إنسانيات عدد 11 | 2000 | المقدس والسياسي | ص 85-94| النص الكامل
Sacredness and zionist violence in Arab-Israeli conflict novels Abstract: This study tries to show the problematic question of sacredness and zionist violence through reading distinctive features in narrative discourse in novels about the Arab – Israeli conflict the following points are the subject of analysis. |
Abdelkader CHARCHAR : Professeur, Université d'Oran, Institut des Arts et des Arts, Département de la littérature arabe, 31 000, Oran, Algérie
1. حول المفهوم النظري لمصطلحيْ المقدس والعنف:
يحصر التصور الماركسي المقدس والأنظمة الدينية عامة في العجز الإنساني عن مواجهة الكوارث الطبيعية،مجابهة فعلية،وكذا العجز عن تفسير الظواهر الفلكية تفسيرا موضوعيا،قبل أن تنضاف إلى ذلك الظواهر الاجتماعية.[1] غير أن البحث عن مفهوم المقدس والعنف من خـلال الحفريات الثقافية، و استنطاق بعض أشكال الممارسة الطقوسية التي تعبر عنها الأساطير و الأشعار الملحمية والنصوص الدينية،أظهر اهتماما بأصول المقدس وعلاقته بالعنف أكثر من اهتمامه بماهيتهما، و يبدو أن الدراسات العلمية حول مفهوم "المقدس" لم تتفق فيما وصلت إليه من نتائج سواء أتعلق الأمر بالمفهوم أم بالأصول،ولعل أحسن ما نحيل عليه في هذا الصدد هو الموسوعة العالمية Encyclopédia Universalis, (1998).[2]
و يعزو الدارس "ر. جيرار" أصول نشأة فكرة المقدس إلى العنف، باعتباره نسق المقدس و نـظامه، إذ يقول :"يجب أن نضع المحاكاة والعنف في أصل كل شيء لنفهم الموانع و المحرمات في مجملها."[3] وعلى الرغم مما تحمله هذه الرؤية لمفهوم المقدس و العنف من اضطراب و تناقض، إلا أنها تستبعد على الأقل المقاربة الفرودية القائمة على الدافع الجنسي، و الاعتقاد الشائع أن عقدة أو ديب أصل المقدس والمبدأ الخفي لطقوسه القربانية.[4]
و يستبعد الباحث "التجاني القرماطي" صحة هذه المقولة،في بحثه الموسوم:" المقدس و العنف" متسائلا كيف يمكن "أن يكون العنف أصلا للمقدس،ومن أهداف المقدس في مظهريه : الـعقائدي والطقوسي الحد من احتدام العنف وتفشيه في المجتمعات الإنسانية؟"[5] كـما يأخذ مفهوم المقدس لدى "روجي كايو" بعدا روحيا،إذ يبدو المقدس مقولة حساسة، ينبني عليها السلوك الديني، و تهبه طابعه المميّز، و تفرض على المؤمنين احتراما، يقي اعتقاده كل روح نقدية، فيُعرض عن الخوض فيه،ويضعه خارج العقل،وما بعده.[6]
وتأسيسا على ما قدمنا ينتهي بنا البحث إلى كشف تلازم المفهومين،بحيث يأخذ هذا التلازم مرجعيته من المقولة المسيحية: "كل شيء في البدء كان دينيا".[7] إلا أن هذه المقولة ما كانت لتلغي ما تضمنته فلسفة الإغريق حول المسألة نفسها ،حيث كان فلاسفة اليونان يعتقدون أن البدايـة كانـت في الحرب،وهذا أستاذهم هيروقليطس يقول: "من الحرب تولد كل شيء."[8] و هو ما يدعم فرضيتنا في هذه المقاربة،والمتعلقة بتعالق المقدس والعنف في رواية الصراع العربي الإسرائيلي، حيث تبدو العلاقة من خلال حضور الصورة الروائية و فرضها لمواجهة متكررة في أكثر من نص روائي، تعكس نزوعا نفسيا داخليا يتعلق بالجانب الصراعي/ الحربي، الذي يعتبر التسامح استراتيجية لمواجهته.
