صدر هذا الكتاب في سياق ما أصبح يعرف بالربيع العربي، وهو يسعى للإجابة من خلاله على السؤال التالي: لماذا بقيت الجزائر على هامش ذلك الحراك العربي ؟ ولماذا يستعصي التغيير السياسي في الجزائر ؟ وما الذي يجعل أي محاولة للتغيير في الجزائر مكلفة ولا تحقق المطلوب؟
يتألف الكتاب من مقدمة وخمسة فصول و هي وأن كانت تشكل فيما بينها وحدة موضوعية إلا انه يمكننا قراءة كل فصل بمعزل عن بقية الفصول الأخرى ذلك أنها عبارة عن دراسات أجريت من طرف المؤلف في فترات متباينة
افترض الكاتب وجود ثلاثة أجيال سياسية في الجزائر : جيل الثورة الذي قاد ثورة التحرير وتأثر بتلك المرحلة المؤسسة من تاريخ الجزائر المعاصر، مرحلة تميزت بالصراع الشامل مع المستعمر بعدما فشل النضال السياسي السلمي في جزائر ما بين الحربين. وهي مرحلة صنعت الثقافة السياسية المتميزة بالتوجس من العمل الحزبي التعددي ،غياب الشفافية وتفضيل العمل السري، سيطرة العسكري على المدني، تفضيل قيم الانضباط شبه العسكري و النفور من النقاش السياسي العلني لدى هذا الجيل. أما الجيل الثاني فهو جيل الاستقلال والبناء الوطني الذي ولد في أواخر المرحلة الاستعمارية وفي السنوات الأولى للاستقلال واستفاد من فرص التعليم التي مكنته من أن يخدم الجيل الأول المسيطر على مقاليد الحكم في عملية التسيير الإداري والاقتصادي. دفع به هذا الوضع إلى أن يكون في تواصل مستمر مع الجيل الأول تواصل انعكس إيجابا على العلاقة بينهما بأن ولد لديه حالة من الاحترام والامتنان لمن أتاحوا له فرصة المشاركة في البناء الوطني ولكن هذا الوضع خلق أيضا بحسب رأي الكاتب جيلا خاملا سياسيا يعاني من عجز في المبادرة. ومما ساهم في هذه النزعة حالة الإنقسام التي تميزت بها هذه النخبة ما بين المفر نس والمُعرَّب. أما الجيل الثالث فهو جيل "الفعل المباشر" و"الحركات الاحتجاجية" وهو جيل نشأ وترعرع في ظل تراجع الدولة الوطنية التي عجزت أولا عن تلبية حاجاته وثانيا عن تأطيره، النتيجة كانت سلسلة من الحركات الاحتجاجية العنيفة في أغلب الأحيان واستغلال الإسلام السياسي لها بكل النتائج التي نعرفها. إن الانتقال السياسي في الجزائر ضرورة تفرضها في أخر الاحتمالات الضرورة البيولوجية فجيل الثورة قد شاخ. وهنا يقدم الكاتب سيناريوهين ممكنين للانتقال السياسي: سيناريو هادئ في حال جرى الانتقال ما بين الجيل الأول والجيل الثاني وسيناريو عنيف وثوري في حال جرى الانتقال ما بين الجيل الأول والجيل الثالث. تمت عوامل موضوعية مساعدةٍ و أخرى ذاتية معوقة لحصول هذا الانتقال الهادئ فالوضع المالي المريح والتجربة السابقة والظرف العربي والدولي، كلها عوامل تعمل في اتجاه الانتقال السياسي الهادئ. ولكن العوامل الذاتية التي تشكل عناصر خصوصية الحالة الجزائرية تشكل عائقا أمام هذا السيناريو، تتمثل هذه العوائق الذاتية في خصوصيات وآليات تسيير النظام السياسي وضعف الأحزاب السياسية وطبيعة الطبقات الوسطى في الجزائر، وقطاعيتها والثقافة السياسية الشعبية المطلبية والمساواتية .
يشكل كل عنصر من هذه العناصر بنحو الإجمال فصلا من فصول الكتاب. تمثلت المقاربة المنهجية لهذا الكتاب أولا في الاستفادة من المذكرات السياسية الكثيرة التي نشرت مؤخرا. إلى جانب الدراسات الميدانية للأحزاب من خلال المقابلة والمتابعة المباشرة ومقاربة كمية إحصائية في ما يخص الانتخابات ودور المرأة في الحقل السياسي.
