إنسانيات عدد 05 | 1998 | المدن الجزائرية | ص 35-48 | النص الكامل
Ghazaouet : a town under socio-cultural change Abstract : This article aims at treating socio-economic changes which occured in the Ghazouet area, and studies the effect of these changes upon the native population. Keywords : El Ghazaouet, city, changes, fishing, industry |
Mourad MOULAY-HADJ : Département de sociologie, Université d'Oran, 31 000, Oran, Algérie
Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie.
مقدمة
تعد دراستنا لواقع التصنيع والتحضر في المجتمع الجزائري والمعاينة اليومية للتحوّلات السوسيولوجية والثقافية منبعا لكل تفكير أو محاولة لمعالجة وتطبيق تحليل علمي لتلك التحولات التي شهدتها ومازالت تشهدها المدينة الجزائرية.
فإهتمامنا المتواصل والمتزايد بمثل هذه الدراسات جعلنا نتطرق إلى دراسة هذه التحولات والتغيّرات في منطقة جغرافية عرفت نموا جدّ معتبر ألا وهي مدينة الغزوات.
لقد عرفت هذه المدينة تحوّلات جذرية، من مدينة كانت تعرف بصيدها البحري إلى مدينة صناعية مع بداية السبعينات، فشيّدت بها منشآت صناعية عملت على قلب موازين القوى داخل التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمدينة. وهكذا فضخامة هذه التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية أصبحت بحق ملفتة لإنتباه الدارسيين في العلوم الاجتماعية.
وللإقتراب من هذه التحوّلات التي عرفتها المدينة يجب علينا دراسة الواقع التاريخي لها وأهم تأثيراته على السكان المحليين، ثم التطرق إلى أهم التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها هذه المدينة أثناء تطبيق المشروع التنموي الجزائري، والوصول في الأخير إلى الإحاطة بالنتائج السوسيو-ثقافية لهذه التحولات ومعالجتها في إطار دراسة أهم الفاعلين الاجتماعيين بالمنطقة.
1- الإرث التاريخي للمدينة
إن الموقع الإستراتجي لمدينة الغزوات جعلها مركزا لمرور عدة حضارات إبتداءا من الحضارة الرومانية إلى غاية الاستعمار الفرنسي. فالإرث التاريخي يكمن في تلك التأثيرات التي خلفتها هذه الحضارات في المنطقة. إلا أن ما يهمنا في هذا الإطار هو الرجوع إلى الحقبة التاريخية الذي سجل فيها ظهور وتمركز نوع من الحياة الحضرية والتي تعود إلى مرحلة الاستعمار الفرنسي.
فالموقع الجغرافي لهذه المدينة المطلة على البحر الأبيض المتوسط مكنها من أن تكون مركز تموين وإخلاء المرضى المعمرين نحو فرنسا إبتداءا من سنة1844 1. فضرورة تلبية حاجات المعمرين جعلت التفكير ينصب في إتاحة كل الظروف السانـحة للإستقرار بالمنطقة حيث تم بناء أول منزل من حجر في سنة 1846. وما لبثت سنة 1847 أن تنتهي حتى أطلق اسم «Nemours» على هذه المدينة نسبة للحاكم أومال- «Duc d’Aumale»، الإبن الثاني للويس فليب «Louis Philippe"2 . ومنذ ذلك الوقت بدأ نمو سكان هذه المدينة يتزايد وتتزايد معه حركة التعمير من بناء المساكن والهياكل الإدارية اللازمة للسير العادي للنشاط الاقتصادي المرتبط بحركية الميناء. فحسب ( F. LIABADOR) أن ما بين سنة 1846و سنة 1847 إستقر ما يعادل خمس مائة (500) مواطن فرنسي في مدينة «Nemours» وأنه في سنة 1856 تم بناء 53 مسكنا وهياكل إدارية أخرى مثل مقر البلدية والمحكمة والمستشفى ومركز البريد3.
كما كان للنشاط الزراعي بالمنطقة دورا هاما في تطوير الميناء وجعله مركز تصدير لكل المنتوجات الزراعية نحو فرنسا والدول الأوروبية الأخرى.
