إنسانيات عدد 63-64 | 2014 | الحمّام في البلدان المتوسطية | ص11-37 | النص الكامل
The historic Hammams between protection and rehabilitation Abstract: In a comparative approach, the author proposes analyzingg the servicing systems supervising the historic and traditional hammams in various cities (Constantine, Fez, Damascus, Ankara). The threats of the continuity of the role of the ancient hammams, if they are managed in reference to the Waqf’s laws, as patrimonial institution, or by the code of commercial activity, represent not only a rupture with ancient practices but a rupture with a patrimonial space as well. |
Alaa EL HABACHI: Université d’El-Manoufia, Egypte.
المقدمة
يتميّز الحمّام بكونه أحد أنماط المباني الخاصة جداً التي تسمح لكم كبير من الماءِ بتخلل أنظمته المعمارية و الإنشائية، الأمر الذي يجعله دائماً عرضة لتدهور أنظمته و مواد بنائه، و يحتم ذلك تفعيل برنامج دوري للصّيانة، و أية محاولة لفصل الماءِ عن الحمّام بغرض الحفاظ على المبنى، هو فصل الروح عن الجسد الحيِّ، و بالإضافة إلى ذلك تتعرض أنظمة المبنى و خاصة في المناطق الدافئة و الساخنة منه لتباين شديد في درجات الحرارة والرطوبة النسبية بداخل الفراغات و خارجها، و هذا الاختلاف البيئي يُعجّلِ بنسبة تكثيف البخار في صلب مواد البناء و بالتالي يؤدي إلى تفككها و تدهورها مما يهدد استقرار المبنى و يستلزم مراقبة لنسب التدهور وتنفيذ علاجات سريعة تمنع الانهيارات المفاجئة.
و تجدر الإشارة إلى أن الحمّامات التقليدية قد تعرضت لتدهور سريع في استخدامها بالنظر لما تتطلّبه هذه المباني من عناية و صيانة فائقتين و مكلفتين، و كذلك لموقع هذه الحمّامات في المناطق التاريخية المهملة، التي يسكنها، في غالب الأمر، فقراء المجتمع الأمر الذي حال دون توفير العائد المادي لوقايتها من التلف. كما ارتبط الحمّام التقليدي في وقت سابق من القرن العشرين بسمعة سيئة في بعض البلدان العربية حيث تم استغلاله في أعمال منافية للآداب؛ مما أدى إلى إهمال هذه المباني و هدمها الواحد تلو الآخر. و تم استثمار أيضاً هذه الأراضي الفسيحة التي كانت مخصصة للحمّامات في استخدامات أخرى تدر على أصحابها عائدًا اقتصاديًا أكبر. أما القليل الباقي من هذه الحمّامات فقد شهدت تعديات و تعديلات كثيرة قلصت من قيمتها الفنية و التاريخية، كما أثرت على كفاءة الأنظمة التقنية و بالتالي تدهورت جودة الخدمات التي كان يوفرها المبنى للمجتمع المحيط بهذه المؤسسة. و نظراً لازدياد الطلب من قبل الفئات الاجتماعية على توفير خدمات الحمّام التقليدي، و احتياج الكثير من الأفراد للخدمات المختلفة التي تميز الحياة المدنية المعاصرة، فقد ظهرت أنماط وأشكال حديثة من هذه الحمّامات، إلا أنها لا تلتزم بخصائص و مواصفات المبنى التاريخي. و لذا لم ترق هذه الأخيرة إلى أهمية الحمّامات التقليدية، و لن تستطيع أن تغني عن وجودها.
و لما أصبح هذا النوع من البنايات نادراً في بعض الدول، كما هو الحال في مصر، سُنـَّت قوانين لحماية مبنى الحمّام التقليدي بوصفه أثرا تاريخيا لا يمكن العبث به، و بالتالي قُـلصت وظيفته و تحددت أنواع الاستخدامات الممكنة بالمبنى حتى أصبحت أغلب حمّامات القاهرة على سبيل المثال مغلقة لا وظيفة لها. و بذلك فقد المبنى كيانه و دوره الصحي و الاجتماعي و البيئي المعروف تاريخيا.
و من خلال مشروع "حمّام" (2005-2008) المخصص لدراسة و تحليل وضع الحمّامات التقليدية الواقعة على ضفاف حوض البحر الأبيض المتوسط، تمت دراسة خمسة حمّامات وفق تخصصات متعددة. و هذه المقالة هي خلاصة لتقييم وضع الحمّامات، موضوع دراسة المشروع، من وجهة نظر قانونية أي ضمن أطر الحماية التي أعدت لهذا الأمر.
و يوضح الجدول التالي نظم الحماية المختلفة في المحور الأفقي، و الحمّامات موضوع الدراسة في المحور الرأسي، الهدف منه إبراز تعدد نظم الحماية القانونية في كل حالة على حدة، و بيان أثرها على وضع الحمّامات في أطرها العمرانية المعاصرة.
الجدول التالي يوضح اندراج نظم الحماية القانونية في الأنظمة الثلاثة التالية:
- نظام الوقف،
- القوانين المحلية للحماية (قوانين حماية الآثار و غيرها)،
- القوانين والمواثيق العالمية لحماية التراث الدولي.
شكل 1: طرق الحماية القانونية المختلفة التي يلتزم بها، بخصوص الحمّامات قيد الدراسة
النظام القانوني للحماية / الحمّام |
1) الوقف |
2) قوانين حماية محلية |
3) حماية دولية (تراث عالمي) |
||
ملك خاص |
عام أو حكومي |
||||
آثار |
منطقة تاريخية |
||||
1) الطنبلي-مصر 2) شنجول-تركيا 3) سفارين-المغرب 4) أمونة-سوريا 5) سوق الغزل-الجزائر |
وقف وقف وقف وقف ----- |
----- ----- ----- ----- خاص |
آثـــــار آثـــــار ----- ----- ----- |
"بالقرب من" ----- منطقة تاريخية في إطار تسجيل منطقة تاريخية |
تراث عالمي ----- تراث عالمي "بالقرب من" ----- |
و يوصّف البحث مستوى الحماية التي تفرضها كل من هذه الأنظمة على الحمّامات، كما يتم التحري في شكل هذا المبنى الذي عرف تطبيق أشكال الحماية المختلفة. و يحقق البحث في مدى تأثير هذه الأطر القانونية على جودة و كفاءة استخدام الحمّامات. كما يتساءل عما إذا كانت تسمح بالأنشطة التي صممت من أجلها وخاصة الاستحمّام، و مدى تأكيدها على الحفاظ على القيم التاريخية والفنية بالمبنى وإبرازها، و أيضا عن الاهتمام الذي توليه هذه القوانين لأحدى هذه القيم دون الاعتبار للقيم الأخرى.
مبادئ الوقف و عمليات المحافظة
لم يلق نظام الوقف البحث اللائق به، و خصوصاً لتبيان علاقة هذه العدة الفقهية بالبيئة العمرانية، إذ أن لهذا التقصير أسبابا كثيرة، تكمن أهمها في خصوصيته على المجتمعات الإسلامية التي أعادت صياغته حسب المفاهيم المدنية المعاصرة، مما نتج عنه تشويهه و تغيير في مبادئه أو إلغائه تماماً، الأمر الذي أسيء فهمه بشكل كبير من قِبل الباحثين المختصين في الحفاظ على التراث. و يفرد البحث شرحا مختصرا و مبسطا لمؤسسة الوقف، إن جاز وصف الوقف كمؤسسة، و لدورها الأساسي في الحفاظ على التراث الثقافي. و بخاصة فيما يتعلق بالحمّامات التقليدية التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من التراث الثقافي للدول المحيطة بحوض البحر الأبيض المتوسط، و ما يزيد هذا المحور البحثي أهمية أن أربعة من الحمّامات الخمسة، موضوع الدراسة، كانت تدار وفقا لنظام الوقف.
