إنسانيات عدد 35-36 | 2007 | قسنطينة. مدينة في تحول | ص11-17 | النص الكامل
يخصص هذا العدد الجديد من مجلة إنسانيات كليا لمدينة قسنطينة، كما ينخرط ضمن سلسلة الأعداد التي تتطرق لموضوع المدن الجزائرية، وقد تم تدشين هذه السلسلة بتخصيص عدد لمدينة وهران[1].
قد يبدو المشروع طموحا لكون صورة المدينة مثقلة بالأماكن المشتركة حيث يتصدر الحنين بيسر التحولات الأساسية التي تمس النسيج الحضري و أشكاله بشكل غير لائق، كما تغطي سلطة الذاكرة على هذه التحولات.
و هكذا نجد دوما، التناقض بين المدينة القديمة بأشكال تعايشاتها الاجتماعية المختلفة وبين المدينة الجديدة و الحديثة التي فككت المجال القديم بإدراجها، خارج مداخل المدينة، لآفاق الانفتاح على أشكال المعايشة المجالية الجديدة.
و قد أكدت دعوة المساهمة التي تم نشرها في موقع الأنترنت على هذه القضايا، كما تمسكنا من جانبنا في هذا الصدد، بضرورة إنهاء هذا التناقض الثنائي الزائف الموجود بين المدينة القديمة و المدينة الحديثة و الذي يتواصل من خلال إنتاج التمثلات حول مدينة قسنطينة، و ذلك بالابتعاد عن ذلك المخيال الذي ما انفك يستمر مغذيا تلك التمثلات، و في ذات الوقت يخفي في طياته الواقع التاريخي و مساره التطوري. و بطبيعة الحال، فالاختلاف، إن وجد، فهو بين شكلي المدينة، و ما يهم في هذا المضمار يكمن في تجاوزهما، و ذلك ببذل مجهود جدلي يتوصل إلى تحديد و معاينة هوية حضرية أو أكثر.
و يمكن تغيير أفق وجهة النظر الدراسية بمنح الدلالة لمختلف الأشكال الحضرية التي تخضع للدراسة من خلال ما يمكن أن يجعل منها كيانات تتميز و تختلف أقل بكثير مما تتحول فيه إلى موضوع للفحص من حيث التعقيدات التي تشترك فيها. و ستفرز هذه الطريقة في المعاينة أيضا، كيفيات جديدة من الوجود التي تطبع الأشكال الحضرية المندمجة في تعددية الفضاءات و الأزمنة، و تشكّل قطيعة مع العادات المكتسبة.
و عليه، يصبح من المستعجل المبادرة بتفكير معمق حول حصيلة المعارف التي توصلت إليها العلوم الاجتماعية. و لا يمكن أن يكون ذلك في صورة جرد موضوعاتي لمختلف الأبحاث، لكنه ضمن النظر إليها على أساس إسهاماتها في بناء و تأسيس المقاربات لمدينة قسنطينة، و بهذا تستطيع ربط الصلة مع التفكير النقدي الذي يشمل الأدوات والإجراءات المتبعة من قبل مختلف التحاليل.
و قد كانت لأجوبة المؤلفين، و هم من مختلف المشارب، الدور الحاسم في التوصل إلى إعداد هذا العدد من المجلة.
يتناول عدد من المقالات مقاربات ذات طابع سوسيو-تاريخي، تم فيها التطرق للمرحلة المعاصرة و منها على وجه الخصوص منعطف الثلاثينيات من القرن الماضي، فتتساءل بصفة مباشرة أو غير مباشرة عن بناء السياسي بمدينة قسنطينة، و عن أشكال التعايش الاجتماعي في ظل الأوضاع الكولونيالية.
و ضمن هذا التوجه، تلقي مساهمة جمال بولبيار التي تحمل عنوان»مدينة قسنطينة، الحدث الكولونيالي وطليعة الرياضيين المسلمين« نظرة متبحرة في العلم حول البدايات الأولى للرياضة، الذي بدأ الاهتمام به في مدينة قسنطينة مع نهاية القرن التاسع عشر، و هي نظرة جديدة كل الجدة و مسعفة جدا لمن يريد تناول هذا الموضوع.
