إنسانيات عدد 46 | 2009 | ألسنة وممارسات خطابية | ص101-113 | النص الكامل
Refusal discourse in Mohamed Belkheir’s poetry Abstract: Popular poetry is considered an element of Algerian identity, enrooted in the Algerian people’s history. This form of expression includes numerous concepts and multiple studies among which is the popular poet Mohamed Belkheir’s refusal discourse, this son of the Sidi El Cheikh El Bayadh region. The motivations for refusal are well defined which push the poet to refuse everything in his environment automatically if it goes against his way of thinking. Among these motivations are the French colonization, the geographical and social environment, the tribal system, exile, reform, and self confirmation, such as shown by the refusals emerging from his poetic discourse: psychic, social, religious, moral and even daily life with all its perturbations and changes. |
Mohamed SERRIR : Professeur permanent, Université docteur Yahia Fares, 25 000, Médea, Algérie.
يعتبر الخطاب الأدبي الصادر عن الأديب، الصدى الحقيقَّي لما يجول في نفسه من أحاسيس، ويحيط فكره من أفكار، فتتنازع هذه المدلولات فيما بينها لتنسج لنا عملا أدبيا، تتخلله الحياة الفردية التي تحيطها الجماعة.
و الفرد وسط مجتمعه ناقد لما يراه و يعيشه من أحداث، فيكون له بذلك موقف بارز يبين فيه علاقته بالمجتمع و رأيه في الأحداث الجارية، كما يكون له موقف داخلي يرفض به ما يراه غير سويا، و لا يتماشى مع عقيدته و أفكاره و ميولاته.
و كثيرا ما يتميز بعض الشعراء بخطاباتهم التي يطغى عليها أسلوب الرفض، الّذي تتجلى دلالاته في عدّة أوجه فيكون هناك رفض ديني، و أخلاقي، و سياسي، و نفسي، و اجتماعي.
و يمثل خطاب الرفض سيكولوجية خاصة بالشاعر، تسير معه في كل إنتاجه الأدبي، الّذي تنعكس فيه ذاته و ثورته على ما هو قائم بغية إحداث تغيير ما، و هذا ما يحيلنا على مصطلح التمرد، الّذي نجده عند ألبير كامو الذي يصف الإنسان المتمرد بقوله: «هو الشخص الّذي لا يجاوز الواقع بسبب قسوة الظروف التي تتحكم فيه و لمّا كان الأمر كذلك، فهدفه هو إحداث تغيرات جزئية في هذا الواقع.»[1]
و إذا نظرنا إلى تاريخ الرفض، نجده قائما منذ بداية الخلق، كرفض إبليس لعنة الله عليه، السجود لآدم بسبب تكبره و تجبره، فهذا الرفض سلبّي، و ينطوي تحته كل رفض يجرّ صاحبه إلى الهلاك، كرفض الكفار الإيمان بالله تعالى و السير على الصراط المستقيم.
و يقابل هذا رفض إيجابي يكون هدفه الإصلاح، كرفض الظلم و الدفاع عن النفس، لكنّنا كثيرا ما نلمس رفضا يكون لأسباب شخصية، حسب ما يعتنقه المرء من أفكار فيكون رفضه نسبيا.
و قد اخترت في بحثي هذا شخصية أدبية من التراب الجزائري، المتمركز في منطقة "البيض" التي اكتنفت حياة الشاعر "محمد بلخير"، الشاعر الشعبي الذي عاش في حقبة زمنية، عمّتها اضطرابات سياسية و اجتماعية، و اقتصادية. و قد كان لهذه العوامل انعكاس كبير على شخصيته، و إنتاجه الشعري الذي أظن أن كثيرا منه لم يصلني، و ذلك راجع إلى فقدانه و عدم تدوينه، و صعوبة الاتصال بحاملي هذا الشعر، لكنّني قد حصلت على قدر لا بأس به و تمت عليه الدراسة التحليلية لكشف خباياه و أسراره و إظهار دلالاته، و إخراجه إلى القراء في صورته الأكاديمية حتى ينتفعوا به، و أكون بذلك قد أسهمت في خدمة ولو صغيرة لتراثنا الشعبي.
ترجمة الشاعر
أحنا مجاهدين ماهو قول ضعيف |
* |
تبعنا ما قال ربي في القرآن |
و قد تزوج مرتين و أنجب بنتا تدعى "فاطمة"، و ولدين "الأخضر"، و "عبد القادر"، الّذي توفي صغيرا، قضى الشاعر شبابه متنقلا بين المناطق السهبية، و التلية و الصحراوية.