الوقف هو صدقة جارية تدعم بصفة دائمة نشاطات خيرية من خلال عائد دوري يدَرّ من أصول ثابتة توقف للخير، و من أمثلتها المباني التي تدر دخلا و منها الحمّامات، و تعود جذور هذا النظام إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أشار، في أحد أحاديثه، للوقف بوصفه وسيلة لعمل الخير و أرسى الصحابة و الفقهاء من بعده أركانه،[2] و يصعب تحديد الفترة التي تم فيها إدراج هذا النظام ضمن مسؤوليات المحتسب والقاضي من أجل مراجعة صحة إدارته و الحكم في التظلمات التي قد ترفع من القائمين والعاملين في منظومة الوقف أو المستفيدين منه. و في هذا الصدد، تجد أن أقدم المخطوطات التي يرجع تاريخها إلى السبعينيات من القرن التاسع الميلادي، ومؤلفها هو أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المعروف ب"الخصاف". و قد كان هذا الأخير قاضي القضاة ببغداد، وهو أحد السلفيين الذين عملوا جاهدين لوضع صيغة قانونية واضحة وقاطعة لأحكام الشرع والشريعة في الأمور غير الدينية. و المخطوط الذي نشير إليه هنا بعنوان أحكام الأوقاف، تمت طباعته من قبل ديوان عموم الأوقاف المصرية عام 1904، و هو عبارة عن قائمة من الأسئلة التي يمكن أن يتعرض لها نظام الوقف، و الإجابة على هذه التساؤلات من خلال أحكام الشرع و الشريعة. و بالتالي فالكتاب يدرج الحقوق و الواجبات و المنافع، وحق الاستفادة منها لكل الأطراف المتضمنة في النظام، و قد انتهج العديد من الكتاب منهج الخصاف لتعديل الأحكام حتى تتناسب مع زمان ومكان إصدارها، أَو لإضافة أحكام و تعليمات جديدة لم تكن موجودة من قبل.[3]
و في نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين كثـفت الدول الغربية مجهوداتها في تقسيم الأمة الإسلامية إلى دول وكيانات سياسية متعددة، و عملت على تحويل إدارة الأمور الداخلية في كل الكيانات الجديدة، بما في ذلك أحكام الأوقاف، إلى تشريعات تسن حسب القوانين المدنية المتعارف عليها وقتذاك. و بالرغم من النجاح الملحوظ الذي توصلت إليه القوى العظمى الغربية في تقسيم الأمة الإسلامية إلى دول متعددة، إلا إن محاولات تحويل معظم الأحكام الشرعية بما في ذلك الزواج والميراث والوقف وغيرها، إلى قوانين مدنية علمانية باءت معظمها بالفشل. و يعود ذلك إلى تغلغل و تأصل جذور هذه الأحكام في وجدان و ديانات المجتمع المحلي من جهة، و عدم تلاؤم هذه القوانين المدنية مع ثقافة هذه المجتمعات من جهة أخرى. و هو الأمر الذي أدى بتلك المحاولات إلى إنشاء المحكمة الشرعية في معظم الدول الإسلامية إلى جانب المحاكم المدنية. و أصبحت هذه المحاكم الشرعية هي التي تتكفل بالأمور الاجتماعية التي لا تندرج تحت القوانين المدنية. وبالرغم من ذلك همشت أحكام الأوقاف وأدرج معظم ما كان له علاقة بإدارة الأراضي أو العقارات تحت بنود خاصة في القوانين المدنية، و هو ما حدث في مصر و معظم الدول العربية، إلاّ أنّها ألغيت تماماً في بعض الدول، كما هو الحال في تونس، دون طرح لأية نظم قانونية بديلة تؤول إليها إدارة أصول وعقارات الأوقاف.
و يمكن، من خلال هذا العرض الموجز، أن نصف وضع نظام الوقف حالياً بأنه ما زال موجوداً في معظم البلاد الإسلامية ولكن بصورة شكلية فقط، لأن ما تبقى منه من أحكام و مبادئ قد تم تشويهه بشكل جذري. و هكذا أصبحت الحكومات من خلال و زارات أو إدارات الأوقاف المختلفة هي الناظر و الإداري الأوحد لأصول النظام، و بالتالي هي المتصرف الوحيد لها، وغالباً ما تأتي القرارات الخاصة بالأوقاف لتدعيم أمور مالية أو سياسية تخص الحكومات دون اعتبار أحد أهم مبادئ الوقف و هو الاستقلالية عن أي سيطرة خارجية حتى يضمن النظام أن الصدقة الجارية، و هي الهدف الرئيسي لهذا العدة الفقهية، تصل إلى مستحقيها الفعليين. ونجد، على الخلاف من ذلك، أن المهمة الرئيسية للعديد من وزارات و إدارات الأوقاف الحالية هي إدارة أمور الدين و الدعوة، و هي مهام لم تدرج في أساسيات النظام الذي كان يدير معظم ثروة الأمة في أبهى العصور الإسلامية.
و نستخلص من ذلك أنه منذ أن أرسيت أحكام الأوقاف في أوائل عهد الإسلام، التي نقحت كلها لضمان استدامة النظام و بالتالي لإستدامة الصدقة الجارية، وصّف الوقف مهاماً دقيقة يقوم بها كل من أدرج في المنظومة من ناظر الوقف إلى المستفيدين من الصدقة. و تهدف هذه المهام إلى الإبقاء و الحفاظ على نقاء و سلامة إدارة أصول الوقف، و بالتالي الحفاظ على عقاراته في حالة جيدة حيث إنها تشكل ركنا أساسيا في النظام، و بخاصة و أنها كانت مدرة لريع دوري (و هو ما يسمى بالموقوف عليه)، و مثال ذلك المباني ،الحمّامات و الوكالات و غيرها، أو أنها كانت مُستقبلة لنسبة محددة من الريع لدعم وظيفة خيرية تقام به (و هو ما يسمى بالموقوف)، و مثال ذلك المساجد و الأسبلة.
و كون أن أربعة من الحمّامات الخمسة التي تشكل حالات الدراسة قد أسست أوقافا تعتمد على أعمال خيرية عديدة، و هي نسبة تعتبر، في نظرنا، ممثلة لجميع الحمّامات التاريخية الموجودة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، حيث يكون الحمّام التقليدي العام وقفا في أغلب الأوقات. و لهذا يصبح من الضروري، إذن معرفة المبادئ التي انتهجها نظام الوقف للحفاظ على هذه البناية الخاصة جداً و حمايتها. و من هذا المنطلق تم فحص عدد كبير من الكتب، مثل كتاب أحكام الأوقاف للخصاف و غيره، حتى نتمكن من استخلاص هذا الكم الهائل للأحكام فيما يتعلق منها بالحفاظ على مباني الحمّامات[4]. و نشير هنا لملحوظة تبيناها من خلال تنقيبنا في هذه الكتب، إذ تتمثل في كون المبادئ التي طرحها نظام الوقف للحفاظ على المباني على وجه العموم، لم تطرح في أي من الكتب التي استندنا إليها في فصل معيّن، أَو خصّصَ لها باب بعينه، بل أدرج جميعها ضمن عدد كبير من التعليمات و الواجبات والحقوق التي يجب على كل فرد يعمل في مؤسسة الوقف أو يستفيد منها أن يستوفيها.
و كان من جراء الاشتغال على هذا البحث جمع قائمة طويلة مما أطلقنا عليه مبادئ نظام الوقف التي صنفناها من بعد طبقاً لنوع المباني الموقوفة التي تخضع لعمليات و طرق مختلفة للحفاظ، فعلى سبيل المثال كان واضحاً أن منهجيات و مفاهيم الحفاظ على المساجد تختلف بشكل أساسي عن تلك التي وصفت لإعمار المباني السكنية، و بالتالي وجدنا أن هناك خمس فئات من المبادئ، تحتوي كل فئة طريقة أو طرقا معينة في الحفاظ على مباني الأوقاف، و هي كالتالي:
1) مبادئ الحفاظ العامة، و تنطبق على جميع الأصول المادية للوقف بما في ذلك المباني.
2) مبادئ الحفاظ على المساجد و الجوامع،
3) مبادئ الحفاظ على المباني العامة جميعها، عدا المساجد،
4) مبادئ الحفاظ على المباني السكنية،
5) مبادئ الحفاظ على المباني للفئات غير المسلمة.
و يتضح لنا من قائمة الفئات هذه، أن ما يخص الحمّامات العامة هي التي تندرج في صنف الفئة الأولى، و هي تخص مبادئ الحفاظ العامة للوقف، و أيضاً تلك التي تندرج تحت صنف الفئة الثالثة، لكون أن الحمّام هو أحد أهم المباني العامة ضمن الإطار العمراني للمدن، و نذكر في الجزء التالي بعض الأمثلة للمبادئ التي تندرج تحت هاتين الفئتين.
أمثلة من مبادئ الحفاظ العامة للوقف:
- الوجوب الأبدي للمباني الموقوفة و المنفعة منها على الدوام تدعيماً للصدقة الجارية موضوع الوقف.
- وجوب الحفاظ على المباني من طرف المستفيدين من الوقف، و صيانتها في حالة جيدة، و لا يمكنهم التعديل فيها، فمن حقهم استخدام مباني الوقف و لا يحق لهم الإساءة لها أو تشويهها.
- يقع على عاتق ناظر الوقف مسؤولية استيفاء جميع متطلبات مباني الوقف من العمارة الضرورية حتى تبقى بحالة جيدة وذلك من الريع الدوري للوقف قبل توزيعه على المستفيدين منه.