فبالإضافة إلى المحاصيل الزراعية التي كانت نتنج بالمناطق المجاورة لمدينة الغزوات نجد منتوجات المغرب الشرقي تصدر عن طريق هذا الميناء. فمنذ إستعمار مدينة "وجدة" المغربية من طرف الفرنسيين سنة 1907، تم إعطاء دفع لنشاط ميناء الغزوات لكي يكون مركز عبور لكل تلك المنتوجات الزراعية، ويبين جيلالي صاري في إحدى مقالاته بأن مدينة الغزوات كانت تعتبر منفذا بالنسبة للمغرب الشرقي4 .
وهكذا فهذا الميناء الصغير عرف نوعا من النشاط التجاري منذ السنوات الأولى من الإستيطان، وعلى سبيل المثال نذكر بعض الإحصائيات الخاصة بنشاط هذا الميناء. ففي سنة 1900،372 باخرة تجارية رست بالميناء لتشحن 255.912 طن من السلع5. فكانت تصدر كل الحبوب المنتجة من طرف الفلاحين الصغار الذين يأتون بها من المناطق الفلاحية المجاورة لهذا الميناء. كما ظهرت صناعة جد معتبرة والتي ساهمت في الرفع من قيمة الصادرات آنذاك وهي صناعة الألياف النباتية. فكان هناك خمسة وعشرون ورشة صناعية في محور لا يتعدى 25 كلم، وخاصة في مدينة ندورمة وباب العسة وسيدي بوجنان وسيدي ابراهيم تقوم بصناعة هذه الألياف النباتية. فتشترى هذه المنتوجات من طرف تجار من مدينة وهران الذين كانوا بدورهم يقومون بتصديريها عن طريق البواخر وعبر ميناء «Nemours» نحو بلجيكا وإيطاليا وألمانيا لتصل إلى ما يقدر بـ 200 ألف قنطار من هذا المنوتج سنويا6. فبالإضافة إلى هذا المنتوج كانت تصدر مواد أخرى كالحلفة والخروب نحو شمال فرنسا بهدف صناعة السكر7.
لم يتوقف نشاط الميناء على التصدير والنشاط التجاري بصفة عامة وإنما كان ميناء للصيد البحري، حيث ظهرت ورشات صغيرة منذ السنوات الأولى من هذا القرن. فمثلا، في سنة 1906 قام المعمران MM. PITZINI)وlabrador ( بتطوير هذه الصناعات. فكانت توجد آنذاك 14 ورشة صناعية تقوم بتصدير من 1000 إلى 1200 طن من السمك سنويا نحو فرنسا وإيطاليا8 ، هذا مما ساعد على تطوير قطاع الصيد البحري في المنطقة لكي يكون أحد القطاعات الأساسية في توفير مناصب الشغل ومصدر دخل بالنسبة للسكان المحليين. فالإحصائيات المتوفرة لدينا والتي أستقيناها من مصلحة الملاحة البحرية بالمنطقة تشير إلى أهمية هذا القطاع، حيث كان الإنتاج مرتفعا وهذا لوجود أسطول بحري جد معتبر سمح بتشغيل عدد لا يستهان به من البحارة الصيادين ( انظر الجدول في الملحق).
ومن هنا فالأهمية الاقتصادية والتجارية لهذا الميناء عمل على تطوير المنطقة منذ السنوات الأولى للاستعمار الفرنسي. كما سمحت هذه الوضعية على إنتشار نوع من الحياة الحضريةمع ظهور بالنسبة للقوى العاملة بالمنطقة وخاصة في مجال الصيد البحري والصناعات المرتبطة بهذا القطاع وكذا القطاع التجاري المرتبط بميناء الشحن. فهذا الواقع ترك آثارا على مستوى الممارسات اليومية لسكان هذه المدينة حيث نتج عن عمل الصيد البحري مخلفات ثقافية لدى البحارة الصيادين لكي تتثبت مدينة الغزوات وجودها على أنها مدينة الصيد البحري حتى سنوات السبعينات، حيث ظهرت تحولات اقتصادية بواقع جديد مخالف للواقع والمحيط السابق.
2-التحولات الاجتماعية والاقتصادية بالمدينة
عمل التوجه الأيديولوجي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية على اتخاذ سياسة صناعية قائمة على ترسيخ قاعدة اقتصادية بهدف التخلص من التبعية الاقتصادية للغرب.فهذه السياسة التنموية إنتهجت مشروع قائم على فكرة أو نظرية " الصناعات المصنعة".