و مثل هذه المقاربة تقتضي منا أن نتجاوز أحادية الدلالة التي ارتبطت بالمقدس و بالعنف، للبحث عن التجليات المختلفة التي صاحبت ميكانيزمات هذا الثنائي، بحيث لا يخضع مفهوم "المقدس" من وجهة نظر أنثروبولوجية لتراتبية بين الأسطورة وما يسمى بالديانات البدائية و الديانات الراقية.[9] فالمقدس بالنسبة للمجموعة هو مؤسسة تنظيمية، أما بالنظر إلى الفرد فهو "تجربة وجدانية،تحيل إلى نوعية العلاقة التي نقيمها مع شيء ما، أكثر ممّا تحيل إلى الشيء ذاته."[10]
ومما سبق نستخلص أن المقدس على مستوى التجربة اليومية للإنسان هو تلك الطاقات الوجدانية، الخطرة، وغير القابلة للفهم والتجزئة.أما العنف،فهو سلوك إيذائي،قد يكون باديا أو متخفيا، ماديا أو معنويا، وفي كل هذه الحالات هو إنكار للآخر من مجال الحياة، و من مجال الفعل ومن مجال القول.[11]
و يعزي الدكتور خليل أحمد خليل حالات العنف إلى أنها " تُبنى على موروث ذهني جاهز، و قوالب مصممة عن الآخرين: الوثن الذهني بكل آلياته و مفاعلات ارتباطه، يحل أو يقترن بالوثن المادي، فيوضع الآخر في القالب المجهز على منوال قاطع الطرق."[12]
و تمثل النصوص التوراتية، و الوثائق اليهودية، و مجمل نتاج الفكر الديني اليهودي في مراحل مختلفة من التاريخ نموذجا صنوا للوثن الذهني الذي أشار إليه خليل أحمد خليل، بحيث لم يـكف كهنة اليهود عن تغذية تلك الأساطير القبلية المؤسسة للسياسة الصهيونية باستمرار، إلى أن أصبحت اليهودية بالنسبة إلى المتدينين من اليهود ذات مضمون عنصري مقدس.
و لقد أفادت الدراسات الصهيونية المعاصرة من هذا الإطار المرجعي المتعدد المشارب، حـيث وظفته في دعم ادعاءاتها بديمومة التاريخ اليهودي، و تبرير ما تطلق عليه بالحق التاريخي، وتحولت صيغة الوعد الإلهي إلى برنامج سياسي ملزم، أفرز خطابا عنيفا حولته الإيديولوجية الصهيونية إلى هدف مقدس، و تجسد هذا العنف في انتزاع أهل الأرض الأصليين، و اجتثاث انتمائهم بالحرب و القتل و الطرد و التشريد.
إن العلاقة بين المقدس والعنف الصهيوني في ضوء الصراع العربي الإسرائيلي تكشف عن أن المقدس، لا يمكن اختزاله في الدلالة المتداولة، فكأننا بالمقدس في الصراع العربي الصهيوني يحاصرنا، و يسكننا في حلنا وترحالنا.
2. عنصر القداسة في رواية الصراع العربي الإسرائيلي:
إن رصد ثنائية المقدس و العنف الصهيوني في النص الروائي تدخل ضمن المقاربات المعقدة التي تستدعي من الناحية الأيديولوجية و المنهجية حضور عدد من تقنيات التحليل، و التي قد تبدو متضاربة أحيانا.