- وجوب استيفاء المرمة المستهلكة التي تتضمن جميع الأعمال الاسترجاعية التي يمكن إزالتها بدون ضرر على أصل المباني الموقوفة من المستفيدين من مباني الوقف، و أمثلة ذلك تجصيص أو تطيين السطوح وما شابه ذلك.
- تخريب مباني الوقف التي لم تعد تستخدم، وبذلك فقدت شرط تدعيمها للصدقة الجارية، دون اعتبار لحالة المنشأ أو مواد بنائه، و يمكن بذلك تطبيق أحكام الأوقاف الخاصة بالمباني التي تم تخريبها بوجوب الاستبدال أو بيع الأنقاض للتأكيد على الصدقة الجارية.
مثال من مبادئ الوقف للحفاظ على المباني العامة ما عدا المساجد:
- وجوب استيفاء جميع أعمال العمارة الضرورية من ريع الوقف، و إذا تعدت مصروفات العمارة الضرورية الريع، فيحق لناظر الوقف كراء جزء من المبنى أو كله، كما يمكن أن يستغل الجزء المكري في وظائف مختلفة عن الوظيفة الأصلية التي حددها له الواقف، على أن يكون هذا الكراء لمدة محددة لا تزيد عن دورتين من الريع، حتى يتسنى الإنفاق على العمارة الضرورية و استيفاء جميع بنودها و عمارة المباني و إصلاحها من هذا الكراء، و أن تبقى بعد ذلك قدرا من المال الذي تم جمعه من الكراء يُفرَّقُ على الفقراء والمساكين، على أن تسترجع الوظيفة الأصلية للجزء المكري من المنشأ، بعد انتهاء مدة الكراء.[5]
و من خلال ما عرضناه من أمثلة لمبادئ الوقف للحفاظ على المباني الموقوفة و أخرى كثيرة لم يتسع هذا البحث لعرضها، يمكن أن نستخلص المبادئ التي كانت متبعة في الحفاظ على الحمّامات و هي كالتالي:
- أن أهم حدث في تاريخ بناية الحمّام هو يوم تعيينه جزءا من الصدقة الجارية في منظومة الوقف، وليس أي حدث آخر مثل تاريخ البناء أو زيارة أحد الملوك له، و غيره من أحداث قد نعتبرها الآن هامة، و لذلك سجلت حالة الحمّام عند وقفه في وثيقة معتمدة تسمى بالوقفية، لتكون هي المرجعية لتحديد "أصالة" البناية دون أية حالة أخرى مرّت على تاريخه، فإن أحد أهم مبادئ الوقف هو أن الحفاظ يجب أَنْ يبرز و يحترم هذه الحالة.
- يعتبر مبنى الحمّام الذي يكون في حالة جيدة ولكن الحمّام ذاته لا يعمل و لا يستغل كخرابة تنطبق عليه أحكام الوقف للخرابات، لذا فمن وجهة نظر الوقف وجب استغلال مبنى الحمّام استغلالاً دائماً و يفضل استعماله في وظيفته الأصلية.
- يمكن أن تستبدل الوظيفة الأصلية للحمّام بشكل مؤقت لضمان الاستخدام الدائم للمبنى.
- يسمح الوقف بالتطوير الملائم في مباني و خدمات الحمّام إذا صدّقت جميع الأطراف المعنية بنظامِ الوقف على التغييرات المصاحبة لعملية التطوير، و لم تحدد مبادئ الوقف مدى أو صلاحيات عملية التطوير، أي يمكن أن تكون تطويراً تقنياً، أو معمارياً أو إنشائيا أو تطويراً في السعة و غيره دون تحديد.
- إن الحفاظ على مبنى الحمّام لَيس الهدف في نظامِ الوقف، و إنما الهدف الرئيسي منه هو كونه وسيلة لاستمرار الحمّام في ضخ ريع دوري لائق من أجل تدعيم الصدقة الجارية.
- أن أحد أهم أهداف الحفاظ على الحمّام هو التأكيد في المقام الأول على التفاعل الاجتماعي بين طبقات المجتمع المختلفة من خلال تدعيم الصدقة الجارية الموصفة بنظام الوقف.
- ينص نظام الوقف على أن عمليات الحفاظ على مبنى الحمّام يجب أَن يراعى فيها عدم تدخل أطراف من خارج نظام الوقف، و ذلك تدعيماً لاستقلالية النظام و لتلافي أي سيطرة أو توجهات خارجية قد لا تعمل لمصلحة الوقف.
قوانين الحماية المحلية
تقع الحمّامات الخمسة موضوع الدراسة في بلاد مختلفة، بالتالي يخضع كل منها لمجموعة مختلفة من القوانين والتنظيمات المحلية تؤثر على حالة كل حمّام على حدة وكيفية الحفاظ عليه، والقوانين المحلية التي يمكن تؤثر على الحمّامات هي كالتالي:
- قوانين تخطيط المدينة،
- قوانين حماية المناطق التاريخية بالمدن،
- قوانين حماية وحفظ التراث المحلي،
- قوانين حماية الآثار،
- قوانين و تنظيمات ترميم وتنكيس الخرابات والمباني المتدهورة،
- قوانين مصادرة الملكية للمنفعة العامة،
- قوانين و تنظيمات استعمالات الأراضي،
- قوانين محلية أخرى حسب الحالة،
و مما سبق عرضه في الجدول أعلاه، نشير إلى أنّ حمّامي الطنبلي بالقاهرة و شنجول في أنقرة مسجّلان محلياً بوصفهما آثارا، و بالتالي يقعان تحت حماية قوانين حماية الآثار المحلية، أما حمّام أمونة بدمشق فهو في سبيله للتسجيل في قوائم الآثار السورية، و سيقع قريباً تحت قانون الحماية السوري. و أما بالنسبة لحمّام سوق الغزل بقسنطينة، و حمّام سفارين الفاسي، فيقع كل واحد منهما في منطقة تاريخية محمية طبقا للقوانين المحلية، و نتيجة لذلك، فإن جميع الحمّامات قيد الدراسة واقعة تحت حماية التراث المحلي، سواء عن طريق قوانين حماية الآثار أو قوانين حماية المناطق التاريخية. و توفر هذه القوانين أقوى حماية قانونية يمكن أَن تكتسب لمباني الحمّامات، و لذا نعرض في هذا الجزء من الدراسة أهم بنود هذه القوانين المحلية المختلفة حتى يمكننا دراسة تأثيرها على كل حمّام على حدة و مقارنة النتائج للتوصل إلى أمثل الأطر القانونية لحماية الحمّامات.
إن مقارنة قوانين الحماية للآثار و المناطق التاريخية في الحالات الخمس تحتاج ورقة عمل أخرى، و لذلك قررنا أن نختصر عرضنا في هذا البحث على بنود محددة أدرجت في هذه القوانين، و لا سيما تلك التي تختص بتحديد المعايير المحليةَ لتعيين و تسجيل الآثار، و تلك التي تحدد نطاق الحماية التي تحيط كل من الآثار المسجلة، لاعتقادنا، كما سنثبته في سياق عرضنا، أن هذين البندين هما الأكثر تأثيراً على المنزلة الفنية و الحضرية و الاجتماعية الحالية التي توجد عليها الـخمسة حمّامات موضوع الدراسة.
حماية الآثار لحمّام الطنبلي بالقاهرة، مصر
يوفر القانون المصري الحالي أعلى مستويات الحماية على الآثار بما في ذلك الحمّامات الأثرية مثل حمّام الطنبلي وحمّام باب البحر، و هو قانون حماية الآثار المصري الصادر عام 1983 ،و يستند هذا القانون على سلسلة من القوانين التي سبق إصدارها منذ عام 1912 مع الإضافة و التعديل الذين مسّا القليل من بنوده و أبوابه، و خاصة تلك التي تحدد عقوبات سرقة و تهريب الآثار، أو تلك التي تحدد المعايير التي يجب أن تتوفر في المباني أو المقتنيات لتسجيلها بوصفها آثارا أما البنود التي تحدد مستويات التدخل و الحفاظ أو الصيانة التي يلزمها القانون على الآثار المسجلة فهي غائبة، و لم تدرج إلى يومنا هذا في طياته. و هو الأمر الذي يتيح تدخل الأهواء الشخصية، من خلال قرارات مسؤولي و لجان الآثار، لتحديد وضع الأثر الذي يلزم أن يحافظ عليه. و أمّا عن معايير تسجيل الآثار فيحددها القانون بالحد الأدنى من العمر، إذ يبلغ مائة عام، هذا بالإضافة إلى توافر القيم الفنية و التاريخية.
