إنسانيات عدد 27 | 2005 | السوسيو-أنثروبولوجيا في تحول | ص11-26 | النص الكامل
Sociological output in Tunisia: topics and problematic Abstract: This work is a kind of account of sociological research in Tunisian universities. It spreads over four decades, that is to say from the beginning of the 1970’s, to the first decade of the 21st century. One must remember that sociology has been the fruit of modern scientific renaissance, but it is quite new in Tunisia, and for this reason the last four decades are insufficient to found Tunisian or Arab sociology. That is explained by the topics repeatedly treated by the students and the absence of others, this as well as a lack of depth in the analyses. Key words : sociology - Tunisia - theses - samples - researchers - social reality. |
Fethia ESSAIDI : Professeur adjoint à la Faculté de sociologie, Université de Tunis, Tunisie
مقدمة
ظهر مصطلح علم الاجتماع مع أوغست كونت (1789-1857) الذي ورث عن أستاذه كلود أنري سان سيمون إرادة تأسيس علم مستقل بذاته يدرس الظواهر الاجتماعية. ويعد إميل دوركايهم أول عالم اجتماع يبلور منهجا علميا لعلم الاجتماع من خلال كتابه الشهير "قواعد المنهج في علم الاجتماع" (1895).
لقد تطور علم الاجتماع على يد العديد من علماء الاجتماع الفرنسيين والأمريكيين والألمانيين والإيطاليين... ويهتم هذا العلم بدراسة الإنسان في إطار المجتمع الذي يعيش فيه من خلال دراسة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد ودراسة الأنساق والأنظمة الاجتماعية وآليات اشتغال المجتمعات الإنسانية وما يترتب عنها من حراك ومن تغير وتحول اجتماعي... إن علم الاجتماع هو علم الدلالات الاجتماعية والأسباب الرمزية والأسباب الدالة، هو "بالأساس إنتاج لمعان ودلالات، إنه أسلوب إنتاج الأسباب الدالة للمجتمعات... فمن بناء الواقع الاجتماعي إلى إنتاج المعلومات، ومن وصف السيرورات الاجتماعية إلى تحليل النظم الاجتماعية، يُسند علم الاجتماع، ويوزع، ويمثل، بفضل بناء الواقع الاجتماعي وتفسيره معان ودلالات."[1]
إن النشأة الحديثة لعلم الاجتماع في الغرب قد واكبها جدل عميق بين علماء الاجتماع حول المناهج والأطر النظرية لهذا العلم. ولئن حدد علماء الاجتماع الكلاسيكيون اتجاهات نظرية كبرى، إلا أن ذلك، لم يلغ الجدل الدائر حول أهمية هذا العلم وحول دوره في المجتمع. فقد أكدت حادثة بوسطن[2] (خلال القرن العشرين)، "بأنه لا تزال هناك جملة من القضايا الأساسية في كلاسيكيات علم الاجتماع تحظى بمزيد من الاهتمام وعدم الاتفاق في الدراسات الأخيرة عن الأسس التي تقوم عليها النظرية والمنهج."[3]
إن ما ميز الجدل الفكري الذي شهده القرن العشرين بين كل الاتجاهات في علم الاجتماع هو إحياء الراديكالية في البحث الاجتماعي. وهو جدل وليد عصره يكشف عن السياق الاجتماعي الذي ظهر فيه ويعبر بشكل جلي عن جيل جديد من السوسيولوجيين الذين اتجهوا إلى إعادة النظر في المفاهيم والنظريات والمناهج التي قدمها علماء سابقون فسروا البناء الاجتماعي القائم وبرروه ودافعوا عن مشروعيته. وبدأ مع هذا الجيل الحديث عن أزمة مجتمع وأزمة علم يطمح لإعطاء دور جديد لعالم الاجتماع بوصفه مثقفا حاملا لمشروع تغيير مجتمعي. إزاء هذه الحركية التي شهدها حقل التأمل النظري لعلم الاجتماع في الغرب نقل مجموعة من علماء الاجتماع العرب في بداية الثمانينات هذا الجدل إلى الساحة العربية، فكان أن نظمت الجمعية العربية لعلم الاجتماع ندوة تحت عنوان "نحو علم اجتماع عربي: علم الاجتماع والمشكلات العربية الراهنة"[4].
