إنسانيات عدد 44-45 | 2009 | مدينة الجزائر : ميتروبول في تحوّل | ص25-42| النص الكامل
Algiers in the Middle Age Abstract: Algiers has along history. Already a Phoenician trading post in the first millennium B.C., the Algiers colony, Icosium, was founded by the Romans after 202BC.It became an important city under their emperors then was probably partially destroyed after a vandal attack. Given up to Rome then annexed by the Byzantine Empire, the ancient town of Algiers seems to have lost all role during the last Byzantine century up to the Moslem period. As for the majority of central Maghreb towns, Algiers history is unknown until the middle of the 10th century, at which date the town would have been founded again by Bulukin, the powerful central Algeria Sanhaja chief’s son, at the Fatimid period. Renamed Gaza’ir Bani Mazghanna, the town passed under the Sanhaja Berber emirs’ control, then from the 11th century on, by the Hammadid dynasty. Dominated by the Almoravids at the end of the 11th century, Algiers becomes one of their most important towns some years later. Conquered by the Almohid armies, it knew wars opposing Marrakech caliphs to the Bau Ghaniya from Majorca. A major stake for the Hafsids, Ziyanids and Merinids, the town was finally dominated and governed by the Ta’libu Arab tribe, infiltrated in the Mitidja in the 12th century, until it was taken over by another member of this tribe, Arruj ‘Abdel al- Rahman( 874/1470),who became the patron saint of the city, thus showing this Arab clan’s political and religious domination at the end of the Middle Ages. Keywords : Algiers - medieval history - al Talini - Moslem urbanism - Berber dynasties - Bulukin b. Ziri. |
Allaoua AMMARA et Zeineb MOUSSAOUI, Faculté des Lettres et Sciences Humaines, Université Emir Abdelkader, Constantine.
عرفت الدراسات التاريخية الخاصة بالتاريخ الحضري منذ عشرات السنين تطورا كبيرا بعد تطبيق عدد من المقاربات المنهجية واستغلال وثائق ونصوص جديدة، كمصدر من مصادر تاريخ المدينة في فترتيها الوسيطة والحديثة. ولم يكن البحث في التاريخ الحضري لمدن العالم الإسلامي الوسيط بمعزل عن هذا التطور، خصوصا بعد تجاوز فكرة المدينة الإسلامية المنغلقة على ذاتها كما صورتها المنوغرافيات الكلاسيكية في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي[1]. لقد تم التركيز في هذا الجانب على الطبوغرافية الخاصة بالمدينة الوسيطة والعلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الفقهية في تنظيم العلاقات داخلها، خصوصا بعد نشر نصين تاريخيين هامين حول العمران في الغرب الإسلامي: نص ابن الرامي البناء (ق8 هـ/14م) الموسوم بــــ" الإعلان بأحكام البنيان"[2] والثاني لأبي العباس الفرسطائي النفوسي (ت 504هـ/1110م) والموسوم بــ" القسمة وأصول الأرضين"[3]. كما عولجت بشكل جزئي إشكالية انتقال المدينة من مرحلتها التاريخية المتأخرة إلى المرحلة الإسلامية الوسيطة، ولكن في غالب الأحيان ما تزال هذه القضية تحتاج إلى توضيح وتعميق[4]، لأن عددًا من المدن المغربية اختفت لعدة قرون بعد السيطرة الإسلامية على المنطقة لتعود بعد ذلك في ظروف غامضة لتلعب دور ثانوي في الحياة السياسية والاقتصادية لتصل إلى مرحلة الحاضرة المركزية في مراحل تاريخية لاحقة، كما هو حال مدينة الجزائر.
من خلال دراسة التطور التاريخي لمدينة الجزائر في فترتها الوسيطة سنحاول الإجابة على مجموعة من القضايا المطروحة في تاريخ المدن المغربية في فترتها الوسيطة خصوصا فيما يخص اختفاء المدينة القديمة وظهور المدينة المستحدثة، بمعنى مدينة العصر الوسيط ذات المجال الجغرافي المرتبط عادة بالتركيبة القبلية للمنطقة. كما سنحاول الإجابة على الأطروحة المتعلقة بدور الوجود العربي في إحداث قطيعة ابستمولوجية وحضرية مع ثقافات الفترة القديمة، وسنحاول في النهاية تتبع التطور العمراني والتاريخي لمدينة هامشية في أغلب فترات الفترة الوسيطة لتصل إلى مرحلة الحاضرة السياسية والعسكرية بقدوم العنصر الأجنبي.
اختفاء أم اندماج لمدينة جزائر بني مزغنة؟
لقد استطاع الفينيقيون تشكيل فضاء متوسطي بفعل توسعهم التجاري وإنشائهم لمجموعة من المستوطنات والمرافئ التجارية على السواحل المتوسطية. وجلبت منطقة الجزائر الوسطى التجار الفينيقيين الذين استطاعوا إقامة موانئ منها ميناء إيكوزيوم (الجزائر) في بداية الألفية الأولى قبل الميلاد كما دلت على ذلك النصوص التاريخية والقطع النقدية التي عثر عليها قرب الميناء. وبداية من عام 202 قبل الميلاد خضعت المنطقة لحكم الإمبراطورية الرومانية بعد تحالف ماسنيسا مع سبيون الإفريقي (Scipion l'Africain) ضد السلطة القرطاجية. ويتم بعدها بناء مستعمرة إكوسيوم (Icosium) بعد تحويل اسمها الفينيقي الأصل على الأرجح إلى اللغة اللاتينية. وتأثرت المدينة عموما بأحداث الإمبراطورية خصوصا فيما يخص انتشار المسيحية والصراع الديني، ففي عام 429 م سيطر الوندال على المدينة بعد التفكك التدريجي لرومانيا الغربية تحت ضربات القبائل البرابرية، إلا أن إكوسيوم سلمت من جديد لسلطة روما بعد اتفاق بينها وبين الوندال عام 442 م[5].
مع نهاية الغزو الجرماني وتحقيق الإمبراطور البيزنطي جستنيان (Justinien) لقسم من مشروعه القاضي بإعادة رومانيا الغربية إلى فلك الإمبراطورية خصوصا بعد السيطرة على إكوسيوم عام 533 م، اختفت معظم مدن موريطانيا القيصرية عن مسرح الأحداث. فلا نجد لها أثرًا في المعارف التاريخية المدونة على قلتها ولا وجود لشواهد أثرية قوية تدل على هذه المرحلة التاريخية، خصوصا وأن الحفريات الفرنسية في بداية القرن العشرين قد ركزت على الدعاية لخطاب روما المنتصرة على حساب الشواهد الأثرية البيزنطية والإسلامية التي دمرت بشكل كامل تقريبا في معظم المواقع الأثرية التي جرت بها الحفريات[6]. إن الباحث في هذه الفترة الانتقالية يكاد يفتقر للنصوص التي تمكنه في النهاية من معرفة مجريات الأحداث.