و كما يتضح من هذه الدراسة، فإن كيفيات و شروط القيام بهذه الممارسات ليست بديهية في ظل الأوضاع الكولونيالية، بسبب أن أشكال التمييز العنصري القائمة في عالم السياسة يعاد إنتاجها في عالم الرياضة، مما يفسر، إلى حد ما، التطور البطيء لانتشار ممارسة النشاطات الرياضية في أوساط المسلمين في بداية الأمر. و لكن الاهتمام بهذه النشاطات يتزايد و يصبح جليا مع بداية القرن العشرين، بفضل الجمعيات الرياضية الأولى التي تم إنشاؤها آنذاك، و قد كشفت هذه المبادرة عن الصعوبات التي تعترض أصحابها في بناء هوية رياضية مسلمة في ظل الوضع الكولونيالي.
و من جهتها، تتساءل مليكة رحال عن كيفية »الترسيخ الحزبي بمدينة قسنطينة، الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري 1946-1947« و هو التشكيلة الحزبية التي أسسها فرحات عباس غداة مأساة 8 ماي 1945. و لم تكن عملية التأسيس سهلة بسبب التأثير الذي كانت تمارسه الحركة الجمعوية. و من الواضح أنه، لم يكن من السهل، على الممارسة الحزبية أن تتخلص من رفقة و صحبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. و قد استطاعت مليكة رحال، بالاعتماد على أرشيف المراقبة لنشاطات الحزب- و هي الوثائق الوحيدة التي تتوفر في هذا المجال- أن تتابع تطور هذه التشكيلة السياسية و ترصد الصعوبات التي واجهتها في بناء نموذجها الحزبي. و قد شكل تأسيس الحركة الشبانية للإتحاد منعطفا حاسما ترافق مع رغبة التجذير السياسي الذي وجدت تقاربا و تضافرا مع الغليان و الحماس الوطنيين المميزين لخمسينيات القرن الماضي، إلا أن هذا المسار قد توقف مع انطلاق العمل المسلح في الفاتح من نوفمبر 1954.
تتطرق ونّاسة صياري-طنقور إلى المرحلة نفسها و تجعلها تمتد إلى صيف 1962، من خلال دراستها لتجربة المجلس البلدي. و يتعلق الأمر بالضبط، باستعراض دلالة ممارسة المواطنة في ظل الوضع الكولونيالي، و بخاصة من خلال مزاولة مغشوشة لفعل التصويت. فعملية الاستشارة الانتخابية التي وقعت تحت طائلة التزوير، قد حادت و ابتعدت عن معناها ولهذا لا يمكنها أن تسهم في تعلم ممارسة المواطنة. إذا، كيف يمكن بناء المدينة جماعيا حين يكون المجلس البلدي مؤسسا على التمييز العنصري، و على حساب أغلبية السكان؟
كما نجد في هذا الملف ثلاثة نصوص تقوم بفحص التشكيلية الثقافية ذاتها، و يتعلق الأمر بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، و فضلا عن ذلك فهي ثلاث مقاربات تنبئ عن تجدد ذكي و أصيل للبحث التاريخي حول موضوع أسيئت دراسته بقوة.
و في البداية يشرع جيمس ماك دوغال، من خلال قراءة نقدية للنصوص، في تفكير مثير جدا حول الاستراتيجيات المعتمدة من قبل فاعلي تلك المرحلة – أي ابن باديس، الإدارة الكولونيالية و الدكتور محمد صالح بن جلول- غاية ذلك امتلاك فضائي المقدس و السلطة الرمزية بمدينة قسنطينة سنة 1936: المسجد و المقبرة. يحذر جيمس ماك دوقال من مخاطر تاريخ محدد بقوة، و يدعو إلى تحليل معمق لحدث، تكشف تطوراته غير المنتظرة لوحدها عن عمق الديناميكيات الاجتماعية الموظفة للفوز بالفضاء العمومي و امتلاك حق التعبير.