و تجدر الإشارة إلى أن القانون المصري الحالي لا يزال متأثراً بقوانين أوائل القرن العشرين و بالحركة الرومانسية في الفنون التي وصلت ذروتها و قتذاك. إذ مجدت و أبرزت وضع الأطلال و خرابات المباني القديمة في أطر المدن التاريخية، و نجد أن هناك أبوابا في القانون تحدد عزل الأثر عن النسيج العمراني المحيط من خلال نزع ملكية و هدم ما يفترض أنه غير ذات قيمة و متاخم للأثر، أو ما سمّي في أوائل القرن العشرين بالمباني "الطفيلية". و كما يتم فرض نطاق حماية يحيط بكل أثر على حدة، و يحدد ما أسماه القانون بـ"خطوط التجميل" يمنع فيها التنمية أو البناء أو إقامة أي نوع من الأنشطة. و ينص منطوق المادة 19 و20 من القانون على "تحديد خطوط التجميل للآثار العامة و المناطق الأثرية،" و يعتبر القانون "الأراضي الواقعة داخل تلك الخطوط أرضاً أثرية تسري عليها أحكام القانون" و أنه "يحظر على الغير إقامة منشآت أو مدافن أو شق قنوات أو إعداد طرق أو الزراعة فيها أو في المنافع العامة للآثار أو الأراضي الداخلة ضمن خطوط التجميل المعتمدة،...و التي تمتد حتى مسافة ثلاثة كيلو مترات في المناطق المأهولة أو لمسافة تحددها الهيئة بما يحقق حماية بيئة الأثر في غيرها من المناطق."
شكل 2: مدخل حمّام الطنبلي
المصدر: علاء الحبشي.
إن نتائج تطبيق مثل هذا النوع من الحماية على حمّام الطنبلي واضحة اليوم في الوضع الحالي للمبنى، أولاً وظيفة المبنى من وجهة النظر القانونية غير ذات قيمة، لذا لم يستدع الحفاظ عليها، فالحمّام مغلق منذ حوالي ثمان سنوات ولا تقام بفراغاته المختلفة الواسعة أي نوع من الأنشطة القانونية بسبب أن الإبقاء على هذه الوظيفة لَيست من اهتمامات سلطة الآثار، بل من الأفضل من وجهة نظرهم أن توقف الأنشطة بها، كما هو الحال، في معظم آثار القاهرة. و ذلك لينفرد هؤلاء بفرض "حماية" لائقة، الأمر الذي أثبت علماء الحفاظ على المباني التاريخية عدم صحته، بل أيضاً عدم صلاحيته لأن أحد أهم طرق الحفاظ على المباني هي استخدامها بشكل ملائم و لكن للأسف، و لقدم القوانين المعمول بها حالياً، لم تجد هذه الأفكار الحديثة طريقها إلى القانون المصري لحماية الآثار.
أما النتيجة العكسية الثانية من جرّاء تطبيق قانون حماية الآثار هو ظهور هذا العدد الكبير من أراضي الخرابات في محيط الحمّام و خاصة من الجهتين الغربية و الجنوبية من المبنى، حيث توجد أرض فضاء واسعة ضمن حدود الحمّام كانت تستخدم حتى منتصف القرن العشرين في المستوقد الخاص بتسخين مياه الحمّام، أما أراضي الخرابات المشار إليها فهي تحيط بفراغ المستوقد و هي أراض تمّ نزع ملكيتها كنتيجة طبيعية لتطبيق نطاق الحماية المحددة بما أسماه القانون "خطوط التجميل". و قد أطلعنا مسؤول من المجلس الأعلى للآثار أن خطوط التجميل الخاصة بحمّام الطنبلي الأثري تبعد عن حدود أرض الحمّام ثلاثة أمتار، و بالتالي أصبحت هذه المساحة عبارة عن خرابات مهملة تحيط بالأثر اتفق أهل الحي بأن تكون مقلباً لقمامتهم، فأساءت له بالرغم من أن هدفها الأصلي كان يرمي إلى "التجميل".
شكل 3: بعض أعمدة "المشلح" بحمّام الطنبلي
المصدر: علاء الحبشي.
و ثالث نتيجة عكسية من جراء تطبيق قانون حماية الآثار هو الاهتمام المبالغ فيه ببعض العناصر المعمارية والزخرفية ذات القيمة الفنية و التاريخية الخاصة دون باقي النسيج المعماري الآخر، و لكون الحمّامات العامةً مباني وظيفية في طابعها فتقل بها العناصر الزخرفية بوجه عام. و لذا عند قراءتنا لتقارير مسؤولي الآثار نجد أن التركيز قد تمّ بشكل غالب على وصف حالة الأعمدةَ الرخام الموجودة بالمسلخ أو فسيفساء الرخام الموجود بالأرضيات، أو القمريات الملونة الزجاجية المثبتة بالقبة الرئيسية بالمنطقة الساخنة، حيث أن كلها عناصر ذات قيمة زخرفية عالية، بينما لا يحظى باقي النسيج المعماري بهذا القدر من الاهتمام، حتى و إن انهارت القباب الثانوية أو إذا تراكمت القمامة على الأسقف بشكل يهدد استقرارها.
2. حماية التراث لحمّام شنجول بأنقرة، تركيا
صدر القانون الحالي لحماية مباني التراث في تركيا عام 1983،[6] فالقانون التركي، مثله مثل القانون المصري، يملك خلفية تاريخية طويلة الأمد بدأت في 1906، حين قررت الحكومة التركية نزع ملكية جميع الآثار و استملاكها بشكل رسمي. و في 1924 صدر قانون جديد لحماية المواقعِ التاريخيةِ بالإضافة إلى مواقع التنقيب الأثري، و القانون المعمول به الآن في تركيا 1983 لا يهدف لحماية الأثر من التدمير أو الخراب وإنما يشير أيضا إلى حماية الأثر من الملكية الخاصة، إذ يحد من حق مالك الأثر في التصرف في هذا البقايا الحضرية. فقد اعتبر القانون الأثر ملكية ثقافية للعامة، و وفقاً للمادة رقم 5 من هذا القانون، و هو برقم 2863، فإن المالك الوحيد للآثار الموجودة أو التي عثر عليها بالقطر التركي هي الدولة، و تشير الباحثة "سيبل أوزل" S. Özel في بحث نشرته حديثاً أن الصيغة القانونية الحالية بها عيوب قانونية كثيرة و توارثت تلك من تعاقب القوانين القديمة لحماية مباني التراث. و عليه تحثّ الباحثة على سن تشريع جديد لحماية التراث التركي "الذي هو في أغلب الأحيان مهدّد بالضياع في خضم النزاع على الملكية، مع وجوب تحديد الأطراف المسؤولة عن حماية التراث، و تلك التي تستطيع إقرار كيفية الحفاظ على هذه الآثار و أين تعرض إما في بيئتها الأصلية أو في المتاحف." و تؤكد الباحثة، أن القانون الحالي يثير تنافساً بين المدعين المختلفين لملكية مباني التراث، و أن هذا التنافس غالباً ما ينتهي بنزاع يكون التراث هو ضحيته الكبرى.
كما أنّ أثر التنافس على الملكية التي أشارت إليه الباحثة "أوزل" ظاهر بوضوح في حالة حمّام شنجول بأنقرة، حيث تتنافس جهات عديدة على تولي مسؤولية حماية و الحفاظ على المباني، منها وزارة الأوقاف التي آلت إليها إدارة أصول الأوقاف على المستوى القومي، و ناظر الوقف المعين من قبل الوقف ذاته بإدارة البناء، و إدارة الآثار و هي الهيئة المسؤولة من وجهة نظر وزارة الثقافة.و لهذا السبب فأن أي جهد يبذل من أحد الأطراف للترميم والحفاظ على المباني الأثرية يتم انتقاده من قبل الجهات الأخرى، مما أدّى إلى تقاعس جميع الأطراف عن القيام بمهامهم تجاه الحمّام.