و إذا كانت مساءلة المقدس تكتنفها معضلات منهجية التحليل المتضاربة، و التي اعتادت تثمين خياراتها و تبريرها بدعوى الاعتبارات العلمية لتمرير منطوقها الأيديولوجي، فإن مساءلة المقدس و العنف الصهيوني تطرح أكثر من إشكالية ، إن على المستوى الأيديولوجي الـذي يحمل مخزون الصراع العربي- اليهودي منذ عهود قديمة جدا، أو على المستوى المنهجي، في ظل المقاربات العلمية المختلفة التي اعتادت تهميش المقاربة النقدية الأدبية باعتبارها رهـينة النص الأدبي، لا تبرحه، و لا تتعداه إلى ما يكتنفه من ملابسات قد يكون لها عظيم الأثر في تأويل و قراءة النص الأدبي.
إن المقدس مثله مثل العنف يتموقع في مواضع مختلفة من آنيتنا الفردية و الجماعية، و النص الروائي كإنتاج تخييلي يمثل مخزونا هاما لصور الصراع التي تتجلى من خلالها ثقافة الذات الفردية والجماعية، للأنا و الآخر عبر سلسلة من المجابهات بحثا عن تملك الأرض و التاريخ، و قد أفصح النص الروائي عن أن كل شيء في الصراع العربي الإسرائيلي قابل لأن يكون مقدسا، على حد تعبير "مرسيا إلياد "، في كتابه "المقدس و الدنيوي" و هو بصدد الحديث عن البنية الأسطورية للحركات السياسية المعاصرة،وللحياة العصرية برمتها."فالزمان والمكان والكائنات الحية و الجماد والكلمات جميعها أشياء مهيأة للانخراط ضمن فضاء المقدس."[13]
إن استحضار المقدس في النص الروائي، باعتباره أحد أركان قوة الأنا في مواجهة الآخر/ اليهودي، لا يأخذ مرجعيته من القيم التقليدية، أي المجموعة المشتركة التي تكوّن الدين و الطقوس التقليدية،كما يذهب إلى ذلك بعض الدارسين[14]، بل يضاف إليها متمم سحري/ أسطوري، تكون وظيفته غالبا تطهيرية. ولا نعتقد أن إطار صورة المقدس في النص الروائي العربي تستوفي مواصفاتها الكبرى في غياب محور رئيس آخر، ممثلا في العنف الذي يلازم المقدس في النص الروائي الذي له صلة بموضوع الصراع العربي الصهيوني.فالقداسة لا تكتمل إلا من خلال صورة الشخصية الروائية،مبنية على جمع لما لا ينجمع ضده، دون أن يفجر جوهره ووحدته، حيث يتعالق المقدس بالعنف لتقديم صورة خيالية، وتتحول البطولة التي لا تكاد ترادف ضمنا القوة البدنية و الحنكة، فهي لا تستوجب شرطـها الجوهري بحكم مواصفات العناصر الفاعلة،وهو التناقض المبدع المصاحب للنص الروائي،نجده ها هنا يفصح عن جدلية الصراع التي نقرأها من خلال ملامح القداسة الماثلة في الثقافة العربية،على هيئة بطولة نمطية، ذات مرجعية قيمية، تلغي من اعتبارها وجود الآخر.
على هذه الصورة ووفق هذه الرؤية، يتجلى بعد استثمار المقدس و العنف في النص الروائي، بمختلف أشكاله، وبصورة أساسية،كعامل اجتماعي في مقاومة اليهود، رمز الكفر و الفجور و العنف.
تلك كانت إشارة إلى تعالق النص الروائي بالمقدس،توجب علينا التركيز عليها، إلا أن الملاحظة العامة المستخلصة من هذه القراءة التي لم تشمل إلا مدونة قليلة النصوص[15]- لاعتبارات منهجية- توحي بأن النص الروائي يسعى دوما إلى أن تكون الرؤية جزئية للمقدس، مما يجعل المواقف الدرامية للصراع تنحو نحو التعتيم، و تخفي الأسباب التي تشكل نزوع الإنسان العربي نحو المقدس في الصراع مع الآخر/ اليهودي.
