إنسانيات عدد 25-26 | 2004| الجزائر قبل و بعد 1954 | ص43-54 | النص الكامل
About the learned military translators corpus in the colonized Maghreb : the case of Algeria Abstract: Having played a major role during French colonial expeditions in Algeria in 1830, translation enabled the colonizer discover Algerian people’s anthropological peculiarities in view of dominating the latter. |
Abdelnasser DJABI : Institut de Sociologie, Alger, Algérie
Centre de Recherche en Economie Appliquée pour le Développement, Bouzareah, Algérie
مقدمــــــة.
الحركات الاجتماعية الاحتجاجية التي عرفتها الجزائر منذ الثمانينات والتي أخذت عدة أشكال (اقتصادية، سياسية دينية)[1] ومرت بعدة مراحل من التأطير والقوة، تشترك في عدة خصائص تميزها مثل دور الشباب الرئيسي فيها وتمركزها في المدن الكبرى وأحيائها الشعبية على وجه التحديد، كما هو الحال بالنسبة لضعف تنظيمها وجذريتها الكبيرة في نقد الأوضاع السائدة من خلال نظرة شمولية وحتى محتواها الأخلاقي القيمي في الـنـقد، دون نسيان دور القاعدة الأساسي داخلها على حساب "القيادات "، كما هو حال سرعة ظهورها وخمودها مما يجعلنا أمام حالة حركة اجتماعية "شبه خام ".[2].. الخ.
هذه الحركات الاجتماعية بكل خصائصها أو على الأقل أغلبيتها، هل يمكن تفسيرها، وهي التي تحولت الى المحرك السياسي الفعلي لجزائر الثمانينات والتسعينات _ولو جزئيا _ بالأسطورة التي كونتها هذه الأجيال الشابة التي كانت عمليا المحرك الفعلي داخل لهذه الحركات، من خلال قراءتها لما حصل في ذات صيف من 1962 بعد استقلال البلاد مباشرة، أي عندما كان سن الأغلبية من هؤلاء الشباب بعض الأشهر أو ربما لم يولدوا بعد. مع العلم أننا لا نتحدث هنا عن مفهوم الجيل البيولوجي الذي قد يختلف عن الجيل التاريخي الذي يتميز بنفس القراءة التاريخية ونفس التعامل مع الحدث من جراء معايشة نفس الأحداث التاريخية التي تميزه كجيل تعرض لنفس التنشئة الاجتماعية، كما جاء عند كارل منها يم [3].
فما هو محتوى هذه الأسطورة ؟ وكيف يمكن قبول هذه العلاقة التفسيرية بين هذه الأسطورة وبين الحركات الاجتماعية التي عرفتها الجزائر ثلاثين سنة بعد ذلك ؟ بالطبع وكـأي أسطورة تاريخية فإن مسألة تطابقها الكلي مع الواقع التاريخي ليس واردا الدفاع عنه هنا, في نفس الوقت الذي لايمكن الادعاء فيه أنها فاقدة لأي علاقة مع الحدث الواقعي، خاصة وإننا نتكلم عن أسطورة مرتبطة بأحداث تاريخية قريبة نسبيا، وصلت الى مسامع هذا الجيل عن طريق شهود لازالوا في الغالب الأعم على قيد الحياة، باعتبار أن الشاهد الأساسي هنا هو الأب وجيله الذي تحول الى أول الضحايا والمتهمين من قبل هذه القراءة الأسطورية التي يقوم بها المستمع الابن وجيله.
في البدء كانت الأسطورة
محتوى هذه الأسطورة له علاقة بما حصل من تحولات /ترقيات /استفادات، مادية ومعنوية رمزية سريعة وعميقة للكثير من الجزائريين الريفيين في الغالب والذين استفادوا منها بعد الاستقلال مباشرة بعد دخولهم الجماعي والسريع للمدن التي غادرها سكانها الأوروبيين قبيل الاستقلال (حوالي مليون ساكن أوروبي غادر الجزائر مباشرة بعد إمضاء اتفاقيات" إيفيان" ووقف إطلاق النار في مارس1962 بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وفرنسا في وضع تميز بعنف كبير لجأ إليه غلاة المعمرين من خلال منظمة-المنظمة العسكرية السرية - oas لعرقلة الاتفاقية). هذه الهجرة الكثيفة والسريعة التي منحت هذا الطابع الريفي شبه الدائم للمدن الجزائرية وعلى رأسها العاصمة التي تعرضت الى هجرة واسعة من قبل أبناء المناطق الريفية الفقيرة و الأكثر محافظة، كأبناء منطقة القبائل والهضاب العليا الوسطى والشرقية وحتى سكان جبال الشمال القسنطيني الذين عانوا من ويلات حرب التحرير.