فلم تبق هذه السياسة عبارة عن مشروع نظري بحت،بل تجسد من خلال المخططات التنموية إبتداءا من السبعينات. فأصبحنا نلمس ونعاين هذه السياسة في تلك المنشآت الصناعية عبر كافة التراب الوطني بهدف تجسيد سياسة التوازن الجهوي. كما عملت هذه المنشآت على الإسراع في عملية النزوح الريفي والتوسيع من نطاق العمل المأجور في المدينة الجزائرية9.
لقد استفادت مدينة الغزوات من هذه السياسة الصناعية بمشروعين ضخمين: فالمشروع الأول يتمثل في إنشاء وحدة صناعية للتحليل الكهربائي للزنك، لكي تباشر الإنتاج سنة 1974 وتوظف أكثر من ثمان مائة (800) عامل. أما المشروع الثاني فيتمثل في وحدة للخزف الصحي التي أنشئت سنة 1976 وتقع بضواحي المدينة وتشغل ما يعدل 500 عامل. فهاتان المؤسستان تعتبران المحيط الجديد الذي عمل على خلق فرص عمل تعمل أدت إلى تطوير وتوسيع العمل المأجور وإصطدام السكان المحليين بنظام جديد لدى العمال الصناعيين والذين هم أكثر اتصالا بهذا الواقع. ( سنقوم بتفصيل هذه الفكرة لاحقا).
عمل التصنيع في مدينة الغزوات على التأثير على نظرة السكان المحليين من جراء تنصيب هذه المنشآت الصناعية. فكل الظروف سمحت بتكوين نوع من السخط الاجتماعي ونوع من المقاومة لهذا التصنيع رغم النتائج الإيجابية التي قد يجلبها لهم من خلق فرص العمل المأجور والتخفيف من حدة البطالة وبعت الحياة الاقتصادية والاجتماعية بالمنطقة. فالسخط و المقاومة تكمنان في كون أن تشييد مصنع الزنك مثلا تم في وسط المدينة على مساحة شاطئ سياحي حيث هدمت مؤسسة ثقافية ( سينما الشاطئ- Ciné Plage) وورشات لتصبير السمك. فبالإضافة إلى هذا يرى السكان أن هذه المؤسسة جد ملوثة للمحيط10، سواء عن طريق النفايات والسوائل التي ترمي في البحر أو تلوث الهواء مدخنة المصنع و التي أصبحت، في نظر السكان ، السبب الأول لإصابتهم بالأمراض الصدرية.
إلا أن هذه الآثار السلبية لم تمنع هذه المؤسسات الصناعية من أن تكون لها آثار إيجابية. فالتصنيع بالمنطقة عمل على دفع حركية البنيات الاجتماعية والاقتصادية. فمؤسسة الزنك مثلا ساهمت في توسيع النسيج العمراني وهذا من خلال إنجاز أحياء سكنية لعمالها بهدف إيواء أكثر من 200 عائلة عمالية، كما أدت هذه المؤسسة إلى تطوير نشاط الميناء التجاري وبالتالي الإسراع في إنجاز طريق وطني ليشق الجهات الريفية بمنطقة " طرارة" والتي كانت تعاني من العزلة قبل هذه الفترة . ونتفق مع جمال غريد حينما يقول:" إن التصنيع دفع إلى تطوير الهياكل القاعدية من طرقات وسكك حديدية وموانئ ومطارات وإلى تكييف التأطير الإداري11.
فأكيد أن هاتين المؤسستين الصناعيتين ساهمتا في الإسراع من نزوح الأفراد نحو المدينة للبحث عن عمل مأجور لضمان دخل مستقر ودائم بدلا من البقاء في الريف والعمل في القطاع الزراعي الذي لايتعدى مدخوله تلبية حاجات محدودة نظرا لطبيعة الأراضي الزراعية بالمنطقة.
