يخصص هذا العدد من مجلة إنسانيات لدراسة الحمّام و تحليل نشاطاته، و تأتي المسائل المرتبطة بالتراث المادي و اللامادي للعناية بالجسد في المنطقة المتوسطية في قلب اهتمام الإشكالية المحورية له. يستفيد هذا العدد إلى حدٍّ كبير من نتائج الأبحاث المدرجة في إطار مشروع الشراكة الأورو –متوسطية الذي أشرف عليه المركز النمساوي للتنمية المستدامة (أوكودروم)، و الذي كان مركز البحث في الانثروبولوجيا الاجتماعية و الثقافية أحد شركائه الفاعلين. سعى المشروع إلى دراسة و تحليل "الحمّام" بوصفه مكانا مثيرا للجدل في المنطقتين المغاربية و المشرقية و دراسة محيطه، و قد جمع باحثين من تخصّصات مختلفة، و كان من بين أهداف هذا المشروع تطوير برامج لإعادة تهيئته مثلما هو حال حمّامات السفارين (فاس، المغرب)، أموناح (دمشق، سوريا) و الطنبلي (القاهرة، مصر).
تتناول الأبحاث المقترحة في هذا العدد دراسة الحمّام بوصفه فضاء للحياة المجتمعية في مختلف السياقات الجغرافية و السوسيولوجية، و هذه الإسهامات لا تنفصل عمّا يشير إليه عبد الوهاب بوحديبة و الذي يعتبر أن هذه المؤسسة ليست مجرد فضاء للنظافة و للعلاقة مع الجسد، و إنّما تقدّم تصوّرا للعالم و للعلاقات الاجتماعية.
تعود الفترة الزاهرة لهذه المؤسسة إلى المرحلة الممتدة ما بين القرن الحادي عشر و القرن الثالث عشر، و التي تميّزت بانتشار الحمّامات و زيادة عددها، و كانت مؤشّرا حقيقيا للوضع الاقتصادي في المدينة، كما أن مواقع تواجد هذه المؤسسات ضمن النسيج العمراني للأحياء، بكل ما تحمله من معايير و قيم، تعبّر عن الحياة الاجتماعية و الثقافية للمجتمعات التي عرفتها. لقد سبق للخليفة الوليد بن عبد الملك أن أبرز أهميتها بمناسبة بناء المسجد الأموي بدمشق، فجعل منه رابع صفة تصنع فخر الرعيّة بعد الماء، الهواء و الفاكهة.
يُظهر المقال الأوّل المقترح من طرف هايدي دومريشر و بيتينا كولب، المستند إلى دراسة حالة الاستعمال الاجتماعي "للحمّام"، أهمية هذه المؤسسة بوصفها مجالا متميّزا بشكلها المعماري و الثقافي، و يمكن اعتبار منهجية المقابلة باستعمال الصورة، التي تعتمد عليها الباحثتان للحديث مع سكان الأحياء عن الحمّامات و ما جاورها و شرح ارتباط المجتمع المحلي بها، أهم ما يقترحه هذا الإسهام لمُسائلة العلاقة بين المجتمع و محيطه.
أمّا بيتينا بروكوب فتعتمد على المقاربة الجندرية لتقترح تحليلا لخطابات و ممارسات الفاعلين المرتبطة بالحمّامات و تأسيسه كفضاء للاستعمالات الاجتماعية، و تركّز إيلسي مارشلاك الاهتمام على مسألة استمرارية تواجد "الحمّامات" ضمن سياقاتها الاجتماعية و الثقافية، إذ تعتبر الباحثة أنّ التقديم العلني لنتائج مشروع "الحمّام" يعدّ فرصة لفتح نقاش تفاعلي بين المترددين عليه و الباحثين.
في حين يقترح مقال خديجة عادل و نورية بنغبريط -رمعون تحليلا لممارسات الفاعلين ضمن الحمّام بوصفه مجالا للأنس و الحميمية، و تعتمدان في ذلك على دراسة ميدانية تمّت وفق متطلبات الملاحظة المباشرة بحمّام سوق الغْزَلْ الذي يعود تاريخه إلى القرن الرابع عشر و المتواجد بحي التجّار بقسنطينة، و تشير أهم النتائج التي جُمعت ضمن هذه الدراسة أنّ هذا الحمّام قد عرف تحوّلات وظيفية أثّرت على ممارسات المترددين عليه. أمّا نجيبة دريوش جعلالي فتنطلق من مسألة الحفاظ على "الحمّام" ذي قبب بمسكن عاصمي يعود إلى العهد العثماني و المعروف بـ "قصَرْ دار عزيزة"، و تذكّر الباحثة أنّ وجود هذا الحمّام الخاص، الذي لا يمثل حالة استثنائية بمدينة الجزائر، يدلّ على ثراء التراث المعماري بهذه المدينة في تلك الفترة.
أمّا علاء الحبشي فيعتمد على المقاربة القانونية لتحليل الوضع الذي يميّز خمسة حمّامات شملتهم الدراسة، و يسلط الضوء على الإجراءات الضرورية لحفْظها خصوصا أن حالة البعض منها في مصر تتطلب ذلك. و تهتم دينا كمال الدين شهيب بالتحدّيات التي تواجهها الحمّامات بمصر من خلال الممارسة و التمثلات التقليدية حول دورها في تهديد بقائها، كما تركّز على مبدأ التوازن بين "الضرورة" و"الرفاه" في الثقافات المتوسطية. أمّا بالنسبة لرولى رفعت أبو خاطر التي أجرت دراسة مقارنة بين العديد من الحّمامات المتوسطية، فتقترح تحليلا للتوزيع الجغرافي لها و علاقات الجوار بينها و بين المؤسّسات الدينية، الاقتصادية و الاجتماعية.
و يقدم عمر كارليي عرضا حول استعمالات الحمّام في المنطقة المغاربية في القرنين التاسع عشر و العشرين حيث يحلّل الرهانات المجتمعية للجسد من خلال التطرّق لأشكال المقاومة التي تبديها هذه المؤسسة في مواجهة منافسة النموذج الأوروبي. أما الهادي بو وشمة فيستحضر في مقاله الجوانب الثقافية للحمّام بمدينة تلمسان، مستعرضا مدى تجذّرها في العادات و القيم على اعتبار أنها تمثل فضاء يرمز للعلاقات التي كانت موجودة قديما مع الأولياء الصالحين.
يمكن القول إن الأبحاث المقترحة في هذا العدد تعدّ إسهاما و لو جزئيا في مقاربة "الحمّام"، و هذا ما يمكن أن يفتح آفاقا و دروبا بحثية جديدة تجعل من مؤسسة "الحمّام" و من محيطها مجالا لاهتمامات بحثية أخرى تقدّم إضافات نوعية للموضوع.
بقلم خديجة عادل و نورية بنغبريط-رمعون
ترجمة: خديجة مقدم