استولى الكثير من المهاجرين الجدد الى المدن الكبرى على فيلات فاخرة في حين «تواضع " الأخر للاستيلاء على شقة أو أكثر في حي راقي، في حين أن البعض فضل الاستيلاء على الورشة وحتى المصنع الصغير الذي كان يشتغل فيه عاملا بسيطا بعد عملية شراء وتنازل شكلية من المالك الأوروبي الذي كان يشتغل عنده كأجير. تم تحويل الملكية الواسع والسريع هذا رغم التحذيرات الكثيرة التي واجهت بها السلطات الوطنية الجديدة هذه العمليات. في الوقت الذي أكتفي فيه البعض بمحل تجاري تواضعا منه وخوفا، اختار الآخرين أن تكون استفادتهم من نوع آخر، لأنهم فضلوا الاستفادة من خلال الحصول على مواقع اجتماعية داخل هذه"هياكل الدولة الشاغرة "ربما زيادة على الاستفادة العقارية، فتحول الشرطي البسيط الى محافظ شرطة، والعامل البسيط الى مدير[4] ...الخ وصولا الى المناصب العليا في مختلف القطاعات، وهي حالة بعض الفئات ذات التعليم البسيط الذي لا يتعدى في الغالب السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية.
بالطبع هذه التحولات السريعة كانت تتم تحت ضغط الأحداث التي يأتي على رأسها مغادرة المعمرين الجزائر في الظروف التي نعرفها، تاركين ورائهم فراغا رهيبا خاصة على مستوى فئات التأطير، كان منتظرا منه حسب إستراتيجية خلق الفراغ هذه التي لجأ إليها المعمرون الى تعطيل مشروع الاستقلال ذاته.
إن ما يهمنا في هذه الورقة ليس مناقشة هذه الأحداث كما حصلت فعلا أو تفسير أسبابها، أو نتائجها بقدر ما يهمنا مستوى آخر، يتعلق بالصورة التي التصقت في ذهن الأجيال التي عايشت هذه الفترة وكيف قامت بنقل هذه الأحداث و الصورة الى الأجيال الأصغر منها التي لم تعش مباشرة هذه الأحداث أو كانت صغيرة جدا وكيف وظفت هذه الصور من قبل هذه الأجيال الصغيرة على شكل أسطورة سياسية ثلاثين سنة بعد ذلك كانت لها نتائج عملية مباشرة على شكل مواقف وسلوكيات فردية وجماعية تميز جيل كامل في مجالات مختلفة سياسية واجتماعية وبل وحتى اقتصادية في علاقاته مع أجيال أخرى أكبر منه سنا، ومع مؤسسات مختلفة تأتي على رأسها الدولة الوطنية، مؤسساتها ورموزها، نفس الشيء الذي طال حتى الفكرة السياسية الوطنية والأجيال التي ارتبطت بها أو دافعت عنها، كالمجاهدين و أبناء الشهداء، ناهيك عن الفئات المثقفة_كالصحفيين والمثقفين بصفة عامة - التي بدت قريبة من الدولة الوطنية الفاقدة للشرعية من منظار هذه القراءة[5] .
الأسطورة، الابن والأخ
فالخلاصة التي خرجت بها هذه الأجيال الصغيرة في السن _وهي التي تكون أغلبية المجتمع -أن كل هذه التحولات التي عرفتها الجزائر بعد الاستقلال وأدت الى استفادة البعض دون الآخر، فاقدة لكل شرعية خاصة من وجهة نظر أبناء الطبقات الشعبية التي لم تستفد من هذه الانقلابات السريعة، مما جعلها في وضعية معارضة دائمة ليس للمؤسسات السياسية بنت تحالفات وميزان القوى الآني بل للأجيال, النخب والرموز اابتداء من الأب الذي يتهم بطريقة مباشرة في الغالب وشبه يومية تقريبا _أزمة السكن الخانقة للعائلة شاهد يومي على ذلك كفيلة بتذكيره أن هو حاول النسيان - -انه إنسان فاشل لم يعرف كيف يستفد من الأوضاع "الثورية" التي عاشها, فخا ف من المغامرة أو لم "يقفز[6]" بالقدر الكافي مما يجعله في موقف دوني إزاء أبنائه، قد يصل لدرجة حرمانه حتى من التدخل في شؤون العائلة واحتلال مكانته الفعلية والرمزية المعروفة في الأسرة التقليدية الجزائرية.
