إنسانيات عدد 47-48 | 2010 | جماعات، هويات وتاريخ | ص57-75 | النص الكامل
Algerian historiography : evaluation and criticism. The example of Ottoman Algeria Abstract: This article considers the question of rewriting national history by means of some Algerian lecturers’ theses. Starting from the idea that a rewriting history remains a subject of actuality in the Maghreb countries Keywords : Algeria - Ottoman state - Algiers’ regency - French colonialism - National history. |
Ahmed ABID : Historien, Faculté des sciences humaines, Université d'Oran, 31 000, Oran, Algérie.
مقدمة
خلال السنة الجامعيـة 2008/0920، أسند إلينا الإشراف على تطبيق مادة "تاريخ المغرب العربي الحديث"، وقد طابق هذا الموضوع الفترة العثمانية للجزائر. وفي انكبابنا على البحث واجهتنا عدّة مسائل تأويليـة تتعلّق بالتّأريخ الذي عالج موضوع الجزائر العثمانية. وخلال تقييم هذا التّأريخ تبادرت إلينا تساؤلات نطرحها اليوم للنقاش بعد 50 سنة من عمر الجزائر المستقلة.
وفي سنة 2006، نظّمت "مؤسّسة الملك عبد العزيز آل السعود" للدّار البيضاء بالمغرب ملتقى دعت له المؤرّخين، المفكّرين والمثقّفين المغاربة الذين كان لهم اهتمام بتاريخ البلدان المغاربية ككلّ أو كلّ بلد على حدة لتقييم التّأريخ المغاربي، تحت عنوان "المغرب، مسألة التّأريخ، 50 سنة من بعد"[1] وفي الورقة التي مهّدنا بها لإشكالية الملتقى، قاربناها بالطرح الذي اعتبرنا فيه أنّ إعادة كتابة التاريخ، مازالت تشكّل مسألة تشغل حاضر البلدان المغاربية منذ بداية الاستقلال. ومازالت إعادة التفكير في التاريخ الوطني لهذه البلدان من الاهتمامات الرئيسية ليس فقط بالنّسبة للمؤرّخين والكتّاب، بل كذلك بالنّسبة للحركات السياسية والتّيارات الإيديولوجية المغاربية.
مسيرة التّأريخ المغاربي بعد 50 سنة
لقد تحمّل المؤرخون الوطنيون غداة الاستقلال واجب تملّك تاريخ بلدانهم، الذي طالما احتواه التّأريخ الاستعماري، وكان الوقت حينها وقت تصفية التاريخ من الاستعمار، وهذا بالذّات هو عنوان كتاب "محمد الشريف الساحلي" « Décoloniser l’histoire » فيما يتعلّق بإعادة كتابة تاريخ الجزائر. وعلى غراره ذهب كذلك عبد الله العروي بالمغرب لينشر "تاريخ المغرب" في نفس الاتجاه ناقدا التّأريـخ الاستعماري دون هوادة معتبرا بأنّه حتّى إذا لم نتوصّل إلى عرض تاريخ للمغرب "منقى بطريقة إيجابيـة من الاستعمار"، فعلينا مباركة مشروع إعادة كتابته، مؤكّدا بأنّها "حتى في أسوء الحالات لن تكون أكثر إيديولوجية من تلك التي أنتجها المستعمرون" (ع. العروي).
وقد تحوّل المشروع التاريخي لـ "محمد الشريف ساحلي" بالجزائر، وفق التاريخ-المضاد الذي تبنّـاه إلى تأريخ رسمي في خدمة إيديولوجية الحكام الجدد، ولم تنفرد الجزائر وحدها بمراقبة التاريخ من طرف الدولة الوطنية، حيث، يشير هشام جعيّط بالنّسبة لتونس إلى نفس الملاحظة، مبيّنا بأن النّظام أشاع نوعا من الإيديولوجية الوطنية المحصورة للدولة ليتصدّى للفكر النّاصري وقتها، بالتركيز على الوعي الوطني الضيّق وعلى الخصوصية التّونسية، وعلى نفي "الأمّة" نفسها مع السعي في التّأكيد على الهوية الوطنية. وعلى غرارهما ذهبت الدولة بالمغرب إلى نشر نظرتها الخاصة لتاريخ البلد، بحيث أدّى تنافس المجموعات المتولّدة عن انقسام الحركة الوطنية والتعدّدية الحزبية المنتهجة غداة الاستقلال، إلى أن تعتمد كل واحدة منها نظرة خاصة بها للتاريخ الوطني، الأمر الذي "أدى إلى فقدان عام للذاكرة " (ع. العروي).