فالإحصائيات تشير إلى أنّ مدينة الغزوات عرفت نموا في عدد السكان حيث كان يعادل 19.795 في سنة 1966، ليصل إلى 26.742 نسمة في سنة 1977، 29.795 نسمة سنة121987، ثم 33.039 نسمة سنة 131977 فالملفت للإنتباه في هذه الإحصائيات هو ذلك النمو الذي نلاحظه ما بين سنة 1966 و سنة 1977 وهي مرحلة تصنيع المنطقة. فلا شك أنّ بداية الإنتاج في هاتين المؤسستين عملت على نزوح عدد من الأفراد للبحث عن عمل مستقر. فدراستنا السابقة لعينة من عمال وحدة (الكتروليز الزنك) بالغزوات14 كشفت عن الأصل الاجتماعي لهذه العينة والذي يعود إلى منطقة بني منير ( مناطق جبلية بالقري من مدينة ندرومة). كما عمل عدم استقرار العمال في العمل الصناعي في السنوات الأولى من التصنيع، بسبب سوء التأقلم مع الوسط الصناعي الجديد، على تنقل عمال ريفيين إلى العمل الصناعي، وهذا يتطلب من مدير المؤسسة الذي توجه إلى المناطق الريفية المجاورة لمدينة الغزوات بغرض تقديم عروض عمل مع تقديم كل مزايا العمل الصناعي15.
فلا شك أنّ هذه التحولات الاقتصادية والاجتماعية عملت على التأثير على الحياة اليويمية للسكان المحليين مادام أن معظم الأفراد أصبحت لديهم علاقات مع العالم الصناعي. هذا الواقع الجديد يساهم في تفتيت الحياة البسيطة التي اعتادوها سابقا. فظهرت علاقات ونظم اجتماعية جديدة ساهمت في تشعب حياة الأفراد نظرا لتطور نوع من تقسيم العمل، وقلصت من التجانس والتضامن بين الأفراد الذين يعتبران سمة من سمات الثقافة التقليدية للمجتمعات الزراعية.
3-مدينة الغزوات مسرح لتحوّلات سوسيو-ثقافية
لعبت التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها مدينة الغزوات دورا كبيرا في التأثير على الحياة اليويمية للسكان المحليين. تعتبر هذه التأثيرات و هذه التحولات ثقافية مادام أنها عملت على قلب موازين القوى داخل البنيات الأسرية وأدت إلى التقليص من التنظيمات الاجتماعية التقليدية، كما أنها أسرعت في ظهور قيم ومعايير ثقافية حديثة تزامنت مع ظهور جماعات إجتماعية ومهنية وفاعلين إجتماعيين جدد لهم أدوار إجتماعية وإقتصادية في المؤسسات والهياكل الاقتصادية والإدارية التي رافقت ثقافة مخالفة لتلك التنظيمات الاجتماعية السابقة. فالتصنيع مثلا غطى الوجوه الممثلة للعالم التقليدي ( الفلاح، الحرفي، التاجر، رجل الدين) وأبرز إلى الوجود وجودها أخرى أهمها الإطار التقني والعامل المنتج16. فدراسة أهم هؤلاء الفاعلين الاجتماعيين تعد عنصرا أساسيا للوقوف على الخصائص الثقافية للمدينة ومن هنا تم إختيارنا لفاعلين إجتماعيين بالمدينة وهم:
1.3. البحارة والصيادون
إن الموقع الإستراتجي للمدينة جعلها تكون مركز إنتشار قطاع الصيد البحري منذ السنوات الأولى من الاستعمار. فالإحصائيات التي بحوزتنا – ( انظر الجدول رقم 1)- تدل على مدى قدرة هذا القطاع على خلق فرص للعمل. كما أن عملية اكتساب المهارات وتقنية الصيد تمت عن طريق المعمرين الإسبان الذين يعنبرون أكثر فئة إجتماعية التي عملت على تسيير قوارب الصيد وممارسة مهنة الصيد البحري بالمنطقة. فالتأثير الإسباني في هذا الميدان لم يتوقف على الجانب الاقتصادي بل تعداه ليشمل الجانب الثقافي أيضا ، حيث عملية ممارسة المهنة غرس مفاهيم لغوية " إسبانية " جديدة لدى الصيادين المحليين والتي مازالت متداولة لحد الآن ما بين البحارة. فجل المناطق السياحية وأدوات العمل ولغة الإتصال أثناء العمل تحمل أسماء إسبانية . فعلى سبيل المثال يمكن أن نذكر أسماء بعض المناطق الساحلية . (Capo Lawa) رأس الماء... أما عن أدوات العمل : (Polia) عجلة الجر، ( Baldi) ، الدلو وأدوات أخرى مثل : (Popa) , (Prova) , (Larti) ... وأوامر تنفيد العمل (Tinpla) جذب، (Kali) رمي الشباك إلى البحر وعبارات أخرى مثل (Larga) , (Vira) ألخ...