التعامل مع الأخت وإناث العائلة بصفة عامة كان المعركة الأولى التي خاضها الابن ضد الأب المتهم بعدم معرفته بالوسط الجديد الذي تعيش فيه العائلة، المدينة، التي هاجرت إليها العائلة ريفية الأصل. فالابن يصر على تجربة "قفازته" على أخته في صراعه مع الأب المتهم بأنه يجهل كل شيء عن المدينة ونوعية العلاقات السائدة فيها، فالأخت من هذه الزاوية تتحول الى أول معركة بين الابن والأب لخلق ميزان قوى جديد داخل الفضاء الخاص/ العائلة / قبل الخروج الى الفضاء العام من خلال الحركة الاجتماعية. ليكون تحجب البنت ومراقبة خروجها ودخولها أول معركة يكسبها الابن ضد هذا الأب "الفاشل" الذي لاحق له في استعمال سلطاته الأبوية داخل هذه المدينة التي فشل فيها في احتلال مواقع اجتماعية مهمة كما فعل الكثيرين من أفراد العائلة و أبناء القرية والجيران.
هذا الاتجاه والموقف من الأب الذي دعمه التيار السياسي _ الديني الجذري وأوصله الى مداه الأقصى من خلال إضفاء طابع ديني وقيمي عام عليه، لم يكن يملكه في البداية لأنه لم يكن يتجاوز المستوى الاقتصادي في الغالب في البداية _ تم التشكيك حتى في مدى وشكل تدينه وطقوسه الدينية المعروفة تقليديا[7] _ ليحتل الأخ المناضل السياسي المكانة الرمزية للأب خارج وداخل المنزل في علاقاته مع الإناث من أفراد العائلة تحديدا والأخوات على وجه الخصوص، مكانة احتلها الأخ بعد المطالعات الدينية الموجهة و السطحية التي تمكن من القيام بها ضمن هذا الجو الثقافي _الديني الذي عرفته الجزائر ابتداء من الثمانينات والمتميز أساسا ببداية ظهور شروخ قوية على المشروع الوطني الذي تبنته الجزائر في كل الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وبروز التيارات المحافظة وطنيا ودوليا.
قبل التشكيك وإعادة النظر الذي تعرضت له مكانة الأب وقبل دخول هذه المعارضة الى المنزل لتأخذ ذلك التوجه الأخلاقي السلوكي الموجه ضد المرأة في الغالب والذي يسلط على الأخت، خاصة إذا كانت متعلمة و تشتغل خارج المنزل, لابد من التذكير بالموقف من الدولة كمؤسسات وخطاب ورموز.
فقد عبر هذا الشاب من خلال عدة أشكال نقدية غلب عليها الطابع الفردي في البداية قبل التحول الى الجماعية والتي لم يكن المسجد هو مجال التعبير الأساسي لها في البداية بالضرورة، فقد مرت بالشارع والملعب وغيرها من الفضاءات الأخرى[8] في نفس الفترة الذي بدأت فيه علامات الإعياء على هذه الدولة الوطنية ومؤسساتها من جهة أداء مهامها الاقتصادية التوزيعية على وجه التحديد إزاء الفئات الأكثر هشاشة اقتصادية والتي تأتي على رأسها المدرسة التي بدأت في التوقف عن أداء أدوارها الاجتماعية المعروفة والتي قامت بها بقوة في العقدين الأولين من الاستقلال كوسيلة ترقية اجتماعية بالنسبة للكثير من الفئات الاجتماعية الشعبية التي لا تتوفر على قنوات ترقية اجتماعية بديلة أخرى، دون إهمال المؤسسة الاقتصادية العمومية التي كانت الدعامة الاقتصادية الأساسية للمشروع الاقتصادي الوطني والتي عرفت نفس التخبط في أداء مهامها التقليدية كمكان للتوزيع وفي نفس الفترة تحديدا.
في حين بدأت فيه الكثير من علامات الثراء والتمايز في البروز على فئات اجتماعية أخرى في بداية الثمانينات من جراء التحولات السياسية الجديدة في الجزائر التي حثت في خطابها السياسي الجديد على الاعتراف بالفروق الاجتماعية الاقتصادية بل والتعبير عنها بأشكال لم تخلوا من جانب افتزاري من وجهة نظر الثقافة السياسية الشعبوية السائدة حتى الآن والمعتمدة أساسا على فكرة التجانس والمساواة ورفض الفروق الاجتماعية_الاقتصادية.