إن استحضار المقدس في النص الروائي، باعتباره أحد أركان قوة الأنا في مواجهة الآخر/ اليهودي، لا يأخذ مرجعيته من القيم العامة المشتركة التي تشكل الدين و الطقوس التقليدية، بل يضاف إليها متمم سحري/ أسطوري
تكون وظيفته تطهيرية مما يعانيه العربي في صراعه مع الآخر،سعيا وراء تعويض ما فقده من آمال، و طموح.
و قد شكل المقدس ملجأ الذات العربية التي ظلت بعد هزيمة جوان 1967 تبحث عن أفضل صورة لها،فلم تجد ذلك إلا في مخزونها التراثي والأسطوري الذي اختلط فيه التأريخي بالمقدس، و ارتبطت البطولة في رواية الصراع العربي الصهيوني منبتا و تصورا بالخوارق و الأسطورة، بحيث لم تتواجد منفصلة و لا معزولة عن الإطار العقائدي للدين الإسلامي، و هو إطار لا ينضب لما ينضح به من رموز للأبطال و الأولياء و الصالحين، و القديسين و القديسات.
و تأسيسا على ما قدمنا نتصور أن الموروث الثقافي بما يحمله من قداسة في منظور الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة،أسهم كعنصر راَفْدٍ رئيسي في تشكيل أرضية النص الروائي، و لتحقيق ذلك سعينا في هذه المقاربة إلى الكشف عن هذا التوظيف.
3. البعد القدسي والعنف الصهيوني في رواية الصراع العربي الإسرائيلي:
كان من أبرز الأسباب التي جعلتني أركز على "المقدس" كعنصر موضوعاتي بارز في بناء رواية الصراع العربي الصهيوني، الخلفيات التاريخية و الثقافية التي ليس هذا البحث مجالها، و التي تضمنت كيف استقبل العرب هجمة الصهيونية على فلسطين، وما ترتب عليها من حروب، بوعي كامل الخرافية.وكان من أبرز علامات الخرافية الطريقة التي فهمت بها الصهيونية نفسها،حيث ظلت مشروعا خرافيا، يواجهه المثقف العربي، و سلطة الحكم في الوطن العربي، بخليط من المكابرة، و الإصرار، و ظل اليهود مجرد "جبناء، سفلة، حقراء، و صيارفة وضعفاء."[16] وتحول العجز عن تفسير الهزائم إلى مأزق يعيشه العرب أفرادا و جماعات،[17] و لما كان للأسطورة والمقدس منطق خاص،هو منطق الخيال الجامح، الذي يستوعب مختلف أشكال الصراع الإنساني، و يدرك رمزيا حقائق الحياة، كان اللجوء إلى توظيفهما هروبا من وضع تاريخي متأزم، إلى عالم خيالي، وفرته بعض النصوص الأدبية من رواية، و شعر، و مسرح، حيث برزت في هـذا العالم التخييلي خرافة "التفوق" على الآخـر/ الصهيوني، وعمت الرغبة في الاحتجاب عن العالم المعاصر الذي نجحت إسرائيل في أن تنتمي إليه، وكما يقول حازم صـياغ : "فاستيلاء الصراع العربي- الإسرائيلي على عقولنا حطم البنية الذهنية العربية." [18]و أمـام تحطم البنية الذهنية، على هذا النحو، لم يعد مهما الهزائم العسكرية أمام إسرائيل" فحـتى لو تحقق لنا، بفعل مصادفة عابرة، أو سهو تاريخي ما، أن نحرز انتصارا.. بدونا عاجزين عن استثماره."[19]