كأغلب المدن الساحلية للمنطقة التي ستعرف حديثا باسم الجزائر، لا نجد أثرا في النصوص التاريخية العربية المدونة في إطار "فن الفتوح"[7] لمدينة إكوسيوم الرومانية، ما يطرح تساؤلاً كبيرًا حول دور مدن الساحل في الفترة البيزنطية خصوصا جيجل وصلداي وشرشال. فهل كان للتدخل الوندالي دورًا حاسمًا في توقيف المسار التاريخي لهذه المدن؟ أم أن الأمر يتعلق بعدم مقدرة حكام إفريقية البيزنطية على تسيير مقاطعة إدارية مترامية الأطراف؟ أو كاحتمال ثالث ما هو دور العنصر المحلي المنعوت بالبربري من طرف الثقافات الوافدة في المجال الحضري؟ هل في غياب السلطة الأجنبية المركزية لم يكن باستطاعة العنصر المحلي بتشكيلاته القبلية التأقلم مع حياة المدينة بعدما غادرها إثر تغلغل الاستيطان اللاتيني؟
ليس من السهل الإجابة على هذه التساؤلات، خصوصا إذا ما لاحظنا تركيز الحملات العسكرية الإسلامية على مدن الداخل البعيدة عن الساحل حيث الافتقار لثقافة بحرية تمكن من مواجهة السفن البيزنطية وفي نفس الوقت التوجه نحو المناطق المفتوحة طبوغرافيا، ما يسهل من مهمة الجيوش في التوغل بعيدا عن كمائن الجبال. إن هذه الاستراتيجية التي لجأ إليها قادة الفتح قد أدت في النهاية إلى خلق مجال حيوي داخلي ينطلق من قاعدة داخلية مستحدثة وهي القيروان ويسيطر على المناطق الداخلية الزراعية والرعوية ليصل في النهاية إلى مدينة فاس المستحدثة في نهاية القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي. لقد ساهم هذا المحور الحيوي في الأسلمة السريعة للمجتمعات القبلية المتواجدة بالمنطقة و إعطاء دور جديد للمدن القديمة الواقعة عليه، بالإضافة إلى تأسيس مدن جديدة كتاهرت وحمزة ثم بعد ذلك أشير ما أعطى للداخل الدور المحوري للمجتمعات القبلية الداخلية. فإذا كانت المناطق الداخلية قد استعادت حيويتها بفعل الاستراتيجية الإسلامية الجديدة بعد تفاعل المجتمعات المحلية معها، فما مكانة مدن الساحل، خصوصا مدينة إكوسيوم موضوع دراستنا؟
لقد كان للتنظيمات الإدارية والعسكرية البيزنطية الحضور القوي في ولاية إفريقية الأموية والمقاطعة الطنجية ما أدى في النهاية إلى تهميش دور المنطقة التي ستُعرَفُ بالمغرب الأوسط أربعة قرون بعد ذلك وحصر دورها كمنطقة رابطة بين القيروان والمغرب الأقصى والأندلس كخزان بشري ومالي. لقد كان لغياب ثقافة بحرية تجارية للقبائل العربية الوافدة و للكنفدراليات القبلية البربرية دورًا كبيرًا في تهميش مدن ساحل المغرب الأوسط على وجه الخصوص، والتي استمرت في تراجعها العمراني وفي فقدانها لدورها العسكري والاقتصادي لفائدة مدن الداخل المرتبطة خصوصا بالإنتاج الفلاحي وبتجارة الذهب والرقيق. هذه الوضعية لا نجد لها معطيات خبرية وافية لتصوير حجم الخراب الذي أصاب هذه المدن في القرنين الأول والثاني الهجريين (7 و 8 م) بعد انعدام تقريبا الحضور العسكري والثقافي لسلطة الخلافة في المناطق الساحلية للمغرب الأوسط[8].
بدأ اسم مدينة "جزائر بني مزغنة" في الظهور في النصوص الجغرافية والتاريخية في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري (10 م)، عندما كتب عنها الرحالة-التاجر الشيعي ابن حوقل النصيبي (ت بعد 367/977م) في كتابه الجغرافي الوصفي الموسوم بــ" صورة الأرض":
"وجزائر بني مزغناي مدينة عليها سور على سيف البحر أيضا، وفيها أسواق كثيرة، ولها عيون على البحر طيبة وشربهم منها، ولها بادية كبيرة وجبال فيها من البربر كثرة، وأكثر أموالهم المواشي من البقر والغنم سائمة في الجبال، ولهم من العسل ما يجهز عنهم والسمن والتين ما يجهز ويجلب إلى القيروان وغيرها. ولها جزيرة في البحر على رمية سهم منها تحاذيها فإذا نزل بهم عدو لجئوا إليها فكانوا في منعة وأمن ممن يحذرونه ويخافونه.[9]"
إن هذا الظهور الأول لمدينة الجزائر باسم جزائر بني مزغناي[10] جاء في مرحلة تاريخية مهمة تميزت بكثافة النشاط الملاحي والتجاري لمدن الساحل، خصوصا بعد نجاح السياسة الأموية في الأندلس في خلق فضاء تجاري في الحوض الغربي للبحر المتوسط بداية من نهاية القرن 2 هـ/8 م[11]، عن طريق تأسيس مجموعة من المدن والمراسي من طرف البحارة الأندلسيين، خصوصا بتشييدهم لمدن تنس الحديثة ووهران[12]. فهل معنى هذا أنّ المجتمعات المحلية في بلاد المغرب كانت بعيدة عن مدينة وثقافة البحر أم أنّ الأمر يتعلق بدور الكتابة التاريخية العربية التي تكون قد قزمت من دور البربر في مختلف الأنشطة الاقتصادية والملاحية؟ من الصعب الفصل في هذه القضية بالرغم من أن كريستوف بيكار Christophe) Picard) الذي يعتبر أحد أكبر المختصين الحاليين في الملاحة الإسلامية في الحوض الغربي للبحر المتوسط قد أشار إلى استمرار الأنشطة البحرية المحلية في سواحل بلاد المغرب الأوسط بعد السيطرة العربية[13]. إن ارتباط اسم المدينة بتشكيلة قبلية، بني مزغنة، يطرح عدة تساؤلات حول استمرار المدينة في تأدية دورها التجاري "وفيها أسواق كثيرة" كما أشار ابن حوقل، وإشارة أخرى تدل على تسيير محلي للمدينة عند الهجوم عليها للتحصن، ما يشير في النهاية لاستقرار بني مزغنة كتشكيلة قبلية بالمدينة الرومانية لتسويق المنتجات الفلاحية القادمة من باديتها، التي لا يمكن تفسيرها إلا بسهول متيجة. وعليه فإننا نخلص من خلال نص ابن حوقل إلى القول باستمرار الحياة البشرية في مدينة إكوسيوم بالرغم من القطيعة الواضحة مع ماضيها الروماني على الأقل من خلال اعتناق الإسلام وتحويلها إلى ملكية قبلية. إن الاسم الوارد استمد من دون شك مصدره من الجزر الواقعة قرب المدينة[14]، وهذه ممارسة لغوية معتادة في التراث العربي لاستعمال الجزر كنقاط لتحديد الأماكن انطلاقا من البحر، ومن ذلك أسماء الجزائر الشرقية (البليار)، وجزائر بحر صقلية، وجزائر ملوية، والجزر الجوفية.