القراءة السياسية التي قامت بها هذه الأجيال الشابة لهذه التحولات الاقتصادية الاجتماعية لم تكن بعيدة عما حصل ذات صيف من 1962 أو ما أسنتجته من قراءتها الأسطورية له على الأقل، ثلاثين سنة بعد ذلك, فكل هذه المواقع الاجتماعية, خاصة تلك الايجابية التي أحتلها البعض حسب هذه القراءة بعيدة عن كل شرعية لأنها تمت في جو يتسم بالمغالطة والسرعة ربما ومن دون الاتفاق حول مقاييس واضحة ومقبولة مما جعل البعض فقط يستفيد منها، من دون وجه حق وعلى حساب الآخر_الآنا فهي ترقيات /استفادات غير مقبولة بل وغير شرعية و بالتالي لابد من إعادة النظر فيها في أول فرصة، ويتم التعبير عن ذلك بعدة طرق وأشكال، أعطاها التيار الديني في نهاية الثمانينات شرعية وقدسية لم تكن تحلم بها، فتحول كل مرتبط بالدولة ومهما كانت درجة ارتباطه واستفادته "طاغوتا[9]" رأسه مطلوبة، موظفا كبيرا كان أو ممرض في مستشفى عمومي.
الأسطورة والحركات الاجتماعية
أسطورة الخطأ الأصلي هذه كانت المحرك الرئيسي للكثير من الممارسات السياسية الفردية والجماعية التي تزامنت مع بروز عدة خطابات سياسية _أخلاقية ذات منحى شعبوي واضح (كلنا "أولاد تسع أشهر"، كلنا لنا حق في هذه البلاد, ..الخ.) ساهمت في إعطاء شرعية كبيرة للكثير من الممارسات المطلبية ذات العلاقة بالمستوى الاقتصادي، لعلى أحسن تعبير عنها كان عمليات الاقتحام التي تعرضت لها الكثير من الأحياء السكنية الحديثة في بداية الثمانينات، وقبل توزيعها الرسمي، من قبل مواطنين يشكون من أزمة السكن، دون أن تستطيع السلطات في بداية الأمر من إعادة إخراجهم وكأننا أمام حالات تجسيد مكررة لأسطورة الانطلاق/ ميني 1962 / ولو بطريقة مصغرة، لدرجة أن هذه الحركات الاحتجاجية الكثيرة التي عرفتها المدينة الجزائرية خلال هذه العقود ساهمت في تشكيل وعي جيلي كانت هذه القراءة القاعدة الأساسية له وهذه الحركات الاحتجاجية مجال تجربته الأساسية وشهادة انتمائه السياسي المتسم بعدة صفات لعلى أهمها معاداته للدولة الوطنية, رموزها وسياساتها.
لم تكتفي هذه الحركات الاجتماعية الاحتجاجية بالجوانب المادية والاقتصادية فقط، بل كانت تهدف في الكثير من الأحيان الى المطالبة بإعادة النظر في المواقع الاجتماعية المحتلة في الظروف والشروط التي تكلمنا عنها وكل الرموز المرتبطة بها، بعد أن طورت فكرا معاديا للتمايز الاجتماعي بين الجزائريين _يصل في بعض الأحيان الى رفض التنافــس حتى في أشكاله البسيطة والعادية الموجودة والمطلوبة في كل مجتمع مهما كانت بساطته - الذين يفترض فيهم أنهم كانوا كلهم فقراء قبل الاستقلال وحتى أميين مما يجعل كل تمايز حصل بعد ذلك مرفوضا ومشكوكا فيه ولا يمكن تفسيره إلا بما حصل بعد الاستقلال وبطريقة غير شرعية[10].
فلا اعتراف أذن بهذه المواقع وما ارتبط بها من امتيازات فعلية أو متخيلة وهو ما يعبر عنه الجزائري في سلوكياته اليومية في الشارع ومكان العمل والدراسة والحياة اليومية بكل تفاصيلها، وقد يصل الأمر بالنسبة للحركات الاجتماعية شبه المنظمة ا الى المطالبة برحيل الآلاف من المسيرين لقطاع العمومي تحديدا كما قامت بذلك أجزاء من الحركة العمالية في بداية التسعينات[11]، نفس المصير تعرض له الكثير من ممثلي السلطة على المستوى المحلي المنتخبين منهم والمعينين (رؤساء البلديات و الدوائر وحتى الولاة ومختلف ممثلي السلطة السياسية المركزية) .
