إنسانيات عدد 54| 2011 | تيزي وزو و منطقة القبائل: تحولات اجتماعية و ثقافية | ص 07-11 | النص الكامل
Mohamed Brahim SALHI: Université Mouloud Mammeri de Tizi Ouzou, 15000, Tizi Ouzou, Algérie
Centre de recherche en anthropologie sociale et culturelle, 31000, Oran, Algérie.
تناول هذا العدد من مجلة إنسانيات ملفا يتعلّق بمدينة جزائرية متوسطة أنجزت حولها العديد من الأعمال الجامعية المغمورة بشكل كبير. تعاين جملة المقالات المنشورة المنطقة المباشرة الخاصة بهذه المدينة و المتمثلة في منطقة القبائل عموما، كما تتناول جوانب تحيل إلى مسألة التنظيم الاجتماعي، التحديث و الإنتاج الرمزي لمدينة تيزي وزو و ضواحيها.
لقد عاشت تيزي وزو مصيرا غير متوقع إذا ما انطلقنا من تاريخها و توسعها العمراني و الديمغرافي الذي يعود الفضل فيه بشكل أساسي إلى موجة تحديث قوية جاءت من القمة و تم التكفل بها في سنوات السبعينات تحديدا من خلال سياسة المخططات الخاصة للتنمية التي تم تدشينها ابتداء من سنة 1968. إذا ما أمعنا النظر في بطاقة بريدية لسنوات الخمسينات و الستينات خاصة بهذه المدينة التي أصبحت اليوم "عاصمة منطقة القبائل" فلا يمكننا إلا الجزم بأنَ الحظ غير المتوقع لسنوات التدخل الشامل للدولة قلب أقدار هذه البلدة الاستعمارية المتواضعة. بديهيا لا تملك مدينة تيزي وزو إلا تاريخا مجردا بشكل نسبي، خاصة إذا ما قارناها بمدينة بجاية أو تلمسان أو حتى منافستها القديمة على الساحل القبائلي في الغرب و المتمثلة في دَلَّس. تتوفر هذه الأخيرة على الكثير من الميزات مقارنة بتيزي وزو، جراء ارتباطها في مجرى التاريخ بالعديد من الحضارات (من بينها الرومانية و التركية) و بالأخص امتلاكها لإمكانيات اقتصادية هامة (أنشطة منائية ثرية، سهول داخلية خصبة خاصة بزراعة الكروم في سنوات 1890). لقد ركز الاستعمار الفرنسي القيادة العسكرية لمنطقة القبائل في هذه المدينة (مقاطعة دلس) و ذلك إلى غاية 1871.و قد كان سقوط هذه الأخيرة بالخصوص لافتا للنظر و حتميا بداية من القرن التاسع عشر، و لم يتم تكذيبه إلى غاية اليوم.
يبدو أن جملة البرامج المنجزة خلال سنوات السبعينات، الصورة الشاحبة المرتبطة بخاصيتها الساحلية، الثانوية التقنية للدولة التي كانت تشد الانتباه، لم تكن أسبابا كافية لخلق دينامية[1] يمكن مقارنتها بدينامية تيزي وزو أو حتى بعض المدن الجبلية الصغيرة الأخرى مثل عين الحمام أو عزازقا. و يبقى سهل دلَّس بالتأكيد الأقل تضررا من موجة العمران بعكس واد سبو باتجاه الشرق خاصة. لقد زاد بحث الإسلاميين عن مراكز قوة منذ سنوات 1989/1988 من حدّة صورة الإحساس بالضيق إن لم نقل بالانغلاق على الذات إذا ما كان بالإمكان عبور هذا السهل.