فاستعمال هذه المفاهيم الإسبانية تخفي من ورائها نوع من الرسوخ الثقافي لدى البحارة الصيادين حيث يشعرون بنوع من الإنتماء الثقافي إلى الإسبان ويحملون تقاليد إسبانية في ممارسة مهنتهم . فهم مارسوا وورثوا هذه المهنة عن أولئك المعمرين.
فوراثة مهنة الصيد عن الإسبان عن طريق الأجداد والآباء الذين عملوا كبحارة مع هؤلاء الإسبان . نستطيع أن نجد ضمن فئة البحارة الصيادين عائلات تداولت مهنة الصيد عبر أربعة أجيال . فلا شك أن مهنة الآباء لها تأثير على الإختيار المهني للإبن، كما جاء على لسان هوجز -( (Hugesمهنة الآباء بدون شك لها نوع من التأثير على مهنة الأولاد17.
لقد سمحت الظروف الخاصة وطبيعة نشاط الصيد البحري بجلب كثير من الشباب الذين فشلوا في مسارهم الدراسي. فالمخرج الوحيد بالنسبة لهؤلاء الشباب هو الحصول على منصب عمل ضمن جماعة البحارة،إلا أن طريقة الحصول على هذا المنصب تعتمد على علاقات القرابة والمحسوبية. فقد يمضي قائد القارب على أحد أقاربه أو جيرانه لأجل أن يصبح بحارا . فالعملية لا تتطلب أي تكوين ولا شروط مهنية.
إن تنظيم العمل في قطاع الصيد جعل من البحارة الصيادين أن تكون لهم علاقات عمل جد بسيطة وتقليدية مادام أن عددهم لا يتعدى العشرين بحارا على متن كل قارب، إلا أن ظروف العمل الجد قاسية والصعبة والمرتبطة بالظروف الطبيعية جعلت هؤلاء البحارة أن يكون لهم نوعا من التلاحم مع بعضهم وظهور نوع من الشعور بالانتماء إلى فئة مهنية وثقافية تختلف عن تلك الفئة المهنية التي تعمل في المؤسسات الصناعية وقطاع الخدمات .
ومما يلاحظ أن طبيعة العمل في قطاع الصيد البحري جعلت من البحارة الصيادين أن يكون لديهم حياة يومية عادية مرتبطة بخطاب تقليدي، ذي علاقة جد متينة بالإعتقادات الدينية . فتداول كلمات مثل " الله يفتح " و"المكتوب" جعل تسمية بعض القوارب ببعض هذه الأسماء . فهناك قوارب مؤسستين تسمى " بالعاطي الله "، " شوف المكتوب"" ... ألخ .
فرغم تذبذب دخل هؤلاء الصيادين المرتبط بالحظ و"المكتوب" إلا أنهم يشعرون بنوع من الإرتباط بمهنتهم. فسهولة العمل وبساطة تنظيمه داخل القوارب جعلت من هذه الفئة أن لا تقبل أي عمل آخر معقد رغم توفر مناصب عمل أخرى بالمنطقة وخاصة مع تنصيب مؤسستين صناعيتين بالمنطقة.
فدراستنا لمصنع ( إلكتروليز الزنك) بالغزوات18 سمحت لنا بالإطلاع على أن هناك العديد من البحارة الذين عملوا بالمصنع، وتركوا هذا العمل الصناعي بعد بضعة شهور. إنهم يرفضون العمل في محيط حيث تتواجد فيه رؤساء عمل أجانب عن محيطهم،وحيث يفرض تنظيم العمل نوعا من السلوك والإنضباط في العمل كاحترام توقيت العمل وعدم التغيب، فيحمدون الله ويشكرونه على وجود هذا البحر الذي ينعتونه بـ "القتلة" أي البحيرة . فوجود "القتلة" في نظرهم هي ضمان للعمل والرزق .
