إنسانيات عدد 46 | 2009 | ألسنة وممارسات خطابية | ص65-82 | النص الكامل
“Saalik” poetry. A corpus reading Abstract: This study tries to consider a part of pre-Islamic poetry and to bring to light an important category, that of traditional Arabic poetry. It’s a matter of revealing the facets of Saâlik poets’ lives, through an anthropological analysis of their texts, far from historical prejudices. |
Mohamed BERROUNA, Maître de conférences, Université d'Oran, 31 000, Oran, Algérie
إن شعر الصعاليك ملتزم بنمط معين و متن معين، وشعراؤه طبقة معينة، وهو وجه آخر ينضاف إلى الشعر الجاهلي ويزيده إثراء وعمقا، وتتعدد به الرؤى لطبيعة الإنسان في ذلك العصر،باختلافاته وائتلافاته وتناقضاته، وقد يُزيل بعض الغموض الذي ميّز العصر الجاهلي، ويزيح الغبار على كنه تناقضاته الاجتماعية والثقافية، وذلك بإزالة تلك الصورة القاتمة التي بسطها التاريخ على حياة (الفتية) الصعاليك وثقافتهم وموقفهم من (المجتمع) الجاهلي.
لقد درج الباحثون -على عادة- في دراستهم للصّعلكة، فتبنى النّقاد ما تقوله سلطة القبـيلة. فشِعر الصّعاليك شعر معارض للقبيلة ومفاهيمها، وهو شعر (صادق) لأن الشعر الصّادق هو الّذي يرفع يده وصوته في وجه التّسلّط والظّلم، وهذا ما فعله الصّعاليك.
لذلك علينا أن نعيد النظر جذرياً في التهم التي تُلصَق بالصّعلكة،لأنّها صادرةٌ عن السّلطة، وليست صادرة ًعن النّص الصّعلوكي. و أن نقرأه قراءة أخرى، تعتمد أساسا على النص وحده، وإرجاء الآراء التاريخية الجاهزة التي أُلصِقت بالصّعاليك إلى حين.!
نجد المستشرقين يعيبون على أدبنا أنّه أدب زيف، وهجاء، ومدح، ويضيف هؤلاء المستشرقون أنّ الأدب العربي أدب "سلطة"، كانت تغذيه، وتقرّبه، وتشلّ حركته التّاريخية، في حين أنّ الأدب هو الحياة برُمّتها، بصرف النظر عن موقف" السلطة"، والأدب الخالد هو الذي يقف دائماً موقفا حراً؛ وهذا موقف الشعراء الصّعاليك، ومن ثمّ نجد في أدبنا هذه الصّفحات الرّائعة التي لا تصدر إلاّ عن حرية الفنان.
فالصعاليك قوم لم تدجنهم "السلطة"، ولم تترك ملحاً في طعامهم، في حين نجد أنّ الشنفرى، على سبيل المثال، يرفض - انطلاقاً من حبّه للحرية - مراسيم القبيلة وطقوسها وأمورها، وهو بذلك يرفض الكذب والنفاق، ويفضّل أن يسمي الحقائق بأسمائها، ولا همّ له إنْ أغضب قبيلته (السلطة)، أو غيرها، لأنّ همّه الوحيد أن يكون أديباً حرّاً؛ ولهذه الأسباب وغيرها، كان لزاماً على الباحثين في شعر الصعلكة، أن يردّوا له اعتباره، وأن لا ينظروا إليه على أنّه خروج عن الطّاعة، وتمرّد على القبيلة فحسب، بل علينا أن ننظر إليه من زاوية أخرى، وأن نقرأه كما هو، لا كما يراه الآخرون الّذين حاكموه ولم يقرؤوه، وحتى كلمة (صعلكة)، تفيد معانيَ ليست طيبة، في حين أنّ الطِّيبة كلّها تسكنها، إذ إنّ الشّعر هو التعبير الحر عن وضعية اجتماعية، وليس دعاية للقبيلة أو الخليفة.
وهذا ما حاول بعض الباحثين أن يفعلوه، إذ توجّهوا لهذا الأدب، ودرسوه بالمنهج الاجتماعي، فرأوا فيه يساراً عربياً يحرك حرية الفكر بكل طلاقة، ولا بدّ أن أشير هنا، أنّ مواقف السلطة إزّاء هذا الأدب تغلغلت شعورياً أو لاشعورياً في ثنايا هذه الدّراسات التي نقول عنها إنّها جديدة، فمادة الصّعلكة تُملي المنهج:
فالاشتراكيون، مثلاً، يقرؤونه في ضوء الاشتراكية، والمتمرّدون، يقرؤونه في ضوء التمرّد، والّذين ينزعون نحو التّجديد، كانوا يرون المثال في شعر الصّعاليك، لأنّه قبل أن يكون خروجاً عن القبيلة/السلطة، وبحثاً عن الحرية، كان خروجا عن القصيدة العربية وموضوعاتها الجاهزة المتآكلة من شدّة التّداول، وهذا ما قاله عنترة نفسه : " هل غادر الشّعراء من متردّم..."
ومن هنا لا نجد المعجم الطللي عندهم إلاّ نادراً، وإن كنّا نجد المكان في ضوء جديد، ولا يعني المكان، الطّلل، ولهذا، كان من الصعب أن يطبقوا المعايير الفنية التقليدية (التي تمثّل القبيلة) في شعرهم، لأنهم أصلاً، رافضون للقبيلة كلّها؛ قيمها، وتاريخها، وطقوسها...
ولذلك نستطيع القول؛ إنّهم ظاهرة فريدة في الأدب العربي، تحتاج إلى دراسات جديدة تُبعد عنها كل الأكاذيب التاريخية التي لفّقتها "السّلطة" لهذا الأدب، لتبعده عن عرقلة سيرها في التّاريخ، ولذلك يمكن القول؛ إنّه أوّل أدب معارضة عند العرب !!!.
