جدو في تقريره أنه حتى تاريخه 37 (سرور، 2022) (Sroor, 2018)لا يوجد أي استجابة لهذه المطالب. وأن مغاربة القدس ممنوعين من الحصول على عائدات هذه الأراضي وهم في حالة يرثى لها، ولم يبق لهم من مصادر تمويل سوى تلك التبرعات التي تأتي من ثلاثة داعمين هم المغرب وتونس والجزائر. إذ يبلغ المجموع السنوي لهذه التبرعات 5.5 مليون فرنك. ويرى باعتراف الجميع أن هذا المبلغ غير كاف بسبب غلاء المعيشة وازياد أعداد الساكنين نتيجة تكاثر الجالية المغربية وارتفاع أعداد الحجاج المسلمين القادمين من شمال افريقيا38.

ويكشف الأستاذ جدو أيضا في تقريره أنه كان هناك اتفاق على الطلب بتدخل لجنته لدى الحكومات المغاربية من أجل زيادة هذا الدعم، آملا بأن يستجاب لطلبهم وأن يجد آذانا صاغية لدى السلطات هناك.

ويكمل الأستاذ جدو أنه استطاع رؤية ترميم العديد من المساكن التي توفر عائدات مهمة للجالية والتي أيضا تساهم في إيواء المغاربة الفقراء. حيث يروي أن التحضيرات الأخرى جاري العمل بها بحيث يمكن ملاحظة أن نشاطات الحاج الحيدوسي لا تتوقف إذ يقوم بهدم البيوت القديمة من أجل إعادة بنائها وجعلها ملائمة للسكن. ويرغب أيضا ببناء نُزل، إذ قام بتزويد لجنته بتقرير يفصل التكلفة الأولية لهذا المشروع. ولكن حسب تقدير جدو يحتاج تنفيذ هذا المشروع الكبير أكثر من 30 مليون فرنك ولا يمكن تحقيقه إلا بعد إنهاء قضية وقف قرية عين كارم (Sroor, 2018) مع السلطات الإسرائيلية39.

وفي يوم الأربعاء 25/8/1954وصحبة الشيخ الحيدوسي، قامت لجنة جدو بالذهاب إلى القنصلية الفرنسية إذ وضع أمام أعينهم بيير ستيجيه الملحق في القنصلية وثيقة تظهر ممتلكات الوقف، وكل الخطوات المتبعة من قبل فرنسا لتعويض اللاجئين المغاربة. كما عرض عليهم تقارير بعد ترجمتها إلى الفرنسية من قبل متولي أوقاف المغاربة ول استعمال الأموال والمخططات للأبنية المستقبلية، إذ قدم للشيخ الحيدوسي مبلغ 80.000 فرنك جمعت من تلمسان من قبل لجنة الدفاع عن أوقاف أبي مدين – التي سبق الحديث عنها– لتحقيق هذه التطلعات40.

كانت رحلة جدو هذه، آخر الرحلات الجزائرية إلى القدس حيث توقفت هذه الرحلات بعد اندلاع الثورة الجزائرية وتحذير جبهة التحرير الجزائرية من التعاون مع فرنسا وتلقي الدعم والمساعدات منها باعتبارها عدوة الإسلام والمسلمين محذرين من نواياها الشيطانية، فهي حسب أقوالهم نفسها التي تعتدي على الجزائريين وتصادر أملاكهم ولا تحترم أوقافهم ولا مقدساتهم (مغلي، 2001، بن عون، 2000) فكيف بها تدعي الدفاع عن أوقافهم وأملاكهم ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي وتقدم الإغاثة للجالية المغاربية عامة والجزائرية خاصة في فلسطين. ففي وثيقة سرية حملت رقم 623 مؤرخة بـــ 3 تشرين الثاني 1958 / مرجع 12456/A موقعة من دائرة الشؤون الجزائرية موسومة بــــ الأردن-الجزائر – فرنسا / تأثير جبهة التحرير الوطنية الجزائرية في الأردن، جاء فيها :أنّ بعض الأوساط القنصلية لبلجيكا في الشرق الأوسط قامت بالتعليق حول موضوع وقف أبي مدين والذي يعود للقرن 13 و يمتلك عقارات معتبرة مهمة في الأردن وإسرائيل والتي تستخدم عائداتها لصالح الحجاج المغاربة وبشكل خاص الجزائريين في القدس والقادمين إليها، إضافة إلى المغاربة الذين يسكنون البلدة القديمة المقدسة. تشير هذه الوثيقة إلى أنّ الحكومة الفرنسية كانت دائما تحمي وتوافق على حماية ودعم هذا الوقف وما زالت تدافع عن مصالحه في اسرائيل. بينما في الوقت نفسه، كان للإعلام المعادي لفرنسا والموجه من قبل قادة جبهة التحرير الوطنية الجزائرية في عمان نتائج سلبية على قضية وقف المغاربة. إذ تم تهديد المستفيدين المغاربة من عائدات الوقف و طلب منهم رفض كل مساعدة قادمة من فرنسا بصفتها عدوة للعرب والإسلام. هذا ما تضمنته رسالة من ممثّلين عن جبهة التحرير لممثّلي المغاربة في القدس مؤرّخة بالحادي عشر من تشرين الثاني411958 .