3 حماية المنطقة المحيطة بحمّام السفارين بفاس، المغرب
و خلافا لحمّامي القاهرة و أنقرة المسجلين في قوائم الآثار المحلية، نجد أنّ حمّام السفارين بمدينة فاس بالمغرب هو مبنى غير مسجل، و لكنه لا يزال إلى الآن تحت حماية التراث المغربي لكن بصورة مختلفة بعض الشيء، إذ أن مدينة فاس القديمة بجميع مبانيها هي مسجلة في قوائم التراث لأنها تتمتع -كما ينص القانون المغربي لحماية التراث- "بصفات فنية و تاريخية و أسطورية و تصويرية تدل و ترمز لعلوم و إنسانيات الماضي بصفة عامة". و أصدر المشرع المغربي قانونا لحماية التراث عام 1980، و تم تعديله في 1994 لكي يشمل "حمايةِ التراث و الحرف التقليدية" في آن واحد،[7] كما أنه تم تسجيل مدينة فاس المغربية "موقعا ثقافيا" وهو، طبقاً للقانون، موقع "شهد عمل الإنسان للتكيف مع البيئة والطبيعة المحيطة، بما في ذلك مواقع التنقيب الأثري التي لَها قيمة وطنية أَو دولية". ويضم أيضاً "المجموعات التاريخية والتقليدية"، وهي "مجموعات بنيت أو لم تبن، ومرتبطة أو مفصولة بولايات أو مدن أَو قرى أَو أحياء عمرانية، وتجميعها يضفي على مكوناتها قيمة وطنية أَو دولية،" و يحدد القانون المغربي، منطقة للحماية مثيلة لتلك الموصفة بالقانون المصري المذكور أعلاه. و تحيط هذه المنطقة بالمجموعات التاريخية والتقليدية، و يصل عرض مساحتها 25 متراً تحيط بمدينة فاس القديمة. و تختلف منطقة الحماية المغربية عن مثيلتها المصرية في كونها لا تحيط بمبنى معين تم تسجيله في قوائم الآثار كما هو الحال في القانون المصري، بل تحيط بنطاق المدينة القديمة ككل.
شكل 4: مدخل حمّام السفارين في الإطار العمراني المحيط
تصوير: كمال رفتاني.
فحمّام السفارين إذاً كيان يقع في إطار حماية مدينة فاس ككل، و ليس مبنى في حد ذاته فقط، ولهذا فوضعه في الإطار العمراني المحيط هو الأمر الأكثر أهمية و ليس النسيج المعماري ذاته، و هو ما يخالف تماماً اتجاه الحفاظ على حمّام الطنبلي المصري حيث الوضع العمراني للمبنى ليس مدرجاً في طيات الحماية. و لذلك نجد أن أهم منطقة في حمّام السفارين الفاسي هي الواجهة المطلة على الساحة العمرانية، وبالتالي فإن هذه الواجهة والنشاط الذي يقدمه للمجتمع المحيط هما أهم العناصر التي يجب الحفاظ عليها، و حتى لو خضع هذا الحيز العمراني لأحد مشاريع التنمية، فإن أحد أهم معايير هذه المشاريع هي عدم تشويه الإطار و النسيج العمراني التاريخي. و قد تسمح ربما القوانين بإعادة صياغة استخدامات المباني بما يضمن تفاعلها مع المجتمع المحيط، و بما يضمن استمرار دور المبنى في المنظومة الحياتية. و بما أن الحمّامات التقليدية هي مبانٍ عامة تتردد عليها المجتمعات المغربية بصفة دائمة و مستمرة، نجد أنّ حمّام السفارين قد حافظ على وظيفته تجاه مجتمع مدينة فاس، و بالتالي دعَّم أحد أهم أركان قانون حماية التراث المغربي و هو الحفاظ على الوضع التقليدي لمباني التراث، دون أن يؤكد على أهمية الزخارف أو العناصر المعمارية التاريخية و الفنية، و هو ما لم يتوفر في حالة حمّام القاهرة و المنظومة التي تمّ تشويهها في حالة حمّام أنقرة.
4. حماية المنطقة المحيطة بحمّام أمونة بدمشق، سوريا
أمّا حمّام "أمّونة" الواقع في منطقة "العقبية" بمدينة دمشق فهو غير مسجل كأثر إلى يومنا هذا، و لا يقع في إطار عمراني محمي بإطار قانوني للحفاظ على مجموعة تراثية، و مع ذلك صرّح لنا العديد من المسؤولين السوريين بأن المبنى في سبيله إلى التسجيل كأثر و منطقة العقبية في إطار التسجيل كمنطقة تراث، و لذلك يهمّنا عرض تأثير التسجيل المرتقب على وضع حمّام أمّونة و الإطار العمراني الذي يحيط به.[8]
يرجع تاريخ القانون السوري لحماية الآثار إلى عام 1963، وآخر تعديل على القانون تم إصداره عام 2000، و القانون الحالي ينص على أن أحد معايير تسجيل الآثار هو أن يكون عمره 200 عاما أو أكثر. و بذلك فإن القانونين المصري و السوري هما القانونان الوحيدان ضمن قوانين حالات الدراسة الخمسة اللذين يحددان عمرا معينا للمبنى أو للمقتنيات المنقولة لكي تسجل كأثر، إلا أن القانون المصري يحدد الفترة ب 100 عام فقط، و القانون السوري يسمح أيضاً بتسجيل مبانٍ أو مقتنيات حديثة و لكن تحت ظروف خاصة. و كما هو الحال في تركيا، تعتبر الآثار السورية ملكا الدولة ما لم يثبت أنها ملكية خاصة. و في هذا الصدد يتشابه القانون السوري مع القانون المصري من خلال فرض نطاق للحماية يحيط بكل أثر على حدة و لا يسمح بأية تنمية بها. و قد أعطى القانون السوري الحق للسلطات المحلية مسؤولية تحديد أبعاد النطاق حسب الحالة، كما يُحدُ القانون السوري من إمكانية استعمال الآثار في وظيفتها الأصلية، و يمنح السلطات المسؤولية لإقرار الوظائف الثقافية و الإنسانية البديلة للآثار المسجلة.
و مما سبق عرضه يمكننا استنتاج أن الحالة التي يمكن أن يؤول إليها حمّام أمّونة إذا تم تسجيل المبنى في قوائم الآثار السورية، فقد تبقي السلطات على نشاطات الاستحمّام أو قد تمنعها "حفاظاً" على الأثر، كما هو الحال في حمّام الطنبلي بالقاهرة، و تحدد أنشطة ثقافية أخرى تقام بالمبنى. و يفترض أن دور ناظر الوقف سيستمر في إدارة الحمّام و لكن بشرط عدم القيام بالتجديدات أو التحديثات في المبنى، إلاّ بموافقة الجهات المعنية بالآثار التي ستفرض نطاق حماية يحيط بالأثر تمنع فيها التنمية. وقد يصل التشدد في منع التطوير في نطاق الحماية بالأثر إلى ما وصل إليه حمّام "القرماني" العريق، الذي تمّ الحفاظ على مبناه دون وظيفته وتم هدم الحي السكني التاريخي الذي كان يحيط به ليصبح
البناء علامة مميزة غير اعتيادية وسط حديقة بمدينة دمشق، دون أي اعتبار للإطار الحضري التقليدي للحمّام.
شكل 5: حمّام القرماني ضمن الإطار العمراني المعاصر بوسط مدينة دمشق
المصدر: علاء الحبشي
أما إذا تمّ تسجيل حي "العقبية" الذي يقع بداخله حمّام أمونة منطقة تاريخية، فستفرض قوانين و إجراءات أخرى للحماية، و ستمنع محاولات تفريغ النسيج العمراني كما حدث مع محيط حمّام القرماني، و يمكن أن تنشأ إدارة خاصة مثيلة لإدارة مدينة دمشق القديمة الواقعة داخل الأسوار، إذ سجلت هذه الأخيرة منطقة تاريخية في نهاية السبعينيات من القرن العشرين. و في هذه الحالة فإدارة الآثار التابعة لوزارة الثقافة السورية ستكون لها سلطة استشارية، و ستؤول المسؤولية التنفيذية لوزارة المحليات من خلال إدارة الدراسات و التوثيق التابعة لبلدية دمشق التي ستصبح مسؤولة عن مراجعة مواصفات الترميم و أعمال الحفاظ و متابعة تنفيذ الأعمال. كما ستقوم هذه الإدارة بمراجعة مواصفات البنية التحتية في المنطقة، و طرح مشاريع للبلدية لتطوير و تنسيق الفراغات العامة، بما في ذلك الشوارع و الأزقة و الساحات. و ستوكل لهذه الإدارة مهمة مراجعة مقترحات الأهالي لترميم و إعادة استخدام المباني التاريخية الخاصة، و إصدار التصاريح الخاصة لتنفيذ الأعمال بها إذا ما تم التصديق على هذه المقترحات، و مراقبة عمليات التنفيذ للتأكد من أنها مطابقة للمواصفات التي تم الموافقة عليها، و ذلك أسوةً بما تم في "بيت جبري" و العديد من المباني التاريخية الأخرى الواقعة بدمشق القديمة التي تم إعادة استخدامها لوظائف جديدة مثل المطاعم و الفنادق التي تظل تحت مراقبة إدارة الدراسات و التوثيق للمدينة القديمة. كما ستقوم هذه الإدارة بالتنسيق بين الإدارات الحكومية الأخرى، بما في ذلك إدارة الآثار و الأوقاف في ترميم المباني الواقعة في نطاق مسؤوليتهم و أيضا تنفيذ مشاريع إعادة استغلالها أسوة بما أتُّبع في تحويل "بيت العظم" بدمشق القديمة لمتحف للتراث الشعبي السوري. و سيكون أخيراً لهذه الإدارة دوراً كبيراً لفرض استخدام المواد و التقنيات التقليدية في ترميم و عمليات الحفاظ على المباني التاريخية الواقعة في نطاق الحي القديم المسجل.