من الطّبيعي جدّاً، أن يخالف الصعاليك (المجتمع) القبلي الذي تمرّدوا عليه، في نمط العيش، وفي شكل التّجمّع والتّعايش، والطّقوس والمعتقدات، وأن يخالفوه ويختلفوا مع فنّه وموضوعاته، وبنية قصيدة شعرائه، بل وتفرّدهم في شعرهم، من حيث وحدة الموضوع والمضمون، وإذا أخرجنا الصّعلكة من مفهومها السّلبي - مفهوم القبيلة والتاريخ - إلى قيمـة فنية تبرز من خلالها إبداعات عروة، و الشنفرى، والسّليك، وتأبط شرّا، وأبي خراش الهذلي، وصخر الغي وغيرهم... فإنّنا نستخرج من رواسبها العميقة فنّاً متأنّياً جميلاً، وألاّ يضيع الشنفرى و عروة وأبا خراش... فيُفتّت شعرهم أبياتٍ وكلمات، ويُقرأ كوثيقة تاريخية أو اجتماعية، ويُطمس تفرّدهم، وتضيع شعريّتهم المتميّزة في خضمّ بحر الشعر الجاهلي العام. فدراسة المعلقات، وتحليل القصائد الطوال لشعراء الجاهلية؛ (شعراء القبيلة) تحليلاً شمولياً، أحدث شرْخاً وخللاً في جوانب أخرى من هذا التّراث الزّاخر بالفنون المتعدّدة الرّؤى.
إنّ طبيعة شعر الصعاليك تختلف في كثير من الجوانب عن طبيعة الشعر الجاهلي برمّته، ويدعو اختلاف الصعاليك عن (المجتمع) الجاهلي القبلي، الدّارسَ لشعرهم أن يقوم أساساً على رصد ملامح الشّعرية في شعرهم، بل في شعر كل واحد منهم، لاستكشاف المصدر الأصلي للحقيقة الضّائعة أو المغمورة أو المسكوت عنها، ومن الموضوعية أن نقرأ في هذه الذّاكرة، حتى ندرك الفرق والبون الشّاسع بين الصّعلكة الواقعية التي أسّس لها اللّغويون والنّحاة، وبين الصّعلكة الشّعرية التي نسعى إلى البحث عنها وإدراكها، وبالتّالي نميّز بين صورة الصعلوك التي شوّهها التّاريخ القبلي السلطوي، وبين صورة الصعلوك الّتي يحتفي بها (الشعراء الصّعاليك)، والّتي أغفلها الرّواة.[1]
إنّ انقطاع الصّلة بين الصعاليك وبين قبائلهم، من نواحٍ متعددة؛ اجتماعية واقتصادية و سياسية...أدّى إلى انقطاعها فنيا، وهذا الشرخ الذي حدث بينهما، وَلّد لديهم رؤى مختلفة ومخالفة في كثير من الموضوعات التي جادت بها قرائحهم، وإنْ غابت بعض الرؤى، كما جاءت في شعر القبائل، فإنّ الصعاليك وضعوا لها معادلا موضوعيا، تُردَّد في شعرهم، بحكم المحيط الذي ألفوه، بطبيعته، ووحشه، وإنسه، وبحكم مغامراتهم، وتربصهم بالقبيلة وأملاكها، وقوافل تجارتها؛ فحضر – بشكل جليّ- الوحش الذي اختاروه أهلا بديلا، لأنهم لجأوا إلى أمكنته، وسكنوا كهفه، واعتصموا بأعالي الجبال .
فأصبح شعرهم يعبّر عن هذه الحياة الجديدة التي ألفوها بطبيعتها ووحشها، وتحرروا من سلطة القبيلة وشيوخها و سادتها، وأضحى " الأنا الفردي" طاغيا، وانتفى ضمير القبيلة من قاموسهم، وإن ورد ضمير الجمع في شعرهم، إنما هو "الأنا الجمعي" الذي يعبّر عن تجمع الصعاليك، حيث لا تربطهم رابطة القبيلة أو اللون أو النسب، وإنما رابطة جديدة على المفهوم الاجتماعي آنذاك، إنها رابطة الحِرفة، و الصّنف والمبدأ، وهي نسبهم الوحيد.
وهذا "الأنا الجمعي" الحاضر في شعرهم، إنّما هو تعبير عن التّكتّل والتجمع، والتمرد، هذا التمرد الذي حرّر الشعراء الصعاليك من السلطة، فجاء شعرهم ليمزق ستار السلطة وحجابها، وليخترق طقوسها ومكنوناتها فتحرروا من الذوبان في القبيلة، في الآخر، وصنع كل واحد من الصعاليك فرديته، إلى جانب شخصية الجماعة – جماعة الصعاليك – دون الذوبان فيها، وإنما ليتحرر كل واحدٍ بشخصيته ويعتز بها، وليس اعتزازه مرتبطا – بالضرورة – باعتزاز الآخر، فاختار الشاعر الصعلوك هذا الحيّز، "على أنّه جزء لا يتجزّأ من ذاتيته الأعمق غورا، بينما يؤلف الشكل الذي يتظهّر به في نظره، هو كفنان، الوسيلة الأولى، اللازمة، العليا، لوضع المطلق، وروح الأشياء في متناول الإدراك "[2]. و من هنا وقع الاختيار على الأسمى والأعلى والأرقى والأخوف والمهول؛ على الجبل وقمته ووحشه.