وفي بداية هذا القرن الواحد والعشرين، يعود السؤال وبإلحاح شديد، عما إذا كان الإنتاج السوسيولوجي العربي قد عكس فعليا اتجاهات فكرية وإيديولوجية في علم الاجتماع، وإلى أي مدى استطاع هذا الإنتاج بلورة ودراسة قضايا اجتماعية لصيقة بواقع المجتمعات العربية؟ إنني في هذا التعقيب عن ورقة أستاذنا علي الكنز التي كانت وراء التساؤلات السالفة، لا أدعي الإلمام بالإجابة الشافية والدقيقة، ولكن من موقعي كباحثة، وجدت نفسي أتساءل عما أنتجه الطلبة في إطار شهادة الماجستير والدكتوراه من بحوث اجتماعية، وعن مواضيع هذه البحوث وإشكالياتها وعن مواصفات أو ملمح Profil الباحثين والباحثات ومجالات اهتماماتهم المعرفية، فكان أن اتجهت لتفحص هذه الرسائل التي نوقشت في قسم علم الاجتماع بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، لأسهم من موقعي في رسم صورة عامة ودالة عن جزء من الإنتاج السوسيولوجي العربي تكون محور تبادل ونقاش. ومنذ البداية، أشير إلى أن ما أقدمه في هذا التعقيب هو جملة من النتائج المتواضعة والأولية لبحث ستفضي طموحات بداياته إلى نهايات بحث معمّق وشامل.
العينة وتمشي البحث
تتكون العينة من 427 أطروحة ورسالة بحث منها 296 بحث مكتوب باللغة العربية و 131 بحث مكتوب باللغة الفرنسية، ونوقشت هذه البحوث في الفترة المتراوحة بين سنة 1970 وسنة 2002. وهي بحوث موضوعة على ذمة الطلبة في فهرس عام للأطروحات والرسائل ومودعة بمكتبة كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس. وتتوزع العينة المدروسة من البحوث حسب اللغة المكتوبة بها وحسب فترات زمنية محددة على النحو المبين في الرسم البياني التالي:
رصدنا مختلف الموضوعات المبينة في الفهرس المشار إليه[5]، وصنفناها حسب جنس الباحث وجنس المؤطر وحسب أربعة فترات زمنية -غطت فترة السبعينات والثمانينات والتسعينات و2000-2002-، ووفق مجالاتها ومواضيعها وإشكالياتها. إن هذا الرصد لم يلغ من ذهننا الرغبة في التعرف على الأساتذة المؤطرين: من هم هؤلاء المؤطرين؟ وما هو جنسهم؟ وهل لهم توجهات فكرية وإيديولوجية ومعرفية معروفة؟ وما هي الاهتمامات البحثية للطلبة من الذكور ومن الإناث؟ وما هي الفترة الزمنية التي تنامت فيها البحوث المكتوبة باللغة العربية؟ وما علاقة الموضوعات المدروسة بالسياق الوطني والعالمي؟ أسئلة نجيب عنها في معرض تناولنا لنتائج هذا العمل.