كل هذا، قبل أن يعطي التيار الديني بعد ذلك أبعادا وطنية واسعة، معمما هذه الممارسات مانحا إياها بعدا سياسيا_دينيا وأخلاقيا إضافيين، فهدد الإطارات المسيرة بالترحيل والنفي خارج البلاد وطلب من الجزائريين التفكير جديا في تغيير سلوكياتهم المتعلقة باللباس والأكل والكلام (لا ننسى المشكل اللغوي في الجزائر أين يتعامل الإطار المسير والنخب عموما باللغة الفرنسية حتى الآن) حتى تقترب أكثر من المقاييس الإسلامية ذات المحتوى الشعبي[12]، ليصل الوضع في نهاية الأمر الى الاغتيال الذي ركز فيه على كل أشكال الاختلاف والفئات المرتبطة بالدولة الذي نزع عنها التيار الديني كل شرعية _مشككا حتى في وطنيتها _من قبل محتوى ديني _سياسي غير متجانس دائما وبحجج مختلفة , فمرة بحجة أنها خانت ما أستشهد من أجله المجاهدون الذين تحولوا لاحقا الى هدف للاغتيالات بحجة دفاعهم عن الدولة أو لأنهم استفادوا كغيرهم من توزيع المغانم بعد 1962[13]، ومرات عديدة لأنها انطلقت انطلاقة خاطئة بتبنيها لقيم وشعارات غير إسلامية، كالاشتراكية وغيرها وفي الغالب، أو لأنها كانت مصدر كل الشرور التي عرفها المجتمع الجزائري "كالحقرة" والتمايز وتشجيع الفجور والسلوكيات الغير أخلاقية خاصة تلك المرتبطة بالمرأة والسلوكيات الفردية عموما ....الخ .
القراءة الأسطورية التي تبنتها هذه الحركات الاجتماعية في مختلف مراحلها وأشكالها، فرضت الرؤية الانقلابية المرتبطة بالعنف في الكثير من الأحيان (نحطم ونكسر كل شيء لنبني من جديد على أسس أخرى غير تلك التي كونت الانطلاقة في 1962)، من هنا نفهم الطابع المتسرع والغير ناضج لهذه الحركات الاجتماعية الاحتجاجية، كما نفهم نفور هذه الفئات الشابة المتبنية لهذه الرؤية الأسطورية من كل عمل منظم طويل المدى كالعمل الحزبي أو النقابي أو الجمعوي الذي أعطاه هذا الجيل بعدا دينيا أو نقابيا مطلبيا واضحا في حالة القبول به كإطار عمل، لأن الشائع لدى هذه الفئات هو الحذر من المرجعيات الفكرية التي تبنت مفهوم المجتمع المدني الذي استغلته على العكس وقبلت به الفئات البرجوازية الصغيرة الحضرية (المدينية)[14] في إطار التحولات التي يعرفها النظام السياسي الجزائري.
نفس الموقف اتخذته هذه الفئات الشابة من العمل النقابي في الوسط العمالي ضمن عالم الشغل مثلا، فزيادة على رفضها أصلا للمواقع الاجتماعية التي تحصلت عنها بعد الاستقلال _عمال _ مقابل المواقع التي تحصلت عليها فئات أخرى، فإن العمل النقابي[15] بما يفرضه من تنظيم وطول نفس وما يقتضيه من منطق التفاوض /القبول بالطرف الآخر وبالتالي التدرج في تحقيق المطالب بعيد كل البعد عن ما تقتضيه هذه القراءة الأسطورية للتحولات الاجتماعية _الاقتصادية التي كان المجتمع الجزائري مسرحا لها بعد الاستقلال.
وهو نفس الموقف الذي يمكن تعميمه على علاقة هذه الفئات الشابة من العمل الحزبي[16] المنظم طويل المدى، الاندماجي في نهاية التحليل و الذي ترفض القبول به، مقابل تفضيلها للفعل السياسي المباشر الذي استطاعت فرض منطقه في بعض الأحزاب السياسية الإسلامية دون الأخرى كالجبهة الإسلامية للإنقاذ _ التي نشطت خلال المدة القصيرة التي عملت فيها أكثر كحركة اجتماعية منها كحزب سياسي، فلم تعقد أي مؤتمر على سبيل المثال. تنظيميا وداخل هذا الحزب-الحركة، فرض هذا الجيل موازين قوى جديدة لتسيطر القاعدة على القمة ويسود منطق الفعل المباشر وتهمل الكثير من قواعد التنظيم المعروفة داخل كل الأحزاب السياسية.