1. الجبل – أو المرقبة
ورد في شعر الصعاليك، سرد لحكاياتهم عن تربصهم بأعدائهم، وعن مغامراتهم، من أماكن غير محدّدة جغرافيا، ولكنهم أشاروا إلى طبيعتها بالوصف الدّقيق، فسموها "المراقب"؛ أعالي الجبال، وقممها، فكانت الملجأ، منها يتربصون، وعليها يترصدون لضحاياهم، فيخططون لرصد الهدف، لتحين الفرصة للانقضاض والإغارة، وكثيرا ما كانوا يختارون الليل لتنفيذ خططهم، كما يصور الشنفرى -في إحدى قصائده - إحدى المراقب التي كان يلجأ إليها مترصدا، متربصا في قوله[3]:
وَمَرْقَبَةٍ عَنْـقاءَ يَــقْصُرُ دونَها |
V |
أَخو الضِّرْوَةِ الرِّجْلُ الْحَفِيُّ الْمُـخَفَّـفُ[4] |
نَعَيْتُ إلى أَدْنـى ذُراها وَقَدْ دَنـا |
V |
مِنَ اللَّيْـلِ مُلْتَفُّ الْحَـــديقَةِ أَسْــدَفُ |
فَبِتُّ على حَدِّ الذِّراعَيْن مُجْذِيًــا |
V |
كَما يَــتَطَوّى الأَرْقَــمُ الْمُتَعَـــطِّفُ |
وَلَيْسَ جَهازي غَيْرُ نَعْلَيْن أَسْحَقَتْ |
V |
صُـدورُهــما مَخـْصورَةً لا تُــخَصَّف |
وَضُنِّيَّةٍ، جُرْدٍ وَإخْلاقِ رَيْطــةٍ |
V |
إذا أَنْـــهَجَــتْ مِنْ جانِبٍ لا تُـكَفَّفُ[5] |
إن الشنفرى، في هذه الأبيات، يرقى إلى أعلى الجبل، ويتخذه مرقبة يعجز الآخر أن يصلها ليستقل بشخصيته و فرديته، "فالفرد كائن ما هو كائن عليه، وإنّما بفضل ذاتية الشخصية، هذه الشخصية التي ترتكز، بالتالي، لا إلى المضمون و إلى حماسته الثابتة، بل بصورة شكلية إلى الإستقلال الفردي"[6].
والصعلوك حين يصور الارتقاء، إنّما يصور ارتقاء نفسه على الآخر، ويرى في هذه المرقبة الطويلة العالية، تعبيرا عن تساميه، وهو يعيش حاضره، دون أن يلتفت إلى الماضي كما فعل الباكون على الأطلال وهذا يعني أنّه يملك حاضره راضيا قنوعًا، غير مبال بما يخبّئه له المستقبل، فالشنفرى يواجه الواقع، ويطرح الحاضر على أنه هو المنير الواضح، بكل سلبياته ونقائصه، بل ويواجه اللّيل وظلمته، رافعا رأسه، ثابتا قائما، والواقع أن وصف الجبل والمرقبة، هو تعبير عن واقع حياة الصعلكة، وتجسيد التثبت بالحاضر وإلغاء الماضي ونسيانه، واندماج في الطبيعة الحيّة. "فالفنان الذي يبقى مشدودا إلى الطبيعة، بأواصر كثيرة، يندمج في الموضوع، يؤمن به، يعده مطابقا في الهوية بأناه، بل لأناه الأكثر حميمية"[7].
ويقول الشنفرى في هذا الاتجاه[8]:
تَرودُ الأَراوي الصُّحْمُ حَوْلي كأنَّها |
V |
عَذارى عَــلَيْهِــنَّ الْمُـلاءُ الْمُـذَيَّـلُ |
وَيَرْكُـدْنَ بِالآصَالِ حَوْلي كأنَّنِـي |
V |
مِنَ الْعُـصْمِ أَدْفى يَنْتَـحي الْكِيحَ أَعْقَلُ |
نلاحظ أن الجبل أو المرقبة، هذا المكان المطلق، يعوض الشاعر الصعلوك، ما افتقده في القبيلة، فيعوضه حمايتها ودفأها، والانتماء إليها، لينقلب عليها، ويشنّ عليها غاراته رفقة رفاقه:[9]
يَشُنُّ إِلَيْهِ كُلُّ ريعٍ وَقَلْعةٍ |
V |
ثَمانِيَـةً وَ الْقَوْمُ رجْلٌ و مِقْنَبُ |
ثم يقول:[10]
أُمَشّـي بِأطْراف الْحَماطِ وَتَـارَةً |
V |
يُنَفِّضُ رِجْـلي بُـسْبُطًا فَعَصَنْصَرَا |
وَيَوْمًا بِذاتِ الرِّسِّ أَوْبَـطْنِ مِنْجَـلٍ |
V |
هُـنالِكَ نَــبْغـي الْقـاصِيَ الْـمُتَـغَـوِّرا |
ويقول مصوّرًا، اعتصامه بطريق في جبل، وقد لواه الجوع ؛ وهو يصف ذئبًا كان برفقته، بل هو وصف لحاله:[11]
غَدا طاوِيًا يُعارض الرّيحَ هـافِيًا |
V |
يَخوتُ بأذْنابِ الشِّعابِ وَيَعْــسِلُ |
وبقيت تلك المراقب، شاهدة على الشنفرى، بعد موته، إذ وردت في مرثية تأبط شرا، وهو يتذكر الشنفرى وانقضاضه على (فرائسه)، وثأره من أعدائه، فوقف تأبط شرا يرثيه ويتذكره، كما يقف الشاعر على الطلل باكيا متذكرا :[12]
وَمَـرْقَبَةٍ شمّـاءَ أَقْعَيــْتَ فَوْقَـهَــا |
V |
لِــيَغْـنَــــمَ غازٍ أَوْ لِيُـدْرِكَ ثَائـِـرُ |
ولتأبط شرا، أوصاف طريفة يصف بها مرقبته، فيصور شعاب الجبل، وأخاديده، وكأنها تجاعيد في وجه عجوز، ذات أسمالٍ بالية:[13]
وَمَرْقَبَةٍ يَا أُمَّ عَمْـرٍو طِمِرَّةٍ |
V |
مُـذَبْذَبَةٍ فَوْقَ الْمَراقِـبِ عَـيْطَلِ |
نَهَضْتُ إِلَيْـها مِنْ جُـثُومٍ كَـأَنَّهَا |
V |
عَجوزٌ عَلَيْـها هِدْمِلٌ ذاتُ خَيْعَلِ[14] |