بالمقابل، عززت هذه المنافسة من موقع مدينة تيزي وزو بوصفها منغلاقا يوجد في قلب وادي سبو، و هذا بعد مقاومة 1871. لقد عوضت هذه البلدة الاستعمارية التأخير، و بدأت منذ الثلث الأول من القرن العشرين تفرض مكانتها بين المناطق المجاورة لها. فقد انتقلت من بلدة متواضعة إلى مدينة متوسطة حاليا، بفضل الارتكاز على الاستثمارات الهامة في المخطط الخاص لسنة 1968 و المخططات اللاحقة. هكذا، تدين سمعة المدينة بالكثير إلى تحولاَت سنوات الثمانينيات، و إلى مكانتها المركزية في الاحتجاجات الهوياتية و السياسية. فقد مثلث مدينة تيزي وزو فضاء خصبا لأحداث شهر أفريل 1980. تبعت أعمال الشغب تلك باحتلال قوات الأمن لأماكن الاحتجاج (الجامعة، المستشفى، مؤسسات اقتصادية .....) و قد شارك فيها، بالإضافة إلى سكان المدينة، القرويون في الفترة الممتدة من 20 إلى 24 أفريل 1980 حيث ألحقوا بها أضرارا معتبرة.
لقد كانت حدّة المجابهات في الوسط الحضري في تلك الفترة تتناقض مع المجابهات الأقل حدّة في الوسط الريفي و في القرى الجبلية الصغيرة. بالإضافة إلى هذا، بدأت النواة المنظمة للاحتجاجات في مدينة تيزي وزو و بحكم موقعها، في اتصال مع الهيئات القروية المنظمة التي ظهرت في الواجهة من جديد بعد فترة طويلة من الغياب. إن الربط بين الاحتجاجات الحضرية و القرى يتم من خلال الطلبة العاملين المضطرين إلى القيام بعملية الذهاب و الإياب يوميا. أصبحت مدينة تيزي وزو التي كانت طيلة الفترة الاستعمارية فضاء عبور و ذات مشروعية أقل إثباتا بالنسبة للمناطق المجاورة له، تنعت من جديد بفضاء التعبير السياسي. ومما لا شك فيه هو أن المدينة حملت على عاتقها و لفترة طويلة صورة ساحة تحكّم سياسي – إداري للمناطق المجاورة لها، أضف إلى ذلك أنها تبقى نسبيا مجهولة عند قبائل الجبال الذين يعبرونها أو يترددون عليها في مناسبات ما لأسباب اقتصادية أو إدارية.
تمّت عملية إعادة وصف المدينة كعاصمة جهوية بشكل جدّ بطيء في سنوات التسعينات، إذ يبدو أن العملية الميكرو- عمرانية للجبال، مع ظهور المدن الدينامية الصغيرة، بما في ذلك على المستوى التجاري، رفضت هذه الهيمنة و أنقصت من حدَتها أو أعادت تجنيد التدفقات حول هذه المراكز الحضرية الصغيرة. مع هذا، فمن الصعب فهم التقاطع الموجود بين هذه المدينة و ضواحيها الجبلية، بالأخص نحو الشرق، دون الأخذ بعين الاعتبار جامعة تيزي وزو التي فتحت أبوابها في سنوات 1977/1978. تبين أحداث 1980 بشكل واضح الروابط التي تشكلت انطلاقا من هذا المركز الجامعي الناشئ الذي أصبح أكثر فأكثر في سنوات الثمانينيات مركز استقطاب للاحتجاجات مما جعل للمدينة دورا مركزيا في منطقتها. فمن الممكن الخروج بمؤشرات لصالح أحداث شهري أفريل و ماي 2001، تبيّن أن الوزن الرمزي للجامعة في تراجع. و إذا كانت تيزي وزو لا تزال تمثَل الفضاء الوسيط بين المركزي و المحلي، فإن الضواحي الجبلية الداخلية أصبحت تنافسها في ذلك بشكل واضح. إن الثقل النسبي للجان أحياء المدينة و لجان الجامعة لا يقاس مع الدور الأساسي الذي لعبته الجامعة و المدينة سنة 1980 كفضاء أساسي للتعبير و الاحتجاج في نفس الفترة.
لقد قامت مدينة بجاية بإعادة إنتاج إجراءات قريبة من الإجراءات التي أقدمت عليها مدينة تيزي وزو سنة 1980، بما أن تنسيق القرى كانت تنظمه لجنة الجامعة. في حين فشل الربط في تيزي وزو بين الجامعة و القرى على المستوى التنظيمي[2]. هكذا، سبق التجنيد الطلابي المنظم في 20 ماي 2001 تعبئة لجان القرى المنظم في اليوم التالي، حيث انضم الطلبة إلى المسيرة الاحتجاجية بشكل فردي بعد ذلك. تشهد هذه الوضعية، في رأينا، على انقلاب لمنطقة القبائل نحو الداخل و الذي لا يمثل فقط انقلابا على الصعيد الرمزي و لكن أيضا على الصعيد الاقتصادي و الاجتماعي مع سنوات 1990.
يعيد مقال سعيد دومان ،من خلال هذا العدد، كتابة تاريخ "هضبة" (تيزي تعني هضبة ووزو تعني زهرة الوزال) و مسيرة تعميرها. إنه يبيّن كيف أن هذه الهضبة التي كانت مأوى لبرج تركي ثم بلدة استعمارية ستتمخض بعد 1962 عن ميلاد مدينة ترتكز ديناميتها على كم هائل من الاستثمارات الصناعية و الخدمات. من جهة أخرى، يشير الكاتب أيضا إلى أن تيزي وزو، قد احتكرت نوعا ما معظم الموارد الموجهة لمنطقة القبائل. كما يوضّح نقطة هامة أخرى تتمثل في أن الجامعة بالرغم من انشطارها إلى عدة أقطاب إلا أنها تمخّضت عن دينامية ثقافية و سياسية إثر أحداث 1980 بالخصوص.
أما مقالات كل من محمد سعيد لقابي و نادية جلال، و محمد لعايش و مولود سعدودي و ذهبية عكاش-معاشة، فيحاول كل مقال منها تحليل مكانة مدينة صعدت للواجهة في العشريات التي تلت 1980. يحاول المقال الأول أن يستثمر الفضاء الشعائري لعمران سنوات السبعينات أو ما يعرف بـ "المنطقة السكنية الحضرية الجنوبية الجديدة" أو المدينة الجديدة. مع الإشارة إلى المشاكل المطروحة بسبب التوسعات الفوضوية لهذه المنطقة العمرانية الجديدة. كما يتعرض إلى طرق التملك للإشارة في الوقت ذاته إلى التحولات الطارئة في العلاقة مع الفضاء و الديمومات النابعة عن إعادة تأهيل "المخططات التقليدية" التي تبني السلوكيات السكنية.
يوضح المقال الثاني القضية المركزية المتمثلة في التوسع الهائل للمدينة في سياق أكثر تأثرا بنفاذ العقار الحضري. فالمدينة حسب المؤلفين "تغرق في أقل جدول مائي" مع ميول نحو الشرق و الغرب أي اتجاه مسار الطريق الوطني رقم 12. أدى النمو الديمغرافي الكبير و مكانة مدينة تيزي وزو كقطب جهوي إلى تدفق غزير في حركات الذهاب و الإياب لسكان المناطق المجاورة و لكن أيضا من خلال حالات التنقل داخل المدينة. فإشكالية الحركيات تلك و الوسائل اللازمة لها هي ما يعاينها مقال ذهبية عكاشة معاش.
لنغادر مدينة تيزي وزو و نتجه صوب ضواحيها القريبة أي قبائل جرجرة. فالتحديث يوجد في قلب مقالي كل من عبد النور ولد فلّة و حميد شاوش. يعالج المقال الأول من خلال حالة قرية في منطقة جرجرة مسألة إعادة تشكيل مجالس القرية مع اختراق جيل من الشباب ذوي تعليم عالي للفضاء العمومي القروي و هو ما سيؤدي إلى تحديث التاجمعت (التنظيم الجماعاتي المحلي). فالتسونامي الذي أدت إليه أحداث 2001 في المنطقة تسبب في إضعاف سلطة لجان القرى التي يعاد تشكيلها من خلال التحرر، على سبيل المثال، من النزاهة السياسية و الضغوطات المنجرّة عنها. بعيدا عن غنى المادة، فإن مقال ولد فلة هو مقال هام بوصفه مثالا عن تمرين إثنوغرافي في ميدان ضروري لترسبات بإمكانها أن تغذي فيما بعد المقارنات ثم النتائج الأكثر عمومية على مستوى منطقة مثل منطقة القبائل. أما حميد شاوش و بنفس المقاربة المنهجية فيقوم بدراسة لوضعية التمدرس على مستوى قرية قبائلية أخرى هي (عطوش) في الفترة الممتدة بين سنتي 1958 و 1999. و إذا كانت الأبعاد الحالية غير واضحة، فإن الكاتب يكشف لنا عن آثار عامل هام في التحديث و هو التعليم في منطقة قبائلية جبلية.
انطلاقا من وجهة النظر هذه، إذا كان التعليم هو أحد أهم ثمرات الجزائر المستقلة، فإن المردود المدرسي يبدو غير كاف، لكن دون الإنكار بأن هذه المدرسة أي مدرسة عطوش قد أنتجت تأطيرا داخليا جدّ مهمَ.
لقد تمّ التطرق في الشقين الأولين من هذا الملف إلى عملية التحديث، التي لا تقصي الثوابت على المستوى الرمزي الثقافي و الديني. الثبات لا يعني الجمود، إذ تشير فتيحة ثابتي-قويدري، كيف أنّ الأغنية القبائلية قد عبّرت في عزَ رقيَّها في سنوات التسعينيات عن إثبات للذات الهوياتية و الذاكرة المحلية حيث تدعَّمت بهما في سياق السجلاّت الصعبة للحداثة. من جهته، يذكرنا ناصر أيت مولود بوزن طقوس العبور في التنشئة و يعالج تحديدا طقس الإدماج من خلال التردد على السوق. وفي الأخير، يحلل محمد براهيم صالحي وزن الهوياتي و صيغته في صناعة التمثَلات الدينية في حالة منطقة القبائل.
سنقرأ، من جهة أخرى باهتمام، إسهام مصطفى حداب الذي يقوم بقراءة لمسار و ملامح شخصية مناضل و إصلاحي لم يكن "شخصية بارزة" و لكنّه كان يحمل بعد الخمسينيات و الستينيات قناعات صارمة ورثها عن الفترات المؤسسة للإصلاح الجزائري و هو الشيخ محمد صالح رمضان.
أما فيما يخص حسن النصيري، و في مقاربة حول المحلي، يعالج في مقاله مسألة العقار و التوازنات السوسيو-إقتصادية لضاحية تونسية اشتهرت في السنتين الأخيرتين و هي مدينة سيدي بوزيد.
لم يتطرق هذا العدد، بطبيعة الحال، إلى كل المسائل المتعلقة بتاريخ و سوسيولوجيا مدينة تيزي وزو و منطقة القبائل، فهذا أمر يلزمه أكثر من الفضاء الذي يخصّصه له هذا العدد، و لكنه يفتح آفاقا للبحث و يعطي مؤشرات مفيدة لكتابات و إصدارات أخرى قادمة.
محمد براهيم صالحي
المترجم: صورية مولوجي-قروجي
الهوامش
[1] تمتلك دلّس، بعكس المدن الساحلية التي تجاورها في الشرق (تيجزيرت و أزفون) نشاطاً للصيد البحري، مع استخلاف للمهنة يعاد إنتاجه بشكل محكم.
[2] لم تتمخض مبادرة الجامعة في الجمع بين لجان القرى و لجنة المتابعة للجامعة في 8 ماي 2001 عن خلق هيئة تنسيق مختلطة.