وإلى غاية اليوم، وبعد 50 سنة من استقلال البلدان المغاربية، فإنّ إعادة كتابة التاريخ الوطني تبقى وتظلّ على جدول الأعمال، إلاّ أن الطلب عليها لم يعد نفسه. ولم يعد الأمر يتعلّق بالمطالبة بتصفية التاريخ من الاستعمار- وهي المهمة التي أنجزت على أكملها على الصعيد الإيديولوجي على الأقلّ- وإنّما تنقية التاريخ الوطني من إيديولوجية ذات طبيعة أخرى. والطّلب يصدر هذه المرّة من المجتمع ذاته، من خلال تعابير سياسية أو ثقافية تتوجّه إلى الدّولة الوطنية والمؤرّخين، وفي محور هذا الطلب، هناك إعادة النّظر للتاريخ الوطني بإعادة اعتبار مراحل تم تجاهلها، إضافة إلى أن مسائل الذاكرة مرتبطة بأحداث مأساوية للتاريخ السياسي للدولة الوطنية المغاربية، إضافة إلى مسائل الهوية في علاقتها بمعضلات لغوية وثقافية.
سياسة "كتابة وإعادة التاريخ" بالجزائر[2]
استهدفت الممارسة التّأريخية التي وضعتها الدولة الوطنية بعد الاستقلال، خاصة مع سنوات 1970، "كتابة وإعادة كتابة التاريخ الوطني"، لكن وانطلاقا من هاتين العمليتين أسندت لها وظيفة ومساعي الشرعية-الذاتية المنشودة من طرف الدولة الوطنية. ولقد تلخصت مهام "إعادة الكتابة" في التّنقيب عن مختلف المراحل التاريخية (السّابقة عن الحرب التحريرية) و عن الآثار التي تثبت وجود دولة وأمة جزائرية، وذلك بتصحيح الحقائق المحرّفة التي أقامها التّأريخ الاستعماري. أمّا "الكتابة"، فإنهّا تتعلّق بالحرب التّحريرية وتتّخذ الأولوية من حيث الاهتمام.
وفيما يتعلّق بالجزائر المعاصرة، فإنّ مسألة المشروعية التاريخية قد طرحت منذ العهد الاستعماري، حيث أن الاستعمار منذ بدايته قد وظّف التاريخ لتبرير وجوده وسياسته بها، وذلك من خلال انتقائه للفترات التاريخية التي اهتم بها والمواضيع التي عالجها. وكرد فعل لهذا الخطاب الذي أنتجته "مدرسة الجزائر" نهض له الجزائريون فيما بين الحربين في خضم التحوّل الذي عرفته الحركة الوطنية في شكلها العصري وعلى أكتاف رجال الإصلاح من قبيل مبارك الميلي وتوفيق المدني، إذ حاول هؤلاء كتابة تاريخ يشمل كل الحقب من العهد الفينيقي- البربري القديم إلى غاية الفترة المعاصرة، مع تفضيل الارتباط بالشرق الإسلامي والطابع المغربي-الإسلامي للجزائر، ردّا على الإيديولوجية الاستعمارية التي اجتهدت في إيجاد أسباب الوجود الفرنسي، بإبراز الفترة الـرومانية مع خصائصها اللاتينية والمسيحـية، على حسـاب الفترات البربرية-العربية والعثمانية "كعهود غابرة" (E.F Gautier) من الفوضى والاستبداد والانحطاط. إن الاهتمام بالتاريخ الوطني لن يظلّ حكرا على رجال الإصلاح المعرّبين، بحيث سيظهر مؤرخون ناضلوا في أحضان حزب الشعب الجزائري وحركة انتصار الحريات الديمقراطية، ثم بعد ذلك في جبهة التحرير الوطني لكتابة التاريخ بالفرنسية، وذلك ابتداء من سنوات 1940/1950. ومن بين هؤلاء يمكن ذكر: مصطفى الأشرف، محمد الشريف ساحلي، محي الدين جندر، حيث أن هؤلاء سواء قبل الاستقلال أو بعده ناهضوا ضًد "تحريف" التاريخ من قبل "المدرسة الاستعمارية"، وهو التحريف الذي فضحه "ميثاق الجزائر" سنة 1964. وقد انصبّت جملة الدّراسات التي انساقت سياسية "إعادة كتابة" التاريخ الوطني ضمن حقلين متميّزين: تفضيل الفترات الإسلامية (الوسيطة والعثمانية) من منظور حضاري، وكذا الفترة الاستعمارية في مختلف مظاهرها الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والسياسية.