ولم يكن للصعاليك، مهرب، أو مخباً، إلا الجبل، والمسالك الوعرة التي يصعب على الفرسان وخيلهم اللحاق بهم، وهذا تأبط شرا، بخفته، يلجأ دوما إلى الطّود، جاريا في نقابه :[15]
وَ زِلْتُ مُسَيَّـرًا أَهْـدي رَعيلاً |
V |
أَؤُمُّ سَـوادَ طَـوْدٍ ذي نِقـابِ |
وفي سرده لمغامراته، نجد الجبل حاضرا، شاهدا على حيله التي طالما نجته من الوقوع في قبضة الأعداء، وكذا معرفته بشعاب الجبال وخباياها :[16]
وَ بالشِّعْـبِ إذْ سَدَّتْ بَجيلةُ فَجَّهُ |
V
|
وَمِنْ خَلْفِه هَضْبٌ صغارٌ وَ جامِــلُ[17] |
كان الصعاليك يختارون المراقب التي تؤدي الغرض، وتفي بالمطلوب، ولها مواصفات خاصة، فلم يكن لجوؤهم إلى الجبال قصد مصاحبة الوحش، وإنّما كانوا يختارون الجبل العالي، مَهْرباً وملجأً لهم بعد الغزْو، لِئَلاّ يلحق بهم الأعداء، ويختارون الجبل ذا المرقبة العالية، ليترصدوا الفرائس وينقضوا عليها، بعد مراقبتها و التخطيط لها ولا بأس هنا، أن أعيد ما ذكر في " الطلل " - حيث يصف تأبط شرا قمّة جبل، اتخذها حصنا وملجأ، وهي بمثابة السلاح الذي يبعث الأمل والاطمئنان في نفس الشاعر؛ وبالتالي تتحول قمة الجبل إلى سنان رمح، وينتقل تأبط شرا متجولا في عالمه الخاص دون ارتباط بالزمان، رافضا الركون إلى الآخر/القبيلة، وسلطتها، حيث يقول:[18]
وَقُلَّـةٍ كَسـنانِ الرُّمْح بـارِزَةٍ |
V |
ضَحْيانَــةٍ في شُهور الصَّيـْـفِ مِحْراق |
بادَرْتُ قُنَّتَهـا صَحْبي وَماكَسِلوا |
V |
حَــتّى نَمَيـْتُ إليــها بَـعْد إِشْراق |
إِذا ما هَبَطْنا مَنْهَلاً في مَخوفَـةٍ |
V |
بَعَثْنا رَبيئًا في الْمَرابِئ كَالْجِذْل |
يُقَلِّبُ في الأرْضِ الْفَضاءِ بِطَرْفِهِ |
V |
وَهُنَّ مُناخاتٌ وَ مِرْجَلُنا يَغْـلي |
أما عروة بن الورد، الوجه الآخر للصعاليك، المحبّ للزعامة، الطّموح إلى الكسب و الغنى، الكريم الجواد، -كما وصفه الخليفة عبد الملك بن مروان-[19] وروح الزعامة فيه، والقيادة، جعلته ينظم غزواته ومعاركَهُ، كما يفعل قادة الجيوش وهم مقبلون على حرب أو معركة، إذ يختار المكان المنيع المناسب و المخيف معًا، و يبعث بربيء، أحد أتباعه من الصعاليك، ليقف على مرقبة حارسا، ويصف عروة بن الورد هذا الربئ المنتصب في أعلى الجبل كالشجرة، لا يتحرك فيه إلاّ عيناه، بينما الآخرون، يستريحون في مكان آمن، وتستريح خيلهم وإبلهم، وبعضهم يهيّء الطعام، كل هذا يصفه عروة وهو في موقف الزعيم[20] :
ومن هنا، نستنتج أنّ لجوء الصعلوك إلى الجبل، (واقعاً) و(فنيّا)، إنّما ليثبت وجوده، ويعزز مكانته، ويؤكد حريته التي وفرت له الانطلاق، والانسلاخ من القبيلة وسلطتها، هذه الجبال، والمراقب، وما تتميّز به من علوّ و سموّ، ارتاحت لها نفسية الصعلوك، وألِف قسوتها واستأنس وحشتها ووحوشها ... ونطمئن – من هنا – إلى توافر العنصر الأنثروبولوجي في الجبل والمرقبة، من خلال الأوصاف الدّقيقة التي يقف عندها الصعلوك، ويعجز غيره على بلوغها رغم تجهيزه بالخيل والكلاب، وهو لا يملك إلا نعلين باليتين، ولباس رثّ، ولكنه يملك العزيمة، وهو يرافق الأراوي والوعول التي طالت قرونها. و الصعلوك لا يقف عند مرقبة، أو جبل محددين، وإنّما ينتقل بين كلّ الجبال والمراقب ويسميها؛ فتارة "عصنصر" وتارة أخرى "بُسبط" وطوراً "بمنجل"، وفي كثير من المواقف، لا يذكر الصّعلوك المكان بدقة وتحديد، إنّما يصفه مطلقا، ويتفنّن في وصفه، ووصف دقائقه؛ شعابِه وصخورِه الحادّة كسنان الرّمح، وأخاديده كتجاعيد عجوز شمطاء، ثم يستكشف أنواعا من النبات لا تنمو إلا في قمم هذه الجبال التي تعتصم بها الأراوي والوعول، وورق الحمام، ولا يستطيع أن يرقى إليها أحد غير الصعاليك، وقد عثروا على نبات لم يمسسه إنس ولم يرق فيها راق، ولا راع، ولا أحد، فيأكل ما انتشر وما طال من النبات، يقول أبوكبير الهذلي :[21]
وعَلَوتُ مُرْتَبِئًا على مَرْهوبَةٍ |
V |
حَصَّاء ليس رقيبُها في مَثْمِلِ[22] |
عَيْطاءَ مُعْنِقةٍ يَكونُ أَنيسُهـا |
V |
وُرْقُ الحَمامِ جَميمُها لَمْ يُؤْكَـلِ[23] |
وكأنّه اقتحم المجهول، و المخبوء الذي لا يعرفه الآخر، فعلَت نفسه وتسامت، واطمأنّت سريرته، بعدما بتر العلاقة بينه وبين القبيلة، وتمرّد على سلطتها وطقوسها.