و يبدو أنه قد تعلم على بعض الشيوخ بالزاوية فأخذ عنهم اللغة العربية، و قد سمع بالشاعر الجاهلي "إمرؤ القيس" و شاعر الفروسية "عنترة بن شداد" إذ يقول:
أمــجــرح قلـبي تهـظـام أمــاس |
* |
ليهـا طار قلبي بغير جنحـا |
صار لي ما صار لامرئ القيس |
* |
من عـهـد مـا كــان فصحا |
كان الشاعر فارسا مغوارا، شارك في عدّة معارك ضدّ الاستعمار الفرنسي، كثورة أولاد سيد الشيخ (1864م-1883م)، و يدل شعره على معاركه، و حماسته لها، و دعوته إلى الجهاد.
فمن هنا كان محط أنظار الاستعمار الفرنسي، و عنصرا مهما له فألقى القبض عليه، و زجّ به السجن و نفي إلى كالفي، بجزيرة كورسيكا سنة 1883م إلى سنة 1895م، و يقول عن منفاه يرثي حاله الكئيب:
راني في كالفي مجوّل |
* |
أنا و الشيخ بن دوينة مرهونين |
فيوك يا خالقي اتــعول |
* |
سلاك الحاصلة تفك البحريـن |
و لم يعمر طويلا بعد عودته للوطن، ليكون تاريخ وفاته سنة 1898م.[2]
دوافع الرفض
إن الأحداث التي تواجه الشاعر، كثيرا ما يتولد عنها انعكاسات و ردود أفعال على المستوى الداخلي و الخارجي للنفس و من هذه الأحداث التي اصطدم بها الشاعر:
- الاستعمار الفرنسي: إن سياسة الاستعمار التي تبث في الفرد الإحساس بالهوان، والخضوع إلى قوانين و أحكام لا تتماشى مع مرجعيته الفكرية و الاجتماعية، تجعله يثور و يرفض هذا الجاني و الظالم المستبد الذي لا همّ له سوى السطو و السلطة، و لا يهمّه ما يخلفه وراءه من كوارث و مآتم و دماء و دموع و مدن الموتى و مماليك للأسى و الأحزان.
لكنّه قد خلق أنفسا ثائرة، انقلب إحساسها بالظلم إلى ثورة عارمة لا همّ لها إلاّ ردّ حقوقها، و التنعم في أرضها و إن لم يكن، فالموت شرف يبتغى و الشهادة أمل يرتجى.
و زادت وطأة الاستعمار مرارة، حينما دخل إلى أوساط العائلات، و فرق بين الإخوان مغريا إياهم بالأموال الطائلة و الثروة الهائلة، و المناصب السامية من أغوات و بشوات، وقد انزاح إليها ذوي النفوس الضعيفة و العقيدة الواهية، فكان ذلك بمثابة الضربة القاسية على نفس الشاعر، و زاد من رفضه لهذا الواقع المعيش تحت حكم جائر، و سياسة ديكتاتورية، لا هدف لها سوى القضاء على الشخصية الجزائرية بكلّ مقوماتها، و توسيع نطاق حكمها و فرض منطقها بشتّى السبل، مهما كانت نوعيتها و مهما بلغت شدّتها، و تعاظمت مبالغها، ما دامت ستجلب المنفعة و تحقق ما فكّرت فيه منذ سنين.