بنوراما الإنتاج السوسيولوجي للطلبة
ترتفع نسبة البحوث المكتوبة باللغة العربية مقارنة مع البحوث المكتوبة باللغة الفرنسية وهو ما نتبينه من الرسم البياني التالي :
أن نشأة قسم علم الاجتماع بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس[6] حديث نسبيا، إذ صدر أول أمر ينظم الإجازة في علم الاجتماع في 14 أفريل 1961، وشهد هذا الأمر العديد من التعديلات. ولقد تنامى استقطاب الطلبة في قسم علم الاجتماع بداية من أواسط السبعينات، وهو ما يفسر ضعف الإنتاج العلمي للطلبة في فترة السبعينات والثمانينات بالمقارنة مع فترة التسعينات. وتجدر الإشارة، إلى ارتفاع عدد البحوث المكتوبة باللغة الفرنسية في فترة السبعينات مقارنة بالبحوث المكتوبة باللغة العربية، حيث بلغ عدد البحوث باللغة الفرنسية في الفترة المشار إليها، 27 بحث مقابل 4 بحوث باللغة العربية. ويبلغ عدد البحوث باللغة الفرنسية التي نوقشت في كليات أجنبية 22 بحثا منها 17 بحث نوقشت في كليات فرنسية، واثنان في كندا وبحث واحد في أوسلو وبحثان في الجزائر. وتتوزع هذه البحوث حسب الفترات الزمنية على النحو التالي: 19 بحثا نوقش في السبعينات وبداية الثمانينات، في كليات أجنبية مقابل ثلاثة بحوث فقط نوقشت في التسعينات. ويبلغ عدد البحوث المكتوبة باللغة الفرنسية 20 بحثا وبحثان باللغة الإنكليزية، حسب المعطيات المتوفرة في فهارس البحوث التي أشرنا إليها.. وفي الآن ذاته اتجهت البحوث المكتوبة باللغة العربية إلى الارتفاع في فترة التسعينات. ويبين الرسمين التاليين توزيع البحوث حسب الفترات الزمنية وحسب لغة البحث :
الرسائل المكتوبة بإحدى اللغتين الرسميتين في تونس (العربية أو الفرنسية) مرتفع بالمقارنة مع عدد البحوث المعدة في إطار شهادة الدكتوراه (77 أطروحة مقابل 350 رسالة بحث). كما بلغ عدد الأطروحات باللغة العربية 58 بحث منها 50 بحث لذكور وثمانية بحوث لإناث، كما بلغ عدد الأطروحات باللغة الفرنسية 19 بحث منها 14 بحث لذكور وخمسة بحوث لإناث. و تفيد هذه المعطيات الإحصائية بأن عددا من الطلبة لم يواصلوا دراساتهم العليا، وهو ما يجعلنا نتساءل عن المسار البحثي والمهني للباحثين؟ وعن الأسباب الكامنة وراء هذا الانقطاع، فلقد تبين لنا ونحن نتحفص أسماء الباحثين خاصة في فترة السبعينات والثمانينات بأن قلة منهم من أنهى دراساته العليا مستثنين طلبة أواخر التسعينات على أساس، أنه بالإمكان أن يكون بعضهم أو غالبيتهم ما زال مسجلا في شهادة الدكتوراه. ويبين الرسمين البيانيين التاليين توزيع البحوث حسب جنس الباحث ونوع الشهادة ولغة البحث:
لئن حققت نسبة التمدرس في تونس ارتفاعا متنام فإن مجال البحث العلمي في علم الاجتماع مازال محتشما إذا ما قورن بنسبة خريجي هذه الشعبة. وتفيد المعطيات الإحصائية التي تمكنا من إنجازها بأن عدد الباحثين أكثر من عدد الباحثات.