لقد زار ابن حوقل المنطقة مرتين على الأقل، الأولى في منتصف القرن الرابع الهجري والثانية في نهاية عهد الإمامة الشيعية الفاطمية، أي قبل الزمن الافتراضي لتأسيس المدينة من طرف أمراء صنهاجة بمنطقة التيطري، لكن تأليف الرحلة كان مباشرة بعد تولية بلكين بن زيري ولاية بلاد المغرب لفائدة الإمامة الشيعية بالقاهرة.
قرن بعد ابن حوقل، وبالضبط عام 460 هـ/1068م، كتب الجغرافي الأندلسي أبي عبيد البكري تأليف جغرافي هام اعتمادا على "مسالك إفريقية وممالكها" لمحمد بن يوسف بن عبد الله الوراق القيرواني (ت 363هـ/974م) ومعلومات كتابية وشفوية جمعها بطرق مختلفة، بمعنى أنه كتب عن منطقة لم يزرها مطلقا. وهنا نجد التأكيد على مكانة مدينة الجزائر كنهاية بحرية للطريق الرابط بينها وبين مدينة أشير [15]، المعقل التاريخي للزعامة القبلية الصنهاجية:
"ومنها إلى مدينة جزائر بني مزغنى: وهي مدينة جليلة قديمة البنيان، فيها آثار للأول، وآزاج محكمة تدل أنها كانت دار مملكة لسالف الأمم. وصحن دار الملعب فيها قد فرش بحجارة مكونة صغار مثل الفسيفساء، فيها صور الحيوان بأحكم العمل وأبدع صناعة، لم يغيرها تقادم الزمان ولا تعاقب القرون، ولها أسواق ومسجد جامع. وكانت بمدينة مزغنى كنيسة عظيمة، بقي منها جدار مدير من الشرق إلى الغرب، وهي اليوم قبلة الشريعة للعيدين تفصص كثير من النقوش والصور، ومرساها مأمون، له عين عذبة، يقصد إليه السفن من إفريقية والأندلس وغيرهما"[16].
إن نص البكري الذي تعود معلوماته إلى القرن 4 هـ/10 م لاعتماده أساسا على نقول من جغرافية ابن يوسف الوراق يؤكد بصفة قطعية على استمرار الحياة البشرية بمدينة إكوسيوم التي نسبها كسابقه ابن حوقل لجماعات بني مزغنة التي استقرت وسط البقايا الأثرية الرومانية خصوصا الكنيسة والمسرح. إن الجديد في نص البكري هو التأكيد على "أزلية" المدينة وحضور البناء القديم بالرغم من اختفاء الاسم اللاتيني وتعويضه بالقبلي. فإذا كانت المدينة بها أسواق ومسجد جامع وعلاقات تجارية مع مدن الأندلس وإفريقية، فإن الإشكال هنا كالتالي: ما هو موقع السلطات المركزية في بلاد المغرب من مدينة ناشئة مزدهرة تجاريا؟
من مدينة القبيلة إلى مدينة الإمارة-الدولة
للإجابة على هذا التساؤل سنلجأ إلى نصوص متأخرة زمنيا للحديث عن الإشارات الأولى لظهور اسم مدينة جزائر بني مزغنة في محاولة معرفة دور السلطة السياسية المنبثقة عن التشكيلة القبلية في رسم معالم المدينة في بدايات الفترة الوسيطة الإسلامية.
بعد تردد أشار الكاتب الإباضي أبي العباس الدرجيني (ت670هـ/1271م) إلى وجود قبر ترجمان الأئمة الرستميين أبي سهل الفارسي بـ"جزائر بني مزغنان"[17] الذي يكون قد دفن هناك في بداية القرن 4 هـ/10 م ما يؤكد فكرة وجود مدينة القبيلة قبل مدينة الإمارة الصنهاجية في النصف الثاني من نفس القرن.
لقد ظهر اسم الجزائر بدون قبيلة بني مزغنة في القرن5هــ/11م، ثم خصوصا في كتابات القرن 8هـ/14م التي نسبت عملية تجديد أو بناء المدينة إلى الأمير الزيري بلكين وهذا اعتمادا بالأساس على النص المتأخر الضائع لابن حماد الصنهاجي (ت628 هـ/1230م) الموسوم بــ"النبذة المحتاجة في أخبار ملوك صنهاجة بإفريقية وبجاية". فقد أشار عبد الله بن بلكين (ت 483هـ/1090م)، آخر الملوك التلكاتيين بغرناطة إلى "الجزائر" في مذكراته الشخصية التي تحدث فيها كذلك عن مصير بعض ملوك الطوائف خصوصا بني صمادح اللاجئين إلى هذه المدينة بعد نجاح المرابطين في فرض سلطتهم على الأندلس الإسلامية[18]. وتطرق صاحب كتاب مفاخر البربر إلى بناء مدينة الجزائر بدون نسبة الطبونيم إلى القبيلة من طرف ملوك صنهاجة "فمن مشاهير ملوك صنهاجة زيري بن مناد، ملك وبنوه مائتي سنة متصلة وهم الذين بنوا بجاية والجزائر و مليانة والقلعة المنسوبة إليهم"[19]. بعده بقليل، ذكر ابن الخطيب الغرناطي (ت 776هـ/1375م) مدينة الجزائر في معرض حديثه عن تاريخ المغرب والأندلس في الفترة الإسلامية وتطرق خصوصا وباختصار شديد إلى تشييد صنهاجة لعدد من مدن المغرب الأوسط: "وهو (أي الأمير زيري بن مناد) الذي بنى مدينة أشير وإليه تنسب، وبنى ابنه بلكين بأمره مليانة ومدينة الجزائر والمدية"[20]. نفس الفكرة نجدها عند صديقه عبد الرحمن بن خلدون (ت 808هـ/1406م) عندما كتب يقول: "ثم اختط ابنه بلكين بأمره وعلى عهده مدينة الجزائر المنسوبة لبني مزغنة بساحل البحر ومدينة مليانة بالعدوة الشرقية من شلف ومدينة لمدية وهم بطن من بطون صنهاجة وهذه المدن لهذا العهد من أعظم مدن المغرب الأوسط[21]". تتفق هذه المعطيات مع النصوص التاريخية الأخرى حول تجديد بناء مدينة إكوسيوم على يد بلكين في حياة أبيه المتوفي عام 361هـ/972، لكن الغموض يكتنف عملية البناء. فهل تعلق الأمر بإعادة بناء المدينة أم بناء منشئات أميرية بالمدينة؟ من خلال النصوص الجغرافية اللاحقة يتبين جليا بأن بلكين لم يعد بناء المدينة وإنما أقام مرافق على شاكلة المدن الإسلامية المغربية كدار الإمارة والمسجد الجامع.