الجزائر العثمانية ضمن "إعادة كتابة" التاريخ الوطني
في سياق سياسة "إعادة كتابة" التاريخ الوطني التي تستهدف التنقيب على الآثار التاريخية الرامية إلى إثبات وجود دولة وأمّة جزائرية سابقة عن الاستعمار الفرنسي وذلك بهدف إضفاء الشرعية التاريخية على دولة الاستقلال، وكأنّ هذه الأخيرة ما هي إلاّ استرداد وامتداد للفترة العثمانية. وضمن هذا المنظور، برزت دراسات من طرف مؤرّخين جزائريين تجاوبوا مع هذه السّياسة، وقد تضمّنت دراستهم مفاهيم وأوصاف قلّما تتطابق مع المادة التاريخية، تكشف عن دوافع إيديولوجية تستبعد التقيّد بالأحكام العلمية والمفاهيم المطابقة للواقع التاريخي. لقد تضمّنت مثل هذه الدراسات رؤية حضارية تقوم على الاستجابة لوظيفتين في آن واحد، أولاهما: ثبوت وجود الدولة الجزائرية قبل الاستعمار، وثانيهما تبرير الوجود العثماني بالجزائر، وكأنّ هذا الوجود كان دينا علينا وفضلا لنا لما تحمّله العثمانيون في "إنقاذنا" بجهادهم البحري وبتصدّيهم للغزو الصّليبي المسيحي الأوربي بغرب البحر الأبيض المتوسط. وكان هؤلاء يربطون المجتمع الجزائري بالكيان العثماني من خلال القاسم الحضاري المشترك والمتمثّل في الإسلام.
وإذا ما انساق مؤرّخو الإصلاح فيما بين الحربين إلى تبرير هذا الوجود وواصله مؤرّخو "المدرسة الوطنية" مع توظيفه في إضفاء الشرعية التاريخية للدولة الجزائرية، فإن أصل هذا التبرير يرجع إلى المؤرّخين الجزائريين الذين عاصروا الفترة العثمانية ذاتها. وتبيّن لنا دراسة غالم محمد تحت عنوان: "التأريخ الجزائري للقرن الثامن عشر: المعرفة التاريخية وأسلوب المشروعية السياسية"[3]، كيف سخّر الحكام الأتراك العالم في خدمة شرعيّتهم السياسية، تصدّيا لإدعاءات الطرق الدينية المناهضة لحكمهم. ومن بين هؤلاء العلماء، الفقهاء والمؤرّخين يوجد ابن حطّال، ابن سحنون، ابن زرفة، وأبو راس، الذين اعتبروا أن الدولة التّركية شرعية وأنّ على المجموعة الجزائرية طاعتها وعلى النخبة مساندتها كونها تنطبق على التّصوّر السياسي للإسلام، التصوّر الذي يقوم على ثلاثة أركان: الجهاد، العدل ومركزية الحكم منافين بذلك القطيعة التاريخية التي أقامها الأتراك مع المجتمع الجزائري وأوجه استبداد حكمهم عليه. ونحاول من خلال بعض الطروحات أن نعرض للنقاش عددا من الدراسات التي أفرزتها "المدرسة الوطنية" في إعادة كتابتها لتاريخ الجزائر العثمانية والتي نرى فيها مفاهيم تتناقض مع المادة التاريخية في واقعيّتها.
أطروحة "ناصر الدين سعيدوني"
يمهّد الباحث دراسته الموسومة بـ "النّظام المالي للجزائر في أواخر العهد العثماني 1792/1830"[4] بالتركيز على كونها ردّا على "جلّ كتابات بعض الفرنسيين التي تناولت الفترة والتي كان الغرض الأساسي منها الوصول بالقارئ إلى فكرة مفادها أن الفترة العثمانية ليس فيها ما يكسب الجزائر شخصية وطنية وكيانا سياسيا ونظما اقتصادية، فالحضور الفرنسي بناء على ذلك لم يفعل أكثر من أنّه وضع حدّا للتعسّف الاستبدادي التّركي بالجزائر. وهذا الرأي يتماشى مع أهداف مدرسة مؤرخي الاستعمار الفرنسي بالجزائر". وفي هذا المسعى، نرى بأنّ سعيدوني يقابل غلوّ مدرسة "استعمارية" بغلوّ "مدرسة وطنية".
ويمكننا أن نقف في تحديده للمفاهيم الاصطلاحية، على الصعوبة المعرفية التي تواجه الباحث في إضفاء البعد الجزائري النّابع من الذات الجزائرية على الكيان السياسي القائم بها، ليذكر "أن مصطلح "الأيّالة" لم يستعمله كترجمة لـla Régence أو كبديل لكلمة "الولاية"، وإنّما هو مجرّد تعبير تاريخي رأى من المناسب استعماله كدلالة على الدولة الجزائرية بأوصافها الخاصة وعلاقاتها الدبلوماسية مع الدولة العثمانية. ولهذا، فإنّه عندما يتعلّق الأمر بأنظمة البلاد الجزائرية، فإنه يستعمل تعبير "الدولة الجزائرية"، كما أنه يستعمل عبارة "الحكم التركي" إذا تعلّقت الأمر بالقضايا المالية للأقلية الحاكمة بالجزائر، بينما يستعمل "الجزائر العثمانية" عندما تكلّم عن انتساب الجزائر للسلطة العثمانية[5].