لقد ولدت هذه الحاجة إلى طرد الهزيمة و أسبابها حاجة أبعد منها، فقد بات العربي يتمنى طـرد "العالم" الذي هو مسرح هزائمه، و انتصار الصهيوني، وكان البديل الضامن لتحقيق هذه "الرغبوية" الأسطورة و المقدس، حيث عبرت كثير من النصوص الروائية العربية عن انتصار اليهود الذي حولته الرواية عبر الخيال الجامح إلى انتصار للعرب.[20]
و من هذا القبيل أسطورة اختراق "الموساد" المخابرات السرية الإسرائيلية، في رواية : كنت جاسوسا في إسرائيل. رأفت الهجان، لصالح مرسي.[21] حيث أثبت شاب مصري قدرته في صنع المعجزات، و هي صورة من التحدي الذي يحلم به العربي في مواجهة الآخر / الإسرائيلي،فرأفت الهجان ليس أقل شأنا و دهاء من الإسرائيلي، و الألماني، وغيرهما.و قد تميزت قصة هذا العميل "الجاسوس" بامتزاجها بالعناصر التراجيدية التي تذكرنا بعوالم الأسطورة، خاصة بعد تلك الإضافات الفنية التي وظفها صالح مرسي، و التي أراد لها أن تمتزج بالواقع امتزاجا كيماويا، قصد الإيهام بواقعية الأحداث، وهو الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه كل أديب روائي. وقد ساعد الجنس الأدبي الذي اختاره الروائي إطارا فنيا لعمله، و هو : رواية التجسس، على إضفاء الجو الأسطوري، لأن طبيعة هذا الجنس الأدبي تتطلب أن يكون البطل شخصية تؤتي المعجزات، وهو ما تحقق فعلا في الرواية.
كما تبدو بنية "المقدس" في رواية الصراع العربي الصهيوني متجلية في تحقيق "مفهوم الخلاص"، و هو الدور الذي يسند إلى الرجل الصالح، و الذات المضطلعة بهذه الوظيفة تـكتسي الطابع القدسي، و ليست رحلة (الشيخ مرجان) في رواية : "أسطورة ليلة الميلاد" قبـل الوصول إلى بيت المقدس عبر غزة، إلاّ صورة من رحلة البطل في الأساطير و الحكايات الخرافية، للوصول إلى تحقيق "موضوع القيمة" المتمثل عادة في حيازة التفاحة الذهبية، أو الأميرة المقدسة، أو نبع الخلود.[22] يبحث البطل- في القصص الشعبي، و الشخصية في رواية الصراع..- في رحلته عن فكرة الوصول إلى عالم سحري، عالم الخلود، حيث يكون الطريق إلى هذا العالم محفوفا بالمخاطر، ذلك أن الموت يقف عائقا في طريق الوصول إلى الغاية" موضوع القيمة"، و لكن الموت في النص الروائي لا يعني الفناء، أو الانقطاع عن عالم الأحياء، فالشيخ مرجان يمنح كرامته إلى أهل القرية بعد وفاته.