إن فجوة المعرفة بين الجنسين مازالت شاسعة، ويرجع ذلك، لتعدد أدوار النوع الاجتماعي لدى النساء المثقلات بالدور الإنجابي وبالالتزامات المجتمعية والعائلية. فلقد بلغ عدد الباحثات من الطلبة في الفترة المتراوحة بين 1970 و2002 مائة وستة وعشرون باحثة مقابل ثلاثة مائة واحد باحث. إن ضعف عدد الباحثات من الطلبة لا يختلف كثيرا عن عدد الباحثات اللواتي يتولين التأطير العلمي في قسم علم الاجتماع، فقد بلغ عدد المؤطرات لبحوث الطلبة 74 مقابل 320 أستاذ مؤطر. وتتوزع البحوث حسب جنس المؤطر ونوع الشهادة ولغة البحث في الرسمين البيانيين التاليين:
لقد شهدت الفترة المتراوحة بين 1970 و1975 غيابا تماما لأي بحث باللغة العربية، و توجد أربعة بحوث فقط من سنة 1976 إلى سنة 1979. إن غالبية البحوث المودعة بالكلية التي تخص الفترة المشار إليها (أي السبيعينات) مكتوبة باللغة الفرنسية. كما أنه لم يناقش أي بحث سواء باللغة العربية أو الفرنسية خلال سنة 1994، ويعود ذلك، إلى الإصلاحات التي أجريت على نظام الشهادات العلمية الذي بدأ العمل به خلال السنة السالفة الذكر. كما شهدت الفترة المتراوحة بين سنة 1985 وسنة 1986 ضعفا شديدا في مجال الإنتاج السوسيولوجي للطلبة، ويعزى ذلك، بتقديرنا إلى نظام الشهادات العلمية القديم الذي يخول للباحث التسجيل لفترة زمنية طويلة دون إلزام فعلي بمدة زمنية محددة لإنهاء البحوث، وهو ما أفضى إلى إصلاح نظام الشهادات ومدتها الزمنية ونوعها.
المواضيع وإشكاليات البحث السوسيولوجي
إن تصنيف الإنتاج السوسيولوجي وفق مجالات الاختصاصات في علم الاجتماع عملية دقيقة ومعقدة خاصة وأن التكوين السوسيولوجي للطلبة عام ومتعدد التخصصات، إذ نجد بحوثا يمكن تصنيفها في أكثر من مجال، كما أنها بحوث قد استخدمت أكثر من براديغم واحد وأكثر من مقاربة نظرية. ولتصنيف البحوث موضوع هذا البحث حددنا 15 مجالا للبحث الاجتماعي وقمنا بتيبولوجيا المواضيع وفق الفترات الزمنية التي حددناها آنفا ووزعناها حسب جنس الباحث. ونشير إلى أن اهتمامات الباحثين والباحثات من الطلبة تعكس بشكل مباشر اهتمامات أساتذتهم. ويبين الجدول التالي مجالات البحث المدروسة حسب الجنس :
تندرج المواضيع التي درست من قبل الطلبة الباحثين كما أشرنا في خمسة عشر مجالا، ويرتفع عدد البحوث بشكل عام في أربعة مجالات وهي : علم اجتماع الشغل (42)، علم اجتماع الحراك والتغير الاجتماعي (46)، علم اجتماع التنمية (51) وعلم اجتماع الثقافة والأنتروبولوجيا (71). ونشير إلى أن اهتمامات الباحثين من الطلبة لا يختلف كثيرا عن اهتمامات الباحثات، فالفوارق المسجلة لا تملك دلالات عميقة. وهو ما يحلينا على الاستنتاج الذي يؤكد بأن المواضيع المدروسة تعكس بقدر كبير اهتمامات الأساتذة المؤطرين. وفي هذا المضمار، تجدر الإشارة إلى أن الأساتذة المؤطرين لمواضيع متعلقة بالمرأة والتي تناولت موضوعات المشاركة الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية للنساء، ومسألة المساواة والإنصاف، هم من النساء، في حين يرتفع عدد الأساتذة من الرجال المؤطرين لمواضيع متعلقة بالتنمية والتشغيل والتاريخ الاجتماعي والثقافة.