2. الوحش
إنّ لجوء الصعاليك إلى الجبال، والفيافي الموحشة، ووديانها المخيفة، أدّى إلى مواجهة وحوشها؛ من ذئاب وضباع وغيرها، فتفننوا في تسمية هذه الوحوش ووصفها بأوصاف مثيرة، وهو أمر طبيعي، أن يحضر الوحش بقوة في شعر الصعاليك، لأنهم ألفوه واستأنسوه، بل وصاروا منه، وارتبط بهم، كما يقول الشنفرى:[24]
وَلي دونكم أَهْلون : سِيدٌ عَمَلَّسٌ |
V |
وَأرْقط زُهْلولٌ وَعَرْفاءُ جَيْأَلُ |
وهذا إقرار صريح وواضح، من الشنفرى الذي ربط ألفة بينه وبين الذّئب، والضبع، وله مع الوحوش حكايات وأحاديث حميمة، إذ أصبحوا قومه وعشيرته الجدد؛ مستودع أسرار الشنفرى:[25]
هُمُ الأَهلُ لا مُستَوْدَعُ السِّرِ ذائع |
V |
لَـدَيْهِمْ، وَلا الْجاني بما جَـرَّ يُخْـذَلُ |
ومن هذا العالم الجديد، نُلفي الشنفرى يرسم عالمه الجديد، ويحدّد أفراد عائلته الجديدة، فيذكر أقربهم إليه: ذئب قوي سريع (سيد عملّس)، ونمر مرقط (أرقط زهلول)، وضبع كثيف الشعر طويل العنق (عرفاء جيألُ)، وهذا يشكل مفهوم الحرّية عند الشنفرى، والثورة على الجماعات البشرية المحيطة به (القبيلة)، و الانتماء إلى المملكة الحيوانية -أهله الجدد-، فالسّرّ محفوظ بين الجميع، والجماعة تحمي الفرد، والشجاعة مُتوافرة لديهم، وهي إشارة إلى سادة القبائل الذين يستعبدون غيرهم، وبخاصة ضعفاءهم، ويسلبوهن حقوقهم:[26]
وَكُلٌّ أَبِيٌّ باسِلٌ غَيْرَ أَنَّني |
V |
إذا عَرَضْتُ أولى الطَّرائِدِ أَبْسَلُ |
وَإِنْ مُدَّتِ الأَيْدي إلى الزادِ لم أَكُنْ |
V |
بِأَعْجَلِهِمْ، إِذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أعْجَلُ |
إذْ صار الذئب والأسد، معادلينً موضوعيين في صورته الشعرية، التي يرى من خلالها أعزّ أصحابه (الصعاليك)، وأقربهم إليه - من بني الإنسان– ويضفي عليهم صورة الفُتوّة، والنّور، والضياء:[27]
سَراحينُ فِتْيانٌ كأنَّ وُجوهَهُم |
V |
مَصابيحُ أوْ لَوْنٌ مِن الْماء مُذْهَبُ[28] |
كما أن الشنفرى يشبّه نفسه بالأسد، مفتخرا بشجاعته، قبل أن يقبل على غزو أعدائه مشيرا لهم بضمير الغائب (هُـمْ) :[29]
هُمْ عَرَفـوني ناشئـًا ذا مَخيلَـة |
V |
أُمَشّي خِـلالَ الدّارِ كَالأَسَـدِ الْوَرْدِ[30] |
و الشنفرى لا يقف عند الوحوش المذكورة، بل يتعدّاها إلى الثعابين والحيّات الخبيثة، حيث يصف نفسه، حين يكون رابضا متربصا بأعدائه، يتلوى كما يتلوى الثعبان الأرقم:[31]
فَبِتُّ عَلى حَدِّ الذِّراعَيْـنِ مُجْذيًـا |
V
|
كَما يَتَطوّى الأَرْقَمُ الْمُتَعَطِّفُ |
ولم يكتف الشنفرى بالقطيعة مع القبيلة والقوم، و هو حيٌّ، وإنّما فضّل أن تستمر هذه القطيعة، حتى بعد موته، لقد أوصى الذين أسَروه وهمّوا بقتله، أنْ لا يُدفن مع بني البشر، وإنّما يُقدَّم طعامًا للضباع؛ أحد أفراد (عائلته) الجدد، فهو يبشّرها بلحمه:[32]
لا تَقْبرُوني، إِنَّ قَبْـري مُحَـرّمٌ |
V |
عَلَيْكُـــمْ، وَلَكِنْ أَبْشـري أُمَّ عامِــرِ[33] |