لقد ركزت القراءة الأسطورية التي قام بها هؤلاء الشباب لتلك المرحلة التاريخية_صيف 1962 - ركزت على عامل انعدام المجهود لاستحقاق هذه الاستفادات المادية والرمزية التي قام بها البعض_ زيادة على العوامل الأخرى كعدم الشرعية والمغالطة_، مما يجعلهم في موقف المطالب بالاستفادة من نفس "الظرف"وتكراره عندما تحين الفرصة، فكان المطلوب من هذه الحركة الاجتماعية –الحزب أن يوفر شروط إنجاز هذه اللحظة التاريخية التي يصبح فيها كل شيء ممكنا.
أن هذه الملاحظة المرتبطة بالمستوى الأخلاقي لهذه القراءة التي قام بها هذه الجيل الشاب تجعلنا نقترح فكرة عامة في هذا المجال مفادها، أن هذا الجيل الشاب لا يقوم بعملية نقد أخلاقية للشروط التي تمت فيها الانطلاقة بعد 1962 وبالتالي للجيل الذي عايش هذه الأحداث لاقتراح "الأحسن" أخلاقيا، بقدر ما هو متذمر من عدم الاستفادة المادية كوسط اجتماعي من هذه التحولات التي تمت في غيابه كفرد ممثل لوسط اجتماعي، وهو المقتنع بأنه لو كان حاضرا_عكس الأب - لكانت استفادته مضمونة، فهو في الأصل قابل لقواعد اللعبة في حالة الاستفادة منها وبالتالي ليس له اعتراض أخلاقي مبدئي، مما يجعلنا نفهم ولو جزئيا توجه هذا الجيل للنشاطات الاقتصادية الغير رسمية لاحقا مع كل ما تقتضيه من ممارسات "لا أخلاقية" كالرشوة مثلا الذي كان أحد المتعاملين معها الرئيسيين وبنهم كبير في الحالتين تحت الإكراه _الذي يفرضه المنطق الاحتكاري والريعي الاقتصادي والسياسي الرسمي _ والقبول وهو ما جعله "كمتعامل اقتصادي " يتقرب من هذه الفئات المنتقد لها في الكثير من مواصفاتها[17].
كما نفهم أحسن التحولات السريعة في سلوكيات هذه الفئات الشابة ليس في المجال السياسي فقط بل حتى في الميادين اليومية و السلوكية (استهلاك الخمور، عدم مراعاة العبادات، أنماط الاستهلاك الأخرى كاللباس والسيارة ...الخ) خاصة بعد المأزق الذي وصلته الأوضاع السياسية والأمنية في الجزائر في نهاية التسعينات على وجه الخصوص. هذا الشاب الذي كان عشر سنوات فقط قبل ذلك (الثمانينات) موغل في سلفية فكرية وسلوكية حاول فرضها على الجميع وبالقوة في الكثير من الأحيان في الأوساط "الحضرية " التي يعيش فيها مركزا على خطاب قيمي _أخلاقي في انتقاده للأوضاع الاقتصادية الاجتماعية والسياسية من خلال نظرة شمولية تتميز بالكثير من المغالاة [18]، فقراءته لما حدث ذات صيف أكدت له أن التشبث بالأخلاق واحترام القانون، ليس من شروط النجاح الفردي الذي تحول الى هدف استراتيجي، بل بالعكس تماما فحفظ الدرس جيدا ولن ينساه لا في معاملاته الخاصة و لا العامة حتى لا يكون مصيره كمصير الأب الفاشل[19].
هل ستعود الأسطورة للعمل من جديد ؟
الأسئلة التي نختم بها هذه المحاولة هي، هل أن المأزق الذي وصلته الحركات الإسلامية ومن ورائها الأجيال الشابة التي قامت بهذه القراءة الأسطورية للتاريخ السياسي لجزائر ما بعد الاستقلال، هل كان فشلا ضروريا ونكاد نقول "إيجابيا" لتخليص هذه الفئات الشابة من هذه الرؤية والقراءة الأسطوريتين؟، نقول ذلك رغم الثمن الباهظ المدفوع من كل الجهات والأطراف وعلى مختلف الأصعدة ؟أم أننا في مرحلة تأسيس لأسطورة جديدة قد يكون بطلها الإيجابي في المستقبل القريب ولدى أجيال أخرى لم تولد بعد على اغلب تقدير، هذا الإرهابي -التائب الذي استفاد من العفو السياسي عن كل الأعمال المقترفة في حق الأبرياء بما فيها القتل والسبي وهتك الأعراض.