- النزعة الصوفية: قد عُرف أن الصوفية مذهب ديني، له التزاماته القائمة على الابتعاد عن الدنيا و التقرب إلى الله تعالى بالعبادة الدائمة، و ترك ملاذ الحياة و ترفها، و السير في ذلك على مذهب شيخ يدين له التابع بالولاء و الطاعة، فيكون رجاءه حين الرجاء، وغناه حين الافتقار، و رفيقه حين الخلوة و ناصره إن هو غُلب أو ظلم، كذلك كان الشاعر لشيخه "سيد الشيخ" يقول فيه:
أنا خديم رجل البيضا زين القبـاب |
* |
محبــوب خـاطري لـبدا متـونــس بــــه |
سيد الشيخ حرمتك ليك هدين النيا |
* |
و من قاصد شيخ لازم تبان عليه فضالو[3] |
و إن رفض الشاعر للمجتمع بما فيه من نواقص و اضطرابات، أدى به إلى الدنو من شيخه و مناجاته، إنه يجد فيه فردوسه المفقود، و كيانه الواهي فيترجاه و يتوسل إليه:
أنا قولي يـرضيك ضـان على قلبك يرضاني |
* |
و ما ينسـاك لسانـي على سنيـن و سايـر لبـاد |
أنـا مـعشـوق عـلى محبـتك حاجة ما تلهاني |
* |
و كان عطاك السلطان واش يزيدو ليك لعباد |
ما نقطعش لياس لكان رحل البيضا يرعاني |
* |
نضحى بين سمحات و ساير مع ذاك الميعاد |
- الحالة الاجتماعية والنظام القبلي: كان الشاعر يعيش في كنف قبيلة يحكمها زعيم أو شيخ، تدين له القبيلة بالولاء، لكن الحالة الاجتماعية التي فرضها الاستعمار، انعكست سلبا على القبائل، فتفرق شملها بين ممسك بدينه و عقيدته و وطنه، و بين مساند للاستعمار خادما له، خوفا من بطشه و طمعا في رضاه و هبته، و هذا ما بثّ تفرقها، و دبّ الضعف بينهم، و عمت الفوضى، فأوجس هذا في نفس الشاعر، فحرك مشاعره و نفسه الأبية، و أبت فروسيته هذه الفوضى فأطلق العنان للسانه مترجما آلامه، لعلّه يجد آذانا صاغية تحمل أنفته و ترمّم ما تم هدمه، يقول:
و العرب ما يقعدوش انتاع انقار |
* |
من عرب حمير و فرسان محزوم |
و الزوى سقـامين الخيل لحرار |
* |
من عطاو ليوهم ساعة و ليوم |
- المنفـــى: إن أصعب شيء يتعرض له المواطن المحب لوطنه، و المناضل لأجله هو النفي خارج الديار و النأي به إلى ما وراء البحار، تاركا الأسرة و الأحباب الكبار، مهاجرا تلك الأرض التي ولد و ترعرع فيها، و سكن ريحها أنفاسه، و رسخت صورتها بذاكرته، كيف له أن ينسى ماضيه، ويترك الهواء الذي تغذت منه نفسه، و التراب الذي امتزج مع طبقات جلده، و صوت الجواد الذي كان نغمة ألحانه، و أنيس جلساته و الرفيق بساحة الوغى.
قد خلق بنفسيته فراغا هائلا، و أخرجه من عالمه المعقول و إحساسه المدرك، إلى عالم اللامعقول و إحساسه باللاشعور.
و إن هذا الضغط النفسي، ولد له أحزانا ضاربة في الأعماق، لتنجلي على معاني كلمات تدق القلوب و تحيي الهمم.
سلاك المغبون من أرض القفار |
* |
قادر كل اغريب لبلاده تديه |
فرج يا ربي على من ضاقت بيه |
||
سلكني بين سد و صد حجــار |
* |
ايشوف المغبون لكان بعينيـه |
سلكني من ضيق الدعوى و تزيار |
* |
قادر تبني الريع و لكاف توطيه |
سلكت إبراهيم من لهفات النـار |
* |
بردا و سلام حاجة ما تأذيـه |
العبد اضعيق ما طايق لضــرار |
* |
هم الحبس زادهم الضر عليـه |
إن سيكولوجية المنفى تولد شعورا بالغربة، و تحدث شرخا بالشخصية، فتنقلب قوتها إلى ضعف و بسمتها إلى حزن، فيتحول سلوكها من سلوك عامل على التنمية، إلى سلوك هادم، وتصبح شخصيته تحت تأثير المثيرات النابعة من الأعماق، تحدث انعكاسات جسمية و نفسية تظهر على الفرد، و هنا نلمس الإشكالية المطروحة في تنظيم السلوك، هل الفرد قادر على السيطرة في سلوكه و توجيهه، أم هو متجه بما يمليه الواقع و الدافع، فيكون تابعا؟
أجيب فأقول: إذا وجد الدافع قبولا في النفس و استحسانا، فسيجد استجابة، و إن لم يكن الدافع مستحسنا و عير مقبول وجد نفورا، أمام ما يواجهه من الأنا الأعلى و هذا يكون ميزة الشخصية السوية.