أما تأبط شرا، الذي جاور الغول، وتصارع معها، فإنّه ألف الوحش، ولم يعد يخافه، لأنه ألفه و استأنسه، وهذا مما يدل على قوة تأبط شرا وثباته، وعلى استقراره ببيت الوحش، إذ سكنه رفقته، واتخذ من الوحش ومسكنه بديلا عن القبيلة و القوم، بل تحوّل صيده إلى الإنسان وما يملكه:[34]
يَبيتُ بِمَغْـنى الْوَحْشِ حَتّى أَلِفْنَهُ |
V |
وَيُصْبَحُ لا يَحْمي لَها الدَّهْرَ مَرْتَعـا[35] |
رَأَيْنَ فَتًى لا صَيْدُ وَحْشٍ يَهُمُّه |
V |
فَلوْ صافَحَتْ إِنْسًــا لَصافَحْنَهُ مـعا |
وَلَكنَّ أَرْبابَ الْمَخاضِ يَشُفُّهـمْ |
V |
إذا اقْـتَفَـروهُ واحـدًا أو مُشَـيَّعَـا[36] |
ويصف تأبط شرا نفسه، على أنّه جواد كريم، شجاع، كالسحاب الذي يغيث الناس بمطره ويسقي الأرض بخيره، وشجاع كالأسد الهصور، لا يبالي بأعدائه يصول ويجول أنّى شاء، سريعا كالذّئب:[37]
غَيْثُ مُزْنٍ غامِرٌ حَيْثُ يُجْدي |
V |
وَإِذا يَسْطو فَلَيْـثٌ أَبَــلُّ[38] |
مُسْـبِلٌ في الْحَيّ أَحْوى رِفَلُّ |
V |
وَإذا يَغْزو، فَسِمْـعٌ أَزَلُّ[39] |
هذه حال الصعلوك؛ إنه يمضي مكبًّا على وجهه في الأرض الواسعة، لا يبالي، لأنّه غير مرتبط، ولا مقيّد، لقد فكّ قيود المجتمع القبلي، وتحرّر من سيطرة السلطة -سلطة الشيوخ والأسياد- يتباهى ويتفاخر للوحش، للضباع، على تمكّنه من قتل أعدائه ودحرهم، فيُشاركه الضبع والذئب في التباهي والنشوة بالنصر، وكلّهم في سرور بقتلى (هذيل)؛ سرور الضبع والذئب، لأنهما سيجدان في القتـلى كثرة الغذاء، حتّى جوارح الطير، تنزل على القتلى فتملأ بطونها فلا تقدر بعدها على الطيران، يقول تأبط شرا:[40]
تَضْحَكُ الضَّبُع لِقـتْلى هُذَيْلٍ |
V |
وترى الذّئبَ لَها يَسْتَــهِــلُّ |
وَعِتاقُ الطَّيـْرِ تَغْدو بِطانـًا |
V |
تَتَخطَّاهُــمْ فَما تَسْـتَقِــلُّ |
و لتأبط شرا اتصال بالوحش، وبالأفاعي منذ صغره، وقد لقّـب بهذا اللقب، لارتباط كنيته بها[41]، كما أنّه جاور الغول، وهو يصف لقاءه إياها، في قوله:[42]
فأَصْبَحْتُ و الغـــولُ لي جارةٌ |
V
|
فَـيا جارَتا أنْتِ ما أَهْــوَلا |
كل هذه الأحداث، وهذه الأحاديث، صنع فيها المخيال الشعبي صنعته، وتفنّن فيه الكَلِم أيّما تفنّن، فأنتجا لنا أدباً شيّقاً متّصلاً بالأسطورة والحكاية الشّعبية الّتي زادت الأدب جمالاً، وأخصبت حقله الميثولوجي، الذي يؤدّي إلى توصّل "الباحث الأنثروبولوجي... إلى باطن ميثولوجيا الفكر البدائي حين يكشف عن التراث العقلي القديم، حيث تمتلئ معتقدات البدائي بالكثير من ألوان السحر والخرافة النّاجمة عن منطق العقل الغيبي ولغته المشحونة بالطلاسم والأسرار"[43].
وقد يستعير الأدب أدوات هذا العلم ليخوض بها في عوالم الفن والإبداع، لأنّ علم الانثروبولوجيا "ليس منعزلا، - بأي حال من الأحوال - ...عن الدراسات الأدبية والفنية... إلاّ أنّ هناك صلة على نفس القدر من الأهمية بين الانثروبولوجيا من ناحية، وبعض الدراسات الإنسانية من ناحية أخرى ؛ كعلم التاريخ ودراسة الأدب ودراسة الفنون ..."[44].