تعكس المواضيع المبحوثة من قبل الطلبة من الجنسين رؤى وتوجهات فكرية للأساتذة الباحثين والباحثات. ويمكن تصنيف الأساتذة الباحثين إلى نمطين كبيرين : يخص النمط الأول، مجموعة من الأساتذة المهتمين بأبعاد سوسيو-ثقافية وسياسية تحمل مشغلا عاما مداره فهم الظواهر الاجتماعية ونقدها، وغالبا ما تتجاوز دراسة القضايا المحلية إلى القضايا العربية أو العالمية، وهي مشاغل المثقف الحامل لمشروع مجتمعي جديد يهدف إلى التغيير. ولقد تناول هذا النمط من الأساتذة مواضيع تدرس دور المثقف والتحولات القيمية في المجتمع وتطرح إشكاليات الانتلجنسيا العربية وتغيير القيم والعلاقة بين الأنا/النحن والآخر والهوية والديمقراطية ومسألة المساواة بين الجنسين وقضايا تمكين النساء. أما النمط الثاني، فيخص مجموعة من الأساتذة المهتمين بقضايا محلية راهنة شهدها أو يشهدها المجتمع التونسي مثل موضوع الهجرة والتنمية الريفية والجهوية والتشغيل والتحضر والسياحة والزواج والطلاق والعزوبة والتحولات الديمغرافية... وهي مشاغل تخص فهم أوضاع اجتماعية فرضها السياق الوطني/ المحلي.
لقد تأثرت المواضيع المدروسة أيضا بالتحولات الاجتماعية التي عايشت وتعايش المجتمع التونسي، فقد ارتفع عدد البحوث التي تناولت مسألة هجرة اليد العاملة وهجرة الأدمغة والتنمية الريفية والتحولات الديمغرافية في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. وهي مواضيع قد عكست واقع الحال بالنسبة للمجتمع التونسي، من جهة ومن جهة أخرى، قد عبرت عن جزء من مشاغل الدولة التونسية التي اتجهت إلى إنجاز برامج تنموية في الريف وفي الجهات والتي عقدت اتفاقيات مع دول أجنبية لتنظيم مسألة الهجرة. وشهدت فترة التسعينات وبداية الألفية بروز مواضيع جديدة تدرس إشكاليات حديثة من نوع إشكالية توزيع الوقت وإشكالية تأثير السياحة على الاقتصاد والقيم والثقافة، وإشكالية المعالجة الإعلامية للأحداث وأثر التلفزيون على الشباب ودور تكنولوجيات الاتصال الحديثة وما ينجر عنها من تحولات مجتمعية. ويبين الرسم البياني التالي توزيع البحوث حسب مجال الاهتمام وحسب السنوات:
إن أبرز الإشكاليات المدروسة وبمعزل عن مجالها قد تناولت مواضيع مهمة متجدرة في عمق الهواجس الوطنية المحلية أو الهواجس العربية والعالمية. فإلى جانب ما أسلفنا من مواضيع، نجد مجموعة أخرى قد تناولت مواضيع متعلقة بالتنشئة الاجتماعية وبعملية الاندماج والعلاقات الاجتماعية، فدرست ظواهر سلوكية من نوع جنوح الأحداث والانحراف والعنف والسلطة داخل الأسرة، واندماج المعوقين ومرضى السيدا ومتعاطي الكحول، والجريمة...
إن المواضيع التي تخص المعرفة السوسيولوجية على قلتها (12 بحث) فإنها لم تتجاوز حدود الفهم والتحليل لما كتبه بعض علماء الاجتماع، أمثال ابن خلدون وجورج سيمل… وقد اتجهت مواضيع أخرى كنا قد صنفناها ضمن مجال علم اجتماع المعرفة إلى دراسة موضوع الحداثة، وثقافة المؤسسة وخطاب المنظمات ومصطلح الخدمة الاجتماعية والتصور النسقي للفعل التنظيمي. ولقد تميزت هذه البحوث بتعمقها التحليلي لمدارس كبرى في علم الاجتماع، ولم تتجه هذه البحوث إلى تعميق النظريات السوسيولوجية من خلال إنتاج مقاربات سوسيولوجية جديدة.