أسطورة أخرى لتكون الضحية دائما هي شرعية الدولة الوطنية، مؤسساتها ونخبها الحاكمة التي تقوم بإنجاز تحالفات سياسية مؤقتة وتحت ضغط الأحداث، في غياب الرؤية الاستراتيجية التي تجنب المجتمع والدولة التعرض لمثل هذه الامتحانات القاتلة و الناتجة عن القراءة السياسية التي فضلت التعامل فقط مع المستوى السياسي من ظاهرة معقدة مثل الإرهاب، ذات مستويات متشابكة كثيرة، في إهمال واضح للأبعاد الأخرى التي بينت التجربة التاريخية مدى أهميتها كالبعد الثقافي والرمزي على الخصوص، وهو نفس الخطأ حسب وجهة نظرنا الذي سقط فيه التيار الديني الجذري عشر سنوات قبل- الذي أستعمل هذه الحركات الاجتماعية "الخام " المعتمدة على قراءات أسطورية غير عقلانية لم يعمل التيار الديني السلفي في نهاية الأمر إلا على ركوبها والاستفادة من قوة حركتها الهائلة التي كادت أن توصله الى السلطة غير عابئ بأي عمل إصلاحي فكري بعيد المدىبين هذه القواعد الشابة التي قام بعملية تأطير سياسي لها دون الاهتمام بالأبعاد الأخرى الدينية والفكرية.... مما يجعل الكثير من الأسئلة تبقى مفتوحة ومن دون إجابات.
أسئلة مفتوحة فعلا خاصة إذا راعينا أن أجيال صغيرة في السن قد تعيد إنتاج نفس الفكر الأسطوري في التعامل مع الظاهرة السياسية في المستقبل في غياب العمل الحزبي، الجمعوي والنقابي المنظم، فما هي الضمانات في ألا ينظر شباب بداية الألفية الجديدة الى "النجاح " الذي حققه "الإرهابي التائب" عندما نزل من الجبل دون عقاب، ليجد في بعض الأحيان الكثير من الأموال والمدخرات في انتظاره. أموال جمعت في مرحلة من العمل الإرهابي عن طريق السطو على الأموال العمومية وحتى الخاصة فالأسطورة ليست في حاجة الى العدد الكبير المجسد لها، لكي يتم التشبث بها والانطلاق منها كقراءة سائدة، فبعض الحالات كافية لإعادة تشغيلها والرمي بها في وجه المجتمع.، فالأسطورة لا تهتم بالأعداد الكبيرة من الشباب الذين قتلوا أو سجنوا أو رمي بهم في السجون، فما يهمها كأسطورة للتحرك كواقع والقيام بعملها هو في بعض الأحيان الاستثناء والحالة وليس القاعدة.
عبد الناصر جـــابي*
الهوامش
* معهد علم الاجتماع، الجزائر /CREAD
[1] على سبيل المثال الحركات الاحتجاجية والمطلبية التي عرفتها الكثير من المدن الجزائرية كقسنطينة _1986 -سطيف وهران _1982 - الجزائر العاصمة كما يمكن إضافة الحركات المطلبية الأخرى وعلى رأسها ما حصل في أكتوبر 1988وبعد ذلك مع التيار الديني.
[2]تاريخ الجزائر الاجتماعي السياسي يزخر بالكثير من الحركات الاجتماعية _السياسية التي تتشابه في الكثير من الخصائص كطابع ضعف التنظيم و ضعف التأطير التنظيمي وظهور أشكال الاستعمال وعدم وضوح الأهداف بل وتضارب المقاصد بين المشاركين في المراحل المختلفة للحركة.....الخ فأحداث ماي 1945 و11 ديسمبر 1961 على سبيل المثال لا تخلو من بعض هذه الخصائص رغم محاولات" العقلنة "اللتان عرفتهما الحركتان بعد الاستقلال من قبل الخطاب الوطني _الرسمي.
[3] Karl Mannheim. Le Problème des générations-, Nathan Edition, Paris 1991
[4] انظر دراسة جابينف PENEFF JEAN. Les industriels algériens / ed CNRS. /Paris 1981 التي يبين فيها النسبة العالية للرأسماليين الخواص ذوي الأصول الشعبية والعمالية كما يمكن العودة الى أطروحة الدكتور اليابس الجيلالي حول نفس الموضوع (غير منشورة).
[5] الأهداف الرسمية العمومية حتى ذات الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية كأسواق الفلاح في الثمانينيات كانت هدفا مباشرا للكثير من الحركات الاحتجاجية ناهيك عن الأهداف السياسية كالمقرات والمباني ليصل الأمر في التسعينيات الى تعيين المجاهدين كهدف لحملات انتقلت بسرعة الى الاغتيال من قبل الإرهاب.