2.3. العمال الصناعيون :
خلصت معظم الدراسات في الجزائر إلى أن التصنبع عمل على تشكيل وظهور وجه جديد من العمال الصناعيين. وهكذا فهناك إتفاق مبدئي على أن العامل الصناعي في الجزائر أصبح يعيش صراعا في حياته اليومية بين واقعين : محيطه الاجتماعي الذي نشأ فيه وترعر فيه والذي ما زال يحمل بوادر وخصائص العالم التقليدي والمؤسسة الصناعية ذات التكنولوجية العالية والحاملة لمعايير وقيم وممارسات ثقافية التي تفترض نوعا من السلوك الحضري الحديث وتنظيم العمل المعقد . فقد ذهب أغلب الدارسين لهذه الفئة المهنية على مقارنة العامل الجزائري مع العامل في البلدان الغربية المتقدمة والتأكيد على أوجه الإختلاف بينهما والتركيز على أوجه الشبه بين الفلاح والعامل الصناعي في الجزائر ، مع عدم الإهتمام وتجاهل أوجه الشبه بين العامل الصناعي في الجزائر وزميله في العالم المتقدم ، وهكذا يصل روتشطين (Frances Rothstein) إلى خلاصة أن علماء الاجتماع العالم الثالث يرون أن العمال الصناعيين هم عبارة عن فلاحيين- عمال ويتجاهلون ديناميكية صيرورة التحول والتغير في العالم الثالث. فيرى أن هؤلاء الباحثين يقدمون الحياة الريفية والفلاحية على أنها ساكنة ويؤكدون على أوجه التشابه بين الفلاحين والعمال الصناعيين ويتجاهلون كثيرا من الإختلافات بينما يبالغون في ذكر الإختلافات بين العمال في البلدان المصنعة والعمال الجدد في الدول النامية دون التطرق إلى أوجه الشبه بينهم19.
فإذا رجعنا إلى العمال الصناعيين بمدينة الغزوات فإننا نجد أن هذه الفئة المهنية قد نمت وتطورت مع ظهور المنشآت الصناعية السالفة الذكر بالمنطقة. فالآن أصبحنا نعاين فئة مهنية عريضة بالمدينة قد تتعدى الألف عامل صناعي.
ومما لا شك فيه أنّ هؤلاء العمال قد اكتسبوا نوعا من التجربة المهنية داخل المؤسسات الصناعية.
فدراستنا الميدانية لمؤسسة التحليل الكهربائي للزنك بالغزوات20 قد سمحت لنا بالخروج ببعض الخصائص والمواصفات الثقافية لعينة من العمال المنتجين ( والمتمثلة في مائة مبحوث )، والذين يعتبرون الوجه الحقيقي للعامل الصناعي بالمنطقة. فقد لا نختلف مع أولئك الدارسين الاجتماعيين لهذه الفئة علىأننا أمام عمال ذوي أصل ريفي فلاحي ولهم إرتباطات إجتماعية وثقافية مع العالم الريفي حيث ما زال الأقارب والأهل يقطنون فيه بعض المرات ، وأنّ لهم بعض القيم والعادات ذات الصلة الكبيرة بالعالم الريفي مادام أنّ هناك دائما حنينا إلى الماضي .
إلا أننا نتغافل عن الآثار التي قد يخلّفها العمل الصناعي على هؤلاء العمال وقد تنفق مع زعماء مدرسة تحديث الفرد الذين يؤكدون على أنّ المصنع يعتبر مدرسة الفرد وأنه قادر على تغيير الأفراد في سلوكاتهم ومواقفهم21 .
وكما يرى (SAINSAULIEU)أن المؤسسة الصناعية التي بنفس درجة العائلة والعدالة والجيش تنتج وتحوّل آثارها الثقافية إلى المجتمع21.
فتجربة الحياة في المنطقة الصناعية وعلاقات العمل تنتج أطرا خاصة للتعلّم الثقافي، ونرى أنّ من بين المميزات الثقافية لهؤلاء العمال هو أنّه أصبح لديهم نوع من الانتماء الثقافي لهذه المؤسسات الصناعية مادام أنّ لهم ارتباطا كبيرا بمؤسستهم، وأنّهم يجدون العمل في الصناعة، حيث الأجر المضمون والخدمات التي تقدمها لهم هذه المؤسسة. فهذا الاندماج ازداد قوة مع ظهور التحوّل الاقتصادي للمجتمع مما ساعد على انتشار البطالة والتقليص من عدد العمال في بعض المرات، كما أنّ العمل الصناعي جعل من هؤلاء العمال أن يكون لهم نوع من التكوين بالممارسة والتعلّم واكتساب مفاهيم مرتبطة بواقعهم الصناعي. فقد تعلموا تسمية وباللغة الفرنسية بعض أدوات العمل والورشات والآلات ...ألخ واستطاعوا أن يكتسبوا نوعا من التجربة المطلبية في إطار هيئة نقابية تدافع عن مصالحهم داخل المؤسسة . فتمثلاتهم لواقعهم الاجتماعي تبين نوعا من التفكير العقلاني. فجل العمال أصبحت لديهم أفكار مغايرة عم عالمهم الأصلي. فقد أصبحوا لا يمانعون من أن تعمل المرأة خارج المنزل مادام أن الظروف المعيشية و الاقتصادية حتمت ذلك. يقول أحد المبحوثين :" حاجة مليحة، تخدم هي والرجل باش يعيشوا مليح ورانا في عام ألفين " ( عامل، 49 سنة ) .