نجد من ضمن معوقات الانتقال السياسي ضعف الأحزاب السياسية التي لم تستطع أن تخرج عن الأدوار " التقليدية " في العمل السياسي في الجزائر فظلت مغلقة أمام الفئات الاجتماعية الحية وعجزت بذلك عن احتواء الحراك الاجتماعي الاحتجاجي الواسع بحيث عجزت حتى عن احتواء نخبها التي ضاقت ذرعا بانعدام الديمقراطية داخلها و محدودية فرص الترقية داخل الحزب وإمكانيات التموقع داخل الحقل السياسي. مما خلق ظاهرة الانشقاقات والترحال السياسي في المشهد السياسي الجزائري. أدى هذا الواقع إلى عزوف المواطنين عن المشاركة السياسية في الانتخابات بسبب فقدان الحزب كمؤسسة مصداقية تمثيل الشرائح الفاعلة والتعبير عنها.
مثلت الأحداث التي رافقت مرحلة الاستقلال ومن بينها مؤتمر ووثيقة طرابلس مثالا منيرا لفهم الثقافة السياسية في الجزائر فقد تم تبني الوثيقة من دون مناقشة برفع الأيدي رغم أنها لم تكن محل إجماع بينما احتدم الخلاف حول توزيع المناصب إلى أن علقت الجلسة إلى يومنا هذا .يوضح هذا المثال بجلاء هامشية القضايا الفكرية والإيديولوجية وهيمنة إرادة الوصول والتموقع في مراكز اتخاذ القرار وفق منطق جهوي ولائي، أما الدرس الثاني فهو أن القرارات المصيرية والمهمة لا تتخذ في إطار المؤسسات الرسمية وإنما خارجها وفق موازين القوى السياسية. أدى هذا الواقع إلى صعوبة تتبع مسار اتخاذ القرار في الجزائر. درس الكاتب هذا الأمر من خلال مثالين هما قرار التعددية السياسية وتسيير ملف المحروقات في الجزائر. يٌبَيِّن هاذان المثالان بأن القرارات في الجزائر لا تتخذ في المؤسسات الرسمية للدولة، وسبب ذلك هو هيمنة العسكري على المدني وسيطرته على مراكز اتخاذ القرار، انتشار قيم الانضباط والسرية على حساب الشفافية والنقاش العلني بحيث أصبحت السرية أداة من أدوات ممارسة السلطة.
لا يكاد يمر أسبوع من دون أن نشهد حركة احتجاجيه هنا وأخرى هناك. ولكن ولحد الآن عجزت كل هذه الحركات عن التعبير عن نفسها سياسيا لتتحول من حركة احتجاجيه إلى حركة سياسية اجتماعية قادرة على توفير بديل عن النظام القائم وفرض التغيير. والسبب في ذلك بحسب الكاتب يرجع إلى ضعف التنظيم والتأطير لدى هذه الحركات الاحتجاجية وهو ما يفسر ولو جزئيا بغياب الطبقات الوسطى والمتعلمة عنها، وهي بدورها تتوجس من هذه الحركات الاحتجاجية وترفض الانخراط معها - وإن كانت هي الأخرى تشاركها في سخطها من الأوضاع الحالية - لاستعمالها العنف وضعف التنظيم لديها لنجد أنفسنا أمام حركة مفرغة.
أفرد الكاتب فصلا لدراسة المشاركة الاجتماعية والسياسية للمرأة وقد توصل إلى أنه وبالرغم من المكتسبات التي حصلت عليها المرأة في حقلي التعليم والعمل بفضل عزيمة المرأة الجزائرية واتخاذها من التعليم استراتيجية للخروج من الوضع الدوني الذي يضعها فيه المجتمع التقليدي إلا أن النزعة المحافظة لدى النخب السياسية لازالت تحُول دون التمثيل الحقيقي للمرأة في العملية السياسية هذا بالإضافة إلى أن طبيعة اشتغال الحقل السياسي الجزائر ذي الخصوصيات الآنفة الذكر يصعب هو الآخر من فرص تمثيل المرأة.
فريد مركاش
الهوامش
[1] ناصر جابي أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة الجزائر والمدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية. صدرت له عدة كتب ودراسات من بينها : "الجزائر تتحرك: دراسة سوسيوسياسية للإضرابات العمالية " عن دار الحكمة،1995 "الانتخابات : الدولة والمجتمع" عن دار القصبة للنشر، 1998 مواطنة من دون استئذان، منشورات شهاب، 2006 : الدولة والنخب عن منشورات شهاب، 2008. الوزير الجزائري أصول ومسارات عن دار ابن خلدون، 2001. وأخر ما صدر له هو كتاب "لماذا تأخر الربيع الجزائري" عن مشورات شهاب، 2012.