- حبّ الإصلاح: إن حياة الفرد وسط محيط لا يتجاوب مع مكوناته النفسية و العقلية، لأمر يحتم عليه رفض هذا لمحيط أو محاولة التغيير و الإصلاح، و كان لهذا الدافع في حياة الشاعر "محمد بلخير" دور كبير، حيث جعل منه الهدف الأساسي لتنظيف هذا المجتمع، و العمل على إنشاء محيط يعتز بعزته، و يفتخر بجزائريته و يرفرف بعروبته، و يسمو بإسلامه.
فلطالما ناشد الأمل و أحبّه، و حارب كل سلوك و فعل يحطّ من قيمة شعبه، كما حارب تلك السياسات التي حاول الاستعمار الغاشم تسليطها على شعب كان قد رضي ببساطة العيش، تحملها أمواج الهناء، حياة صعبة لكن تتخللها سهولة و عذوبة التعاون.
فالعمل على الإصلاح من أبرز أوجه الرفض النابع من شخصية الشاعر، و كان ردّ الفعل الثورة بالخطاب و إيقاظ النفوس و إحياء الهمم و بعثها إلى الدفاع عن ذمتها و تحصيل مجدها.
كما كان الإصلاح في طرق التعلّم و التعليم، فلم يكن الشيخ ممن أدرك كلمة أو جملة فراح ينشرها دون أن يعلم أغوارها، بل كان يتميز بدقة التحليل، و حدّة النظر و القدرة على إصدار الحكم المناسب، مع مراعاة الأحداث، إذ يقول:
و الشيخ اللّي يكون كامل |
* |
ينظر في البر و البحر شرقي و يمين |
و الشيخ مذهـب الحمــايل |
* |
أمضاري ما يغفلش عن طرف العين |
و من بوادر الإصلاح و الذود عن شرف الوطن الدعوة إلى الجهاد و تقديم النفس رخيصة، يقول:
النــفـس انــهونها امسبل |
* |
خــير مـــن المــــال و القــيادة |
و قد جاء شعره مفعما بالإصلاح، و هذا ما ناسب فترته، وكما يقال فالشاعر ابن بيئته يقوّم ما اعوج، و يجهر بما سرّ، و إن لم يكن كذلك فقد خان العهد و ما استحق صفة الشاعر، فكيف يروق له الغزل و الهزل، و هو وسط نيران غاشمة عمّ لهيبها كل ما ظهر و بطن.
- إثبات الذات: إن كل إنسان مهما كانت طبيعته، يحاول إثبات شخصيته داخل مجتمعه، بعمل يقوم به و يرفع به مقامه في الحياة، لكنّنا قد نجد الكثير ممن يبالغون في هذا الإثبات، و يصبح ذلك فرضا عليهم، خاصة إن كانوا في عزلة عن مجتمعهم، أو أن المجتمع حاول إقصاءهم، لعدم تلاؤم طبيعتهم النفسية مع المجتمع الخارجي و عدم مسيرتهم له. كما قد يكون هذا المجتمع فاسدا فلا يعطي للصلحاء مكان في خليته، و يصبح لزاما على هؤلاء إثبات الذات وفرضها رافضين بذلك سبل الحياة السارية.
و قد تنعكس هنا سيكولوجية التسامي، و حب الظهور، و ذلك بفرض الذات بشتى السبل، فالدعوة إلى الإصلاح دليل على إثبات الذات و تجسيد ميدان لها، و خط تاريخها، ينعكس ذلك عليها فترضى بما فعلت، يقول:
أنا سيدي زين لقباب بيه أناقر عدياني |
* |
أو يده قدام يدي اتحول بين الشفرة و ارتاد |
أنا نوري ساس الكلام للفاهم كل امعاني |
* |
بين الشدة و الضيق اللي ساهي فالتساد |
و قد وظف الضمير "أنا" الذي يؤكد حضور الذات و لفت انتباه المتلقي، كما يؤكد قوتها و صلابتها لما تكون مع وليها و شيخها "سيد الشيخ"، و أن التعالي بحسن الأخلاق و شرف النفس غايته اثباتها.
ما درت الطايحا اهجرت على اليمين |
* |
مـا هي الـسرقة و لا خـديعة |
هربت نفسي من النصارى و الشيطان |
* |
و أرضات لصاحب الشفاعة |
إن فرض الذات و إثباتها لأهمّ دافع في شخصية الفرد، فهي أساس عيشه، فلولاها لانعدم كل ما حوله، فالعيش لغاية لابد له من وسيلة، و العمل عليها هو الحياة.