لقد تنوعت المواضيع المدروسة في حقل اجتماع الثقافة بشكل خاص، فمن دراسة ثقافة الأقليات والإبداع والأصول الاجتماعية للكتاب التونسيين والمسرح والمعتقدات الشعبية إلى دراسة العلاقة بين النحن والآخر وإلى تحليل سيمائية الشارع ودلالات الانتفاضة والهويات الخاصة. وهو ما يعبر عن تنوع معرفي عميق خاص بسوسيولوجيا الثقافة التي تأسست كمجال بحثي قائم بذاته يعود الفضل في إرسائه إلى الأستاذ الطاهر لبيب الذي شكل وجوده في قسم علم الاجتماع منعرجا هاما في تاريخ الإنتاج السوسيولوجي التونسي والعربي. فالمواضيع التي درست في إطار هذا التخصص قد خرجت عن المألوف وعن السائد في أواخر الثمانينات والتسعينات إذ اهتمت بقضايا مصيرية مهمة من نوع الآخر في ذاكرة الحرب والمثقفون وحرب الخليج والذاكرة الجماعية والتحولات السياسية والإنتاج السوسيولوجي والآخر في الثقافة العربية، وثقافة المجتمع المدني ومسألة الديمقراطية... فرسمت من خلال الإشكاليات المبحوثة توجها فكريا واضحا يبحث في قضايا تتجاوز الفضاء التونسي لتمتد إلى فضاء عربي يعج بالهواجس وبالقضايا العربية المشتركة. ولقد مثلت هذه التوجهات مدار نقاشات وندوات عربية كانت وراءها الجمعية العربية لعلم الاجتماع ومركز دراسات الوحدة العربية ومركز البحوث العربية وغيرها من المؤسسات التي حفزت على التفكير والبحث في مثل هذه المواضيع.
إن تناول موضوع المرأة قد شهد هو الآخر نقلة نوعية في أواخر التسعينات، فبعد التوجه لدراسة مسألة اندماج المرأة في سوق الشغل وهجرة اليد العاملة النسائية ودور المرأة المنتجة والمرأة الريفية، اتجهت البحوث حول المرأة لدراسة موضوع تمكين النساء وهو منهج قد برز في إطار معالجات مقاربة النوع الاجتماعي والتنمية التي تم إقرارها بشكل رسمي وعالمي سنة 1995 خلال مؤتمر بيجين. ويهتم هذا المنهج بمعالجة قضية تعزيز مكانة النساء في مواقع اتخاذ القرار وبضرورة مشاركة النساء في صوغ الإستراتيجيات التنموية. ويعد موضوع المساواة وتكافؤ الفرص بين الجنسين من أبرز المبادئ التي تناضل من أجلها الحركات النسوية في العالم، فليس من الغريب أن تشهد الجامعة التونسية وجود بعض النسويات اللواتي اتجهن إلى دراسة مسألة المساواة بين الجنسين والحقوق السياسية والاجتماعية للنساء، وإلى دراسة فكر الطاهر الحداد[7] ومقاربته بفكر بن مراد[8] ودراسة الأفكار التحديثية لبورقيبة[9] . لقد عبرت البحوث المشار إليها عن توجهات فكرية وإيديولوجية واضحة وبارزة تحمل طموح التغيير ومواكبة المتغيرات العالمية والعربية وما يطرأ عنها من هواجس معرفية وإيديولوجية وسياسية.
ولئن اهتمت المواضيع المندرجة في علم اجتماع الشغل في السبعينات والثمانينات بمسألة التشغيل والتنمية واتنقال اليد العاملة الفلاحية إلى الصناعة وبقانون 1972 الخاص بالمؤسسات الاقتصادية الأجنبية التي انتشرت في تونس في فترة الانفتاح الاقتصادي، فإن الاهتمام الذي ساد في فترة التسعينات والألفية قد اتجه إلى دراسة سياسة الدولة التونسية الجديدة في مجال التكوين المهني وبطالة حاملي الشهادات والسياسة الاقتصادية التونسية وبروز أصحاب المبادرات الحرة الصناعية ومسألة التدريب المهني والوقاية من حوادث الشغل، وتأهيل المؤسسة الصناعية الذي تزامن مع برنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد. وهي مواضيع تعبر عن اهتمامات تخص مراحل من تاريخ تونس الحديث وعن هواجس معرفية نابعة من صلب المجتمع التونسي.