الخاتمة: المَقدِسِيون مصير واحد رغم اختلاف الأوطان

لم تكن القدس للجزائريين بشكل خاص وللمغاربة بشكل عام مجرد مدينة إسلامية كباقي مدن العالم الإسلامي، وإنّما كانت مدينة الرباط والحج، لا تكتمل شعائر الحج إلى مكة بالنسبة إليهم إلا إذا شدو الرحال إلى القدس قبل عودتهم إلى بلادهم. ولم تكن القدس بالنسبة لهم كسائر المدن الأخرى يمكن زيارتها للاستجمام والراحة فقط، وإنّما كانت من أجل الرباط والبقاء فيها قربا من مسجدها الأقصى الذي بارك الله حوله ودفاعا عنه وعن القدس وفلسطين من الأخطار الخارجية المحدقة بها؛ وحبا بتلقي العلم في رحابه. حيث قدّمت طلائع المغاربة إلى القدس طلبا للعلم قبل سقوطها بيد الصليبيين عام1099 م كالقاضي أبو بكر بن العربي المعفري الإشبيلي الأندلسي وغيره؛ (الجعبة، 2019، ص. 153). واستؤنفت رحلاتهم اليها كمجاهدين فاتحين صحبة قائد التحرير الثاني للقدس صلاح الدين الأيوبي عام 1187م .هذا بعد أن شكّلت القدس نقطة جذب ورباط لهم، الأمر الذي دفع الملك الأفضل ابن صلاح الدين الأيوبي (1160-1196) إلى تخصيص مكانا خاصا لسكانهم في القدس وتحويله إلى وقف لصالحهم عرف لاحقا باسم حارة المغاربة والتي تقع في الناحية الجنوبية القبلية من سور المدينة. وقد شكلت هذه الحارة بمن يسكنها من مغاربة إحدى المكونات العمرانية والبشرية للمدينة المقدسة عبر العصور. (التازي، 1972)، ولم تنته مهمتهم في المشاركة في جيش صلاح الدين الأيوبي، وإنما فضل الكثير منهم البقاء فيها مرابطين على العودة إلى أوطانهم. ومنهم من عمل على خلق وشائج لا تنقطع بين الجزائر والقدس كأمثال العالم أبي مدين بن شعيب التلمساني وحفيده؛ الجد المجاهد المحرّر والحفيد المُوِّل والداعم لقوافل المرابطين عبر العصور في القدس من المغاربة بشكل عام والجزائريين بشكل خاص، عبر تحويل أملاكه في قرية عين كارم المقدسية وقفا عليهم جيلا بعد جيل عام 1320م.