5. حماية حمّام سوق الغزل بقسنطينة، الجزائر
لم يسجل حمّام سوق الغزل في قسنطينة أثرا قائما بذاته، لكونه يقع في حدود مدينة قسطنطينة القديمة التي تشتهر بصخرتها الخلابة المسجلة محمية أثرية. يقع هذا الحمّام تحت حماية قانون التراث الثقافي الجزائري لسنة 1988. و يعَّرف هذا القانون التراث الثقافي على أنه "كل ما أنتجته الحضارة إلى وقتنا الحالي، "و يقسمه إلى ثلاثة أقسام و هي: منتجات ثقافية متنقلة، و منتجات ثقافية ثابتة، و منتجات ثقافية غير ملموسة. و يمنح القانون الدولة حق مصادرة المنتجات الثقافية الثابتة (آثار تاريخية، مواقع تنقيب، مجموعات عمرانية و ريفية). و تمثل المجموعات العمرانية و الريفية في قصبة السوق و القصور، و القرى و التجمعات العمرانية التقليدية التي تعكس قيمة تاريخية أو فنية أو معمارية أو تقليدية. وحدد القانون منطقة حماية عبارة عن مائتين متر تحيط بالآثار أو المواقع التاريخية و تسمى هذه المنطقة ب "حقل الرؤية" (visibility field). وكان من الأولى أن تفرض هذه الحماية على صخرة قسنطينة ككل وليس على حمّام سوق الغزل فحسب. أما بالنسبة للوقف والمباني ذات الملكية الخاصة أو أية منتجات عمرانية أخرى، فإن القانون الجزائري قد وضع نظما محددة تتناقض مع القوانين التركية والسورية التي تشجع مصادرة الممتلكات الأثر
شكل 6: صخرة مدينة قسنطينة كما رسمت في القرن التاسع عشر
المصدر: متحف قسنطينة.
أصدر وزير الثقافة في ديسمبر عام 2003 تنظيمات إدارية وتوضيحات لقانون التراث الثقافي الجزائري، حيث أوضح أنه لا يوجد ما يسمى بالتاريخ المخزي،
و أن كل الآثار السالفة التي ترمز للحقب الزمنية المختلفة في التاريخ الجزائري
مسؤولة عن وضع الجزائريين الحالي. و بالتالي فهي تستحق الحماية و الحفاظ، و إن كان بعضها لا يلقى الترحاب من بعض المتشددين. و أن تندرج هذه الآثار في المنظومة العمرانية للمدن الجزائرية، و أن أحد مسؤوليات الجيل الحالي هي أن يصل بجميع هذه الآثار في أحسن حال للأجيال القادمة، و الوزير هنا يشير بشكل محدد إلى الآثار التي خلّفها الاستعمار الفرنسي و التي نادى بعض المتطرفين بمحوها من خلال اعتداءات مستمرة و محاولات للتدمير.
من خلال ما تم عرضه من القانون الجزائري الحالي لحماية التراث الثقافي و التنظيمات الإدارية اللاحقة به، فإن الحماية المفروضة على حمّام سوق الغزل تأتي من خلال الحماية المفروضة على مدينة قسنطينة القديمة. ولكون هذا الحمّام
ملكا خاصّا، فللمالك الحرية الكاملة بإدخال تغييرات داخلية على المبنى دون المساس بالهيئة الخارجية له، فعلى سبيل المثال لا الحصر في غضون فترة مشروع "الحمّام" و هي لا تتعدى الثلاث سنوات تمّ طلاء الأعمدة الحجرية الواقعة بمسلخ الحمّام كما هو مبين في الصورتين أعلاه بلون مختلف عما كان عليه. و يتضمن ذلك تغيير ألوان معظم العناصر المعمارية الداخلية في الفراغ، الفعل الذي يجرمه القانونان المصري و التركي في حالة أعمدة المسلخ بحمّام الطنبلي، أو تلك الواقعة في غرفة خلع الملابس بحمّام "شنجول" بأنقرة.
شكل 7: تغيير الألوان الداخلية بمسلخ حمّام سوق الغزل
المصدر: علاء الحبشي.
الحماية الدولية
أشرنا من قبل أن اثنين من الحمّامات الخمسة قيد الدراسة يقعان في مناطق مسجلة في قائمة التراث العالمي التي تشرف عليها منظمة الأمم المتحدة للعلوم و التربية و الثقافة (اليونسكو)، و هما حمّام الطنبلى و حمّام السفارين الواقعان في حدود القاهرة التاريخية و في مدينة فاس القديمة، كلتا المدينتين مسجلتان تراثا عالميا. و لذلك فإن التغييرات و التعديلات و التدخلات من أجل ترميم المباني أو الحفاظ عليها في هاتين المدينيتن التاريخيتين مراقبة من قبل منظمة اليونسكو، و هناك حالات كثيرة نرى فيها منظمة اليونسكو تتدخل و تقوم بإيقاف أو تعديل الأعمال التي لا تتفق مع المعايير الدولية للحفاظ على التراث. و هناك حالات أخرى تفرض فيها منظمة اليونسكو وجهة نظرها و طرقا محددة للحفاظ حتى تضمن عدم تشويه القيمة الثقافية للآثار العالمية. التي اتفقت الأمم المتحدة على أنها تابعة للإنسانية ككل و لا تقتصر ملكيتها على شعب معين أو على ثقافة محددة. و لذلك فإنه من الضروري أن نوضح في هذا البحث ماهية المعايير الدولية التي تعتمدها هيئة اليونسكو في تقييمها لعمليات الحماية و الحفاظ والترميم.
شكل 8: مواثيق الحفاظ العالمية
تصنيف المواثيق |
بعض مواثيق الحفاظ وموجهات الترميم المختارة |
مرحلة إرساء القواعد الأولية |
توصيات مؤتمر مدريد (1904) التأكيد على التدخل الأدنى في عمليات الحفاظ، |
ميثاق أثـــينا (1931) تعريف التراث العالمي، و إمكانية ادراج مواد حديثة في عمليات الترميم، |
|
مرحلة عولمة التراث والحفاظ عليه |
ميثاق فينيسيا (1964) التصديق على الحفاظ والترميم كمدخلان للحفاظ مع ارساء مبادئ عامة لكل منهما، |
ميثاق بــورا (1979) إرساء مبادئ إدارة مواقع التراث، |
|
مرحلة تصنيف التراث |
ميثاق الحفاظ على المدن والمناطق العمرانية التاريخية (1987) إرساء أسس الحفاظ على النطاق العمراني التاريخي بجانب المباني التاريخية |
ميثاق الحماية وإدارة مواقع التنقيب الأثري (1990) إرساء مبادئ وتوجيهات لإدارة مواقع التنقيب الأثري |
|
مرحلة إرجاع التراث للمحلية ولمحددات النطاق |
ميثاق نـــارا لتعريف "الأصالة" (1994) تحديد معايير لتقييم الأصالة وإدراجها في الأطر الثقافية |
إعلان سان أنتونيــو (1996) الأصالة وعلاقتها بالهوية الثقافية والتاريخ والعديد من الخصائص المحلية الأخرى |