إن الغموض يكتنف تاريخ مدينة الجزائر بعد إقدام بلكين على إلحاقها بالفضاء السياسي لإمارته القبلية، بل إن حضور عامل خاص بها لم تؤكده النصوص التاريخية التي اكتفت بالقول "بخروج القائد يوسف بن أبي محمد عاملا على متيجة" عام 385هـ/995م[22].
وبداية من الفترة الحمادية، وبالضبط عام 408هـ/1017م بدأت مكانة مدينة الجزائر التي تخلصت من الشق الثاني من اسمها "بني مزغنة" تتضح بعدما منحت في إطار الاتفاق بين أعضاء الأسرة الزيرية الصنهاجية، بحيث منحت إلى حماد بن بلكين[23]. بعد هذا التاريخ، ليست بحوزتنا معلومات حول إدارة المدينة وناحيتها بما في ذلك سهول متيجة خلال فترات حكم الأمراء الحماديين الثلاثة الأوائل. ومع استيلاء الناصر بن علناس على عرش الإمارة الحمادية، أعاد تنظيم ممتلكاته إداريا وجمع مدينة الجزائر مع مرسى الدجاج ومتيجة في مقاطعة إدارية واحدة أسندها لابنه عبد الله ثم تداول عليها عدد من أعضاء الأسرة الحاكمة[24].
مدينة الجزائر بين الحركة التوسعية المرابطية والوفاء للأمراء الحماديين
نتيجة للأزمة الديمغرافية التي عرفتها بلاد المغرب بعد ثورة أبي يزيد ومجاعات نهاية القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي[25]، فقد أصبحت عرضة لزحف التشكيلات القبلية المستقرة بالصحراء وبتخومها خصوصا زناتة وصنهاجة اللثام التي تغدت بخطابات إيديولوجية دينية في محاولة لإصلاح أزمات إسلام الشمال من خلال الدعوة إلى الرجوع إلى الفروع الفقهية المالكية. ومن بين هذه القبائل الداعية لهذا النمط من الخطاب نجد لمتونة التي تمكنت من تبني خطاب فقهي مالكي وإيديولوجية جهادية لمواجهة نصارى الأندلس. لقد حاول هؤلاء المرابطين السيطرة على كافة دار الإسلام الغربية[26] ووصلوا في زحفهم إلى مدينة الجزائر التي افتكوها من يد الحماديين عام 490هـ/1096م، كما تدل على ذلك النصوص التاريخية والشواهد الأثرية[27]. فقد جددوا على الأقل المسجد الجامع وأضفوا عليه الطراز المرابطي الذي ما زال قائما إلى يومنا هذا[28]. لكن الوجود المرابطي لم يطل طويلا بعد استرجاع الحماديين للمدينة قبل نهاية القرن 5هـ/11م، حيث منحت كمقاطعة إدارية واسعة لعبد العزيز ابن الأمير الحمادي المنصور بن الناصر ثم تولاها بعد ذلك القائد بن عبد العزيز[29]. إن هذا الاستقرار الذي عرفته مدينة الجزائر طوال الفترة الحمادية جعل منها منطقة استقطاب لأمراء الحرب الأندلسيين الفارين من السلطة المرابطية. ومن بين الذين لجئوا إليها نجد خصوصا عائلة بني صمادح بالمرية التي أوصى أحد أمرائها وهو المعتصم بن صمادح أولاده بالفرار إليها بمجرد دخول الجيوش المرابطية إلى الأندلس.
"وأوصى ولده ولي عهده معز الدولة أن يتمسك بقصبة المرية ما أقام ابن عباد متمسكا باشبيلية، فإذا أفضى أمره إلى خلعه، فليعبر البحر بأهله وولده إلى الجزائر، جزائر بني مزغنا، وقد كان راسل صاحب الجزائر، ووجه إليه أحمد بن عبد العزيز بن عيشون من أهل بلده، فوصل إلى المنصور بن الناصر بن علناس، وهو يومئذ بالقلعة، يخطب إلى جواره ويتحول إليه، فتلقاه بالرحب والسعة، وخيره في أقطار بلاده"[30].
وبالفعل، فقد فر معز الدولة من قبضة الجيش المرابطي ونزل بمدينة الجزائر كما فعل أمير حرب أندلسي آخر وهو أبو عمر حكم بن سعيد بن حكم الأموي الذي قصد تونس، لكن رياح البحر حملت مركبه إلى مدينة الجزائر[31]. كما لجأ إلى هذه الأخيرة صاحب المهدية الأمير الباديسي الحسن بن علي بن يحي بن تميم بن باديس عام 543هـ/1148م بعدما سقطت ممتلكاته في يد النورمان الصقليين[32].
لقد اكتسبت مدينة الجزائر مكانة مهمة على الساحة المغربية بسبب استقرار الأوضاع الأمنية بها ووقوعها على محورين تجاريين هامين هما الطريق البحري الرابط بين المرية والأسكندرية[33] والطريق البري الساحلي الرابط بين بلاد المغرب الأقصى والمشرق. لقد ساهمت الهجرة الهلالية في تحويل النشاطات الاقتصادية والاجتماعية نحو الساحل[34] ما كان له دورًا كبيرًا في ازدهار المدينة، خصوصا وأن المدن الإيطالية نجحت في إقامة قواعد تجارية في معظم المدن البحرية المغربية بداية من منتصف القرن 6هـ/12 م. إن النص الجغرافي للصقلي الشريف الإدريسي يمثل شهادة مهمة حول وضعية مدينة الجزائر في هذه الفترة:
"ومدينة الجزائر على ضفة البحر وشرب أهلها من عيون على البحر عذبة ومن آبار وهي عامرة آهلة وتجاراتها مربحة وأسواقها قائمة وصناعاتها نافقة ولها بادية كبيرة وجبال فيها من قبائل البربر وزراعاتهم الحنطة والشعير وأكثر أموالهم من البقر والغنم ويتخذون النحل كثيرا فلذلك العسل والسمن كثير في بلدهم وربما يتجهز بهما إلى سائر البلاد والأقطار المجاورة لهم والمتباعدة عنهم وأهلها قبائل ولهم حرمة مانعة"[35].
إن هذا الوصف الجغرافي الذي بني أساسا على ملاحظات خبراء أرسلهم الإدريسي إلى مختلف بقاع العالم يرسم صورة مدينة الجزائر عند منتصف القرن 6هـ/12م ويظهر مكانتها في زمن اشتدت فيه الغارات المسيحية على سواحل بلاد المغرب. فالمدينة لها واجهتها البحرية من خلال علاقاتها المختلفة مع موانئ الأندلس ولها شبكتها البرية لوقوعها خصوصا على الطريق الساحلي الذي يربطها بغرب وشرق المغرب خصوصا المدن البحرية والمرافئ. إن مدينة الجزائر في هذه الفترة كانت تتمتع بإنتاج فلاحي كبير من خلال إشرافها على سهول متيجة المعروفة بمنتجاتها الزراعية والحيوانية خصوصا البقر والغنم وتربية النحل، وهذا ما تشهد عليه النوازل الفقهية في القرنيين المواليين. لقد ركز الإدريسي على وجود بادية المدينة المشتهرة بعنصرها المحلي والتي كانت على علاقة بالحاضرة التي اشتهرت بحرفها وأسواقها ما جعلها بداية من الفترة الموحدية أحد الموانئ التي كان يتردد عليها التجار الأوروبيين[36].