لم تنقطع صلة مغاربة القدس بحارتهم الا بعد أن احتلتها الدولة الصهيونية وهدمتها بالكامل وهجرت سكانها منها في حزيران عام 1967 حيث اغتصبت مصادر رزقهم عبر احتلالها قرية عين كارم، الأمر الذي حول مغاربة القدس إلى فقراء ينتظرون المعونة من أبناء وطنهم ومن الدولة الاستعمارية التي تحتلّ أوطانهم. ولم يقتصر الأمر على ذلك وإنّما تراكمت الكوارث عليهم بالتعامل معهم بعنصرية من قبل الأونروا وأيضا من قبل الإدارة الأردنية حيث لم يتم اعتبارهم لا لاجئين ولا أردنيين. إذ استغلت فرنسا الاستعمارية هذه الظروف لتحسين صورتها لدى مسلمي مستعمراتها في شمال افريقيا ومسلمي العالم الإسلامي خاصة بعد المجازر التي ارتكبتها في الجزائر عام 1945م بحيث أظهرت عطفها عليهم باعتبارهم مواطنين فرنسيين، ولأول مرة عام 1951م في الوقت الذي سبق وأن رحبت بمهاجري الجزائر من اليهود إلى فلسطين ومنحتهم الجنسية الفرنسية والحماية القنصلية بعد مرسوم كريميو عام 1870م. ففي 24 أكتوبر 1870م قامت حكومة "الدفاع الفرنسي" المشكَلة كبديل عن إمبراطورية نابليون الثالث بإصدار مرسوم عرف تاريخيا باسم "كريميو Crémieux" نص على: "تجنيس اليهود في الجزائر بشكل جماعي دون استشارتهم" (فطيمة، 2017، ص.522 ).

إن قلّة عدد يهود الجزائر المهاجرين إلى فلسطين يشير إلى تردد اليهود بترك الجزائر والهجرة إلى فلسطين، حيث لم يكن من السهل التضحية بكل المكتسبات التي حققوها خلال الفترة الاستعمارية والهجرة إلى مجهول. وهذا ما عكس أثره على قلة أعداد اليهود المهاجرين من شمال افريقيا بشكل عام إلى فلسطين ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، وهي الفترة التي سيطر عليها النازيون والفاشيون. ففي 7 أكتوبر 1940م صدر في فرنسا في ظلّ حكومة فيشي قانون جديد يلغي قانون Crémieux ويساوي بين وضع يهود الجزائر ومسلميها. (صحراوي، 2013، ص. 137). ففي تلك الفترة كان بعض زعماء اليهود من أمثال جورج فيربو (George Virebeau) يَرَون أن الجزائر "موطنهم الأبدي، الذي لا يُهجر، وأن اليهود هم السادة الحقيقيون فيه 42 (صحراوي، 2013، ص. 138). .
ومن هنا ندرك ازدواجية المعايير في السياسة الفرنسية تجاه يهود الجزائر ومسلميها المهاجرين والمقيمين في القدس. فقبل عام 1951م لم يسبق وأن اعتبرت فرنسا مغاربة القدس مواطنين فرنسيين ولم تمنحهم الجنسية ولم تقدّم لهم الحماية والإغاثة. وقد شكّلت النكبة الفلسطينية فرصة لفرنسا باستغلال الكارثة التي ألمت بمغاربة القدس لفرض حمايتها عليهم والوصاية على أملاكهم لتعزيز وجودها في القدس؛ حيث قدّمت لهم المعونات والإغاثة عبر قنصليتها في القدس كما كشفت عنه وثائق الدبلوماسية الفرنسية سابقة الذكر، وتحرّكت أطرها الدبلوماسية في الجزائر وغيرها من أجل استغلال حالة التعاطف الشعبي المغاربي معهم وتسيير رحلات لعلماء الجزائر كالشيخ الطيب العقبي القاضي ابن حورة والأستاذ جدو إلى القدس للوقوف على أحوال المغاربة في هذه المدينة المنكوبة من جهة، ودعم رحلات شيخ مغاربة القدس الشيخ الحيدوسي إلى دول شمال أفريقيا لطلب الدعم والمساعدة من جهة أخرى. إذ كشفت لنا تفاصيل هذه الرحلات عن الأوضاع السيئة التي كان يعيشها مغاربة القدس بعد النكبة وأهداف فرنسا السياسية المغلفة بغلاف إنساني، من وراء إغاثتهم خاصة تلك الرامية إلى استغلال شبابهم وتهجيرهم إلى مستعمراتها واستغلالهم كأيدي عاملة، الأمر الذي يمكنها من تثبيت نفوذها على مغاربة القدس، وتحسين سمعتها في ظل حالة عدم الثقة بين فرنسا والجزائر بعد اندلاع الثورة الجزائرية عام1954م. وهذا ما يجسد إشكالية السياسي والإنساني في العلاقة بين فرنسا ومغاربة القدس ما بين النكبة الفلسطينية عام1948م والنكسة العربية عام 1967م.