تعتمد هيئة اليونسكو إعتماداً أساسياً على المواثيق العالمية التي صدرت لتحدد مستويات الترميم والحفاظ ولتوجه عمليات إدارة التراث الثقافي، و يعرض الجدول المذكور أعلاه أهم هذه المواثيق مرتبة ترتيباً زمنياً، بداية من توصيات مؤتمر "مدريد" المنعقد عام 1904، مروراً بالميثاق الصادر من مؤتمر فينيسيا المنعقد في 1964. و لا تزال هذه المواثيق في إطار الإصدار لتعديل ما تم إرساءه من مبادئ وتوجيهات بما يتماشى مع النظريات والتقنيات الحديثة للمجتمعات. أما عن ميثاق فينيسيا الذي مضى على إصداره قرابة نصف قرن، فما يزال مفعّلا من قِبل مؤسسة اليونسكو في تقييمها الفني لجميع مشاريع الحفاظ على المباني التاريخية المسجلة في قائمة الآثار العالمية. و يفصّل هذا الميثاق مستويات التدخل المسموح بها في عمليات الحفاظ من جهة وفي أعمال الترميم من الجهة الأخرى، ويصدق هذا الميثاق على الاتجاهين، الحفاظ و الترميم، باعتبارهما وسائل لحماية التراث و الإبقاء عليه. أما فيما يتعلق بالأمور الخاصة بإدارة مواقع التراث فترجع منظمة اليونسكو إلى ميثاق بورا الصادر عام 1979 الذي يؤكد على وسائل إدارة مواقع التراث. أما المبادئ التي أُرسيت في ميثاقي فينيسيا و بورا فهي مبادئ عامة في طابعها تطبق على أي موقع تراثي بغض النظر عن موقعه أو عن الثقافة أو المجتمع الذي ينتمي إليه، وبالتالي أكدت هذه المبادئ على اتجاه عولمة التراث التي نادت ومازالت تنادي به منظمة اليونسكو. و ظهرت منذ بداية منتصف الثمانينيات من القرن العشرين مواثيق عديدة موجهة لأنماط محددة من التراث، مثل مواقع التنقيب الأثري والحدائق التاريخية و المناطق العمرانية التاريخية و المقتنيات المتحفية وغيرها، وهي المواثيق التي تم تصنيفها في الجدول أعلاه ضمن مرحلة "تصنيف التراث". و بدأ في منتصف التسعينيات من القرن العشرين ظهور تيار عالمي معاكس للعولمة التي أرست مبادئها مواثيق الستينيات والسبعينيات، كان ذلك بإصدار ميثاق "نارا" عام 1994 حيث ظهر تيار جديد للحفاظ يرتكز على محلية التراث، وبرز ذلك جلياً في طرح تقييم جديد لكلمة "الأصالة" (authenticity) يرتكز على خصوصية كل مجتمع و كل ثقافة، من خلال تحديد أسس و هوية هذا التراث. و فيما يلي عرض موجز للمبادئ و الأخلاقيات التي اتفقت عليها جميع المواثيق العالمية التي أصبحت أساس مرجعية اليونسكو لتقييم مشاريع الحفاظ والترميم :
1 - معرفة موضوع الحفاظ معرفة جيدة (التاريخ و المضمون)،
2 - التأكيد على مبدأ التدخل الأدنى (التشديد على مبدأ أنه لا يوجد تاريخ أكثر مما هو موجود الآن)،
3 - التأكيد على اختيار التقنية الملائمة (إن كانت تقنية حديثة أو تقليدية)،
4 - التأكيد على مبدأ الاسترجاعية (حيث يمكن إرجاع الشيء لأصله بإزالة التدخلات دون المساس أو تشويه الأصل)،
5 - احترام جميع المراحل التاريخية التي شهدها موضوع الحفاظ (حتى لو تضمنت إحدى هذه المراحل ذكريات مؤلمة)،
6 - التأكيد على تفعيل برنامج للصيانة الدورية في مرحلة مبكرة بعد الانتهاء من التدخلات،
7 - تأسيس و تفعيل خطة إدارة لموقع التراث تهدف إلى حمايته وصيانته وإدراجه إن أمكن في مخطط إعادة الاستخدام الملائم.
أما بالنسبة لمستويات التدخلِ المسموح بها في هذه المواثيق فهي تبدأ بمستوى "عمل لا شيءِ" و ذلك عندما لا تتوفر الخبرات و المواد و الإمكانيات المادية و التقنية، و تنتهي "بالتعديل" الذي يتضمن إعادة التوظيف بوظيفة مغايرة لوظيفته الأصلية، أو بنقل موضوع التراث من مكانه الأصلي إلى مكان آخر تتوفر فيه ظروف حماية أفضل، وغيرها من التعديلات التي يمكن اللجوء إليها حين يستعصي الحفاظ على التراث في الوضع الذي وجد عليه و بالتالي يلزم التعجيل لإبقائه. و بين المستوى الأدنى والمستوى الأعلى للتدخل العديد من المستويات نذكرها في الشكل أدناه. و على أي حال، فقد اتفق المرممون و هيئات الحفاظ الدولية بما في ذلك هيئة اليونسكو أن يكون التدخل الأدنى هو الأفضل من وجهة نظر الحفاظ، الأمر الذي ينتج عنه في أغلب الأحيان معارضة ملاك المباني التراثية وأيضا معظم أفراد المجتمع المحيط بها. فغالباً ما ينصب اهتمام هؤلاء على إيجاد وسائل وطرق للتطوير والمكاسب المادية السريعة.
مستويات التدخل
الحفاظ (مصطلح عام يشمل جميع المستويات التالية):
1) لا شيء يعمل
2)الصيانة
3)وقف الحالة على ما هي عليه (أو الحفاظ)
4)الإصلاح
5)إعادة تهيئة جزئية
6)إعادة تهيئة كلية
7)إعادة تأهيل
8) تعديل (إعادة توظيف، نقل، وغيره من التعديلات)
مستويات التدخل المسموح بها عالميا في عمليات الحفاظ
و لثقافة المجتمعات وجهان للتعبير، الأول ملموس والآخر غير ملموس، و التراث المحلي هو التعبير الثقافي بوجهيه الملموس و غير الملموس، ينتج هذا التراث عن ذاكرة جماعية لأفراد المجتمع. و هو بهذا ينتمي بجميع جوانبه إلى هذا المجتمع دون غيره. أما عن التراث العالمي فيعتبر ذاكرة عامة اشترك في تكوينها عدد من الثقافات تأثرت بها و أثرت فيها. لذا فإن التعبير الثقافي بشقيه الملموس وغير الملموس يقتضي أن يكون في متناول جميع هذه المجتمعات و لا يستأثر به أحد. و عليه كان لزاماً على هيئة الأمم المتحدة وضع محددات و آليات يمكن من خلالها متابعة الحكومات المحلية، فيما يخص التراث العالمي، لتضمن بقاءه في الصورة التعبيرية للثقافات التي شكلته، و ليتأكّد عدم تشويه جميع عناصره. و في هذا السياق تبرز أهمية دور اليونسكو في الحفاظ على الحمّامات التاريخية موضوع الدراسة. و بالرغم من أن جميع هذه المؤسسات الاستحمّامية تنتمي إلى الحمّامات الرومانية (thermae) من حيث الشكل، إلا أن كلاّ منها جاء بشكل و نمط مختلف عن الآخر ليعبر عن ظروف بيئية أو اجتماعية معينة. و بالتالي تعتبر الحمّامات تراثًا عالميًا يمكن من خلاله تحقيق خصائص الثقافات المختلفة التي تضامنت في تشكيله.
خلاصة
عرض البحث أنواع الحماية التي تخضع لها الحمّامات موضوع الدراسة، فحمّام الطنبلي في القاهرة و حمّام السفارين في فاس يخضعان لثلاث نظم قانونية مختلفة للحماية (الوقف، القوانين المحلية، الحماية الدولية)، بينما يخضع حمّام شنجول في أنقرة لحماية الوقف و النظم القانونية المحلية، أما عن حمّام سوق الغزل في قسنطينة فإنه يخضع لقانونين محليين مختلفين في الهوية وبالتالي في الأهداف. و بالرغم من أن حمّام أمونة الدمشقي يدار من خلال نظام الوقف، إلا أن احتمالات تسجيل المبنى و المناطق المحيطة به في قوائم التراث المحلي سوف تضعه في الآجال القريبة تحت نظم حماية إضافية. و أثبت البحث أن الحماية ليست شيئًا مطلقا، بل تختلف باختلاف أهداف و رؤى المنظمات أو الأفراد القائمين عليها في تحديد مستقبل هذه الحمّامات. كما أثبت البحث تضارب أهداف طرق الحماية في معظمها، إذ تختلف توجهاتها اختلافاً كلياً، فعلى سبيل المثال، نرى أن اهتمام الوقف بالحمّام ينصب على حمايته بوصفه مؤسسة تدر ريعا دوريا يدعم الصدقة الجارية التي تمثل هدف الوقف الرئيسي. و تأتي أهداف الحماية التي تفرضها المواثيق الدولية على النقيض التام من ذلك، إذ تنصب على أصالة التراث الكامن في الحمّام إن كان ذلك في المبنى ذاته أو في إطاره العمراني التاريخي. و لا تعني المنظومة الاقتصادية الناتجة من تشغيل الحمّام أي قيمة بالنسبة لنظم الحماية الدولية، إلا إذا تم إدراجه ضمن نظام الوقف ذاته باعتباره تراثا عالميا غير ملموس، وحينذاك تجب المحافظة عليه و هو الأمر الذي لم يحدث إلى الآن.