ونتيجة الإحتكار والتفاعل أصبح العامل يرى أن على الآباء مثلا، احترام آراء أبنائهم وظهور نوع من التشاور وأخذ الرأي الأصوب والأفضل ولو كان ذلك صادر من الإبن الأصغر ، حيث نجد 90% من المبحوثين يتفقون مع فكرة مشاورة الأبناء.
أما فيما يخص إختيار الخطيبة للأبناء فهناك تذبذب في الأراء فالبعض لا يتفق مع فكرة إختيار الإبن لخطيبته مادام أنها معاكسة حسب رأيهم لعاداتهم ، فيرى أحد المبحوثين، 45 سنة :" هذا التغيير ما شي مليح، الوالدين يعرفوا يختاروا المرأة خير" .
فأغلب تبريراتهم تدل على أن هذه الأمور دخيلة على مجتمعنا، كما جاء في تصريح نفس المبحوث، حيث يقول :" بكري خير، ولولا يتفرجوا في التلفيزيون والبرابول ويعملوا كيما لقور" .
إلا أن هناك اتجاه معاكس حيث يعطي الحرية للإبن في اختيار خطيبته مع تحمل مسؤولية الابن الكاملة ولا يمكن أن " نشتري الحوت في البحر" حسب تصريحاتهم . ونظرا لموجة الأحداث التي عايشها المبحوثون في الريف ثم إنتقالهم إلى المدينة أصبحوا يودون أن يكون أبناؤهم متعلمين ويشغلون مناصب جيدة ، حتى لا يتلقوا صعوبات في حياتهم المستقبلية . فأصبح المبحوثون يرون أن الحياة الأفضل هي لدى المتعلم والمثقف.
خاتمة:
شهدت مدينة الغزوات تحوّلات ثقافية مرتبطة بالمسار التاريخي للنشاط الاقتصادي للمدينة، فتحولت من مدينة قائمة على نشاط الصيد البحري وانتشار ثقافة بحرية بين أوساط السكان المحليين وكذا ظهور نوع من الصناعات الصغيرة ذات الإرتباط بالصيد إلى مدينة صناعية مع بناء مؤسسات صناعية ذات تكنولوجيا عالية وتنظيم عمل معقّد . وقد نتج عنهذه الوضعية نوع من الإسراع في وتيرة نزوح الفراد على المدينة وتطور العملرن بالمنطقة ، كما أدّت هذه التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية على ظهور فاعلين إجتماعيين . إضافة إلى وجود البحارة الصيادين ذوي مميزات ثقافية مرتبطة بالآثار الثقافية الموروثة عن المعمرين الإسبان نلاحظ ظهوره العمال الصناعيين الذين اصبح تواجدهم بين السكان المحليين ملفتا للإنتباه، هؤلاء الذين اكتسبوا معايير وقيم جديدة مرتبطة بواقعهم المهني والصناعي الجديد.
المراجع:
1- جمال غريد، " العامل الشائع : عناصر للاقتراب مع الوجه الجديد للعامل الصناعي الجزائري"، في مجلة " إنسانيات" العدد الأول، 1977، ص.7-23 .
2- Brule M J.C. Mutin G, industrialisation et urbanisation en Algérie, In Maghreb-Machrek, vol .96, 1982.
3- Cardonne, P et Rabotrt, J, La décolonisation dans l’Ouest Orannais- Alger, Heintz, 1930.
4- Frances Rothstein, The New proletarians: Third word reality and first world categories.- in Compartive Studies in Society and history, vol, 28 (2), 1986: 38-217.