و ما يلاحظ مما تقدم ذكره، أن النص الروائي لا يكتفي بعرض "الحادث الأسطوري"، بل يقدم كيفية الانفعال به، و التعامل معه، و يتجلى ذلك في الصورة التي تقدمها لنا رواية: "أسطـورة الميلاد" عن "المنقذ/ المخلص"، من خلال هذا المقطع السردي، "اختلفت الآراء حول هـوية الشيخ مرجان، فمن رأى أنه شيخ صالح مات مقتولا على يد الكفار، و من قائل أنـه شـاب مـغربي جاء ساعيا ليقدس الحج، و لم يمكنه المرض من أداء ما أراد.. فمات و دفنه بعـض الخيرين، و من قائل أنه حجازي طيب أتى بقافلة متاجرا و أراد الله أن تكون هذه البقعة نهاية مطافه، فدفنه رفاقه، ورحلوا."(الرواية:ص.22)
و ينسب الشيخ مرجان –في النص الروائي- إلى الأقطار العربية كلها: مصر، العراق، الحجاز، المغرب العربي، و مهما كانت الآراء قد اختلفت حول هوية الشيخ، و موطنه؛ فإن هناك إجماعا على أنه مسلم عربي، و أنه ولي من أولياء الله الصالحين، و أنه ما وجد بغزة إلاّ ليكون بشير بركة، و خير، وعلامة على رضى الله عن أهل الحارة أجمعين. (الرواية :ص.23) و من ثمّ تفانت الحارة "في إشعال السراج كل ليلة، لينير له المقام،كما توارثت العائلات.. عادة ملء إبريق فخار من الماء الطاهر ليتوضأ به، و يصلي..كل مساء." (ص.23)
كما يربط النص الروائي بين صورة المقدس الممثلة في شخصية "الشيخ مرجان" و شهادة الفدائييْن : رمزية و أبو اليزيد،"وقف الهوس لحظة أمام قبر الشيخ مرجان.. تلفت في كل اتجاه، ثم أمـسك بشاهد القبر، وهمس: جاءك أحباب يا شيخ مرجان، سأضع على قبرهما سراجا مثل سراجك.. سيزورهم الناس، فالفرح، فالكثرة بركة." (ص.75)
إن هذا المشهد على الرغم من دلالته على الممارسة الفردية، يمثل استغراق الذات الفلسطينية في "بحر الثورة"، بشكل يقترب من العشق و الصوفية. أما البعد الأسطوري للحـدث، فقد كان ما أكده "الهوس"، أنه شاهده بنفسه من تحرك شاهد قبر رمزية و أبو اليزيد بـين يـديْه: رأى كيف ترجل أربعة يهود بسلاحهم العسكري، وجذبوا بعنف جسديْن لرجل و امرأة، ما زالت بهما نبضات حياة.. أطلقوا عليهما الرصاص للتأكد من موتهما، و استشعر حينها أن هناك أشياء غير طبيعية تتكشف.. فقد اهتزت الأرض، وارتعش شاهد القبر حيث ووريت الجثتان، "نظر إلى المقبرة الفارغة في غبش الضحى،كل شيء ساكن" إلا الشاهد الذي يهتز، فصاح: "تحركت القبور..تحركت القبور."(ص.71) فهب الناس من رقـادهم، و ما من أحد في غزة إلا وقد "أصابته شظية صرخة الهوس المجنونة، وتحركت الألسن فولدت أسطورة."(ص.71)
مارس هذا البعد الأسطوري مدّا جماهيريا لدى السكان، و ذعرا حقيقيا لدى صفوف العدو،"وقد نجح الكاتب في استعمال الأسطورة الشعبية وتحريكها بمهارة لأداء دور هام في أحـداث القصة"[23]، حيث تصور الرواية لحظة من لحظات تصعيد المقاومة، بفضل مد جماهيري ذي طابع أسطوري من خلال تكثيف الضوء على اقتران حدث فدائي بامتداد الأسطورة القائلة بتحرك قبور الشهداء في مدينة غزة، وقد "استعمل الكاتب الإمكانات الكامنة في الأسطورة، و خاصة تلك المتعلقة بالوجدان الجماهيري، لتصوير أصالة الثورة في نفوس عانت الكثير من حياة اللجوء و التشرد، و أحرقها الشوق لوطن طال غيابها عنه"[24].