دلالات الرفض
نلمس من خلال الخطاب الشعري دلالات الرفض إذ تتجلى على عدّة مستويات، منها: النفسي، الاجتماعي، السياسي و الديني و الأخلاقي و حتى رفض الدنيا:
1. رفض نفسي : إن نفسية الشاعر، قد ألمت به حوادث جمّة، و عصفت بها مقادير هوجاء آلت بها إلى التقهقر و التذمر، فبادرت بالسؤال و الرجاء في حلّ أزمتها و نجدتها من مصيبتها:
فيـوك يا خالقــي اتعــــوّل |
* |
ســلاك الحــاصلة تـفك البــحــرين |
ضاقت روحي بغيت نرحل |
* |
من بـرّ الــروم نترفـع للمسـلميـن |
لا تبــطي بالسراح و اعجل |
* |
حبّك و ارضاك خف من رمشات العين |
نرى هذه الذات المتحسرة بآلامها، تدعو ربّها بأن يعجل خلاصها و تلمس التناقص الوارد بينه و بين المتنبي حين يقول:
دعوتك عند انقطاع الرجاء |
* |
و الموت منّي كحبل الوريد |
دعوتك لمــا براني البلاء |
* |
و أوهن رجلـي ثقل الحديد |
و قد كان مثنيهما في النّعال |
* |
فقد صار مثنيهما في القيود[4] |
فقد تماثل الشاعران في سجنيهما الذي تميّز بالثنائية: سجن روحي تمثل في انحباس النفس وضيقها فلا فرح يذكر و لا أمل يرتجى، و سجن جسدي مكبل بالأغلال الحديدية.
و إذا ما اشتد على الشاعر الحنق ولّى مقبلا إلى شيخه فهو منجاه، و خلاصه، وعن هذه الحالة يقول د. حسن عاصي: «إذا كان المريد صادقا دخل تحت حكم الشيخ و صحبه، تأدب بأدبه، يسري من باطن الشيخ حال إلى باطن المريد كالسراج، يقتبس من السراج... فبالتآلف الإلهي يصير بين الصاحب والمصحوب امتزاج، و ارتباط بالنسبة الروحية و الطهارة الفطرية.»[5]
و إذا ولى العمر و أقبل الهرم و الشيب، و وهن العظم و النفس سجينة، لا زالت ترجي سلاكها زادت حدّة اليأس و ضعفت الهمّة و خارت القوى، يقول:
محمد قال عليك من الشبـاب ولى شيباني |
* |
بعد اثنـين و ستين ما بقالي ما يـنزاد |
ما تقطعش لياس كان رحل البيضا يرعاني |
* |
نضحي بين سمحات ساير مع ذاك الميعاد |
يرى الشاعر أن عمره أشرف على الهلاك و هو لا يزال سجينا، و له أمل أن يعود لحياته و يرى وطنه و أهله يلمس ذاته، فلا يجد سوى سوادا و ظلمة، فكل شيء أصبح عنده بلا قيمة، إذ خالف الناس و يئس من الحياة، فيقول:
الطيب للناس ليّ راه مرار |
* |
نشكي لخالقي لا لغيره |
فإن هو عايش ذاته و سايرها قضى على نفسه، فيجب عليه أن يتعداها حتى يواصل حياته يقول ألبير كامو: «التمرد يصدع الكائن الحي و يساعده على مجاوزة ذاته.»[6]
فكان لابد لهذه الذات أن تتمرد على واقعها و تتجاوزه، حتى تعيش ما تبقى، فتترك المعقول لتعيش في اللامعقول.