المصادر

أرشيف المستعمرات الفرنسية(ما وراء البحار )

Archives Nationalesd’Outre-mer .(ANOM)

Archives Nationales d’Outre-mer (ANOM), 81 F 843-844.

تقرير حول وقف أبو مدين بالقدس مؤرخ بـــــ: ـ18/12/1962. (ANOM), 81 F 843-844

تقرير حول مهمة في فلسطين تموز وآب 1956، .(ANOM), 81 F 843-844

Assemblée de L’union Française Année 1951, Annexe au procès – verbal de la séance du 14 décembre 1951, N°317. (ANOM), 81 F 843-844.

Lettre du Gouverneur Général d’Algérie au ministre français des Affaires étrangères, Direction Afrique-Levant, Paris : N° 1011 NA /2, 25 Avril 1952 : (ANOM), 81 F 843-844.

Lettre du Gouvernement général de l’Algérie au ministre français des Affaires étrangères, N° 846 AP/NA/4, 10 Avril 1957: (ANOM), 81 F 843-844.

Lettre de la Direction des Affaires d’Algérie au Secrétariat Général [du Quai d'Orsay, Du ministère des Colonies], Direction politique, bureau de liaison d’Algérie. N°623, 3 Novembre 1958 : (ANOM), 81 F 843-844.

Télégramme de l’Ambassadeur de la France en Israël au ministre français des Affaires étrangères, 12 juin 1961: (ANOM), 81 F 843-844.

بيبليوغرافيا

بن عون محمد الحاكم، (2017). مسألة الوقف في الجزائر أثناء الاحتلال الفرنسي. مجلة المعارف للبحوث والدراسات التاريخية، مجلد3 (5)، 207-242.

التازي عبد الهادي، (1972). حي المغاربة بالقدس. مجلة الدراسات الفلسطينية ، مجلد1(3)، 7-31.

الجعبة نظمي،(2019) . حارة اليهود وحارة المغاربة في القدس القديمة :التاريخ والمصير ما بين التدمير والتهويد. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

خلة كامل محمود، (1982). فلسطين والانتداب البريطاني1922-1939. بيروت: مركز الأبحاث.

دمبر مايكل،.(1992) سياسة إسرائيل تجاه الأوقاف الإسلامية في فلسطين . بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

سرور موسى،(2022) . الوقف كأداة مقاومة للاستعمار: قرية عين كارم المقدسية أنموذجا . مجلة المقدسية، السنة الرابعة، (13)، .121-160

سرور موسى، .(2024) لإشكالية الإنسانية والاستعمارية في العلاقة بين فرنسا ومهاجري الحركة الصهيونية إلى فسطين العثمانية: دراسة في ضوء وثائق الدبلوماسية الفرنسية. المجلة العربية للعلوم الإنسانية، جامعة الكويت، مجلد 42 (166)، 113-142.

سعد الله أبو القاسم، (2008). الدين والسياسة في وقف أبي مدين بالقدس . في البخيت، محمد عدنان (محرر) مؤتمر الأوقاف في بلاد الشام منذ الفتح الاسلامي إلى نهاية القرن العشرين. عمان: الجامعة الأردنية، ص. 161-183.

صحراوي كمال،(2013) . يهود الجزائر بين الادارة الفرنسية والحركة الصهيونية. مجلة الخلدونية، مجلد 6 (1)، 131-143.

طيطوش حدة،(2020) . الشيخ العقبي ونشاطه الإصلاحي(1938-1947) . مجلة عصور الجديدة ، مجلد 10 (1)، 384-399.

