إنسانيات عدد 37 | 2007 | المعيش، التمثلات والمثاقفة | ص07-10| النص الكامل
يضم هذا العدد الجديد من المجلة، إحدى عشرة مقالة تتمفصل حول أربعة محاور تعالج في مجملها مسألة تتعلق بمنح المعنى للأحداث و الأماكن و الأفعال، إذ يقتضي كل ذلك تنظيما و تصنيفا و تمثلا حتى يكون الواقع أكثر معقولية و في متناول الفهم لدى الأفراد و الجماعات. و إذا قامت الثقافة بمختلف مكوناتها، بتوجيه أشكال تأويل الواقع و كيفيات الانسجام معه، فهذا لا يتضمن بتاتا غياب البعد الكوني.
يتشكل المحور الأول من ثلاثة نصوص تقدم بها مختصون في مجال علم النفس و الطب النفسي و علم الاجتماع: إذ تتطرق دليلة سامعي-حدادي لمسألة جد حساسة هي "داء العشق" أو مرض الشغف الغرامي، فتكشف عن الكيفية التي يعيش بها الطلبة و الطالبات، المترددين على مركز الإسعاف النفسي التابع لجامعة الجزائر العاصمة، تأثراتهم الجنسية و لماذا يجعلون من الدين مرجعيتهم عندما يشتد عليهم الضغط الغريزي و يعجزون عن كبحه. تكشف صاحبة المقال عن كونية النزعة النفسانية و تاريخها الجنساني، مع مراعاتها للأطر الدينية التي يستند إليها المرضى. و عليه، فإنها تحذر الأطباء من أخطار التحويل المضاد إذ أن احتقارهم و إغفالهم لعملية لجوء المريض إلى الديني قد يجعلهم يبتعدون عن جزء كبير من الحياة النفسية للمرضى. أما وريدة بلقاسم فإنها تسلط الضوء على مسألة صعبة، تلك المتعلقة بالاغتصاب و ما يتضمنه من عملية هدم سواء على المستوى البدني و النفسي، أو على مستوى الهوية الاجتماعية و الثقافية لدى الضحية؛ فالمرأة المغتصبة قد "لُوّثت" و دمرت. كما تندد بالتساهل القانوني الذي قد يؤدي إلى إهانة إضافية للضحايا. إذ ترى أن التكفل بالضحية لا بدَّ أن يكون شاملا و على جميع المستويات القانونية و العائلية و الاجتماعية و النفسية، ليكون ذا فاعلية و يسهم في مساعدة الضحية في إعادة بناء نفسها. يبرز النص الثالث المعروض من قبل منصف المحواشي، و من خلال تحليل للإحصائيات، التقلبات التي يعرفها الطلاق في تونس و يربطها بالتغيرات التي طرأت على تشريع قانون الأسرة، و علاقة كل ذلك مع التحولات الاجتماعية الكبرى التي عاشها البلد منذ حصوله على الاستقلال.
يتمفصل المحور الثاني حول إشكاليات تتعلق بالأدب، حيث نجد محمد لخضر-بركة ينظر بعين الناقد لعملية تنميط تعليم الأدب في الجامعات الجزائرية. إذ أن هذه المؤسسات لا تحتسب "أدبا" إلا تلك النصوص المكتوبة و باللغات الأكاديمية أيضا، كما تتغافل عن جزء كبير من الإنتاج الشفوي المعبر عنه باللهجات و اللغات المحلية، مع أن هذا الإنتاج يعلن عن حيوية المجتمع و يعبر عنها بشكل جيد، كما يبين عن الإمكانيات الإبداعية الخارجة عن الحلقات الأكاديمية. و ضمن هذا المجال تقوم دليلة بلقاسم بوصف للعالم المضطرب الذي تحتويه نصوص الرّوائية مليكة مقدّم، إذ تركز على مسألة الامتزاج التي تهيمن في كل رواياتها. فمن امتزاج الجسد إلى امتزاج اللغة و امتزاج الثقافة، تعبر هذه النصوص الروائية عن تلك التأثرات المتداخلة القائمة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، و التي تجعل من شخصياتها ثرية بأبعادها المتعددة.