ومن خلال نتائج مثل هذه الدراسات، فإنّ مجال المعتقد الديني، والطقوس البدائية التي كانت تعرفها القبيلة في العصر الجاهلي[45]، لا بدّ أن تكون لها قرائن أو معادلات موضوعية لدى الصعاليك، ولذا نجدهم قد أهملوا صورة النّاقة الرمز، وصورة المرأة الرمز، والطلل الرمز، وعوّض بالوحش والجبل والمرقبة. قد لا يكون هذا المعادل أو هذه القرائن ذات صلة وثيقة بالمعتقد الديني الوثني، لأن الدلائل في هذا المجال غير واضحة المعالم، و صورة الوحش أو الجبل، كانت بمثابة ارتياح نفسي عند الصعاليك، بعدما فقدوه بين القوم والأهل والقبيلة. وإذا كان الشعراء الهذليون، يلجأون إلى الثور الوحشي، ليسقطوا عليه مآسيهم، وليتوسموا فيه أمرا غيبيا مجهولا، لأنّ "صورة الثور المصروع تكاد تكون مقصورة على شعر الهذليين دون غيرهم"[46]، فإنّ صعاليك هذيل -وإن حضر الثور الوحشي في بعض شعرهم- قد لجأوا كأمثالهم من الصعاليك إلى الوحش؛ (الذئب والعقاب والسبع...) ولأنّ الجوع كان هاجسهم الأساس، وأدّى بهم إلى الهزال والوهن، نلفي أبا كبير الهذلي يرقّ لحال ذئبة تعاني ما يعانيه:[47]
أَخْرجْتُ مِنْها سِلْقَةً مَهْـزولَـةً |
V |
عَجْـفاءَ يَبِرُقُ نابُـها كَالْمِعْوَلِ[48] |
فَزَجَرْتُها فَتَلَفّتَتْ إِذْرُعتُهـــا |
V |
كَتَلَفُّتِ الْغَضْـبانِ سُبَّ الأَقْبَلِ[49] |
أما أبو خراش أحد صعاليك هذيل، فيعطي صورة متعددة الأوجه لسرعة عدْوه، وسلاحُه بيده، وكأنه عقاب منقضّة مسرعة تطلب صيدًا، واختياره العقاب مشبها به، لا لسرعته، ودقّة انقضاضه على فريسته فحسب، وإنّما لأنه يهجم من عل، والآخر ينتظر أجله وهو في الأسفل، يقول أبو خراش، موحّدا صورة البطولة والمغامرة بين السلاح وبين الوحش[50]:
كَأَنّي إِذا عَدَوْا ضَمَّنْتُ بَزّي |
V |
مِـنَ العِقْبانِ خائِتَـةً طَلوبَا[51] |
ثم يقول راثيا أحد إخوته - وتبدأ صورة الرثاء عند أبي خراش، كما كان يفعل عادة شعراء الجاهلية في هذا الموقف-[52] و هو برثائه، يصارع الزمن، ويذكر حمار الوحش، ويذكر معه العقاب وهو يضم جناحيه مقبلا على فريسته في أرض واسعة تسكنها الوحوش، وديار خالية من أهلها، إنه القفر والجدب، وتوقف الزّمان، ولكن إلى حين، لأنّ حمر الوحش حوامل:[53]
أَرى الدَّهْرَ لا يَبْــقى عَلى حَدَثانِهِ |
V |
أَقَبُّ تُباريهِ جَدائِدُ حولُ[54] |
أَبَنَّ عِقاقًا ثُــمّ يَرْمَحْـنَ ظَلْـمَهُ |
V |
إِباءً وَفيهِ صَوْلَةٌ وَذَميـلُ[55] |
................. |
|
|
وَلا أَمْعَرُ السّاقَيْنِ ظَلَّ كَأنَّهُ |
V |
عَلى مُحْزَئِلاّتِ الإكامِ نَصيلُ[56] |
رَأى أَرْنَبًا مِنْ دونِها غَوْلُ أشْرُجٍ |
V |
بَعيدٌ عَلَيْهِنَّ السَّـرابُ يَـزُولُ[57] |
فَضَمَّ جَناحَيْه وَمِنْ دونِ ما يَرى |
V |
بِـلادٌ، وُحوشٌ، أَمْرُعٌ، وَمُحـولُ[58] |
إن علاقة الشعراء الصعاليك بالوحش، تَكاد تكون علاقة ألفة واستئناس، ولأنهم أَنْسَنوا الطبيعة، فلا بدّ لوحوشها أن تكون كذلك، وما ورود الوحش بمختلف أنواعه؛ -الذئب، والضبع، والنمر، والعقاب- في شعرهم، ووصفهم له بأوصاف دقيقة، واتخاذه أهلا وعشيرة -كما صرّح الشنفرى- إلا للدّلالة على خرق محرّمات القبيلة وحرماتها، ومقدّساتها وطقوسها، والتمرد على سلطتها، ونبذ هيكل تنظيمها، ومؤسسات مجتمعها، ثم البحث عن مشروع مجتمع جديد، لا تذوب فيه فردية الإنسان، وَلا تضمحلّ شخصيته في رموز القبيلة وأسيادها، ولذا نجد في شعر الصعاليك، - معظمه – النفور من ضمير (الهو)، وصيغة الجمع (النحن)، إلى ضمير (الأنا)، وإن استُعمِل في صيغة الجمع، فليس للذوبان في الجماعة، وإنّما قصد التجمّع ولمّ الشتات، ولكنّ الصعلوك في آخر المطاف، يُبقي على تفرّده وفرديته وذاته، بجسده وغريزته وانفعالاته، وليس ذلك الإنسان الذي تضبطه قوانين الآخر، فينصاع لأوامره ونواهيه، فيحدَّد بمكان، ويُقيّد بزمان، وإنّما ينشد حركية الزمان واستمراريته نحو المستقبل، مصيره مرتبط بالطبيعة، وليس بالقبيلة، فهو انفصام مكاني، وتميّز عن الآخر.
المصادر والراجع
- الأصفهاني أبو الفرج، الأغاني، طبعة بولاق، بيروت، 1970.
- أبو تمام، حبيب بن أوس الطائي، ديوان الحماسة، شرح التبريزي، مصر، مطبعة السعادة، الطبعة الثالثة،1927.
- الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، الحيوان، تحقيق: عبد السلام هارون، بيروت، دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة، 1969.
- الشنفرى، عمرو بن مالك، ديوان الشنفرى- جمعه وحققه وشرحه: إيميل بديع يعقوب، بيروت، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، 1996.
- عروة بن الورد، ديوان عروة بن الورد- شرح: ابن السكيت- تقديم: راجي الأسمر، بيروت، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، 1997.
- ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم، الشعر والشعراء، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة، دار الحديث، الطبعة الثانية، 1998.
- الهذليون، ديوان الهذليين، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1965، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتاب.
- البطل، علي، الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري، دراسة في أصولها وتطورها، لبنان، دار الأندلس، الطبعة الثانية، 1981.
- قباري، محمد إسماعيل، الأنثروبولوجيا العامة، صور من قضايا علم الإنسان، مصر، دار المعرفة الجامعية، 1985.
- هيجل، الفن الرمزي، الكلاسيكي الرومانسي، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة، الطبعة الثانية، 1986.
- شريف، بشير أحمد، الصعلوك الشعري ورؤيوية (تأبط شرا)، مجلة جذور، جدة، النادي الأدبي الثقافي، العدد الرابع، سبتمبر 2000.