بين الولاء والاستقلالية
في عام 546هـ/1151م، سقطت مدينة الجزائر في يد عبد المؤمن بن علي زعيم الموحدين في إطار زحف قوى الأطراف لضرب المراكز الحضرية من خلال تبني مشروع ديني توسعي يهدف إلى "إصلاح المجتمع"[37]. ولم يمر الوجود الموحدي بالمدينة في أحسن الظروف، نظرا لنشاط حركات المعارضة القبلية المسلحة خصوصا تلك التي تبنت خطاب إحياء الإمارة المرابطية التي قادها بنو غانية القادمين من جزيرة ميورقة بداية من عام 580هـ/1185م، وهذا باستيلائهم على مقر الولاية الموحدية ببجاية ثم على سهول متيجة ومدينة الجزائر التي انتزعوها من يد العناصر الثعالبية عام 581هـ/1185م[38]. وتأثرت مدينة الجزائر بالصراعات الموحدية-الغانية إلى غاية عام 600هـ/1204م حيث قضت الجيوش الموحدية انطلاقا من هذه المدينة على حركات المعارضة المسلحة في المغرب الأوسط وإفريقية[39].
بداية من الفترة الموحدية، تناولت عدة نصوص جغرافية ورحلية بالوصف مدينة الجزائر وهنا نلاحظ الاختفاء الكامل لبني مزغنة. فقد كتب العبدري (ق7هـ/13م) في رحلته بأن الجزائر "هي مدينة تستوقف لحسنها ناظر الناظر، ويقف على جمالها خاطر الخاطر، قد حوت مزيتي البر والبحر، وفضيلتي السهل والوعر، لها منظر معجب أنيق، وسور معجز وثيق، وأبواب محكمة العمل، ليسرح الطرف فيها حتى يمل..."[40]. وورد اسم المدينة بعد ذلك في معظم رحلات نهاية العصر الوسيط ممن زارها أم لم يزرها (البلوي، ابن بطوطة، الحسن الوزان...)
بعد انهيار المشروع الإيديولوجي الموحدي في عهد الخليفة المأمون (624-629هــ/1227-1232م) في ظل ظروف سياسية وعسكرية صعبة مرت بها بلاد المغرب والأندلس، بدأ الإرث الموحدي في التفكك بين أربع أسر حاكمة: الحفصيون في تونس، الزيانيون في تلمسان، المرينيون في مراكش ثم فاس والنصريون في غرناطة. لقد حاولت مدينة الجزائر تشكيل حكم مستقل من خلال إعلان أعيانها تشكيل مجلس لتسيير شؤونها، لكنها اصطدمت بالمشروع التوسعي الحفصي الهادف إلى المحافظة على الفضاء السياسي الموحدي المنهار. ورغم التدخلات الحفصية، فقد استطاع ابن علان، أحد أعيان المدينة من تولي أمرها لمدة أربع عشرة سنة قبل أن يزاح من طرف الأمير الزياني أبي حمو الثاني في إطار توسيع ممتلكاته الشرقية[41]. وكانت أهم محاولة للاستقرار الزياني بمدينة الجزائر تلك التي قادها الأمير الزياني المتمرد أبي زيان محمد الذي أعلن استقلاله بها عام 841هـ/1438م لتصبح عاصمة فضاء يضم سهول متيجة والمدية ومليانة وتنس، لكن هذه المحاولة فشلت بعد ثورة أعيان المدينة عليه وقتله[42].
وبعد سقوط المدينة عدة مرات في يد القوى المتناحرة ببلاد المغرب خصوصا المرينـيـين والحفـصيـين، تمكن الثعالبة من تشكيل ما يشبه المدينة الدولة (Cité-Etat) بعد تراجع المشاريع التوسعية في المنطقة.
الثعالبة وميلاد المدينة-الدولة
لقد زحف الثعالبة، كجماعات بشرية وردت من المشرق مع الهلاليين والسليميين،تدريجيا إلى المغرب الأوسط واستقروا بمنطقة التيطري التي تركتها الجماعات الصنهاجية منذ زمن بعيد، بعدما أسست كيانات سياسية في صبرة المنصورية وقلعة بني حماد وغرناطة. لقد تمكن الثعالبة المدعين الانتساب لنفس الجد (ثعلب بن علي بن بكر بن صغير) من الاستحواذ على سهول متيجة والوصول إلى مدينة الجزائر والتمكن من إدارتها في نهاية الفترة الوسيطة بعد تراجع المشاريع التوسعية المرينية والحفصية والزيانية، خصوصا بعد نجاح عائلة سباع بن ثعلب في ضمان تماسك الجماعة[43]. وقد يسجل هذا العنصر الوافد مرحلة مهمة تجسدت بانتقال الجزائر إلى نمط المدينة-الدولة، المستقل عن الكيانات السياسية المتواجدة في بلاد المغرب، حيث تعاقب على إمارتها عدد من أعضاء الأسرة الحاكمة، كان من أهمهم سالم التومي، الذي وطد حكمهم ونشط حركة المبادلات مع القوى المسيحية خصوصا فلورنسا والبندقية[44]. وهي المرحلة التي تتسم بالغموض نظرا لقلة المادة الخبرية المحلية في حين نجدها أكثر أهمية في النصوص الأوروبية، الإسبانية منها على وجه الخصوص. وقد استمر حكم الثعالبة للمدينة إلى غاية بداية القرن 10 هــ/16م عندما تعرضت للغارات الإسبانية ثم استحواذ عروج عليها، لتكمل دورها كعاصمة ساحلية.كما ربطت روحية المدينة بالسلطة الكاريزماتية لأحد العناصر الثعالبية وهو الشيخ والولي عبد الرحمن الثعالبي، "القطب الرباني" كما وصفته الكتابات المنقبية.