5- Guerid Djamel, et al., S.N.S: Insustrie et société , Alger, contrat de recherche avec la S.N.S, 1982.
6- Guerid Djamel, “L’entreprise industrielle en Algérie : les limites d’une acculturation” , in Cultures d’entreprise, édition CRASC, avril 1977 : 117-131.
7- Inkeles, Aet al ,., Exploring individual modernity, New york, Colombia University Press, 1983.
8- Moulai- Hadj, Mourad, “Living in two cultures: the Algerian factory worker between traditionalism and modernity”. Leiscester (U.K.) M. Phil Thesis.1988.
9- Sainsaulieu, R., Sociologie de l’organisation et de l’entreprise, Paris, Dalloz., 1987.
10- Sri. Dlillali, “Ghazaouet : Débouché de l’oriental marocain” , in Maghreb- Machrek, vol 60, 1973.27-23.
11- Semmoud Bouziane, “ L’industriealisation de Ghazaouet : étude de localisation industrielle, implications géographiques” in cahiers géographiques de l’Ouest, N° 2-3, 1979 : 264-295. n
12- Thinthoin, Robert T. Les Trara : Etude d’une région Musulmane d’Algérie. Bulletin de la société de géographie et d’archélogie de la province d’Oran, T. LXXIII , pp.217-309 .
ملحق:
الجدول التالي: يبيّن وظيفة قطاع الصيد البحري بمدينة الغزوات قبل الإستقلال
أنتاج السمك |
عدد البحارة |
أسطول الصيد البحري |
السنوات |
|
- |
- |
1950 |
|
- |
- |
1952 |
|
- |
- |
1954 |
|
730 |
60 |
1956 |
|
866 |
74 |
1958 |
|
908 |
69 |
1960 |
|
880 |
65 |
1962 |
المصدر: الملاحة البحرية لمدينة الغزوات.
الهوامش
1 Cr.CARDONNE, P. et RABOT, J.. LA
2 Ibid.
3 Cr. LIBRADOR, H Nemrous (Djemâa Ghazaouât). Monographie illustrée.- Alger, Jules Carbonnel, 1948
4 Cr. SARI, D..- Ghazaouet : débouché de l’oriental marocain.- in Maghreb- Machrek, vol 60, 1973.-P.et al.- Op. cité- P.126.
5 Cr. CARDONNE, P. et al.- Op. cité.- P.26.
6 Ibid.- P.P126-127
7 Ibid P127
8 Ibid P 128
9 Cf GUERRID, D..- L’entreprise industrielle en Algérie; les limites d’une acculturation.- in cultures d’entreprise, Oran, édition CRASC, Avril1987, p 118.
10 Cf SEMMOUD, B.- L’industrialisation de ghazaouet: étude de localisation industrielle, implication géographiques.- In cahiers géographiques de l’Ouest, n°2-3, 1979 P.P.271-274.
11 جمال غريد _ العامل الشائع: عناصر للإقتراب من الوجه الجديد للعامل الصناعي الجزائري- في مجلة "إنسانيات" العدد1، 1997- ص.ص.9-10
12 Caisse Algérienne d’aménagement du territoire, étude socio- économique des 8 programmes de la wilaya de Tlemcen, Alger, publication officielle, 1977.
13 إحصاء خاص بدائرة الغزوات.
14 MOULAI-HADJ, M..6living in two cultures: the Algerian factory worker between traditionalism and modernity.- (U.K), Leicester, Mphil Thesis, 1988.
15 Cf GUERID, D.- industrie et contrat de recherche avec la société nationale de sidérurgie.- 1982p.p 89-90
16 غريد جمال- المرجع السابق- ص.10
17 HUGUES , E.C.., Men and their work- the free Press, 1958, p.17.
18 MOULAY- HADJ, Mourad, Op. cité.
19 Cf, ROTHSTEIN, Frances,- the New proclamation: third word reality and first world categotits,- i, Comparative Studies in society and History , vol 28 (2), 1986.
20 هذه الدراسة تدخل في إطارمشؤوع بحث تحت عنوان " طرارة بين الحداثة والتقليد" مشروع مع مركز البحث في الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية (CRASC)
21 IHLELES, Alex et al.. – Eploring insivisual modernity.- New york, Colombia University Press, 1983
21 SAINSAUELIEU, R.- Sociologie de l’organisation et de l’entreorise.- Paris, Dalloz, 1987 p.206.