الهوامش
[1] ينظر شريف، بشير أحمد، " الصعلوك الشعري ورؤيوية" (تأبط شرا)، مجلة جذور، العدد 4، سبتمبر 2000، ص.ص. 316-317.
[2] هيغل، الفن الرمزي الكلاسيكي الرومانسي – ترجمة جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة، الطبعة الثانية، 1986، ص.454.
[3] الشنفرى، ديوانه، ص.53.
[4] المرقبة : مكان المراقبة – العنقاء : الطويلة – يقصر دونَها : يعجز عن بلوغها – أخو الضروة : الصياد معه كلاب ضراها للصيد – الحفيّ : غير المنتعلة .
[5] ضنيّة : في الأغاني 21/213، "وضبيّةٍ" وفي بعض الروايات : "وملحفة درس وجرد ملاءة ..." – جرد: بال – الإخلاق : البلى –الريطة: كل ملاءة من نسج واحد وقطعة واحدة، أو كل ثوب يشبه الـملحفة و الكفن- أنهجت: بليت.
[6] هيغل، الفن الرمزي ... تر جورج طرابيشي، ص.415.
[7] المرجع نفسه، ص.455.
[8] الشنفرى، ديوانه، ص.73.
[9] نفسه، ص. 28.
[10] نفسه، ص. 47.
[11] نفسه، ص. 64.
[12] نفسه، ص. 14.
[13] ابن منظور – لسان العرب – مادة (هدمل) ومادة، (جثم).
[14] الرعيل: القطعة من الخيل أو المتقدمة من الخيل – الطود: الجبل – النقاب : ج نقب وهو الطريق في الجبل.
[15] الأصفهاني، الأغاني، دار الثقافة، 21/ 177 .
[16] المصدر نفسه، 21 / 180.
[17] الجامل : جماعة الإبل.
[18]المفضل الضبي – المفضليات – ص.ص. 29-30.
[19] ينظر ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص. 675، و ديوان عروة بن الورد، ص. 34.
[20] عروة بن الورد، الديوان، ص.ص. 76-77.
[21] ديوان الهذليين، ص.97.
[22] مرهوبة : يُرهب أن يُرقى فيها – ليس رقيبها في مثمل : أي ليس رقيبها في حفظ.
[23] العيطاء : الطويلة العنق – و المعنقة : الطويلة – الجميم : ما نهض وانتشر من النبات.
[24] الشنفرى، ديوانه، ص.59.
[25] نفسه، ص.59.
[26] نفسه، ص. 59.
[27] نفسه، ص. 28.
[28] السراحين : ج سرحان، وهو الذئب أو الأسد .
[29] نفسه، ص. 42.
[30] المَخيلة : الكبْر – ذو مخيلة: الشجاع.
[31] نفسه، ص. .53
[32] نفسه، ص.48.
[33] أم عامر : كنية الضبع.
[34] أبو تمام، ديوان الحماسة، 1/190-191.
[35] المغـنى، المنزل.
[36] المخاض : النوق الحوامل . يشفهم : يهزلهم – اقتفروه : تتبّــعوه.
[37] المصدر نفسه –1/344.
[38] مزن : ج مزنه، السحابة البيضاء، و المراد السحابة فيها الماء – يسطو : يقهر وَ يصول – الأبلّ : المصمم الماضي على وجهه لا يبالي.
[39] رفل : كثير اللحم – السمع : ولد الذئب – الأزل : السريع المشي الممسوح العجز.
[40] أبو تمام- المصدر نفسه – 1/347.
[41] في الأغاني 21/144، : " قالت له أمه: كل إخوتك يأتيني بشيء إذا راح، فقال لها سآتيك الليلة بشيء، ومضى فصاد أفاعي كثيرة من أكبر ما قدر عليه، فلما راح أتى بهنّ في جراب متأبطا به، فألقاه بين يديها، ففتحته، فتساعين في بيتها، فوثبت وخرجت ..."
[42] المصدر نفسه –21/ 145 . وينظر– ابن قتيبة – الشعر والشعراء –1/314.
[43] قباري، محمد إسماعيل- الأنثروبولوجيا العامة- ص.480.
[44] المرجع نفسه، ص.49.
[45] ينظر علي البطل، الصورة في الشعر العربي ص. 123 وما بعدها.
[46] المرجع نفسه – 1/ 132.
[47] ديوان الهذليين –1/97-98.
[48] سلقة : ذئبة، و الذكر سلق - عجفَاء : مهزولة – كالمعول : يريد حديدة النّاب، كأنّ نابها طرف معول.
[49] الأقبل : من القبل 5 بفتحتين -، وهو في العين إقبال سوادها على الأنف، وقيل هو مثل الحول 5 بالتحريك - . – وإنما يريد : كتلفت الغضبان الأقبل سُبَّ.
[50] المصدر نفسه – 1/133.
[51] يقول:" لما حملوا عليها، كأنّي ألبست بَزّي؛ وهو سلاحه، من سرعتي عُقابًا، خائتةً أي منقضّة، طلوبا: تطلب الصيد".
[52] ينظر الجاحظ- الحيوان- 2/20.
[53] ديوان الهذليين- 1/117 و 121 و 122.
[54] أقبّ: حمار خميص البطن.
[55] أبنّ: أظهرن حملهنّ.- أعقّت الأتان: إذا عظم بطنها.- فيه صولة وذميلُ:سيْر ليّن مع سرعة.
[56] أمعر الساقين : يريد صقرا من الصقور – النّصيل : حجر يجعل في البئر، المحزئل : المشرف و المجتمع.
[57] غوْل، ذات بُعد – أشرج : شقوق – يزول : يتحرك عليهنّ السراب.
[58] بلاد وحوش : بلاد واسعة تسكنها الوحوش.