عبد الرحمن الثعالبي و تكريس السلطة الروحية للمدينة
لا يزال عدد من الجوانب العمرانية والثقافية لمدينة الجزائر في فترتها الوسيطة غامضا لانعدام منوغرافيات تراثية محلية شبيهة بعنوان الدراية لأبي العباس الغبريني (ت 704هـ/1304م) حول بجاية أو البستان لابن مريم في بداية الفترة العثمانية فيما يخص تلمسان. إن هذه الوضعية لا يمكن تفسيرها إلا بالعلاقة الدائمة بين السلطة السياسية والسلطة العلمية، حيث أن هذه الأخيرة تتأثر بشكل كبير سلبا أم إيجابا بالقرار السياسي. لقد كان للدور الثانوي لمدينة الجزائر الوسيطة في بداياتها أثره في التشكل البطيء للحقل المعرفي المحلي، وجعلها في أكثر الأحيان محطة على الطريق الساحلي الرابط بين فاس في المغرب الأقصى ومدينة تونس حاضرة الحفصيين. فلم يكن باستطاعتها منافسة الحواضر المغربية الكبرى خصوصا فاس وتونس وتلمسان وبجاية، بسبب غياب سلطة سياسية محلية ترعى هذا الجانب خصوصا من خلال استقطاب نخب علمية لتوظيفها في الجهازين القضائي والديني. هذه الوضعية دفعت بالرحّالة العبدري إلى التصوير المأساوي للمشهد الثقافي للمدينة عندما زارها في القرن 7هــ/13م:
"...ولكنها أقفرت من المعنى المطلوب كما أقفر من أهله ملحوب، فلم يبق بها من أهل العلم محسوب، ولا شخص إلى فن من فنون المعارف منسوب، وقد دخلتها سائلا عن عالم يكشف كربة، أو أديب يأنس غربة، فكأني أسأل عن الأبلق العقوق وأحاول تحصيل بيض الأنوق"[45].
إن هذه الشهادة المأساوية لأحد طلاب العلم يطرح تساؤلات حول الوضعية الثقافية لمدينة الجزائر في القرن 7هــ/13م، لكن بمقارنة هذه الشهادة بمعطيات كتب التراجم سنلاحظ بروز مجموعة من النخب العلمية بداية من القرن 6هــ/12م، منهم على وجه الخصوص موسى بن حجاج بكر الجزائري (ت589هــ/1193م)[46]، وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر العطار الجزائري[47]. لكن الأشهر في التاريخ الروحي والثقافي للمدينة هو عبد الرحمن الثعالبي الذي لم يرتبط اسمه فقط بالقرن 9هــ/12م فقط، وإنما بالذاكرة الجماعية للمدينة في القرون الموالية.
ينتسب أبي زيد عبد الرحمن بن مخلوف الثعالبي (786-875هـ/1384-1470م) إلى الجماعة العربية الثعالبية التي تمكنت من السيطرة على مدينة الجزائر في نهاية الفترة الوسيطة. فقد ولد ونشأ على الأرجح بوادي يسر قبل أن يبدأ رحلة عملية قادته مع مطلع القرن 9هـ/15م إلى بجاية وتونس ومصر والحجاز وبلاد الأتراك، أين تتلمذ على يد عدد كبير من العلماء كان أبرزهم ولي الدين العراقي وأبي القاسم البرزلي التونسي. لقد صورت النصوص المنقبية الشيخ الثعالبي كالمتقلد لمنصب قضاء الجزائر مرغما، وكالمستقيل منه بحجة عدم جواز التعامل مع سلطة سياسية قامعة للسكان عن طريق فرض ضرائب غير شرعية[48].
يعتبر الثعالبي من بين الأسماء القليلة المنتسبة لمدينة الجزائر ممن عرفت بتآليف متعددة، منها على وجه الخصوص كتاب "الجواهر الحسان" الذي اختصر به تفسير ابن عطية، و"شرح ابن الحاجب" في الفروع الفقهية، وكتاب "الأنوار المضيئة الجامعة بين الشريعة والحقيقة". وكل هذه المؤلفات غلب عليها العقل الفقهي المقلد من خلال "الشروح" و"التعاليق" و"المختصرات"، وهي الصفة الغالبة في المشهد العلمي للعالم الإسلامي في الفترة المملوكية في المشرق وعصر ما بعد الموحدين في بلاد المغرب. لقد حاول الثعالبي الجمع بين الحقيقة والشريعة، بمعنى التوفيق بين نظرة الفقيه المدعي لامتلاكه للشريعة وسلطة الصوفي الكاريزماتية المنطلقة من فكرة امتلاك الحقيقة والمعرفة. فبعد السيطرة العسكرية والسياسية للثعالبة على مدينة الجزائر، جاء عبد الرحمن ليربط هذه الأخيرة روحيا بالجماعة الثعالبية وتصبح في النهاية "مدينة القطب الرباني سيدي عبد الرحمن الثعالبي"[49].
الخاتمة
في ختام هذه الدراسة المختصرة، نخلص إلى أن تاريخ مدينة الجزائر بالرغم من غموضه، فقد تميز بالاستمرارية على المستوى البشري على الأقل، بالرغم من القطيعة الواضحة بين الثقافة العربية الإسلامية الغالبة والثقافة القديمة الليبية منها واللاتينية. ليس من السهل في غياب شواهد نصية وأثرية معرفة تاريخ المدينة مع نهاية الفترة البيزنطية وبدايات الفترة الإسلامية الوسيطة، بالرغم من الإشارات التي توحي باستحواذ الجماعة القبلية الصنهاجية، بني مزغنة، على المدينة إلى غاية تجديدها على يد بلكين بن زيري في النصف الثاني من القرن 4هــ/10م. لقد جاء هذا التدخل الأميري في فترة عودة نظام الدولة-القبيلة لدى التركيبات السكانية المحلية في بلاد المغرب الأوسط، بعدما سيطرت العناصر العربية والفارسية على الحياة السياسية والعسكرية في الفترات الإسلامية الأولى.
إنّ دراسة التطور التاريخي لمدينة الجزائر، تبين بوضوح أن الجماعات البشرية المحلية المنعوتة بالبربرية من طرف الثقافات الوافدة كانت قادرة على تنظيم نفسها بدون تدخل الجهاز السياسي أو القوى الخارجية. كما تبين هذه الدراسة وجود مؤسسات تقليدية محلية، مشكلة أساسا من الأعيان، لعبت دورًا سياسيًا واجتماعيًا في تنظيم شؤون المدينة في غياب ممثل الدول المركزية التي تعاقبت على حكم المنطقة في مراحل تاريخية مختلفة.
إنّ تحويل المدينة إلى "إمارة-الدولة" على يد الثعالبة كان بمثابة الانطلاقة التاريخية للمدينة لتلعب دورها كعاصمة سياسية وعسكرية في الفترات اللاحقة، خصوصا في الفترتين التركية والفرنسية ثم الاستمرار في تأدية نفس الدور بعد استقلال الجزائر.
الهوامش
[1] لقد تم رفض فكرة المدينة الإسلامية على أساس أنها تصوير لمدينة العالم الإسلامي عشية الاستعمار، وقد تناول بعض الباحثين الغربيين هذه القضية بالتفصيل. أنظر:
Stern S.M., « The Constitution of the Islamic City », The Islamic City, (éd. A. H. Hourani et S. M. Stern), Oxford, Bruno Cassier Oxford, University of Pennsylvania Press, 1970, pp. 25-50 ; Garcin Jean-Claude, « Le Caire et l’évolution urbaine des pays musulmans à l’époque médiévale », Annales islamologiques, XXV (1991), pp. 289-304 ; Guichard Pierre, « Les villes d’al-Andalus et de l’Occident musulman aux premiers siècles de leur histoire, une hypothèse récente », Genèse de la ville islamique en al-Andalus et au Maghreb occidental, éd. P. Cressier et M. Garcia-Arenal, Madrid, Casa de Velàzquez, 1988, pp. 37-52.