ويجرّنا "سعيدوني" إلى نوع من الغموض والخلط في المفاهيم، حيث لا يجيبنا بدقة عن طبيعة الكيان الجزائري القائم أثناء الفترة المدروسة، فيتحدث تارة عن "الآيّالة" باعتبارها مجرّد تعبير تاريخي يدلّ على وجود دولة جزائرية في علاقتها بالخارج، وطورا تعود الدولة لتنحصر في "حكم تركي" دخيل عندما يتعلّق الأمر بعلاقة هذا الكيان بالمجتمع الجزائري فيردّه إلى أصله أي "الجزائر العثمانية" لتنتسب فيه الجزائر بذلك إلى السّلطة العثمانية، ناهيك عن أوصاف من قبيل: "الحكومة الجزائرية"، "السلطات الجزائرية" و"الأتراك الحاكمين"[6].
ورغم ادعاء الباحث أنه يتقيّد "بروح الموضوعية" في دراستهّ، إلاّ أنّ ذلك لم يمنعه من الخروج بنتائج تميل إلى الذاتية من بينها مثلا قوله: "أنّ الدولة الجزائرية رغم اهتماماتها المتزايدة بالحالة المالية للبلاد، فإنّها لم تستطع انتهاج سياسة مالية تخدم مصالحها العليا" أو "لم يكن النّظام المالي يخدم سوى مصالح الطبقة التركية الحاكمة"[7]، لكنّه، في الفصل المخصّص "لنقد واستنتاج السياسة المالية" القائمة، وبدل من أن يتقيّد بما تلزمه عليه المادة في حدّ ذاتها من استنتاجات نقدية، يبقى حبيس الفخّ الإيديولوجي الاستعماري في العناد بالرّد على العدم بالعدم، حيث يكتب ما يلي: "لكن هذه الأحوال الاقتصادية السيّئة لا تسمح لنا بأن نقرّ التّهم القاسية التي ألصقها كثير من الكتاب الأوربيون بتصرفات السلطات الجزائرية في الأمور المالية. وملخّص هذه التّهم الأوربية، أنّ الأتراك الحاكمين في الجزائر لم يكونوا مهتمين إلاّ بحاضرهم، فلم يعيروا للمستقبل أدنى اهتمام، وبذلك، اتّصفت حكومتهم بالآنية والعمل من أجل فائدتهم الخاصة"[8]. وبالرغم من أن هذه الخلاصة تتطابق وأطروحته المذكورة، إلا أن سعيدوني، في تحمّسه للتهجّم على الكتاب الأوربيين، لا يتردّد في أن يعمّم ذلك حتى على الكتاب الجزائريين مثل: عبد اللطيف بن أشنهو: "الدّولة الجزائرية في 1830 ومؤسساتها تحت "الأمير عبد القادر"، فهي على حدّ تعبير هذا الأخير "عبارة عن أداة تعمل من أجل ملء أكياس الخزينة وجيوب الأقلية الحاكمة المسيطرة، فثروات البلاد أصبحت في هذا الوضع أشبه بشيء من قطعة حلوى، يأخذ منها كل موظّف حسب ما يخوّله له منصبه". ويعتبر الباحث أن حكم "بن أشنهو" ينمّ عن تأثره بقيام حكم وطني بزعامة الأمير عبد القادر يعبّر عن مصالح الأهالي الوطنية. وكيفما كان مثل هذا النقد صادرا عن أفواه أجنبية أو وطنية، فإنّ سعيدوني يراها "مناقضة للواقع"[9] المدروس رغم أنّه يوافقها الاستنتاج، لا لسبب إلاّ لأنها تتعارض ودافعه الإيديولوجي في تبرير الفضل التركي الذي أمدّ البلاد بدولة ينتهي الباحث "بجزأرتها".
أطروحة "مولاي بلحميسي"
في بحث مستفيض بعنوان أراه يتناسب وواقعه التاريخي "بحّارة وبحرية مدينة الجزائر في العهد العثماني 1515/1830"[10]، عالج المؤرّخ الموضوع من كل جوانبه:التركيبة المادية والبشرية لهذه البحرية، مكانتها المتوسطية، وزنها الاقتصادي، علاقتها مع مركز الحكم، مع المجتمع، ازدهارها وتدهورها.