2. رفض اجتماعي: قد عاش الشاعر في زمن كثرت فيه المعارك و الخلافات بين الزعماء، إضافة إلى ذلك وجود الاستعمار الفرنسي و النظم المستبدة، كلها أمور تظافرت و تكاملت لتنشئ واقعا و مجتمعا مختلين. و بما أن الشاعر ابن بيئته فقد جاء خطابه واصفا لهذه الحياة رافضا لنواقصها، داعيا إلى إصلاحها و تماسكها و السير بها إلى الأمام، «إن الشاعر فرد من أفراد المجتمع، و بما أنه قد وهب القدرة على التعبير كما يحس به المجتمع فإن من واجبه أن يعبر عن ذلك من تلقاء نفسه، و ليس من واجب أحد أن يطلب منه ذلك، و هذا يعني أنّ له كامل الحرية في قول ما يريد، دون أن يخضع لغير رقابة ضميره الّذي لا يني يوحي إليه بأن ما يقوله هو الحق و هو الصدق.»[7]
فالشاعر مرآة مجتمعه، فهو المخبر عنها واصفا لآلامها و آمالها، حاملا على ظلمها آخذا بمظالمها، فالمجتمع هو النواة الأولى للشاعر، منه يستوحي أفكاره فيسبغها بمعانيه و ينسجها على منواله، يقول:
قلة لكتاف ما لقيتش في الــناس هوايا |
* |
تجعلنا صابرين و رجـال لصّبر يــنالـوا |
في هذا اللـيل ما بقاش في النّاس نوايا |
* |
الحق اليوم غاب و الباطل طوالوا حبابوا |
نوري ساس الكلام للّي يـفهم معنايا |
* |
و الدنيا ما تدومـش عند اللّي تزهالـو |
لـيـام دّور بـين هذاك و بين ذايـا |
* |
و الــفلك يدور كل واحد يعطيه فصالو |
نلمس هذا النقد الاجتماعي الذي تتسم به أشعاره، إنه شاعر تمرس في التعامل مع المجتمع وعاش معه مآسيه، و أحس بأحزانه و تطلع على خباياه، فكشف الغطاء و بين المصاب و أعطى الدواء، بعدما أبصر تفشي الظلم، فقلّ القصاص، و انتشر الباطل، و غاب الحق، فرفع خطابه معلنا ثورته.
و قد شابه في ذلك الكثير من المصلحين الذين أرادوا الإصلاح و تمردوا على مجتمعهم، لما رأوه فيه من ضعف و تقهقر و انعدام عمل العقل فيه.
و قد ناشد الجهاد و رغب فيه، و مجد الثورات القائمة: كثورة أولاد سيد الشيخ (1864-1881) و ثورة الشيخ بوعمامة (1881-1883)، و هذه سنة الأولين و مآل اللاحقين، فإذا ضاع الحق و تطاول الظلم أصبح لزاما الدفاع، و رفع راية الحق و استرجاع السيادة، فغريزة التجمع تدفع بصاحبها إلى حفظ نسله و محيطه بكل ما أوتي من قوّة، فإن كيانه متعلق بكيانهم، ونجاحه بنجاحهم يقول سلافسون عن المجتمع : «إنه القوة التي تدفع الناس و الحيوان و ما دونهما من صورة الحياة إلى التجمع بصفة دائمة أو في مناسبات معينة كالنسل أو الدفاع عن النفس.»[8]
- رفض سياسي: إن الفترة التي عاشها الشاعر محمد بلخير، مليئة بالصراعات القرابية، والنزاعات الشخصية بين الزعماء، إضافة إلى وضع البلاد تحت وطأة الاستعمار الفرنسي وسياسته الهادفة إلى إخضاع البلاد و ثرواتها لسيطرته، و القضاء على كرامة مواطنيها و جعلهم خدما له، كل هذا و إحساس الشاعر بغياب الأمن و صعوبة تحقيقه أثرا على نظرته السياسية، فرفض تلك السياسة القائمة في بلاده، من هو سار في الحكم عليها من روم و تتار و ظلمهم السائد، يقول:
أحكام الترك كان صايل |
* |
باعو السلام للنصارى في البريـن |
حكم الكفار هم طايـل |
* |
جاروا فـيه اليهود و انذل المسلمين |
السارق و الوكيل صايل |
* |
و أهل السـبيل على الخديعة متفقين |
هذا متهن و هذا مهـول |
* |
ما يبقى غــير وجه ربّ العالميــن |
إن سقوط الجزائر تحت الحكم الفرنسي و ما انجرّ على سبيله من عواقب أدى إلى اضمحلال الحرية، و طغيان القيود الروحية و الجسمية، فانغمس المجتمع في أوحال الكيد و المؤامرة، و تربّع الاستعمار على ساحة الحكم، فأحكم سياسته القاضية بإعدام الجزائريين، و حرق أراضيهم و هدم بيوتهم و تشريدهم و إقامة المحتشدات لهم. كل ذلك و الشعب الجزائري لا زال تائها لم يلتم شمله، بل تبدّد من أثر مواقعة الاستعمار أو العمل تحت رايته، فبدت سياسة الغدر و الخيانة، وعلت سياسة المنفعة الشخصية، فطأطأ الكرام رؤوسهم للعاصفة، فلا حول لهم و لا قوة أمام الجبابرة من جهة، و من جهة أخرى نجد الضغط يولد الانفجار كما قيل، إذ نهض جمع منهم يقاوم، لتستمر المقاومة إلى أن يظهر الله الحق، هذا ما أمله الشاعر، و تمنى حرية بلاده و عودة سيادتها، لكن المنيّة وافته و لم يشهد نعمة الاستقلال لكنّه آمن بها و دعا إليها.