و من جهته، يقوم عبد المجيد مرداسي بالتوجه نحو دراسة إحدى المؤسسات الأكثر رمزية و المتمثلة في جمعية التربية و التعليم، و هي جمعية أسسها عبد الحميد ابن باديس في 28 أكتوبر 1930، وكانت تهدف إلى التربية و التعليم المهني للأطفال المسلمين. فالمثال الذي تم اختياره من قبل هذا الدارس هو دليل على ذلك التثاقف – المدرك في معناه الديناميكي- الذي يدشن مرحلة من التفاوض – المقاومة حيث يبرز قائد التجديد الثقافي ممثّلا في شخص ابن باديس. كان المشروع مجددا و يشهد على الاستعادة التاريخية التي اضطلعت بها و خاضت غمارها في المواجهة السياسية النخب الحضرية.
و أخيرا تدعو بوبة مجاني القارئ إلى إلقاء نظرة و بالضبط في مخطوطات مكتبة أحد الوجوه البارزة من الحركة الإصلاحية و يتعلق الأمر بالشيخ نعيم النعيمي. إذ سلمت هذه المخطوطات سنة 2004، من قبل ورثة الشيخ للجامعة الإسلامية الأمير عبد القادر بقسنطينة.
و يعطي تنوع المخطوطات الموجودة بهذه المكتبة لمحة شاملة عن العالم الثقافي لهذا العلامة المسلم الذي كان يقرأ ابن خلدون و لسان الدين بن الخطيب. و لكن الأهمية الوحيدة لهذه الدراسة لا تكمن في كونها تجدد الصلة مع المبادئ الأساسية لمهنة المؤرخ، أي النقد الداخلي والخارجي للنص، في حين نجد أن أغلب الدراسات المقدمة للقارئ دون أي تحليل معمق.
تواصل فاطمة الزهراء قشي من ناحيتها التقصي في مجال آخر يتمثل في الاهتمام بفئة اجتماعية خاصة، هي فئة العدول أو الشهود لدى القضاة الذين كانوا يضمنون سير العدالة بمدينة قسنطينة في النصف الأول من القرن التاسع عشر. يتضح من خلال هذه الدراسة أن هناك تغيير حقيقي في النظر إلى الأمور لأن الباحثة تضع في صميم التحليل الذي تقوم به صيرورة تكوين زمرة مهنية ترتبط أشد الارتباط بالانتماء الاجتماعي. و تتعرض هذه المهنة المتميزة، التي ظلت حكرا على بعض العائلات طوال المرحلة الأولى من القرن التاسع عشر كلها، إلى إعادة نظر جذرية بسبب التغييرات التي أدخلتها الإدارة الاستعمارية على المؤسسة القضائية، الأمر الذي جعل النخبة الحضرية في مجموعها مدعوة للتكيف مع متطلبات المرحلة الجديدة أو إلى الزوال.
أما الموضوع الثاني الذي يتطرق له الملف بالتفكير، فيتعلق بنظرة المختصين في علم التهيئة العمرانية للمدينة.
و في هذا الباب بالذات نجد بديعة بلعابد-صحراوي التي استغلت بشكل جيد هي كذلك مصدر أصلي- أي سجل المداولات التي قيدها المجلس البلدي - لمتابعة القرارات المتخذة في مجال السياسة العمرانية و التي كانت سببا في الإصلاحات الأولى التي عرفتها المدينة في القرن التاسع عشر، و بطبيعة الحال، فإن الخيارات المعتمدة آنذاك من قبل المجلس البلدي كانت تستجيب لمصالح الاستعمار. و قد تم اعتماد و تعبئة عدة كيفيات و إجراءات لأجل التعجيل في عمليات الاستملاك و إنتاج مبنى مطابق لمعايير المدينة الفرنسية، و تذرعت السلطات في ذلك بضرورة ضمان النظافة وحفظ الصحة العمومية.
كما وقع اختيار برنار باقان على موضوع آخر يدور حول المدينة القديمة و سكانها لأجل الكشف عن قرن من التدهور السوسيو-مجالي الذي أدّت إليه عدة عوامل، تأتي على رأسها السياسة الاستعمارية المتمثلة في التضييق المجالي و كذلك النمو الديموغرافي الذي ميز القرن العشرين و أيضا التحولات السوسيو-اقتصادية التي كانت سببا في نشأة حركة هجرة نحو المدن و قد عرفت هذه الظاهرة تسارعا كبيرا خلال حرب التحرير بخاصة. و لا أحد يمكنه أن يتجاهل النتائج الوخيمة التي تنجر عن تكاثر السكان في المجالات التقليدية، و بلا شك أن الموروث العمراني قد عانى من هذه الممارسات و من التهديم المتواصل الذي يمسّ مركز المدينة و من إهمال السلطات العامة التي لا تهتم بدلالة ثرائه الرمزي و التاريخي.