ما يستخلص من هذه الدّراسة هو أن بحرية الجزائر كانت تشكل طائفة من البحّارة من الصعب أن ننسبهم حتّى للأتراك لما كان يطغى عليها من العنصر الأوربي، "المرتدّين" والأسرى، ولما مثّلته الجزائر كقطب اجتذاب عالمي تتوافد عليها كل الأجناس الأوربية هروبا من بؤس الأوضاع وطمعا في ثراء سريع مضمون، ولذلك، لا يتردّد كثير من هؤلاء البحّارة في اعتناق الإسلام. كما أن مصدر صناعة وحدات أسطول هذه البحرية هو خشب غابات الجزائر حيث يورّد إلى ورشات "باب عزّون" و"باب الواد"، ويقتطع على طول الساحل من "شرشال" إلى غاية "القلّ"، وهناك تحتكر سخرة "القرّاصطة" [11]فيه عائلات قيادية مثل عائلة "المقراني" بمجّانة و"بني صالح" جنوب عنابة، قبل أن تنتقل هذه الخدمة الامتيازية حكرا على دار "بكري وبوشناق" اليهودية.
لقد خصّ الباحث صفحات يثني في طيّاتها على أوصاف ومآثر هذه البحرية وخصال بحّارتها الحربية في جهادهم الإسلامي ضد الصّليبية الأوربية، لكنّنا نرى أنّ مثل هذا الثناء ينطبق على المرحلة الأولى من تاريخ هذه البحرية، مرحلة البيلربايات التي تنتهي مع معركة "ليبانت" (Lépante) (1571) والتي أسفرت عن توقّف الصّراع الإسلامي-الصليبي بحريا ليتحوّل الاهتمام إلى داخل أوربا فيما بين الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الرومانية المقدّمة والقيصرية الروسية. وبناء عليه ستتحوّل البحرية إلى عمل قرصني مثل ممارسة كلّ الدّول المتوسطية، قرصنة تجارية الطابع، موقوف مصيرها على تطوّر ميزان القوى التكنولوجي. وقد بدأ ميزان القوى هذا يميل تدريجيا لصالح الطّرف الأوربي على حساب قوّة بحرية الجزائر المتراجعة. وفي فحص المؤرّخ لأسباب هذا التراجع، لا يتردّد في تسمية الأشياء بمسميّاتها حين ينسب أسبابه الداخلية إلى تدهور الوضع السياسي بالبلاد مشيرا إلى الخلاصة التالية: "منذ بعض العقود، عادت الأيّالة مفخّخة ببذور خرابها. بوصفها مستعمرة استغلال وجمهورية عسكرية، فإنّ البلد لم يعد يتحمّل حكم أقلية تركية، تعيش منغلقة على نفسها وتحتكر ممارسة ومنافع السلطة"[12].
وقد ناقش الباحث أطروحته التي تطابق مادتها التاريخية في جامعة بوردو (Bordeaux) الفرنسية سنة 1986 بعنوان "البحارون و بحرية الجزائر في العهد العثماني 1515/1830". وقبل ذلك، كانت المؤسسة الوطنية للكتاب قد أصدرت له كتابا بعنوان "تاريخ البحرية الجزائرية" سنة 1983.
وهكذا يتبنى الباحث بفرنسا موقفا، في حين يتبنى بالجزائر موقفا آخر. فبناء على هذا التّأويل، شهدنا تسرّب اتجاه في الخطاب التّأريخي الجزائري يقدم على تأميم وجزأرة هذه البحرية بأوصاف تضفي البعد الوطني عليها في صيغ مثل: "الأسطول الجزائري"، "البحرية الجزائرية"، لتلصق في الكتب المدرسية[13] وفي الذاكرة الجماعية الجزائرية فيما بعدّ، بينما لم تكن لهذه البحرية صلة بالجزائر أو بالفرد الجزائري لا مشاركة فيها ولا منفعة من خيراتها، ما عدا إسهامها في صدّ العدوان الأيبيري عليه، والذي مع الوقت سيتحوّل إلى مرجعية تاريخية تستند عليها القوى الأوربية كتبرير ودافع بالتعجيل باحتلال الجزائر مبكّرا، كما سيأتي بيانه.