عرامين محمد بحيص، (2011). المغاربة وحائط البراق الشريف:حقائق وأباطيل. رام الله، منشورات الأرشيف الوطني الفلسطيني.

فتيحة أبن حميميد، (2018). العقبي ومواقفه من الزوايا والطرق المنحرفة .مجلة قضايا تاريخية، (10)، 153-168.

فطيمة شيخ،(2017). قانون كريميو 24 أكتوبر 1870 أو تجنيس اليهود: الاختبارات الصعبة في ظل الهيمنة الاستعمارية. مجلة الحوار المتوسطي ، مجلد 8 (1)، 519-529.

المغربي، عبد الرحمن،2000) ). طائفة المغاربة في القدس الشريف 1099-1515. أطروحة دكتوراه غير منشورة. مصر: جامعة عين شمس.

مغلي محمد البشير، .(2002) التكوين الاقتصادي لنظام الوقف الجزائري. مجلة المصادر، مجلد 4 (1)، 153-185.

Courreye, Ch. (2022). L’Algérie des Oulémas : Une histoire de l’Algérie contemporaine (1931-1991). Paris : Éditions de la Sorbonne.

Lemire, V. (2022). Au Pied du mur. Vie et mort du quartier maghrébin de Jérusalem. Paris : Edition du Seuil.

Massignon, L. (1952). Documents sur certains waqfs des lieux saints de l’Islam : principalement sur le waqf Tamimi à Hébron et sur le waqf Tlemcénien Abû Madyan à Jérusalem. Revue des Études Islamique, Paris : Librairie Orientaliste Paul Geuthner, 39-42.

Sroor, M. (2018). Le contentieux franco-israélien à propos des biens waqfs maghrébins à Jérusalem 1948-1967. Université d’Aix-MarseilleAnnuaire Droit et Religions, 9, 25-45.

Tibawi, A. L. (1978). The Islamic Pious Foundations in Jerusalem: Origins, History and Usurpation by Israel. London: The Islamic Culture Centre.

الهوامش :

1 مقتبس من كلمة شباب مغاربة القدس للوفد الجزائري الذي قدم من الجزائر عام 1954 برئاسة أستاذ اللغة العربية الجزائري الملقب بجدو للاطلاع على أوضاع مغاربة القدس بعد النكبة عام 1948 تحت رعاية الإدارة الفرنسية والقنصلية الفرنسية في القدس (ترجمة المؤلف من الفرنسية، كما هو الشأن بكل الترجمات اللاحقة).

2 81 F 843-844 سيتم الإشارة إلى هذا المصدر في النص بـ (ANOM).

3 ANOM 81 F 843-844.

4 سيتم الحديث عنها لاحقا.

5 ولد ببلدة سيدي عقبة، نسبة اليها سمي بالعقبي، اختلف حول سنة ولادته فبعض المصادر تذكر أنه ولد في عام 1888م بينما تذكر مراجع أخرى أنه ولد عام 1890م. حول سيرة حياته.

6المستشار العام بالجزائر العاصمة، وقاضي القضاة، نال ثقة الفرنسيين إذ كان عضوا في الجمعية الخيرية التي تهتم بشؤون الأوقاف الإسلامية التابعة لإدارة الشؤون الأهلية الفرنسية في الجزائر، كما شغل منصب كاتب الصدقة المختصة بفقراء المسلمين. وخلال الثورة الجزائرية 1954-1962 انتقل إلى فرنسا وبقي فيها حتى وفاته، حيث نقلت جثته إلى الجزائر لتدفن في مقبرة سيدي محمد بدون مراسيم. ليس لدينا الكثير من المعلومات حول القاضي بن حورة سوى ما تذكره وثائق الأرشيفات الفرنسية من قربه من الإدارة الفرنسية واهتمامه بشؤون الجزائريين في القدس بعد النكبة .ANOM 81 F 843-844

7 تسمّى أيضا ثورة البراق والتي تشكل أولى وأهم الثورات الشعبية الفلسطينية ضد محاولات الحركة الصهيونية استملاك حائط البراق وتجاوز الحقوق الممنوحة لهم في العبادة أمامه. ونتج عنها ارسال بريطانيا المستعمرة لجنة تسمى "شو" نسبة إلى رئيس اللجنة W. Shaw للتحقيق في أسباب الثورة وفي ملكية حائط البراق. وخرجت اللجنة بتوصيتها أن حائط البراق ملكية إسلامية ويشكل جزء من الحاط الغربي للمسجد الأقصى المبارك؛ وليس لليهود أي حقوق ملكية فيه.