- رفض ديني: إن الشاعر قد عاش في ظل الإسلام عاملا بتعاليمه، حافظا لأوامره متجنبا لنواهيه، قد أحب دينه و أقره في نفسه، و قد صادفت حياة الشاعر صراعات و نزاعات، تمثلت في مجتمعه و ما قام به قومه، كل هذا جعله ينظر إليهم بمنظار القياس و التحقيق، فوجد فيهم اختلافا كبيرا و من واجبه كفرد منهم، لهم عليه حق النصح، حتى و إن لم يتقبلوا ذلك. كما كان لوجود الاستعمار أثر كبير في حياد الكثير من القوم عن الطريق السديد، فقام بإرشادهم و إظهار طريق الحق غير مبال بلومة لائم، إذ يقول:
من صابك يا إمام عادل |
* |
و يخاف من الإله ما يعرف خوفين |
يعدل ما يكون مـايل |
* |
تربـح للسلام من افضـالو فالدارين |
يوجّه خطابه للإمام الّذي زاغ عن الحق و اعتنق الباطل، نسي الخوف من الله تعالى و ساند الأعداء على إخوانه، و هو الّذي ينتظر منه الصبر و المقاومة باعتباره قدوة لمجتمعه، لكن علمه الضعيف اقتصر على بعد نظره فخيّم عليه الجهل، و دارت عليه الدائرة فأخضع ضميره للاستعمار، ناسيا حق الله تعالى و كون المجتمع يعيش في جوّ يسوده الجهل و الفقر و التفرقة. فإن المجتمع لا يفتر يقوم حتى يسقط فعوامل نهوضه واهية و أسسه هشة لا قوام بها ويقول في هذا الصدد صالح خرفي: «لقد تسلط على الأمّة عوامل ثلاثة، لو تسلط عامل منها على أمة كبيرة لزعزع حركتها و هدّ بناءها، ألا و هي الجهل و الفقر و الفرقة، فالجهل أفقدها شعورها بوجودها، و كيف تذب عنه، و الفقر أقعدها عن العمل و شل أعضاءها عن الحركة، و الافتراق أذاب قوتها، و ذهب بريحها فبقيت والحالة هذه عرضة للتلف والاضمحلال و الهلاك، و هي نتيجة طبيعية لتلك الحالة التي جر إليها الظلم و الاستبداد.»[9]
فقد اتجه شعره إلى محاربة الانحراف الديني و تبنى الأخلاق السيئة و الرضى بهوان العيش فعمل على خلق الجو الثقافي و الديني الذي يحتضن فكرة المصلحة، كان يرى في التمسك بالدين فرجة له و لمجتمعه، فإن الأنبياء و الأمم السابقة لما أوكلت أمرها لله تعالى و عملت بأوامره فاجتنبت نواهيه و كتب لها الله النصر ورفعها في عليين.
رفض أخلاقي
الخلق شيمة النفس و تاج عزتها و كرامتها، لذا وجب صيانتها، والعمل على إتقانها و إن هو فسد و اختل، اختلت النفس و أهينت، فهذا أيضا كان له الحظ الأوفر في شعره، فنراه يدعو إلى حسن الخلق مركّزا بذلك على الأئمة و رؤساء القبائل، موجها نقده للمجتمع، فالإصلاح يكون بمعاينة و دراسة ما هو واقع و يسير على منهاجه حتى يحقق مراده. فأظهر النقص و مصدره و سببه و أعطى الكمال فيه و ألزم فيه.