أما المحور الثالث، فإنه يخص موضوع حيازة المجال، إذ يتم تناوله في دراستين، تحاول كل واحدة منهما فهم و إدراك الكيفية التي ينتظم بها الناس في المجال العمومي (المساحات الخضراء) أو الخاص (المجال العائلي) و إلى أشكال إعدادهم و تحويرهم في هذا المجال. تطرح عمّارة بكوش مسألة حيازة و امتلاك المساحات الخضراء من قبل المستعملين، و تبيّن أن هؤلاء لا يكتفون بما يضعه المهندس المعماري و /أو المختص في التهيئة العمرانية من تصورات. و من المفروض أن يحث هذا الأمر هؤلاء المختصين إلى مراعاة رغبات الجمهور من أجل دفعه إلى المشاركة و التعاون بفعالية للحفاظ على هذه المجالات، و من جهته يضيف سليمان بومدين أبعادا جديدة تكمل الانشغالات التي تراءت في الدراسة السابقة، إذ يكشف عن الطريقة التي تجعل المغاربي يحتل حرمة داره ماديا و رمزيا. إذ يحصر حدود المجال العائلي أو "الحرمة" من الناحية الفيزيقية و على مستوى التمثل الرمزي، بحكم أن هذا المجال ينتمي لعالم المقدس و المحرّم. و تجعل هذه التمثّلات - حسب المؤلف - المغاربي سريع التأثر و أكثر تدقيقا في مل ما يتعلق بحميميته، و هو أمر لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار من قبل المختصين.
و الجدير بالذكر أن علم الاجتماع السياسي لم يتخلف عن الركب، إذ وجد مكانة له في المحور الأخير، حيث يعتمد صوري بالدي النموذج السنغالي و يتساءل عن اقتباس القوانين و القواعد الغربية (هنا الانتخاب الديمقراطي) و تطبيقها في أفريقيا.
و هل يكفي هذا الاستيراد لتجسيد تلك القواعد؟ و هل يتعلق الأمر بامتلاك حقيقي لها أو أنه مجرد تقليد؟
الملاحظ أن هذا التحويل لا يتقيد في المجال التطبيقي بكل القواعد المستوردة، بل يتم تشويهها لكي تتكيف مع السياقات الأفريقية. كما تقوم كريمة آيت دحمان بتحليل أشكال "تصنيف و تنميط الغيرية" من خلال اطلاعها على نصوص ووثائق تعود إلى بداية الاستعمار.
و يرمي هذا التنميط الإثنولوجي للأشخاص و الأشياء و الوقائع الثقافية إلى إعداد و صياغة معرفة شاملة ستأخذ، حسب السياق الاجتماعي و السياسي (حرب، استعمار، الخ...)، دلالات لها علاقة كبيرة بالمحتلّين: و هكذا لا نجد هذه التنميطات المعروضة في هذا النص بمنأى عن البراءة بحكم توظيفها لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، إذ أنها تتجاوز الجانب الإدراكي و العقلي لتبرر التمييز و القمع. و تشكل محاربة الفقر بتونس موضوع للدراسة التي تقدم بها عبد اللالة بونوح، إذ يصف الكيفية التي حاول، من خلالها هذا البلد، مقاومة هذه الظاهرة بالسماح للنشاط التجاري الموازي في البداية، بحكم ما يلعبه هذا النشاط حسب المؤلف، من دور اجتماعي هام.
و يتم اللجوء إلى إنشاء المؤسسات الصغرى المدعمة من قبل المنظمات غير الحكومية، للحد من التبعية و الإتكالية التي تميز الفئات المحرومة، و للإسهام المحتمل في إثارة التغيير في الذهنيات و التأثير في شروط حياة هذه الفئات و في تقدم التنمية المحلية. و يسعى وجيه قهرية إلى تحليل من خلال متن معين، كيفية استعمال "البراكسيم التجنيسي للشباب" الذي يعوض الكلمات المحقّرة الموظفة في الخطاب السياسي الفرنسي (تجنبا للمشكل العويص المتمثل في الضواحي و المهاجرين، الخ...) و يشكل صياغة "لائقة سياسيا" لنعت الغريب، الآخر و المختلف!
و يمكن القول في الخلاصة أن هذه الدراسات تتطرق في مجملها بشكل مباشر أو غير مباشر إلى التحديد المبالغ فيه للوقائع و السلوكات البشرية، حيث أن كل فعل يمتلك دلالة و يستجيب لحاجة (راحة، أمن، تخفيف الضغوط، إلخ...)، مما يتطلب العناية، الإصغاء و احترام هذه الرغبات و الطموحات، و التمثلات من قبل الأطباء و أصحاب القرار و المختصين في عمران المدن و المهندسين المعماريين و مختلف الفاعلين في هذه الميادين المتنوعة.
و في النهاية نتساءل، هل يمكن أن نفرض على الآخر أشياء دون تجنب المجازفة بفقدانه أو بفقدان الذات؟
بدرة ميموني-معتصم
ترجمة محمد داود