و الملاحظة التي يمكن تسجيلها على محتويات هذا الملف تتمثل في الغياب الكلي لعلم الجغرافية، إلا إذا استثنينا عرض مارك كوت حول أصالة المدينة بوصفها حاضرة كبرى تشع على منطقة واسعة.
كما نجد هدى جبّاس التي تتطرق لموضوع نسخ أسماء سكان مدينة قسنطينة بالاعتماد على سجلات الحالة المدنية و هو موضوع جديد كليا. و تكشف هذه الدراسة، التي تمتد على قرن كامل (1901-2001)، عن العنف الرمزي الذي أثر كثيرا على حقل تسمية الأعلام من خلال فرض معايير من قبل مصالح الحالة المدنية سنة 1883، و تواصلت عملية المسخ هذه و لم تتوقف حتى بعد حصول الجزائر على الاستقلال و بخاصة مع بداية تطبيق قرار تعريب الحالة المدنية. أشارت الباحثة و بدقة، من خلال إتيانها ببعض الأمثلة، إلى التحويرات المتعددة التي عرفها الاسم الواحد. و لهذا نجد أن الفرضيات التي طرحت لتفسير غياب التجانس بين الأسماء لا تفتقد إلى الصواب، لكنها تقتضي بحثا معمقا.
و أخيرا تتقدم زينب علي-بن علي بدراسة عنوانها» الولع بالمدينة، قسنطينة و الهناك المتعدد«، تسمح بمتابعة مراحل الكتابة الأدبية حول المدينة و أسلبتها، بالتعرض لثلاث تجارب أدبية لكل من كاتب ياسين و الطاهر وطار و سليم باشي، فانطلاقا من المدينة ذات الحصن المنيع إلى المدينة الفوضى، و من سيرتا، نجد المكان قد تم توظيفه و أصبح صورة أدبية قائمة بذاتها. أما نسيمة بوصلاح، فإنها تستدعي السجل الشفوي بمعالجتها السيميولوجية لأغنية من التراث الشعبي القسنطيني.
و رغم هذا الكم الهائل من الدراسات التي لا تختلف أهمية كل واحدة منها عن الأخرى، فلا يجب أن ننسى أن هذا العدد يفتقر إلى الأبحاث و التحقيقات الاجتماعية و النفسية، بخاصة و أن المدينة المعنية بالدراسة و التحليل تتفاقم بها كل يوم و بحدة مشكلات اجتماعية تطرح الكثير من الأسئلة حول الشباب، الطفولة المسعفة، النساء، البطالة، الحياة الصعبة و الجنوح.
إضافة إلى الأسئلة المرتبطة بالتراث المادي و اللامادي، خاصة ما يتعلق منها بالترتيب، المحافظة و الترميم إلخ... .
و نحن بصدد كتابة هذا التقديم، لم يكن في نيتنا سوى تسجيل بعض الملاحظات و الإشارة إلى بعض النقائص و بعض النقاط التي تمّ التطرق إليها بشكل إرادي أو غير إرادي، وبالتالي الإيحاء ببعض دروب البحث التي يمكن ارتيادها. و في المستقبل، من الأفضل أن ندمج في مشاريع البحث التي لا تهمل أهمية التراكم المعرفي في مختلف مجالات العلوم الاجتماعية كل ما جدّ من المقاربات المنهجية الأساسية في تجديد التفكير، ليس في مدينة الأمس فحسب، بل في مدينة اليوم و الغد.
خديجة عادل و وناسة سياري- طنقور
ترجمة محمد داود
الهوامش
[1] مجلة إنسانيات، وهران، مدينة من الجزائر، عدد مزدوج 23-24، جانفي- جوان 2004.