أطروحة "الدّولة الجزائرية السيدة والمستقلة"
كثر التّداول على تبنّي الفكرة التي مفادها أن الجزائر العثمانية في مرحلة من مراحل عهدها أصبحت تحظى باستقلالية عن الباب العالي وسيادة معترف لها بها، الأمر الذي مكّن كيان الدولة المقامة بها من أن يتّجه في اتجاه الجزأرة وإضفاء الطابع الوطني عليه. ونستعرض في هذا السياق على سبيل المثال، دراستين دافعتا عن هذه الأطروحة:
دراسة غالم محمد بعنوان "الجزائر في الفترة الحديثة"[14]
في هذه الدراسة يتعقّب غالم محمد تدرّج الحكم التركي بالجزائر ليتوقف عند عهد آغا القمرين سنة 1659، حيث ينتخب الآغا حاكما من قبل الأوجاق أو طائفة الانكشارية (القوى العسكرية البرية). مما يجعل مولاي بلحميسي يصف أسلوبه في صيغة "جمهورية عسكرية". وينقلنا الباحث بعد ذلك إلى سنة 1711 حيث يقدم الدّاي علي شاوش على رفض استقبال الموفد من إسطنبول لحكم الجزائر، ليتقرّر بذلك شبه استقلال الجزائر. بناء على ذلك، تتّجـه الجزائر في حركية تاريخية تجعل الباحث يخلص إلى التقييم التالي: "أنّ الجزائر ليست مستعمرة، إذ أن الأتراك لا يستحوذون الحصة التي يقتطعونها... إنّ الدّولة الجزائرية كيان مستقل وسيّد بدون منازع، تستجيب للمواصفات المعتمدة في القانون الدولي. فالشروط الكلاسيكية متوفّرة كلها لديها (إقليم، مجموعة بشرية، سلطة عمومية، استقلال فعلي واعتراف دولي)، لقد نجح الأتراك في مدّ الجزء الأوسط من المغرب باستقلالية سياسية وجغرافية تميّزها عن البلدان المجاورة منه، فقد توضّحت أكثر معالم حدودها الغربية والشرقية. وإذا ما ظلّت حدودها الجنوبية غامضة بفعل الصحراء، فإنّ ذلك لا يؤثر على وحدتها الإقليمية. وبجانب هذا التحديد الجغرافي، يضاف تحديد اقتصادي ذو طابع جبائي أساسا. ومع أواخر العهد التركي، يتّجـه الحكم في اتجاه إبعاد العنصر التركي منه بتمركز السلطة في أيدي الدايات، أي إقصاء الأقلية التركية والاستناد على العنصر الكرغلي في تسيير إدارة البايلك الجهوي، وحكم الباي أحمد في الشرق ومحمد الكبير بالغرب شاهد على ذلك.
وعلى عكس مولاي بلحيمسي كما أسلفنا، يرى الباحث أن الجزائر ليست مستعمرة، ومردّ، ذلك في نظره، أن الأتراك لم يكونوا وحدهم يستحوذون على فائض الإنتاج. ونتساءل هنا عمّن كان يتقاسم معهم فائض الإنتاج، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يمكن القول أن الدّولة التي أقاموها كانت تجمع الشروط المعتمدة للتعريف بالدولة ككيان، لكن يبقى هذا التعريف قائما من منظور العامل الخارجي ومن منظور القانون الدولي. لكن هذا لا يكفي لإقران صفة "الجزائرية" عليها، فلا بدّ من استكمال التعريف بعامله الدّاخلي حتّى يسمح لنا بإضفاء الطابع الوطني عليها. وعندما نستهدف تدقيق هذه المواصفات، نقف عند الملاحظات التالية:
أما الاعتراف الدولي، فهو شرط لا جدال فيه، وقد حظيت الدّولة التي أقامها الأتراك بالجزائر باعتراف دولي ثابت جعلها تبرم اتفاقات دولية باسمها في السلم أو الحرب، وكثيرا ما كانت تتعارض تلك الاتفاقيات مع سياسة الإمبراطورية العثمانية بناء على تناقض المصلحتين. ولقد امتدّ خطاب الاستقلالية الفعلية هذا إلى خطاب الرّحالة، الكتاب والمؤرّخين الأوربيين الذين لم يتحفّظوا في نعتها بهذه الصفة التي صيغت في عدّة تعابير مثل: "أيّالة الجزائر"، "الدّولة البربرية"، "الدولة الجزائرية" الخ ... لكن وإن أجمع الأوربيون على جزأرتها، فهل يلزمنا ذلك بأن نشاطر الرأي ونعتمده كمفهوم يعكس واقعا معاشا داخليا؟
وأمّا بالنسبة إلى الاستقلال الفعلي، فقد عبرت مبادرة علي شاوش في 1711، عن ممارسة الحكم التركي سلطته في اتجاه استقلال فعلي، لكن من الناحية المعنوية ظلّ الحكم مرتبطا روحيا بالآستانة في علاقة التّابع بالمتبوع، يلجأ إليها في السّراء والضّرّاء كلما اقتضى الحال ذلك. ويكفي في هذا الصّدد ذكر مراسلات الدّايات للسلطان العثماني من أجل دعمهم المادي في استجلاب الانكشارية للتدخّل من أجل فكّ المنازعات الدّاخلية، وأكبر دليل على تواصل هذا الارتباط السياسي هو موقف الباي أحمد في طلب استغاثة من العثمانيين لصدّ الاحتلال الفرنسي وبالمقابل رؤية العثمانيين لهذا الحدث التاريخي في أن الجزائر مازالت تابعة لهم. وبغضّ النّظر عن هذا الجانب، فإنّ مثل هذا الاستقلال الفعلي لم تجن منه الجزائر ككيان منفعة بقدر ما انحصرت منافعه في الأقلية التركية الحاكمة بإعفائها من "إرسال الحصة التي يقتطعونها إلى إسطنبول " كما يستخلص الباحث غالم محمد.