و نظرا للفعل السحري الذي يؤديه توظيف المقدس في مجتمع القرية المغلق، حاول الحاكم العسكري للقطاع أن يحد من هذا الفعل، فصاح في رجاله : "طوقوا الإشاعة بأي ثمن، فالأسطورة أشرس من السلاح."(ص.76) فلقد اعتمد بناء الرواية بشكل أساسي إلى جانب مقومات الشخصيات،على ذلك الخيط الأسطوري- القدسي، شبه الخفي الذي يربط كافة الأحداث و المواقف التي تنسب إلى الشخصيات، بموضوع "سراج الشيخ مرجان"، عبر شخصية "الهوس" الذي ظنه السكان مجنونا، فإذا هو شخصية صالحة، و يحيط بهـذا الموضوع أجواء مشبعة بالأسطورة و العجائبية،عكست معتقدات القرية،وممارستها للطقوس الدينية.[25]
و تنبع المعتقدات -غالبا- من الدين الإسلامي، ومسلماته العقائدية.. و يأتي في مقدمة هذه المعتقدات الاعتقاد في الولاية، فالأولياء رجال مقربون إلى الله،لهم إمكانيات الاتصال به أكـثر من غيرهم، و لهم مقدرة عجيبة على الأفعال الخارقة والمعجزات،وتظل لهم المقدرة نفسها بعد وفاتهم، و يظل الضريح رمزا لهذه القدرة على الفعل.[26] غير أن اتجاه روايات الصراع العربي الصهيوني بعد السبعينيات طرأ عليه تغيير جذري، مسّ على الخصوص بناء مضـامينه الفكرية و الإيديولوجية، فلم يعد الخلاص مرتبطا بالبعد الروحي/ الأسطوري، بل أصبح المد الثوري هو السبيل القويم لحسم الصراع العربي الصهيوني. إلاّ أن بعض روايات الصراع فضلت المزاوجة بين البعد الروحي و البعد الثوري، لتحقيق الخلاص/ التحرر. و أحـسن نموذج في المدونة يمثل هذا الاتجاه، رواية" سلام على الغائبين" لأديب نحوي، حيث تسند وظائف خلاص الأمة إلى الفدائي، البديل الموضوعي في الصراع العربي الصهيوني للرجل الصالح ذي الكرمات الروحية. و يرتبط بالفدائي الذي ينهي رحلته بالشهادة، شأن البطل المخلص/ المنقذ، مفهوم القدسية" الشهادة في سبيل تحرير الوطن"، حيث تمثل هذه "الشهادة"، مدخلا إلى تغيير الوضع الأنطولوجي للعالم. فالمجتمع الخالي من الاستعمار هو نسخة أخرى من أسطورة العصر الذهبي، و الصراع بين المعمِّر و المستعمَر هو صورة للصراع بين الخير و الشر، و الذي يمكن مقارنته بالصراع بين الإنسان و الشيطان، المسيح و الدجال، المسلم و اليهودي.
هكذا يصبح الصراع العربي الصهيوني،وخاصة في صيغته "التخييلية" في العالم الروائي، وكذا الصيغة الشعبية الدوغمائية المبسطة،بمثابة أسطورة تاريخية،ذات نفحة تنبئية، يؤيدها تاريخ الأمة العربية الإسلامية المليء بأحداث الصراع بين اليهود والعرب، مما يجعلها خلفية مغرية، و مفسرا سحريا لكل الأحداث التي تدخل ضمن إطار الصراع العربي الصهيوني. يرتبط بذلك إضفاء صبغة شيطانية على اليهودي/ الصهيوني، وصبغة مثالية على العربي/ المسلم، و إقامة تصور ثنائي "مانوي"[27] في العالم الروائي، حيث تحل الصهيونية محل القدر، و يصبح استعمار الـقدس (فلسطين)، هو الخطيئة الأولى، و يتحول الجندي الإسرائيلي إلى رمز لقوى الشر،بينما يكتسي الفدائي العربي صبغة الملاك "المخلص/المنقذ" والمحرر،وتأخذ الثورة سمة البعث و النشور، و يأخذ "القدس المحرر" صورة الفردوس المفقود.
و ما نستخلصه بوجه عام من توظيف عنصر "المقدس" في نصوص المدونة، هو أن الأديب يـتوخى من خلال تلك الممارسة الفنية تصوير عالم خيالي جديد، يزدري العالم الواقعي المعيش و يحطمه، و قد يكون وراء ذلك محاولة إظهار التحدي الروحي الذي يفخر العرب بامتلاكه، دون الشعوب و الأمم الأخرى، ضد التطور المادي و الصناعي و التكنولوجي الذي يتصف به الآخر/ الإسرائيلي، و الذي بفضله حقق انتصاراته المتلاحقة على الأنا/ العربي.