كما نراه يدعو إلى العلم الّذي هو سنام كل أمة ومقام قدرها و جلالها يقول الشاعر:
لا تلقيــني بحد جـاهل * غير اللي كان في الطراد جهاد وزين
تـرزقني من حلال ساهل * بحال حليـب من صـدور الوالدين
و يزيد في إصلاحه و دعوته إلى مكارم الأخلاق، كالتآزر و الصداقة و الاتحاد إذ يقول:
ارخستك لكان ألفين قنـطار * واش تغويني عنك دراهم السوم
أنا اللي نطعم عنك عام بنهار * ولو اجـبرت الصدقة دايما دوم
ويقول أيضا:
راها من قــوة الدراهـم تعواج الآية * يدي حقو فلوس يقول كتبي قالو
ربي من صاب لي نسا و يكونو بكاية * يبكو حقي و حقهم الدهر وتبدالو
إنه النقد الاجتماعي الداعي إلى حسن الخلق، و المظهر لمساوئ الطمع، وكذلك الشيخ الّذي يفتي الناس بما أملوه عليه، ثم يقول هذا من عند الله، خسئ قوله، قال هذا مقابل دراهم يتقاضاها، فباع دينه بغرض من الدنيا و ساء مآله سبيلا.
رفض الدنيا
إنّ الدّنيا مليئة بمفاتنها و ملذاتها، فيتعارك عليها الناس و يتصارعون، منهم من يصل إلى مبتغاه و منهم من لا يصل، و تبقى كيفية الوصول مختلفة بينهم، فهناك من يصل بطرق سليمة و مرضية، و هناك من يفشل فيتخذ طرق غير مرضية بها لغو و كذب و تلاعب، و هذه الأخيرة هي ما رفضها الشاعر و ثار عليها بشدة، و رأى الدنيا دار فناء لا يحق التنازع عليها و نشر الحقد و البغض فيقول:
اللانـوريك يا العـاقل * والدنيا ذاك حالها فارح و حزين
جميع احـبابها تبـهدل * تبدى و دور بين لضداد و لسنين
ما تـمت للنبي المرسل * ولا لخليــفة النبي جـد الحسن
إنه يخاطب العاقل ففيه النباهة و الفطنة و الذكاء، و يخرج من دائرته الغافل و الغبي و الذميم، ويرى أنه لا نصيحة لهم ولا موعظة تفيد، فقد عميت أبصارهم، و غلّت قلوبهم أما العقلاء فيتدبرون القول و يختارون أصله وإن خالفوه، تيقنوا بهلاكهم فيلتزموا بما يمليه العقل و إن زاغوا عادوا إلى مثواهم مستغفرين ربهم.
كما يرى الشاعر أن الدنيا ليست بموضع رفعة و لا مقام، فهي زائلة، فما ترفعك إلاّ لتضعك فاحذر فتنتها و نراه يرفضها و يلقيها وراء ظهره، فلو بقت، لكانت للرسول (ص) و لخليفته، وخير سبيل للمرء فيها أن يتزود منها و يعتدل فيها و يحكم عقله في أحداثها ولا يتبع هواه فيكون هلاكه. و لهذا نجد الشعر قد استغل كل الرموز و الكلمات المعبرة ليرفض الواقع الاستعماري و يدعو إلى الثورة عليه.
الهوامش
[1]مفهوم التمرد عند ألبير كامو و موقعه من ثورة الجزائر التحريرية، محمد تيجاني، ديوان المطبوعات الجامعية بن عكنون، الجزائر 1984، د.ط، ص.04.
[2] نفس المرجع يذكر أنه توفي نحو 1905م.
[3] دحماني، خديجة، مجلة "محمد بلخير"، البيض، مكتب حماية التراث الثقافي، 1989م، ص.14.
[4] ديون المتنبي، دار بيروت للطباعة و النشر، د.ط، 1979م، ص.81.
[5] عاصي، حسن، التصوف الإسلامي مفهومه تطوره مكانته في الدين و الحياة، بيروت-لبنان، مؤسسة عز الدين للطباعة و النشر ط1، 1994م، ص.81.
[6] كامو، ألبير، الإنسان المتمرد، ترجمة نهاد رضا، باريس، منشورات عويدات، ط1، 1963م، ط2، 1980م، ص.20.
[7] دودو، أبو العيد، الشاعر و قصيدته، الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، ط، 1986م، ص.07.
[8] ذكره شيدلنجر، بول، التحليل النفسي و السلوك الجماعي، ترجمة د. سامي محمود علي، مصر، دار المعارف، د.ط، 1958م، ص.13.
[9] خرفي، صالح، الشعر الجزائري، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر و التوزيع، د.ط، د.ت، ص.16.