8 ولد لوي ماسينيونLouis Massignon) ) في ضواحي باريس عام 1883 وتوفي عام 1962 درس في مدرسة اللّغات الشرقية في باريس اللّغة العربية، كما درس تاريخ المجتمعات الإسلامية وتاريخ الفرق الإسلامية، وزار العديد من دول العالم العربي كالجزائر والمغرب ومصر وسوريا والعراق. وكان عضوا في المعهد الفرنسي في القاهرة وضابطا ملحقا بمكتب المندوب السامي الفرنسي في سوريا.

9 ولد في 1 فبراير 1904 في باريس وتوفي في 20 يونيو 1996 في سان موريس، هو ناشط فرنسي في الدفاع عن حقوق الإنسان. التزم بخلق حوار بين "أصحاب النوايا الحسنة"، خاصة في الجزائر، وتحسين مصير السكان العرب.

10 ليس لدينا معلومات حول هذه الشخصية. المقصود حول زيارته لأن مونتان شخصية معروفة.

11 ANOM 81 F 843-844.

12 شغل منصب القنصل الفرنسي العام في القدس خلال الفترة (1946-1952).

13 ANOM 81 F 843-844.

14 ANOM 81 F 843-844.

15 ANOM 81 F 843-844.

16 ANOM 81 F 843-844.

17 ANOM 81 F 843-844.

18 ANOM 81 F 843-844.

19 ANOM, 81 F 843-844.

20 هم من أعيان مدينة تلمسان التي يوجد بها ضريح سيدي أبي مدين.

21 ANOM 81 F 843-844.

22 ANOM 81 F 843-844.

23 ANOM 81 F 843-844.

24 ANOM 81 F 843-844.

25 ANOM 81 /F /843-844.

26 ANOM 81 F 843-844.

27 ANOM 81 F 843-844.

28 ANOM 81 F 843-844 .

29 ANOM 81 F 843-844.

30 وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى.

31 ANOM 81 F 843-844.

32 ANOM 81 F 843-844.

33 ANOM 81 F 843-844.

34 ANOM 81 F 843-844.

35 ANOM 81 F 843-844.

36 ANOM 81 F 843-844.

37 بعد ثلاث سنوات من هذه الزيارة تمكنت فرنسا عبر القضاء والمحاكم العليا الإسرائيلية من انتزاع اعتراف من إسرائيل بوقفية أراضي قرية عين كارم واجبارها على دفع تعويضات بأثر رجعي منذ العام 1948، بمعنى أن فرنسا حققت مطلبين من المطالب الثلاثة سابقة الذكر واستمر النزاع القانوني في المحاكم من أجل انتزاع المطلب الثالث ولكن القضية جمدت بعد انسحاب فرنسا من الجزائر عام 1962 وانتهاء صفتها كوصية على أملاك المغاربة في القدس. حول هذه القضية.

38 ANOM 81 F 843-844.

39 ANOM 81 F 843-844.

40 ANOM 81 F 843-844.

41 ANOM 81 F 843-844.

42 والذي كتب كتابا في ثلاثينيات القرن العشرين يوثق فيه تعاليمه ونصائحه للنشء اليهودي موسوما بـــــ: « Algerusalem, l’Algérie terre   « juive. وكما هو واضح من العنوان فقد ركب كلمة « Algerusalem »من كلمتين هما مدينتا الجزائر  Alger والقدس  Jérusalem. وكتب يقول :"اليهود هم حكام الجزائر الحقيقيون، أما الفرنسيون مجرد أدوات لتحقيق المصالح اليهودية الكبرى، نحن اليهود الذين نجلس على عرش الجزائر، حيث يطيعنا المسيحيون والمسلمون ويخدموننا ويغنوننا".

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche