تمهيد
إن الفضاء المدرسي ما زال يطرح كثيرا من الأسئلة سواء بالنسبة للمجتمعات المتقدمة أو غيرها، فصيرورة التعلم تكشف باستمرار عن الوسائل و التقنيات الجديدة التي لا بد من استعمالها، كما أنها تكشف عن المناهج التي عليها أن تتلاءم مع التغيرات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية... التي تعرفها المجتمعات، مما يجعل السؤال المتعلق بفائدة المدرسة و ملمح التلميذ المتخرج منها محل نقاش مستمر، و هذا ما لمسناه في كثير من المؤلفات التي تتطرق إلى موضوع المدرسة، و طرائق التدريس. و قد لفتت انتباهنا ثلاثة كتب حاولنا أن نقرأ كل واحد منها على حدة، لنستخلص في الأخير الانشغال العام الذي يجمعهم، و الذي نعتقد أنه مطروح بحدّة في مناهجنا و مؤسساتنا التعليمية والتربوية.
الكتاب الأول
PERRENOUD, Philippe, La fabrication de l’excellence scolaire, Genève, Paris, Librairie DROZ, 2ème édition complétée 1995, Collation 346 pages; 15 cm
يتطرق الباحث فليب برينو[1] في مؤلفه إلى سوسيولوجيا التطور الاجتماعي و إلى الطرائق و المعايير التي من خلالها تصنع المدرسة الابتدائية تراتبيات الامتياز، و بالخصوص تلك التي تقرر الإخفاق و النجاح المدرسي. و بالنسبة للمنهج المستخدم في الدراسة فإن الباحث يرتكز على الملاحظات العديدة و المباشرة، و أيضا على المقابلات التي أجراها مع المعلمين، و بالتالي فإن طريقة البحث لا تراهن على أية نتيجة مبهرة. و الكتاب يتألف من عشرة فصول هي:
1- الامتياز المدرسي واقع مبني: حاول الباحث في البداية تمييز صنع تراتبيات الامتياز عن أصل التفاوتات الواقعية للرأسمال المدرسي، و حاول بعد ذلك عرض تداخل هذا البحث مع الأبحاث الجديدة.
2- تراتبية الامتياز و لا مساواة الرأسمال الثقافي: يعرّف الباحث و يحدد بطريقة واضحة المفاهيم الخاصة بالامتياز والمعيار و التطابق و المهارة و الرأسمال الثقافي و اللامساواة و التراتبية. كما يعرض بعضا من العناصر السوسيولوجية للامتياز من غير التركيز على المدرسة، من أجل البرهنة على أن صنع تراتبيات الامتياز ليست خاصة بالفضاء المدرسي وحده.
3- الامتياز في المدرسة:في هذا المبحث يحاول الباحث أن يبرهن على خصوصيات الامتياز المدرسي الذي أدخل إلى المدرسة في القرن الماضي. و إن كان الباحث لا يدعي وصف أصول الأنظمة المدرسية، فإنه يحاول ربط تحليل الامتياز المدرسي بأفقه التاريخي.
4- صورة الامتياز المدرسي في المسار النظامي: هذا الفصل هو عبارة عن عرض للمسار النظامي في التعليم الابتدائي، غايته استخلاص جوهر الامتياز المدرسي، كما هو موجود في الحالة الظاهرة أو الخفية في القوانين والخطط الدراسية و المناهج و وسائل التدريس.
5- التقييم النظامي للامتياز المدرسي: يحلل فيه المؤلف التقييم النظامي انطلاقا من النصوص المشرعة له، كما يصف الممارسات الأكثر انتشارا و المرتبطة بالتقييم و التنقيط، و بتنظيم الامتحانات و مقاييس التصحيح، و تشكيل الأحكام التركيبية المتحكمة في النجاح أو الرسوب.
6- التطور و التقدم في المسار الدراسي: يظهر فيه اهتمام الباحث بوظائف التقييم النظامي، و خاصة عندما يحدد التقدم في المسار الدراسي، مما يتيح له فرصة أكثر للإحاطة بالعلاقات الموجودة بين التقييم و التقسيم العمودي للعمل البيداغوجي. فالتلاميذ ينتقلون من معلم لآخر عندما يتقدمون من درجة لأخرى. حيث أن تركيبة المسارCurriculum في البرامج السنوية تلعب دورا حاسما في صنع الامتياز المدرسي. و وظيفة التقييم المقارن تتمثل في التحكم في لا مساواة الوتيرات و قدرات التعلم و إخفاء بعض تناقضات النظام.
7- عندما يصبح الامتياز هو المعيار الحقيقي: في هذا الفصل يتطرق الباحث إلى العمل المدرسي، معتبرا أن نشاط المتمدرس بمثابة عمل، و بأن المدرسة إجبارية، و بالتالي فإن الامتياز مرهون بالإرادة الحسنة للتلاميذ و برغبتهم أو حبهم للتعلم و العمل، أكثر مما يتعلق الأمر برأسمالهم الثقافي، ما يدفع إلى مناقشة القسمة التقليدية بين تقييم السلوكات الخاصة بالالتزام بالقواعد الداخلية للمدرسة و تقييم المهارات العقلية و الفكرية المحضة.
8- المسار الحقيقي و العمل المدرسي: يعمق تحليل العمل المدرسي و المسار الحقيقي الظاهر أو الخفي، مما يؤدي إلى وصف الامتياز المدرسي كتدريب على التتلمذ أو كاستبطان لثقافة داخلية للتنظيم و للقسم.
9- من التقييم الحدسي إلى التقييم النظامي: يتساءل فيه المؤلف عن مكونات الامتياز المدرسي، للإجابة على هذا التساؤل يحاول بيرينو أن يصل إلى إدراك و فهم التقييم غير النظامي بوصفه تركيبة دائمة للممارسة البيداغوجية، و طريقة للتحكم في عمل التلاميذ، حيث يصير صنع تراتبيات الامتياز مجرد منتج مشتق، و لكنه يحضر للتقييم النظامي. و باعتبار أن الفصل قد بين نسبية الاختلاف بين التقييم النظامي و غير النظامي رغم اختلافاتها الوظيفية، يتوجه الباحث بعد ذلك إلى جرد للموارد المستخدمة في الامتياز المدرسي، بما في ذلك الرأسمال الثقافي وصولا إلى المركبات الأخرى كالإرادة الحسنة واستراتيجيات التلميذ وإلى الذكاء العملي، و أخيرا "الإمثتالية الاجتماعية".
و أخيرا الاستنتاج: و قد وضع له الباحث عنوان "من اللامساواة الواقعية إلى صنع الامتياز" حدد فيه هدفه المتمثل في عدم رغبته في الدفاع عن أطروحة وحيدة حول التقييم، و لكن بالأحرى البرهنة على ميكانيزمات وعرض التنوع بدل وحدة الممارسات، و غموض وظائف التقييم أكثر من إسهامه الواضح في الانتقاء أو في إعادة إنتاج اللامساواة أو التفاوتات الاجتماعية، أو على العكس إسهامه في عقلنة الفعل البيداغوجي.
و يتبين من كل ذلك أن بيرينو من الباحثين المنتقدين لهاجس البحث عن "الامتياز"، إذ يرى أنه لا يمكن أن يكون في متناول جميع البشر، بل يقتصر ذلك على فئة قليلة من الأفراد، كالشخصيات الأسطورية و الأنبياء... "فالامتياز لا يوجد إلا بشرط ألا يكون في متناول الجميع". إن السعي إلى بلوغ هذا الهدف يعبر في الحقيقة عن انفصال أهداف التدريس عن الغايات العملية، فكل ما يريده المدرس في هذه الحالة هو أن يكون المتعلم ممتازا من خلال التحكم في نشاطات تعليمية محددة، كما كان الأمر سائدا في التعليم الإجباري، حيث أن "التعلم يستجيب ناذرا لحاجيات وظيفية، ما عدا تلك المتعلقة بالنجاح في الدراسة... لأننا لا نتعلم تحت دافع الضرورة العملية، من أجل الوصول إلى هدف ملموس، أو حل مشكل حقيقي، أو الخروج من وضعية صعبة. العمل المدرسي هو مسار طويل نحو تحكم بعيد، و الذي يجب أن يكون محركه الأساسي في فكر المعلم هو الرغبة في الامتياز، و المغذي بصور مغرية لممارسة متحكم فيها". و يؤكد المؤلف مرة أخرى على هذا الانفصال قائلا أن: "شكل التمدرس يستلزم كذلك تعريفا لثقافة مرتكزة على معارف، وعلى مهارات Savoir-faire منفصلة جزئيا عن التطبيقات، التي من المفروض أن تمهد لها، بتعريف لثقافة هي أقل اندماجا في نمط معين للحياة، و هي أكثر فأكثر عبارة عن رأسمال ضروري من أجل الشروع لاحقا في نوع من الممارسات العقلية أو المهنية".
إن مشكلة تقييم الامتياز مطروحة بحدّة في الكتاب، فالمدارس تتلقى بطريقة تدريجية وسائل و إجراءات التقييم. و إذا كان التقييم النظامي لا يخلق تفاوتات خلال مدة التعلم الأولى، أي تلك التي تترسخ في الأشهر الأولى من التمدرس، والسابقة للتقييم الأول، إلا أن دور التقييم النظامي بعد ذلك يصير غامضا، لأنه من جهة يكبح نشاط بعض الأطفال، ويجعلهم سجناء داخل هوية "التلاميذ السيئين"، و من جهة أخرى فإنه يسمح للمعلمين بأن يعوا الفروقات في حدود وسائلهم، و بالتالي التدخل من أجل منع تدهور و زيادة هذه الفروقات. و إذا تم تأكيد الامتياز، أو عدم تأكيده في مرحلة التمدرس الابتدائية، فإن ذلك سيؤثر على توجيه المتمدرس، و بالتالي على الشهادات و الوظائف المتحصل عليها لاحقا. و البحث عن الامتياز يظهر من خلال التقييم المستمر للتلاميذ، و قد تم إصدار نصوص تشريعية تحدد طرق التقييم ومنها مثلا: ما ورد في التشريع المدرسي الخاص بالتعليم الابتدائي في جنيف و من أهمها:"النص رقم 122 الذي يتضمن:
إن المعلم يسلم عبر مراحل منتظمة لتلاميذ المدرسة الابتدائية كراس مراسلة، الذي يقدم من خلاله للآباء الملاحظات الضرورية عن سلوكات، و تطبيقات و عمل أطفالهم.
يجب على المعلم أن يكتب ملاحظاته بالشكل الذي يسمح بإعلام الأولياء، و تشجيع الأطفال. أما النص رقم 123 فإنه يحث الآباء في بداية السنة الدراسية، على تسجيل توقيعاتهم التي تدل على أنهم أحاطوا علما بالإجراءات القانونية و التنظيمية الواردة في الكراس. و المقصود من وراء هذا هو متابعة و مراقبة التلاميذ من قبل الأولياء و المعلم معا. و للمدرسة استراتيجية خاصة في توجيه التلاميذ نحو الفوز و عليهم فقط إعادة صياغة معايير النجاح و معايير الامتياز بما يتلاءم مع قدراتهم و رغباتهم لما للامتياز من أهمية في النهوض بالمجتمعات.
الكتاب الثاني
الدليل المنهجي للتعليم ما قبل مدرسي، من إنجاز مجموعات البحث في النشاط ما قبل مدرسي CRAPS، ترجمة حمومي حميدا، إصدار الديوان الوطني للمطبوعات المدرسية (الجزائر) ONPS 1996، 134 صفحة
أنجز هذا الكتاب من طرف مجموعة كبيرة من الباحثاث و الباحثين[2]، و هو مقدم باللغتين الفرنسية و العربية.
إن تأليف الدليل المنهجي الموجه للأطفال من سن أربعة سنوات إلى سن ستة سنوات كان نتاجا عن تزايد نسبة التمدرس، و الفتح المتزايد لفضاءات التعليم "القبمدرسي" في الجزائر كنتيجة لدمقرطة التعليم، و لدخول المرأة عالم الشغل، و تماشيا مع هذا الإقبال المتزايد على هذه الفضاءات كان لا بد من التفكير في انجاز دليل منهجي ينظم و يمنهج العملية التربوية و التعليمية داخل هذه الفضاءات، و خاصة و أن بعض المربين ما زالوا يصرون على تقديم الدروس (في التعليم ما قبل مدرسي) في شكل أسئلة/أجوبة، علما أن هذه الطريقة تقتل في الطفل كل مبادرة. و في المقابل فإن الاعتماد على طريقة "المشروع" تهدف إلى تحقيق ثلاثة مرامي أساسية هي:
تحويل العلاقة بين الطفل و المربية بتوسيع مجال مشاركة الطفل ليصبح فاعلا و منتجا لمعارفه.
تقديم المعارف في نسق تكاملي يزول معها تشابهها الظاهري.
فتح المدرسة على الحياة و على المحيط السوسيو-ثقافي للطفل.
لقد كانت مؤسسات ما قبل مدرسي تحاكي في السابق إما أساليب العائلة في التربية بالاعتماد على الأمر و النهي، أو أساليب المدرسة الابتدائية في التعليم بالاعتماد على الحفظ و التكرار. إنها مؤسسات قائمة على الانضباط وسيلة و هدفا، فقد ورد في "الدليل المنهجي" مخطط توضيحي يعبر عن العلاقة التي كانت تحكم "المربية" بالطفل، فالمربية تلقن وتسير، و الواسطة بينها و بين الطفل قائمة على الانضباط، أما الطفل فهو ينفذ و يعيد الإنتاج. و من الأخطار التي تنجم عن هذه العلاقة أن الطفل يلجأ إلى "الزنقة" ليأخذ مبادرات فردية و يمارس استقلاليته، لأنه في المدرسة مجرد منفذ، بمعنى أنه في هذه المرحلة بحاجة لأن يعبر عن ذاته من خلال اللعب و الصراخ و الشجار... و إذا لم يجد ذلك في المؤسسات التربوية فإنه يلجأ إلى الشارع. استدعى هذا الوضع المأساوي تفكيرا في طريقة منهجية يجب على المربيات أن يتبعنها للتكفل بالأطفال بطريقة سليمة، دون أن يؤثر ذلك سلبيا على المسار التعليمي اللاحق، و لا على البيئة التي يعيش فيها هؤلاء الأطفال.
إن الكتاب على العموم مكون من قسمين رئيسين، أحدهما يتمحور حول معطيات نظرية و الآخر حول معطيات تطبيقية من أجل مساعدة المربي/المربية على تصور نشاطه و انجازه ثم تقييمه:
القسم الأول متعلق بمعرفة طفل مرحلة "ما قبل مدرسي"، حيث يحوي ثلاثة مباحث هي:
الخصائص النفسية
و يدرس كلا من النمو الحركي و العقلي و الاجتماعي و الوجداني. و قد ورد في "الدليل" أن من خصائص الطفل السيكولوجية و السوسيولوجية هي "الحركة" التي لا تعبر عن التشويش أو الفوضى في السلوك، ولكنها تعكس الحاجة إلى التعبير و استنفاد الطاقة و إظهار الكفاءات و إبراز الاستقلالية و اكتشاف الوسط و الالتقاء بالآخر و التعرف عليه. و فيما يتعلق بالذكاء، فالدليل يستند على نظرية جون بياجيه، إذ أنه ابتداء من الشهر 18 يبدأ الطفل في تكوين "الوظيفة الرمزية" التي لا بد من تنميتها بواسطة ابتكار الحكايات و الألعاب التنكرية و ألعاب الأدوار و رسم الشخوص المفضلة و محاكاة الكبار. و يختلف هذا الذكاء عن ما هو موجود لدى الأطفال الذين يتجاوز سنهم الخمس سنوات و يمكن قياسه بواسطة مجموعة من الأسئلة كما كان يفعل بيني (Binet) الذي كان يعتبر أن الذكاء شيء عام ( "حزمة" من الصعوبات). و من أجل تقييمه يكفي أن نطرح على الشخص أسئلة مختلفة متصاعدة الصعوبة، و من يجيب على الأسئلة الأكثر صعوبة هو الأكثر ذكاء من ذلك الذي لا يجيب إلا على الأسئلة السهلة. و لكن الأسئلة وحدها لا يمكن أن تكون وسيلة حاسمة لتقييم ذكاء طفل لم يتجاوز الخمس سنوات، لأن رصيده اللغوي لا يؤهله لفهمها، و عوضا عن الأسئلة تصير النشاطات التربوية المتنوعة كالرسم و الموسيقى واللعب و التمثيل المسرحي... وسائل لتطوير الذكاء و تنميته لا لتقيمه.
ثم يتطرق الدليل لميزة أخرى للطفل هي "الأنوية" التي من خلالها يرد الطفل كل شيء إلى أناه، و "الدليل المنهجي" يقترح بعض النشاطات التي تنمي هذه الميزة التي بفضلها تتحقق استقلالية الأطفال، بواسطة لعب أدوار أو التضامن ضمن المجموعة و احترام القاعدة المسطرة من طرف المربية، هذا بالإضافة إلى اللعب بالتناوب.
و فيما يخص النمو الجنسي و النفسي، فإن "الدليل" لا يتغاضى عن مدى فضول و حاجة الأطفال في سن 5 إلى 6 سنوات إلى معرفة الفروقات الجنسية الموجودة بينهم، فمن خلال اللعب يتم التعرف على جسم الآخر و لمسه، كلعبة الطبيب و المريض، و الأب و الأم... و هذا الفضول مهم من أجل النمو المتوازن لشخصية الأطفال.
و قد تمحورت خلاصة هذا المبحث في التأكيد على أن الطفل إنسان له مشاعره و إمكانياته و حدوده، و هو يأتي للمدرسة بخصائصه الجسدية و السيكولوجية و الاجتماعية. و من أجل تنمية هذه الخصائص لا بد أن تكون المدرسة وسطا منسجما و آمنا، و مستجيبا للحاجيات المتنوعة للطفل الذي يحتاج للتقدير و الاحترام.
الخصائص الاجتماعية الثقافية و الاجتماعية اللغوية
حيث يتطرق الدليل إلى الاتجاهات الكبرى في تربية طفل "قبل المدرسي"، ثم يستعرض المحيط السوسيو-ثقافي و مسألة تعلم اللغة العربية. إن اللغة تظهر في سن الثالثة عندما يبدأ الطفل في تركيب الجمل، بعد اكتسابه للأسس اللغوية كاستعمال الضمائر. و يقترح الدليل بعض الأنشطة لتنمية اللغة منها القراءة و الكتابة و التعبير الشفهي و الحكي. و الملاحظ هنا أن الطفل في هذه المرحلة يظل في المستوى الشفهي، أما المستوى الكتابي، فتأخذه المربية على عاتقها، فهي التي تكتب على الصبورة، و كي لا يبقى الطفل مجرد منفعل يقوم بمساعدتها بأن يملي عليها ما يجب أن تكتبه.
و يبين "الدليل" أن هناك عدم توافق بين رغبة الأولياء، و المناهج التربوية الحديثة المستعملة في ما قبل مدرسي لأن المربيات غالبا ما يشتكين من تصرف بعض العائلات حيال بعض الأنشطة كالرمل و الماء و وسائل التلوين التي تعتبرها العائلات مضيعة للوقت، فالأولياء يستعجلون بداية تعلم أبنائهم القراءة و الكتابة، فهم لا يدركون الاختلاف الموجود بين التمدرس المسبق و التمدرس الإجباري. في حين أن اللعب ما بين أربعة إلى ستة سنوات وسيلة تعليمية، تسمح من جهة بإحداث النمو النفسي و الجسمي، و تحقيق الأهداف الاجتماعية كالتعاون والمنافسة...ومن جهة أخرى تكوين المعارف الضرورية.
و الخلاصة الأساسية المتضمنة في المبحث أن الطفل كائن يعرف ويصبو إلى زيادة معارفه، لذا على المربية أن تعمل على إثراء قاموسه اللغوي، و تشجعه على التعبير الشفهي، و لا تلومه على أخطاء النطق أو الكتابة كي لا تعقده.
استراتيجيات التعلم و التقييم
و يركز هذا المبحث على استراتيجيات التواصل، و استراتيجيات تكوين المفاهيم وأخيرا استراتيجيات التقييم. و يصل إلى أن قبل المدرسي يتعهد بالتعلمات الأساسية. و التقييم خطة مدمجة في عملية التعلم، و هو يمكن من الوقوف على عوائق التعلم لتجنبها.
أما القسم الثاني فيتعلق بطريقة المشروع و يضم نماذج تطبيقية، و هو مقسم إلى ثلاث مباحث هي:
الأهداف التربوية و البيداغوجيا بواسطة المشاريع
و قد تم اعتبار أن الأهداف الأساسية للتربية "قبل المدرسية" تكمن في تحضير الطفل للدراسة بمنحه وسائل تنمي قدراته في المجال المعرفي كالإبداع و حل المسائل، و في المجال الحسي الحركي كالتموضع في المكان، و في المجال الوجداني الاجتماعي مثل العمل مع الغير. و ذلك كله يتحقق بواسطة المشروع الذي هو خطة و برنامج. و قد تم اختيار هذا المنهج البيداغوجي لأنه يمكن إدماج معارف بفضل اكتساب المتعلم "كفاءات عرضية" تسهل عليه هي الأخرى تنمية استراتيجيات التعلم، كما أنه يسمح باكتساب الممارسات الاستهلالية في مجالي المحيط و المواد الدراسية.
نماذج لبعض المشاريع
و منها بالخصوص مشروع الورق و مشروع السوق و مشروع البستنة و مشروع الخزف. إن البيداغوجيا بواسطة المشاريع تتيح ترجمة الأهداف البيداغوجية القبمدرسية ترجمة عملية. فما دام تجسيد مشروع ما يمر بتحويل فكرة ما أو هدف معين إلى وضع منجز، فإنه جد مهم أن تكون المشاريع المنتقاة واقعية حتى تكون النشاطات الناجمة عنها قابلة للإنجاز. و كل مشروع يهدف إلى تحقيق نتائج ملموسة، قابلة للتقييم في كل مرحلة من إنجازه.
التنظيم الزمكاني للقسم
و فيه تأكيد على ضرورة تنظيم القسم بملاحظة الحجرة و حصر المزايا والمساوئ والإمكانيات التي توفرها. أما تنظيم الوقت فهو يراعي في الفترة الصباحية الاستقبال، ثم إقامة الورشات بتداول الأفواج ثم فترة الاستراحة، و من العاشرة إلى وقت الخروج تقام الورشات بتداول الأفواج و مع اقتراب وقت الخروج يدعى الأطفال إلى ترتيب الأدوات و الإنشاد و أخيرا الخروج. و يكون تسيير الوقت لما بعد الظهيرة مختلفا نوعا ما عن الفترة الصباحية.
الكتاب الثالث
Le préscolaire en Algérie. Etat des lieux et perspectives, sous la direction de Nouria Benghabrit-Remaoun, Oran, Editions du CRASC, 2005, 270 pages.
يصعب علينا في الحقيقة أن نفصل بين الكتاب الثاني و الثالث، لأنهما وليدا نفس المؤسسة و نتيجة تفاعل مجموعات البحث و تداخلها، كما أن كليهما يختص بدراسة الفضاءات التربوية التي تسبق التمدرس الإجباري في الجزائر، فليس من الغريب أن يحيل الكتاب الثالث على الكتاب الثاني.
لقد ورد في المقدمة العامة للكتاب أن باحثي المركز الوطني للأبحاث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية و الثقافية في مجال ما قبل مدرسي منقادون بهدفين، فمن جهة عليهم إنتاج معرفة حول الطفولة و حول التكفل البيداغوجي بها، و من جهة أخرى تحليل نظام التنشئة الاجتماعية للطفولة في ما قبل مدرسي في الجزائر.
أما فيما يخص المنهج الذي يكفل تحقيق هذين الهدفين، فإن الكتاب يسعى إلى عرض نتائج الأبحاث المختلفة التي توصل إليها المركز، و الاعتماد على الأبحاث الكيفية التي كانت على أساس المقابلات و الملاحظات الموجهة إلى المربين والأهل و القسم. و يضاف إلى هذه الجهود نتائج الأبحاث الكمية الخاصة بـ "التحقيق الوطني حول ما قبل مدرسي" الذي طالبت به وزارة التربية الوطنية، و الممول من طرف منظمة اليونيسيف (United Nations Children's Fund) سنة 2003، فانطلاقا من هذه المعطيات يتم عرض الوضعية الحقيقية لمختلف مؤسسات ما قبل مدرسي.
و الكتاب عبارة عن عمل جماعي، شارك فيه عدد من الباحثاث أمثال: نورية بن غبريط-رمعون، عائشة بن عمّار، خديجة قدّار، بدرة معتصم-ميموني، زوبيدة سنوسي، شريفة غطاس. و يتكون الكتاب من قسمين رئيسيين:
القسم الأول بعنوان: من تعدد العرض المؤسساتي إلى اللامساواة في التكفل التربوي بالطفولة.
يحتوي هذا القسم على ستة محاور هي:
ما قبل مدرسي في الجزائر
تاريخ و توجهات للباحثة نورية بن غبريط-رمعون
طرق سير ما قبل مدرسي للباحثة عائشة بن عمّار
البرامج و الطرائق البيداغوجية للباحثة خديجة قدار
المؤطرون الإداريون و البيداغوجيون للباحثة بدرة معتصم-ميموني
عائلة الطفل الموضوع في ما قبل مدرسي و التحولات الاجتماعية للباحثة زوبيدة سنوسي
ما قبل مدرسي في المغرب العربي
ما هي الآفاق؟ خلاصة جماعية: يتضح من القسم الأول أن المؤسسات الخاصة بـ "ما قبل مدرسي" في الجزائر إرث استعماري. و بعد الاستقلال ولأسباب عملية، ومن أجل وضع كل الهياكل القاعدية في خدمة التمدرس الإجباري، و بقرار وزاري مؤرخ في 23/09/1965 تم تحويل الهياكل و الطاقات المخصصة لما قبل مدرسي، لصالح المدرسة بوصفها إطارا رسميا ووحيدا للتربية و التعليم. ثم كان هذا الإجراء من أجل استرداد الهياكل البيداغوجية الخاصة بدور الحضانة و غيرها، ليتمكن كل التلاميذ البالغين سن السادسة من الالتحاق بالمدرسة الابتدائية. يبين هذا الإجراء أن ما قبل مدرسي لم يؤخذ في هذه الفترة مأخذ الجد، فالاستغناء عنه يدل على اعتباره عملية ثانوية و هامشية لا تأثير لها على المسار العام للدراسة. و لم يتم إعادة التفكير في "ما قبل مدرسي" إلا في سنتي 1974 و 1975، حيث دفع الاسترجاع التدريجي للأماكن التربوية بوزارة التربية الوطنية خلال سنة 1974-1975 إلى أن تأخذ على عاتقها التنظيم البيداغوجي والتحكم في ما قبل مدرسي الخاص بالقطاع العام أو الخاص، و ذلك من أجل توحيد المناهج التربوية، و ربما لتحقيق مبدأ "تكافؤ الفرص".
و لقد نبع التفكير في برامج ما قبل مدرسي من واقع، أن الهياكل الخاصة بما قبل مدرسي كانت تعتمد على مناهج ذات مرجعيات إيديولوجية متباينة، مما استدعى التفكير في إيجاد الدليل المنهجي الخاص بالمرحلة السابقة للتمدرس الإلزامي، خاصة في مرحلة تفشى فيها العنف الذي لا سبيل إلى تجاوزه أو الحد منه إلا بإعادة تنظيم فضاء التمدرس. والتفكير في فضاء التعلم هو تفكير في السياق الذي تتم فيه "العملية التربوية".
إن الكتاب يبين أن من وراء البحث عن دليل منهجي لهذا النمط من التعليم يكمن هدف استراتيجي يتمثل في توحيد المناهج في ظل تعددية مؤسساتية[3] تحتضن كل منها الطفل بطريقتها الخاصة، فعلى سبيل المثال لا الحصر تختلف الأهداف بين دور الحضانة و بين رياض الأطفال، فبينما تهدف الأولى إلى التحضير للتعليم الابتدائي، فإن الثانية تخصص فضاء واسعا للعب.
و يقوم "الدليل" المخصص لتوجيه طرق التعليم في مرحلة ما قبل مدرسي على مبدأ أساسي، مفاده أن الطفل ليس مجرد متلقي و منفعل أمام معلم يعرف، و هذا خلافا لما كان سائدا من قبل، أي إلى غاية سنة 1980. فلم يعد منذاك الأمر منحصرا في تعليم الطفل معارف تسمح له لاحقا بتخطي كل الامتحانات المدرسية، و لكن هناك اليوم توجه يعطي الأولوية لمقاربة تفاعلية Interactive، مما يعني العمل على جعل الطفل شريكا و فاعلا في النشاط التعليمي. و قد ورد في الكتاب أن هذا الدليل يتصور البيداغوجيا بواسطة المشاريع... فالطفل لم يعد – كما كان يعتقد - سلبيا و ساكنا أمام معلم يعرف. و يعود الفضل في ذلك لـ: بلوم Bloom الذي أعاد التفكير في الفضاء التربوي آخذا بعين الاعتبار العلاقة الموجودة بين استعدادات المتعلم و المسار التعلمي العام. و النتيجة هي أن كل من المكتسبات المتحصل عليها من خارج المدرسة أو من داخلها تؤخذ بعين الاعتبار و تستغل بطريقة ذكية مساره الدراسي، دون إهمال للمركبات التعليمية التي تضعها الهيئات المعنية.
و الواقع أن ما قبل مدرسي يعرف اليوم تطورا كبيرا في الجزائر، و قد بدأ الاهتمام بهذا القطاع منذ سنة 1992، غاية تحسين النتائج و التقليل من التسرب المدرسي لأخطاره المتعددة، حيث أن الديمقراطية اليوم تتلخص في تحسين النتائج المدرسية، و الحد من الإخفاقات و الإقصاءات، التي يكون ضحيتها عدد أكبر من التلاميذ، و ما قبل مدرسي يمكنه أن يساهم في ذلك.
و إذا كان الآباء لا يقبلون ببعض المناهج التربوية المعمول بها في ما قبل مدرسي[4]، إلا أنهم لا يمانعون من إدماج أطفالهم بها، و يظهر هذا في التحقيقات الميدانية حول علاقة العائلة بما قبل مدرسي، و التي أجريت في وهران، بين سنتي 1996 إلى 2000، و كان من أهم نتائجها ما يلي:
تطور ملحوظ ليس فقط لتمثلات الآباء للأطفال، و لكن أيضا للآمال حول ما قبل مدرسي.
اعتبار أن التسجيل في ما قبل مدرسي هو وسيلة لتحقيق مشروع العائلة، فالآباء يأملون في تحقيق من خلال أطفالهم نوعا معينا من الحياة المثالية، مما يعكس الطموح إلى قيادتهم إلى أبعد حد ممكن في دراستهم، منذ هذه المرحلة.
أهمية ما قبل مدرسي في مساعدة الأطفال للتكيف مع الحياة المدرسية.
الدور الرائد للتحضيري في تأقلم الطفل مع المدرسة، و في تكوين فكره.
و يبقى التعليم ما قبل مدرسي بأشكاله المختلفة (ما عدا المدارس القرآنية) غير متجذر في المجتمع الجزائري مقارنة مع مجتمعات أخرى، لأن العائلات لا تدرك فوائده المختلفة، و تبقى نظرتها إليه مقتصرة على الجانب البراغماتي بالنسبة للمرأة العاملة، أو على الجانب التعليمي المحض رغبة في الوصول إلى جعل الطفل ممتازا ومتفوقا على بقية رفقائه.
و تظهر أهمية الفصل السادس من المؤلف بوصفه عملا جماعيا من خلال المقارنة التي يجريها بين الجزائر و المغرب وتونس متتبعا طبيعة المؤسسات المحتضنة للطفولة قبل تمدرسها الإجباري، ففي تونس يتم التركيز على المؤسسات الخاصة، وفي المغرب تبين سيطرة المدارس القرآنية، أما في الجزائر فهناك توسع و تنوع في المؤسسات المحتضنة للطفولة (قطاع عام - قطاع خاص - مدارس قرآنية). و هذا الفصل يتطرق أيضا للآفاق و يظهر أن مفاهيم مثل "المشروع" و "الكفاءات العرضية" Les compétences transversales قد أصبحت متبناة من قبل كثير من المؤسسات التربوية و التعليمية. و يتم التركيز في الجزائر بالخصوص على انسجام النماذج التربوية و تحقيق تربية ما قبل مدرسية بأقل التكاليف، و ربما هنا تكمن في رأينا أسباب عدم نجاح مؤسسات ما قبل مدرسي في تحقيق الأهداف المرتقبة.
كما يتبين من خلال الدراسات الميدانية أن الكل يدعو إلى تطبيق النموذج البنائي Le modèle constructiviste ولكن في الواقع فإن النموذج الوصفي modèle prescriptif Le هو المطبق على أساس، أن الأهل أو المربين هم الذين يصفون للطفل ما يجب عليه فعله، و الاحترام في هذه الحالة يكون من جهة واحدة، من حيث أن الطفل عليه أن يحترم الراشد الذي يستخدم سلطته من أجل دمج الطفل اجتماعيا بواسطة التربية و التعليم.
و تترقب الباحثاث مستقبلا أن يشهد ما قبل مدرسي إصلاحا عميقا يمس مستويين:
التمدرس المسبق المتداخل مع التعليم الابتدائي، حيث سيشكل بالتدريج الدورة الأولى من المدرسة القاعدية.
التمدرس المسبق قد يكون مرحلة إجبارية من أجل التسجيل في السنة أولى ابتدائي.
و يتم التذكير في آخر القسم الأول أن الهدف الأسمى للتحضيري سيبقى التطوير الشامل للطفل.
أما القسم الثاني فيحمل عنوان: فضاءات الدمج الاجتماعي و مسارات التمدرس
يعرض هذا القسم نتائج بحث كيفي أجري على مجموعة من الأطفال المنخرطين في المنظومة التربوية، و ذلك في السنة الأولى و السنة السادسة ابتدائي و على الأطفال الذين ترددوا من قبل على المدارس القرآنية أو أقسام الطفولة، كما أن الدراسة أخذت مجموعة ثالثة لم تتردد من قبل على أية مؤسسة تربوية.
كما يضم القسم الثاني ستة فصول هي:
- التعرف على المجموعات تبعا لنمط الفضاء المدروس- و مضمونه يضعنا أمام حقيقة تتناقض مع معارفنا المسبقة، فظاهرة التمدرس المسبق La préscolarisation في الجزائر ليست ناتجة عن خروج النساء إلى سوق العمل، فهناك نسبة كبيرة من ربات البيوت غير العاملات يدفعن بأبنائهن إلى حضانات البلديات (84℅) أو إلى المساجد (83℅) أما النساء العاملات فهن يفضلن أن يبعثن أبناءهن إلى أقسام الطفولة.
- الاستراتيجيات العائلية للتمدرس المسبق و التكيف المدرسي- حيث تحاول الباحثة نورية بن غبريط-رمعون في هذا المبحث أن تحدد طبيعة علاقة العائلة بأبنائها، فالعائلات تطمح إلى أن تحقق عبر أبنائها نوعا من الحياة المثالية، لذلك فإن الرغبة في الارتقاء الاجتماعي ليست غائبة تماما، و من هنا فإن الطفل لا يملك أية استقلالية في الممارسات التربوية عن الأهل، إنه يظل يظلّ حاملا لأحلام الآباء، و لتصوراتهم الذاتية عن أنفسهم.
- المسارات المدرسية و تقييم التعلمات، تطرقت ضمنه الباحثة زوبيدة سنوسي إلى موضوع التقييم باعتباره حكما على مردودية. و نتائج التلاميذ تعبر عن مدى تحقيقهم للأهداف التي سطرها النظام التربوي، و لكن قلة استفادة المربين و المعلمين من الدورات التكوينية الخاصة بتقنيات التقييم، تجعلهم سجيني تقييم جمعي.
و يخلص البحث في نهاية المطاف إلى أن تلاميذ السنة أولى ابتدائي غير المتمدرسين مسبقا (NP) قد تحصلوا على نتائج أفضل من الفئتين الأخريين، و لكن رغم ذلك فإن آراء المعلمين تستحسن أكثر التلاميذ المتمدرسين مسبقا في أقسام الطفولة (CE) لأنهم أكثر نشاطا و أكثر رفضا للبيداغوجيا الموجهة. أما بالنسبة للسنة السادسة فإن الأطفال الذين ترددوا على أقسام الطفولة ينجحون أكثر بالنظر إلى الفئتين الأخريين. ما يدل أنه سواء في السنة الأولى أو السادسة تبقى نتائج فئة المتمدرسين مسبقا في المساجد و المدارس القرآنية منخفضة.
هذا بالإضافة إلى فضاءات التنشئة الاجتماعية و التأثير على النمو اللغوي الذي تطرقت فيه الباحثة شريفة غطاس للمدرسة كفضاء مناسب ومنظم لتطوير لغة الطفل، و من أجل التأكد من هذه الفرضية اختارت الباحثة أن تضع الأطفال البالغين 6 و 7 سنوات في وضعية الرواية، واضعة امتحانين أولهما طلب فيه من الأطفال رواية حكاية يعرفونها جيدا، و في الامتحان الثاني قامت الباحثة برواية قصة عليهم. أما بالنسبة للأطفال البالغين سن 12 فقد كانوا مطالبين بإنجاز منتج شفهي و كتابي. و بتحليل المتن الكتابي و الشفهي لهؤلاء تم اختبار المهارات النصية للأطفال المنحدرين من فضاءات تنشئة اجتماعية مختلفة. و على ضوء النتائج الأولية تبين أن أقسام الطفولة (CE) لها دور مهم في تطوير لغة الطفل، باعتبار أن المخططات المنتجة للخطاب تتكون في عمر مبكر.
أما فيما يخص القدرة على التفكير و فضاءات التنشئة الاجتماعية- فقد توجهت فيه الباحثة عائشة بن عمار إلى معاينة سلوكات التلاميذ و هم في وضعيات اختبار و ذلك بالنسبة لتلاميذ السنة الأولى و السادسة ابتدائي الذين كان لهم تمدرس مسبق قبل الدخول إلى المدرسة. مع التساؤل عما إذا كان الأطفال غير المتمدرسين مسبقا يجدون صعوبات أكثر في حل تلك المشكلات.
كما أن القدرة على الإبداع و التكيف المدرسي من خلال الرسم- و التي تناولتها الباحثة بدرة معتصم-ميموني في هذا الفصل من خلال اختبار مهارات ثلاثة فئات من الأطفال، و ذلك من جانب قدرتهم على انجاز الرسوم سواء الحرة أو الموجهة، فقد تبين على أثرها أن التمدرس المسبق يسمح للطفل باستعمال الوسائل التقليدية مثل الورق و قلم الرصاص، و أقلام التلوين التي هي أقل توفرا في البيت.
كان لزاما في هذا الكتاب باعتباره دراسة ميدانية كمية و كيفية أن نلمس التأثير الإيجابي للدليل على منظومات التعلم، وخاصة بعد مضي عشرة سنوات على انجاز الدليل، و لكن رغم ذلك بقي التمدرس المسبق خاضعا من حيث الممارسة والتطبيق لرؤى و منهجيات و برامج تستقي مناهجها من المدرسة الابتدائية و من التعليم الإجباري، و بدلا من أن يكون الطفل الذي تلقى تمدرسا مسبقا سواء في المدارس القرآنية أو أقسام الطفولة أكثر قدرة على الفهم و التخيل والإبداع و حل المشكلات بالمقارنة مع طفل "الزنقة" الذي لم يتردد على أي فضاء ما قبل-مدرسي، فإن العكس هو الذي يحصل، مما يدل على أن فضاءات التمدرس المسبق لم تشرع بعد في تطبيق الرؤى النظرية، و الأساليب العملية التي نص عليها الدليل المنهجي.
بعد هذه القراءات تبين لنا أن السؤال الذي لا بد أن يظل قائما هو المتعلق بوظيفة المؤسسات التربوية و التعليمية اليوم، هل هي مطالبة بالبحث عن الامتياز بعيدا عن كل الرهانات الاجتماعية، أم أن عليها أن تفكر في تداعيات الرسوب المدرسي كشكل من أشكال الإقصاء التي تمارسها المدرسة على الذين لا يصمدون في وجه أشكال التقييم المتتالية و المتكررة، و التي لم يكن لهم أي دخل في وضع شروطها و مقاييسها؟
لم يعد بإمكان المعلم اليوم أن ينتظر من جميع التلاميذ أن يستوعبوا جميع المعارف، و لكنه يأمل في أن يقود الأغلبية نحو النجاح، و في نفس الوقت يعمل على ألا يزيد من تدهور مستوى التلاميذ الذين يستقبلهم. و للتذكير فقد صدر سنة 1982 كتاب بعنوان "الإخفاق المدرسي ليس حتمية"، والذي صدر عن "CRESAS" ، و هو يعبر عن طموح كبير، مفاده إمكانية نجاح غالبية التلاميذ المتمدرسين، و ذلك بالاعتماد على طريقة تقييمية جديدة اقترحها بلومBloom ، والتي تتمثل في أن يقدم لكل متمدرس امتحان خاص به مختلف عن غيره ليقيس قدراته، و يقارن مدى تحسنه بالمقارنة مع نتائج الامتحانات السابقة. على خلاف ما هو معمول به من خلال توحيد مواضيع الامتحانات، و جعل عدد كبير من التلاميذ غير المتكافئين أمام نفس الامتحان.
و في الخلاصة يمكن القول أن التمدرس المسبق تتجاذبه الأهداف الاجتماعية العامة المتمثلة في الحد من التسرب المدرسي أو السعي إلى صنع الامتياز، كما أنه مرهون برغبات الأسرة و طموحاتها المتمثلة في تحقيق ما عجز الآباء عن تحقيقه، و بالنسبة للمناهج التربوية، فقد أصبحت تنظر للطفل المتعلم نظرة جديدة تعظم فيه قدراته الفطرية وطاقاته الكامنة، كما أن المناخ الديمقراطي الذي تعيش فيه بعض الدول أدى إلى تعميم مفهوم الحرية و ممارستها، مما أدى إلى التقليل من الاستبداد بالرأي بالنسبة للسياسي أو المعلم و غيرهم، و أصبح الطفل داخل العملية التربوية شركيا و ليس مجرد متلقي.
محمد حيرش بغداد
الهوامش
[1] Perrenoud, Philippe, sociologue, est professeur à l’Université de Genève. Ses travaux sur la fabrication des inégalités et de l’échec scolaire l’ont conduit à s’intéresser à la différenciation de l’enseignement, et plus globalement au curriculum, au travail scolaire et aux pratiques pédagogiques, à l’innovation et à la formation des enseignants. Il anime avec Monica Gather Thuder le laboratoire de recherche Innovation-Education-Formation (LIFE). Chez ESF, Philippe Perrenoud a déjà publié six ouvrages, dont : Pédagogie différenciée : des intentions à l’action, Construire des compétences dès l’école et Dix nouvelles compétences pour enseigner.
[2] بن غبريط رمعون، نورية، منسقة المشروع- ميموني معتصم ، بدرة - بن عمّار، عائشة - غطاس، شريفة - رباحي، زوبيدة - بوسلهام، شفيقة - قدّار، خديجة - جعمان، نابهة - تشنار محبوب، رشيدة -سناي، محمد - عاشور، عبد الفتاح.
[3] من هذه المؤسسات والهياكل ما يلي: الأقسام ما قبل مدرسية التابعة لوزارة التربية الوطنية- رياض الأطفال التابعة للمؤسسات- الهياكل الواقعة تحت مسؤولية البلديات- الهياكل التابعة للقطاع الخاص المعروفة بدور الحضانة L’école maternelle- الكتاب والمدارس القرآنية ذات الطابع التقليدي أو الحديث الواقعة تحت مسؤولية وزارة الأوقاف أو "الحبوس"، أو الجمعيات الدينية.
[4] من بين النشاطات التربوية في هذا الحقل لعب الأطفال بالألوان وملامستهم المباشرة لعاصر الطبيعة (تراب، حشيش،..) بغرض التعرف على طبيعتها وخصوصياتها (الرائحة، الملمس،...) ولكن هذا يؤدي في أحيان كثيرة إلى تلطيخ ثياب الأطفال، الشيء الذي لا يرضي الآباء.