وأما ما تعلق بالسلطة العمـومية، فصحيح كذلك أن الأتراك قد توصّلوا إلى مدّ الجزائر بسلطة عمومية مركزية تخضع مجموعتها البشرية لمركز سلطوي واحد يصل تأثير نفوذه على كامل أرجاء الإقليم الواحد. تحقق هذا من خلال إقامة نظام إداري يوحّد البلاد، ونظام جبائي يجعلها مميّزة عن البلدين المجاورين (تونس والمغرب) كأجزاء لذلك المغرب الإسلامي الوسيط. وتعني هذه الخصوصية اعتبار الجزائر ككيان جغرافي-سياسي مختلف في بناء هويته الوطنية، ومن هذا المنظور، يحسب إسهام الأتراك كإسهام إيجابي في هذا المنحى.
إلاّ أنّه بالمقابل، تكشف طبيعة هذه السّلطة أنّها كانت حكرا على العنصر التركي، فقد أقام الأتراك قطيعة بينهم وبين الأهالي الجزائريين في تسيير الحكم، فلم ينعم به حتّى مواليهم من "الكراغلة" طيلة وجودهم ، وما ثورات (1638-1639) وما موقف السّلطة من الأهالي بإبعادهم عن مقرّها (دار السلطان) ودفعهم إلى الإقامة بالجهات، إلاّ دليل عن مدى انغلاق هذه السلطة على نفسها. وهذه الخصوصية تجعلها تختلف عن تجربة أتراك تونس التي تميّزت باللّيونة، الانفتاح والانصهار في المجتمع التونسي، الأمر الذي سينعكس على تقرير مصير التجربتين.
وإذا ما عمد الحكام الأتراك في أواخر عهدهم بالجزائر إلى التخلّي عن هذه السياسة العنصرية بإسناد حكم البايلكات الجهوية إلى الكراغلة والاستنجاد بقبائل مخزنية، فذلك لم يكن ينمّ عن إرادة جزأرة نسبية في تسيير الدولة، بقدر ما عكس تراجع القوّة الانكشارية وتناقصها بالنّظر للتحوّلات التي كانت تشهدها الإمبراطورية العثمانية داخليا (القضاء على الجيش الانكشاري في 1826 وتراجع مواقعها الأوربية واعتماد حركة إصلاحية). ومن هذا المنطلق نتساءل عن البعد الجزائري لمثل هذه السلطة العمومية في هذه الحالة؟
وأما شرط المجمـوعة البشريـة فيعني هنا الأهالي الجزائريين، سكان الجزائر الأصليّين، الذين تتحدّد صفتهم كمجموعة تنتمي للإقليم نفسه والذي يحدّد بدوره مجالها. إنها تخضع للسلطة نفسها، والكيان نفسه، فبعد أن كانت تسميته مقصورة على عاصمته، مدينة الجزائر، أصبح معمّمـا على كل الإقليم النّاشئ أي على بلاد الجزائر.
وماعدا ذلك، فالأهالي الجزائريون مجموعة بشرية لا تمتّ إلى الدّولة القائمة بصلة، فقد جعلتهم القطيعة القائمة بينهم وبين الأتراك يتمثّلون في هذه الدّولة و كأنها ليست دولتهم ولا هي موجودة لتمثيلهم وخدمتهم، فهي ليست دولة نابعة من الذّات الجزائرية، وهم لم يشاركوا في تسيير هذه الدّولة ولا استفادوا من موارد قرصنتها ولا تصرفوا في فائض إنتاجها. لقد كان هذا الفائض حكرا على الحكّام الأتراك يتصرّفون في تحديد سعره ومبيعاته ويمنحونه امتيازات لليهود والشركات الفرنسية بالأخصّ. أمّا المهمّة الأمنية التي سهر الأتراك على ضمانها، فكانت موجّهة ضدّ الأهالي أكثر مما كانت موجهة إلى خدمتهم. ولطالما حاولت السلطة القائمة استمالة العائلات القيادية الجزائرية والطرق الدينية لها لضرب هذا بذاك، من أجل ضمان من سلطأمن سلط
أمن الأقلية التركية. ولكن بمجرد أن بدأت تلك السلطة تميل للضعف والتقهقـر، سرعان ما ناهضتها نفس القوى القيادية المساندة لها بالأمس وزعزعت أركان دولتها من خلال سلسلة الانتفاضات، إثباتا لعلاقة التّنازع والتنافر التي طالما ميّزت مثل هذه المجموعة البشرية بالدولة الجزائرية المزعومة إيديولوجيا.