و يوصي البحث بأن تتبنى جميع الهيئات أو المؤسسات القائمة على حماية الحمّامات التاريخية، سواء كانت أوقافا أو إدارات للآثار أو حكومات محلية أو هيئات محلية مثل منظمة اليونسكو، مفاهيم جديدة للحماية تقر أن نظم المبنى المعمارية و الإنشائية و مواد بنائه تتعرض تعرضاً مباشراً و دائماً للتلف بسبب المياه أو بخارها، كما تتعرض فراغاته الداخلية إلى تباين شديد في درجات الحرارة. و على هذه المؤسسات اختيار مستويات تقنيات للحفاظ تلائم تلك الظروف و تتحكم في معدلات التدهور، و تؤكد على كفاءة تشغيلية عالية لأطول فترة ممكنة ترضي المترددين و زبائن الحمّامات التقليدية، و تجذب آخرين لارتياده. و بذلك يمكن أن ندعم المنظومة الاقتصادية للحمّامات بما يتناسب مع مبادئ الأوقاف هذا من جهة، ومن جهة أخرى نحافظ على جزء هام من تراث المجتمعات الذي يمكن أن يستشف منه العديد من خصائص المجتمع المحلي، و خاصة الخصائص البيئية و الاجتماعية و الاقتصادية و الصحية. و حتى تكتمل جوانب هذا البحث المختصر يجب أن نشير في خلاصته أن هناك العديد من الأمور المبهمة والقصور الذي نرجو أن يستكمل، و ندعو باحثين آخرين إلى المشاركة و الدعم، و سنذكر هنا بعض هذه النقاط لعلها تحث عملية البحث المرجوة:
- أولاً، يجب علينا أن نذكر القارئ أن دراستنا اقتصرت على حمّامات خمسة مدن تقع في بلدان تحيط بالبحر الأبيض المتوسط، و قد تعطينا دراسة حمّامات تقع في أماكن أخرى من العالم، اليمن على سبيل المثال، نتائج و دلائل قد تختلف أو تتكامل مع ما تم دراسته و عرضه في هذه الدراسة،
- ثانياً، ندعو من خلال هذه الورقة إلى إجراء بحث وثائقي تاريخي عن كيفية إدارة الحمّامات و طرق الصيانة و الترميم التي اتبعت من قَبْل، فإنه من المؤكد أن نتائج هذا البحث سيوجه طرق الحفاظ المستقبلية على أنظمة و مباني تلك الحمّامات[9]،
- و ثالثاً، نوصي بعمل بحث مقارن متكامل بين قوانين الحفاظ على التراث في البلدان التي بها حمّامات حتى يتسنّى لنا متابعة تَبِعات عمليات الحفاظ متابعة دقيقة و يتيح لنا التواصل مع الحكومات من أجل اقتراح تعديلات في تلك القوانين تهدف لتوفير حماية ملائمة لتلك المباني،
و أخيراً نوصي بتوجيه أبحاث لدراسة مواد البناء التقليدية المستخدمة بالحمّامات و محاولة اختبارها بعد تهيئتها بما يناسب التقنيات الحديثة المتاحة في أعمال الترميم.[10]
* مشروع "حمّام: تحليل متعدد التخصصات لسمات حوض البحر الأبيض المتوسط" يهدف بصفة أساسية لتطوير سيناريوهات متعددة التخصصات لإعادة استخدام الحمّامات باعتبارها مراكز للخدمات العامة لمدن البحر الأبيض المتوسط وتطوير استراتيجيات وتصميمات لمفاهيم إدراج مميزات الحمّام التقليدي في الحياة المعاصرة، وبذات الوقت تقييم الإمكانيات لإشراك أفراد المجتمع بوصفهم صناع قرار للنهوض بجودة مجاوراتهم السكنية التي تقع بها هذه الحمّامات. المشروع بدأ في 2005 و انتهي في 2008، و قام بدراسة حمّامات تقليدية محددة في ستة بلدان واقعة حول حوض البحر الأبيض المتوسط و هي: المغرب و الجزائر و مصر وسوريا و مدينة غزة الواقعة تحت السلطة الفلسطينية، و تركيا، و قام معهد "أويكودروم" بفيينا بإدارة المشروع و التنسيق بين مجموعات العمل المحلية، و يقوم بتمويل المشروع الاتحاد الأوروبي من خلال برنامج الإطار السادس لتمويل المشاريع البحثية الموجهة. و مؤلف هذه المقالة أحد أعضاء الفريق البحثي المصري المدار بمكتب "معمار للاستشارات". و يلاحظ أننا اقتصرنا في دراستنا على خمس حمّامات فقط حيث صعب علينا عمل دراسة تفصيلية لوضع حمّام غزة بالأراضي الفلسطينية.
الهوامش
[2] أنظر الخلاف، عبد الوهاب (1953)، أحكام الأوقاف بعد صدور المرسوم بالقانون رقم 180 سنة 1952، الخاص بإلغاء الوقف على غير الخيرات، القاهرة، مطبعة النصر، ص. 6-7.
[3] أنظر أبو بكر، أحمد. بن عمرو، الشيباني (1904)، كتاب، أحكام الأوقاف، القاهرة، مطبعة ديوان عموم الأوقاف المصري، وأنظر أيضاً عمارة، محمد (1982)، تيارات الفكر الإسلامي، كتاب رقم 376 من سلسلة كتاب الهلال، أبريل، وخاصة صفحات من 61-245.
[4] من الكتب العديدة التي رجعنا إليها في هذا الصدد هي: 1) قدري، محمد (1870)، كتاب قانون العدل و الإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف، القاهرة، وزارة المعارف العمومية، نشر في 1893 / 2) السنهوري، محمد (1949)، في قانون الوقف، ضمن مجموعات القوانين المصرية المختارة من الفقه الإسلامي، جزء 3، القاهرة، مطبعة مصر، قراعة، محمود (1934)، في الوقف، القاهرة، مطبعة الفتوح، 4) الإبياني، محمد (1911)، كتاب مباحث في الوقف، القاهرة، عبدالله، وهبة الكتبي، 1911 / 5) عشوب، عبد الجليل (1935)، كتاب الوقف، القاهرة، الرجاء.
[5] أنظر رأي المؤرخة دوريس أبو سيف في هذا المبدأ في كتابها:
Egypt's Adjustment to Ottoman Rule: Institutions, Waqf and Architecture in Cairo, 16th and 17th centurie, Leinden: E.-J Brill, 1994, p. 156-158.
[6] هناك دراسات عديدة حول القانونِ التركي لحماية مباني التراثِ، منها مقالات "ايشوك تناكا" Eisuke Tanaka، " Protecting one of the best Roman Mosaic Collections in the World" المنشورة في مجلة ستانفورد لعلمِ الآثار (Stanford Journal of Archaeology)؛ و مقالة " Ownership and Protection in the Case of the Roman Mosaics from Zeugma, Turkey" صفحات 183-202، أنظر أيضاً "أسوناي ارجون"Özsunay, Ergün" حماية التراثِ الثقافيِ في القانونِ الخاصِّ التركي" المنشور في International Journal of Cultural Property عدد 6 (1997): 278-290؛ و"سيبيل أوزيل" Sibel Özel " قانون الملكيةِ الثقافيةِ والتراثِ الطبيعيِ: الحماية ونقل ووصول" مطبعةKalos Kapp ،1-20, 1998، و لنص القانونِ أنظر قانون رقم 2863 Kültür ve Tabiat Varlıklarını Koruma Kanunu (القانون رقم 2863 على حمايةِ الملكيةِ الثقافيةِ والطبيعيةِ) 21 يوليو، 1983.
[7] انظر قانون رقم 1/80 الصادر في 17 من صفر 1401 (25 من ديسمبر 1980) الخاص بالحفاظ على الآثار و المواقع التاريخية، و النقوش و المقتنيات التاريخية و الفنية.
[8] بدأت الحكومة السورية في الخمسينيات بتسجيل المباني التاريخية و لكن بدون إصدار قانون للحماية، و في عام 1978 سجلت منظمة اليونسكو العالمية مدينة دمشق المحصورة داخل أسوار المدينة القديمة في قائمة التراث الدولي، و في عام 1984 أصدرت الحكومة السورية قانونًا يتيح لها تسجيل مباني و أحياء مختارة خارج أسوار المدينة القديمة المسجلة عالمياً للإبقاء و الحفاظ عليها ضمن مباني التراث المحلي، و تحدد لجان من خبراء و متخصصين فنيين حدود حول الأحياء أو المناطق المراد تسجيلها.
[9] تقوم الباحثة مارينو، برجيت التابعة للمعهد الثقافي الفرنسي بدمشق بعمل بحث وثائقي تاريخي عن إدارة الحمامات وترميمها في العصر العثماني، و هذه الأبحاث في إطار النشر في حوليات المعهد.
[10] أنظر في ذلك بحث لنا عرضناه في فعاليات مؤتمر "Heritage 2008" الذي انعقد في مدينة فوش كوا بالبرتغال في مايو 2008 و نشرناه في كتاب المؤتمر، المجلد الثاني، بعنوان:
Historic Hammams between protection and reuse.