قلة هم الطلبة الذين درسوا مواضيع تندرج في علم اجتماع السياسة، فالمواضيع التي درست في هذا المجال قد تناول بعضها دراسة بعض الأحداث الكبرى التي عاشها المجتمع التونسي في أواخر السبيعينات وبداية الثمانينات، فقد تناولت هذه المواضيع أحداث جانفي 1984 (انتفاضة الخبز) ودور الهامشيين فيها، الخطاب النقابي وأحداث جانفي 1978 (أزمة الاتحاد العام التونسي للشغل مع الدولة) وعملية قفصة 1980، واهتم بعض آخر من الباحثين الطلبة بظاهرة الإحياء الديني وبالحركة الإسلامية وبالإسلام السياسي وبالحركة الطلابية وبالخارطة السياسية في الريف التونسي... وهي مواضيع تعكس اهتماما بظواهر سياسية وبأحداث ذات أبعاد سياسية وتهدف إلى فهمها وتحليل آثارها. وتجدر الإشارة، في هذا الصدد بأن هذه المواضيع قد درست من قبل طلبة لهم توجهات إيديولوجية واهتمامات سياسية. ومثل هذه الاهتمامات قد غاب خلال أواخر التسعينات وبداية الألفية على الرغم من أن آثار الفكر السلفي والديني الإسلاموي ما زال يحتاج مزيدا من الدراسة والفهم والتحليل وإنتاج البدائل الثقافية التحديثية، كما أن عالم اليوم يشهد العديد من الظواهر والمتغيرات السياسية التي تحتاج الدراسة والفهم. وهو ما يحيلنا على التساؤل التالي: هل أن زمن الإيديولوجيات قد ولى واندثر أم أن الاهتمامات السياسية للمثقف التونسي قد استهلكت ونفذت؟
ملاحظات وخلاصة عامة
علم الاجتماع –كما يفهم- هو تطبيق لمناهج البحث والمفاهيم السوسيولوجية على دراسة الظواهر والمشكلات الناجمة عن التحولات والتغيرات الاجتماعية والثقافية الخاصة بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع. وهو علم جديد يعد ثمرة النهضة العلمية الحديثة في العالم. وهو حديث النشأة في تونس كعلم قائم بذاته، فأربعة عقود منذ نشأة علم اجتماع في تونس غير كافية للتأسيس لإبداع سوسويولوجي عربي/تونسي يطال نقد المناهج والمقاربات أو الطروحات التي أسستها التيارات السوسيولوجيا الغربية وإنتاج مقاربات نظرية جديدة. فالمواضيع التي تم دراستها من قبل الطلبة بلا شك قد طبقت مناهج علم الاجتماع وبلا ريب قد درست مواضيع مهمة ومعبرة عن الواقع وهذا لا يمنعنا من صوغ بعض الملاحظات العامة حول هذه البحوث.
- لقد اتسم عدد من البحوث المنجزة من قبل الطلبة بتكرارها لعدد من المواضيع وتغييبها لمواضيع أخرى ولمقاربات جديدة كمقاربة النوع الاجتماعي، مما يوحي في بعض الأحيان بأن الجامعة التونسية وكأنها في قطيعة مع النقاشات والطروحات الجديدة الدائرة على صعيد عالمي، خاصة، الموضوعات المتعلقة بحقوق الإنسان وحقوق المرأة.
- عدد من البحوث التي اطلعنا عليها وإن طبقت تقنيات البحث السوسيولوجي فإن استعمال البراديغمات السوسيولوجية قد غاب منها.