[6] "القفازة " أو الشطارة تأتي على رأس القيم التي تركز عليها العائلة الجزائرية في تربية أبنائها حتى وإن اقتربت هذه القيم في الواقع والممارسة اليومية كثيرا من السلوكيات الغير شرعية وكالسرقة التي تنتشر كثير في الجزائر حتى داخل أماكن العبادة بطريقة ملفتة للانتباه.
[7] وصل الأمر الى إعادة النظر في بعض طقوس الصلاة المتعارف عليها تقليديا في المذهب المالكي السائد في الجزائر, دون الحديث عن الممنوعات الأخرى كالاستماع الى الموسيقى أو التلفزيون - التي فرضها الأخ على كل أفراد العائلة بما فيهم الأب المسكين الذي وجد نفسه بين سندان الطرد التقليدي من المنزل _ لا يوجد فضاء مخصص للشيخ في المنزل الجزائري من جراء التقاليد المحافظة للعائلة الجزائرية مضافا أليها نتائج أزمة السكن -ومطرقة العنف الذي تعرفه الفضاءات المخصصة له كالمسجد والحديقة العمومية وحتى الشارع.
[8] انظر في هذا الصدد الأعمال المنشورة للسعيد شيخي في مجلة نقد رقم 6 لسنة 1994 حول خصائص الحركة الاجتماعية في الجزائر خلال هذه الفترة. كما يمكن العودة الى المؤلف الجماعي التالي حول الحركات الاجتماعية في الجزائر
Didier le saout et marguerite roll inde, émeutes et mouvements sociaux au Maghreb, ed khartala –ime paris 1999
[9] تحولت أغلبية الفئات الاجتماعية الأجيرة والمرتبطة بالدولة بطريقة أو أخرى _لا ننسى أننا لازلنا نعيش مرحلة اقتصادية الدولة هي رب العمل الأول والمستثمر الأول الخ...._الى طاغوت صدرت عدة فتاوى تحلل ذبحه وهو ما يفسر ضخامة الضحايا البشرية وتنوعها الاجتماعي.
[10] في الكثير من الأحيان يمتد هذا التشكيك الى فترة ما قبل الاستقلال كذلك, خاصة بالنسبة للترقية المرتبطة بالتعليم (نحن كنا نحارب في حين كانوا هم يدرسون )
[11] انظر كتابنا الذي خصصناه للحركة العمالية, عبد الناصر جابي. الجزائر تتحرك دار الحكمة، الجزائر 1994
[12] كان ذلك واضحا أثناء الحملة الانتخابية التي قادتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بمناسبة انتخابات 1991 التشريعية الملغاة.
[13] ربطت القراءة الأسطورية هذه في غطائها الديني على نوع من الإستفادان التي ضخمتها بالطبع يكون المجاهدون قد استفادوا منها: تراخيص لتسيير الحانات التي غادرها مالكيها من الاوروبين
[14] أنظر دراستنا حول المجتمع المدني في الجزائر والصادرة عن دار توبقال المغرب 1998 الدار البيضاء، ضمن كتاب جماعي تحت عنوان وعي المجتمع بذاته تحت إشراف الدكتور عبدا لله حمودي .
[15] الكثير من الملاحظات السوسيولوجية تؤكد ذلك النفور الذي تقابل به القعدة العمالية الشابة العمل النقابي الرسمي منه على وجه الخصوص _الاتحاد العام للعمال الجزائريينن _
[16] للتأكد من ذلك يكفي القيام بالمقارنة بين معدل سن المشاركين في المظاهرات الحزبية والمظاهرات بنت الحركات الاجتماعية الاحتجاجية والأشكال الاحتجاجية الأخرى.
[17] الملاحظ للحياة الليلية في الجزائر التي نشطت بقوة في السنوات الأخيرة يلاحظ من دون صعوبة الصداقات الكثير ة بل التداخل بين هذه الفئات و"النخب " السياسية والاقتصادية الرسمية المتواجدة في مؤسسات وأجهزة الدولة.
[18] رفض "الحقرة " كان من القيم الأساسية لهذا الجيل في بداية الثمانينات.
[19] الشاب الناجح في الميدان الاقتصادي الحر والغير رسمي لم يبخل على عائلته في الغالب وقد يصل ذلك في الكثير من الأحيان الى المساعدة على حل أزمة السكن التي تعيشها العائلة وهي الأزمة- العقدة وراء هذه القراءة الأسطورية لدى هذا الجيل الذي ساهم في فرض موازين جديدة داخل الأسرة الجزائرية في المواقع والرموز المرتبطة بها.