[2] تحقيق و نشر فريد بن سليمان، تونس، مركز النشر الجامعي، 1999.
[3] تحقيق بكير بن محمد الشيخ بلحاج ومحمد ناصر، غرداية، منشورات جمعية التراث، ط 2، 1997.
[4] من بين الدراسات التي تناولت هذا الموضوع، نشير خصوصا إلى:
Cambuzat, Paul-Louis, L’évolution des cités du Tell en Ifrīqiya du VIIe au XIe siècle, Alger, Offices des publications universitaires, 1986, 2 vol ; Siraj Ahmed, L’image de la Tangitane, l’historiographie arabe médiévale et l’antiquité nord-africaine, Rome, École Française de Rome, 1995; Thebert Yvon, « Permanences et mutations des espaces urbains dans les villes de l’Afrique du Nord orientale : de la cité antique à la cité médiévale », Cahiers de Tunisie, XXXXIV, 1986, pp. 31-46.
[5] Gsell Stéphane, Histoire ancienne de l’Afrique du Nord, Paris, Hachette, 1928, vol. V, p. 249, vol. VIII, p. 204 ; Le Tourneau Roger, « al-Djazāir », Encyclopaedia of Islam, Leiden, Brill, vol. II, p. 289.
[6] خصوصا في حفريات جميلة، سطيف، تيمقاد، شرشال و تيديس.
[7] ازدهرت الكتابات التاريخية في إطار فن الفتوح بداية من نهاية القرن الثاني الهجري. ويعتبر نص الواقدي من أقدم النصوص التي صورت الماضي وفق رؤية مبنية على تصوير حنيني وبطولي وأسطوري للحملات العسكرية التي قادت إلى إلحاق عدد كبير من المناطق بدار الإسلام. و بالنسبة للمغرب، فإن أقدم النصوص التي وصلتنا تعود إلى القرن الثالث الهجري خصوصا كتاب ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب، تحقيق علي محمد عمر، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، 1995.
[8] لقد خلص ليوبولد تورس بالباس، المدن الإسبانية الإسلامية، ترجمة إليو دورو دي لابنيا، الرياض، منشورات مركز الملك للبحوث والدراسات الإسلامية، 2003، ص.ص. 21-37، إلى التأكيد على الغموض الذي واكب عملية انتقال المدن من مرحلتها الرومانية إلى فترتها الإسلامية في إسبانيا.
[9] ابن حوقل، صورة الأرض، بيروت، منشورات دار مكتبة الحياة، 1992، ص.ص. 77-78.
[10] نظرا للأصل المحلي (البربري) لاسم مزغنة، فإنه ورد بصيغ مختلفة في النصوص التاريخية والجغرافية والرحلية العربية منها "بني مزغنى" عند البكري المشار إليه في الأسفل، و"بني مزغنة" عند الزهري، كتاب الجغرافيا، نشر محمد حاج صادق، بورسعيد، الظاهر، (د ت)، ص. 107، و"بني مزغنا" عند الادريسي وابن عبد المنعم الحميري كما هو مشار إليه في الورقات الموالية، كما ورد اسم الجماعة البشرية التي نسبت المدينة إليها باسم "بني مزغنان" في نصين، تاريخي وجغرافي، لابن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت، دار الكتاب العربي، (د. ت)، ج 4، ص. 280، وأبي الفداء، كتاب تقويم البلدان، نشر رينو دوسلان، باريس، 1840، ص. 124.
[11] Allaoua, Amara, « L’animation de la façade maritime du Maghreb central (VIII-XIIe siècle), Revue des Lettres et sciences humaines, 6, 2005, pp. 10-11.
[12] Picard, Christophe, La mer et les musulmans d’Occident au Moyen Âge, Paris, Puf, 1997, pp. 78-80.
[13] Ibid, p. 16.
[14] يعتقد نور الدين عبد القادر، صفحات من تاريخ مدينة الجزائر من أقدم عصورها إلى انتهاء العهد التركي، قسنطينة، مطبعة البعث، 1965، ص. 31، بأن عدد هذه الجزر بلغ أربعة، ضمت كلها إلى الميناء.
[15] تقع أشير إلى الجنوب الشرقي من مدينة قصر البخاري في جبال التيطري، وقد تعرف الباحثون على ثلاثة مواقع أثرية متقاربة منها منزه بنت السلطان الذي كان به قصر زيري الذي بني عام 324هـ/935م. حول هذا الموضوع أنظر:
Marçais Georges, « Recherche d’archéologie musulmane (Achir) », Revue Africaine, 310 (1922), pp. 21-38 ; Golvin Lucien, Le Maghreb central à l’époque des Zirides, recherches d’archéologie et d’histoire, Paris, Arts et métiers graphiques, 1957, p. 55 ; Lézine Alexandre, « La salle d’audience du palais d’Achir », Revue des Études Islamiques, XXXVII-2 (1969), pp. 203-218 ; Carver Martin et Souidi Djamel, « Archeological Reconnaissance and Evaluation in the Achir basin (Algeria) », Archéologie Islamique, 6, 1996, pp. 7-44.
[16] البكري، المسالك والممالك، تحقيق جمال طلبة، بيروت، دار الكتب العلمية، 2003، ج 2، ص. 247. نص البكري نقل حرفيا من طرف صاحب كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار، تحقيق سعد زغلول عبد الحميد، الإسكندرية، كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، 1958، ص. 132، وكذلك ياقوت الحموي، معجم البلدان، بيروت، دار الفكر،(د ت)، ج 2، ص. 132، وابن عبد المنعم الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق إحسان عباس،بيروت، مؤسسة ناصر، 1980، ص. 163.
[17] الدرجيني، كتاب طبقات المشائخ بالمغرب، تحقيق إبراهيم طلاي، قسنطينة، دار البعث، 1974، ج 2، ص.ص. 351-352.
[18] "وكتم أمره...حتى توسط البحر، وأعطى للنواتية مالا جسيما، وأخبرهم غرضه. وخرج بالجزائر، وأكرمه صاحب القلعة، وأمنه في ذخائره، وأكرم ضيافته...". عبد الله بن بلكين،كتاب التبيان، تحقيق ليفي بروفنسال، القاهرة، مكتبة المعارف، 1955، ص. 168.
[19] مجهول، كتاب مفاخر البربر، نشره محمد يعلى ضمن ثلاثة نصوص عربية عن البربر في الغرب الإسلامي، مدريد، المجلس الأعلى للأبحاث العلمية، 1996، ص.ص. 190-191.