- إن البحوث التي أنجزت وإن حاولنا تصنيفها فإنها تحمل في طياتها تخصصات متنوعة، ويعود ذلك إلى التكوين العام الذي يتلقاه الطلبة خلال مراحل دراستهم في هذه الشعبة. فكل خريجي علم الاجتماع حاملين لأستاذية علم الاجتماع (العام)، إذ لا نجد على سبيل المثال، شهادة أستاذية علم اجتماع الشغل أو التربية أو التنمية أو الثقافة، مما أضفى على البحوث المنجزة في إطار المرحلة الثالثة والدكتوراه عمومية في التخصص، فكما نجد بعض المواضيع التي يمكن أن نصنفها في أكثر من مجال تخصصي، نجد بعضا آخر يصعب تصنيفه بشكل دقيق.
- إن غالبية البحوث المدروسة تصنف بشكل عام ضمن البحوث الكمية الاستطلاعية والاستكشافية دون تعمق كيفي أحيانا في الظواهر المدروسة. فقد لاحظنا قلة من الطلبة الذين تعمقوا في نفس الموضوع الذي درسوه في إطار شهادة الماجستير، وقلة أيضا من الطلبة الذين واصلوا بحثهم في إطار شهادة الدكتوراه. وهي ملاحظة تنسحب بشكل أكبر على الباحثات من الطلبة.
الهوامش
* أستاذة مساعدة بكلية علم الاجتماع، جامعة تونس.
[1]جيوفاني، بوسينو، نقد المعرفة في علم الاجتماع، ترجمة د. محمد عرب صاليصا، بيروت، لبنان، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1995، ص 13.
[2] شهد شهر أوت من سنة 1968 خلال الاجتماعات التي عقدتها الجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع تنظيم أعضاء حركة تحرير علم الاجتماع، اجتماعات غير رسمية بجانب الاجتماعات الرسمية وخلال الجلسة الختامية سمح فيليب هاوسر رئيس الجمعية للرادكاليين أن يعبروا عن رأيهم فتقدم مارتن نيقولا وهاجم أعضاء الجمعية واتهمهم بأنهم امتداد للاتجاه التقليدي والنزعة المحافظة في القرن التاسع عشر... لمزيد الاطلاع، انظر د. زايد، أحمد، علم الاجتماع والاتجاهات الكلاسيكية والنقدية، مصر، دار المعارف، 1981.
[3] د. أيوب، سمير، تأثيرات الأيديولوجيا في علم الاجتماع، بيروت، لبنان، معهد الإنماء العربي، الطبعة الأولى، 1983، ص 218.
[4] صدرت أعمال الندوة في كتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، سنة 1986، الطبعة الأولى وسنة 1989 الطبعة2.
[5] يوجد فهرس للأطروحات والرسائل المكتوبة باللغة العربية وآخر للأطروحات والرسائل المكتوبة باللغة الفرنسية.
[6] قسم علم الاجتماع بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية هو أول قسم تم إحداثة في الجامعة التونسية التي تحتضن اليوم قسمين آخرين أحدهما بكلية الآداب بصفاقس والثاني بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس
[7] الطاهر الحداد هو مصلح تونسي وأحد أبرز وجود مفكري النهضة، وقد نادى بتحرير المرأة من خلال كتابه الشهير "إمرأتنا في الشريعة والمجتمع (1930).
[8] بن مراد هو أحد الوجوه الدينية التونسية التي عارضت أفكار الطاهر الحداد.
[9] الحبيب بورقيبة هو رئيس الدولة التونسية من سنة 1956 إلى 1987، وهو من أصدر مجلة الأحوال الشخصية التي مثلت منعرجا تاريخيا مهما في مجال تحرير المرأة التونسية. وتعد هذه المجلة علامة بارزة في البلاد العربية في مجال تحديث الأسرة والمجتمع.