الهوامش
[1] - الجوة، محمد ؛ بن جماعة، محمود وآخرون.- الإنسان و المقدس.- تونس، دار محمد علي الحامي، 1994.- ص.72.
[2] Encyclopédia Universalis.- Tome: 20, 1998.- p. 646.
[3] GIRARD, R..- Des choses cachées depuis la fondation du monde.- Paris, Grasset, 1978.- p.22.
[4] - الإنسان والمقدس.- مرجع سابق.- ص.72.
[5] - القرماطي، التجاني.- المقدس والعنف، في: الإنسان والمقدس.- مرجع سابق.- ص.73.
[5] CAILLOIS, Roger.- L’Homme et le sacré.- Collection Idées /Gallimard.- p.18.
[7] - المقدس والعنف.- مرجع سابق.-ص.71.
[8] - المرجع السابق.-ص.71.
[9] - القماطي، التيجاني.- المقدس والعنف.- مرجع سابق.- ص.70.
[10] - المرجع السابق.- ص.ص. 70-71.
[11] - المرجع السابق.-ص..71
[12] - أحمد خليل، خليل.- مجلة الفكر العربي المعاصر.- عدد مزدوج:27/28،1983.- ص.19.
[13] - إلياد، مرسيا.- المقدس والدنيوي.- دمشق، ترجمة: نهاد خياطة، 1987.- ص.ص.190-191.
[14]- OTTO, Rudolf.- Le sacré, L’élément non rationnel dans l’idée du divin et sa relation avec le rationnel. Traduit de l’allemand par André Jundt.- Paris, Editions Payot, 1995.- p.p.166-209.
[15] - شملت هذه المدونة الروايات الآتية:
- أسطورة ليلة الميلاد لتوفيق المبيض.- القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1977.
- كنت جاسوسا في إسرائيل-رأفت الهجان-،صالح مرسي.- القاهرة، أبوللو للنشر والتوزيع، 1990.
[16] - صياغة، حازم.- البعد الذهني للصراع العربي الإسرائيلي.- الكويت، مجلة العربي، العدد : 443، 1995.- ص.25.
[17] - المرجع السابق.- ص.25.
[18] - المرجع السابق.- ص.25.
[19] - المرجع السابق.- ص.25.
[20] - راجع تحليل عنصر "الأرض" في أطروحة الدولة حول رواية الصراع العربي الصهيوني المقدمة من قبل الباحث ،حيث بيّنا كيف أن أغلب روايات المدونة،كانت تنتهي بتحويل الهزيمة إلى انتصار، ومثال ذلك ما لاحظناه في نص:"أسطورة ليلة الميلاد"،ونص:""سلام الغائبين".
[21] - مرسي، صالح.-كنت جاسوسا في إسرائيل. رأفت الهجان.- القاهرة، أبوللو للنشر والتوزيع، 1988.
[22] - إبراهيم، نبيلة.- الإنسان و الزمن في التراث الشعبي.- مجلة الأقلام، مرجع سابق.- ص.ص.2-4.
[23] - أبو مطر، أحمد.- الرواية في الأدب الفلسطيني.- ص.ص.146-147.
[24] - القلماوي، سهير مقدمة.-أسطورة ليلة الميلاد.- ص.4.
[25] - الرواية في الأدب الفلسطيني.- ص.145.
[26] - بورايو، عبد الحميد.- القصص الشعبي في منطقة بسكرة."دراسة ميدانية".- ص.22.
[27] -المانوية "Manichéisme"، و هو مذهب ماتييس الفارسي الذي يعتمد على ثنائية الصراع بين شيئين متضادين كالخير والشر.