[20] ابن الخطيب، كتاب إعمال الأعلام فيمن بويع من ملوك الإسلام قبل الاحتلام، تحقيق للجزء الخاص بالمغرب من طرف أحمد مختار العبادي ومحمد ابراهيم الكتاني، تاريخ المغرب العربي في العصر الوسيط، الدار البيضاء، 1964، ص.ص. 63-64.
[21] ابن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من دوي السلطان الأكبر، بيروت، مؤسسة جمال للطباعة والنشر، (ب ت)، ج 6، ص. 154.
[22] ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق ليفي بروفنسال وج س كولان، بيروت، دار الثقافة، 1980، ج 1، ص. 347.
[23] يظهر من خلال الرواية الباديسية لاتفاق جناحي العائلة أن إدارة مدينة الجزائر رجعت إلى جارتها مدينة مرسى الدجاج. أنظر ابن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت، دار بيروت، 1983، ج 9، ص.ص. 258-259، شهاب الدين النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، تحقيق حسين نصار وعبد العزيز الأهواني، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983، ج 24، ص. 206.
[24] ابن خلدون، المصدر السابق، ج 6، ص. 173.
[25] حول هذه الإشكالية أنظر:
Talbi, Mohamed, « Effondrement démographique au Maghreb du XIe au XVe siècle », Cahiers de Tunisie, XXV (1977), pp. 51-60.
Allaoua, Amara, « Retour à la problématique du déclin économique du monde musulman médiéval : le cas du Maghreb hammadide XI-XIIe siècles », The Maghreb Review, 28-1 2003, pp. 2-26.
[26] لقد بالغ عدد من الباحثين المغاربة في تصوير الحركة المرابطية عندما قرؤوها بعيون الحاضر واعتبروها حاملة "لمشروع الوحدة المغربية الكبرى" والطامحة إلى "وحدة المغرب الكبير". أنظر على سبيل المثال، محمد زنيبر، المغرب في العصر الوسيط: الدولة- المدينة- الاقتصاد، الرباط، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1999، ص.ص. 71-74.
[27] ابن عذاري المراكشي، المصدر السابق، ج 1، ص. 299، ابن أبي زرع الفاسي، روض القرطاس في ملوك المغرب ومدينة فاس، ترجمه إلى اللغة الفرنسية، بومييه،
Beaumier, A., Roudh el-kartas, histoire des souverains du Maghreb et annales de la ville de Fès, Paris, Imprimerie royale, 1843, p. 299.
وأنظر كذلك دراسة الباحث فارستنار:
Farstner, Martin, Das Wegnetz des Zentralen Maghreb in Islamischer Zeit, Wiesbaden, Otto Harrassowitz, 1979, p. 86.
[28] Bourouiba, Rachid, Les inscriptions commémoratives des mosquées d’Algérie, Alger, Office des publications universitaires, 1984, p. 92.
هناك إشكال كبير جدا يطرح فيما يخص تاريخ بناء الجامع الأعظم، على أساس أن هذه المؤسسة الدينية كانت موجودة قبل الوجود المرابطي. فهل من الممكن اعتماد الكتابة التذكارية المنبرية والأقواس على الشاكلة المرابطية كدليل لنسبة المسجد للمرابطين كما فعل رشيد بورويبة؟
[29] ابن خلدون، المصدر السابق، ج 6، ص.ص. 176-177.
[30] ابن الخطيب، المصدر السابق، الجزء الخاص بالأندلس، ص. 191.
[31] المصدر نفسه، ص. 192، 277.
[32] ابن الخطيب، القسم الخاص بالمغرب، ص.83.
[33] لعب هذا الطريق البحري دورا كبيرا في تنشيط الحركة التجارية خلال الفترة الوسيطة كما تدل على ذلك النصوص التاريخية ووثائق الجنيزة. أنظر:
Stillman Norman, A., « Un témoignage contemporain de l’histoire de la Tunisie ziride », Hespéris Tamuda, XIII (1972), p. 43. Constable Olivia Remie, Trade and Traders in Muslim Spain, the Commercial Realignment of the Iberian Peninsula 900-1500, Cambridge, Cambridge University Press, 1994, p. 31, 37.
[34] بالنسبة لبعض الباحثين ومنهم هنري براسك، فإن الهجرة الهلالية عزلت المدن الساحلية، وقد تكون هذه النتيجة صحيحة لبعض مدن إفريقية، لكن لا يمكن تعميم ذلك على مدن بجاية والجزائر.
Bresc, H. « Le royaume normand d’Afrique et l’archevêché de Mahdiyya », Le partage du monde, échanges et colonisation dans la Méditerranée médiévale (s/d M. Balard et A. Ducellier), Paris, Publication de la Sorbonne, 1998, p. 347.
[35] الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، بيروت، عالم الكتب، 1989، ج 1، ص. 258.
[36] أنظر حول هذه العلاقات مع المدن البحرية الأوروبية دراسة دمنيك فاليريون التي خص بها ميناء بجاية من خلال تحديد مجاله التجاري المغاربي، خصوصا مع مدينة الجزائر.
Valérian, Dominique, Bougie, port maghrébin, 1067-1510, Rome, École française de Rome, 2006.
[37] ابن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، نشر عبد الوهاب بن منصور، الرباط، المطبعة الملكية، 1999، ص. 305.
[38] ابن خلدون، المصدر السابق، ج 6، ص. 254.
[39] ابن أبي زرع، المصدر السابق، ص 305 (النص العربي).
[40] العبدري، الرحلة، تحقيق أحمد بن جدو، ص. 23.
[41] ابن خلدون، المصدر السابق، ج 6، ص 461، ج 7، ص 101، يحي بن خلدون، بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد، تحقيق عبد الحميد حاجيات، الجزائر، المكتبة الوطنية، 1980، ج 1، ص 91.
[42] دائرة المعارف الإسلامية، مادة "الجزائر"، ترجمها إلى العربية ثابت أفندي وآخرون، ص. 409.
[43] ابن خلدون، المصدر السابق، ج 6، ص.84.
[44] علي عبد القادر حليمي، المرجع السابق، ص.ص. 217-218.
[45] العبدري، المصدر السابق، ص. 23.
[46] ابن عبد الملك المراكشي، الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، تحقيق محمد بن شريفة، الرباط، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 1984، السفر الثامن، القسم الثاني، ج 380-381.
[47] المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس، بيروت، دار صادر، 1968، ج 5، ص.ص. 480-487.
[48] يمكن للقارئ الاطلاع على حياة ومؤلفات الثعالبي في عدد من النصوص التراثية والدراسات الحديثة، منها شمس الدين السخاوي، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، بيروت، دار مكتبة الحياة، (ب ت)، ج 4، ص 152، أحمد بابا التنبكتي، نيل الابتهاج بتطريز الديباج، القاهرة، 1351هـ، ص. 173، عادل نويهض، معجم أعلام الجزائر، بيروت، مؤسسة نويهض الثقافية، ص 90.
[49] حول الجانب الصوفي للثعالبي، أنظر مثلا دراسة عبد الرزاق قسوم، عبد الرحمن الثعالبي والتصوف، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ص.ص. 49-75.