وأمّا شرط الإقـليم، فهو المعيار الثاني بجانب الاعتراف الدولي الذي تتمثّل به صيغة "الدولة الجزائرية"، إذ لا يمكن انكار فضل الأتراك على الجزائر من أنّهم أمدّوها بإقليم محدّد المعالم في شماله غربا وشرقا، استدعى منهم الصمود أمام كل المحاولات التّوسعية من قبل الحفصيين شرقا والسعديين/العلويين غربا، لتستقرّ الحدود الجزائرية على الشكل الذي ورثته عن فرنسا المحتلّة. يبقى هذا هو النّطاق الأسلم والصّحيح الذي يمكّننا من إسناد هذه الصّفة لتعيين الدّولة المقامة، إذ تستمد "الدّولة الجزائرية" مشروعيّتها من معيار إقليمي جغرافي أكثر ممّا تستمدّه من الأساس السياسي- التاريخي.
وفي السياق نفسه، كان المفكر الجزائري المرحوم مولود نايت بلقاسم قد سبق محمد غالم إلى تأكيد هذا الطرح حين نشر كتابه: "سيادة الدّولة الجزائرية" في خضم أزمة مشروعية الدولة التي ترتّبت عن أحداث أكتوبر 1988.
وقد تتبّعنا بالمناسبة كجامعيين الجدال النظري الذي دار بينه وبين المؤرّخ المرحوم محفوظ قدّاش على السّاحة الصحفية، ومن خلاله وقوفنا على البناء المنهجي الذي اعتمده المفكّر في إثبات سيادة الدولة الجزائرية في الفترة العثمانية. فكانت البرهنة قائمة على تعريف القانون الدولي نفسه وبخاصة معيار الاعتراف الدولي، وكذا دلالة الازدهار الاقتصادي الزراعي كتعبير عن ثبوت وئام "وطني" بين القوم والسّلطة وهو الطّرح الذي أثار اعتراض محفوظ قدّاش مؤكّدا ثبوت العكس. لكن بحكم أن نايت بلقاسم كان يخاطب معارضه من أعلى مركزه السياسي، بوصفه لسان حال الحزب الحاكم وبوصف محفوظ قدّاش جامعي بسيط، فقد انتهى الجدال بينهما دون خلاصة.
ومن محاسن الصدف أن كانت لنا فرصة مواصلة هذا النقاش بمناسبة انعقاد الملتقى الثاني حول: "أحداث ماي 1945"، حين حضر نايت بلقاسم كمبعوث رسمي لاختتام أعماله، واستغلّ المناسبة لتقديم كتابه وأطروحته، فناقشناه في الموضوع على أساس اعتماد الأطروحة منهجيا على العامل الخارجي. وهذا يستوجب اكتماله بالعامل الدّاخلي، وحتى وإن قبلنا فرضا بالازدهار الاقتصادي المزعوم، فهذا ليس دليلا على تواجد وئام بين الدولة وقومها بما يضفي عليها شرعية "الوطنية"، كون أنّ فائض إنتاجها الزراعي كان يقتطع من أفواه منتجيه الأصليين دون أن يعود عليهم بفائدة، الأمر الذي تولّدت عنه حركة الانتفاضات الريفية التي تفنّد هذا الوئام المزعوم.
كان النّقاش بيننا علنيا أمام الجمهور، حيث تحفّظ فيه المفكر في الرّدّ على اعتراضي لننفرد في جلسة خاصة بين عدد من الوجهاء ويصرّح لنا بأن وجهة نظري صائبة كونها تتقيّد بالنهج الأكاديمي وتختلف مع دوافعه كرجل سياسي، فافترقنا في ودّ على أنّ كلاّ منّا مقيّد بوظيفته، و لم تمرّ شهور حتى كانت أحداث أكتوبر 1988 واهتزت على إثرها مزاعم الدّولة "الوطنية".
وما يفنّد مزاعم تاريخية ثبوت الدّولة الجزائرية ذات البعد الوطني، أنّه إذا ما تعنّتنـا في اختلاق أسباب وجود الدولة الجزائرية السابقة عن الاحتلال الاستعماري الفرنسي سنغفل عن دلائل تاريخية موضوعية تثبت العكس كما سنطرح جانبا المسؤولية التاريخية التي تعود للوجود العثماني بالجزائر في تقرير مصيرها اللاحق. ففيما يتعلّق بالدلائل العكسية التي يأتي بها الخطاب التأريخي الجزائري نفسه والتي تجعله يتناقض مع نفسه ما يلي:
- الاعتقاد في دولة "الأمير عبد القادر": لقد أصبح راسخا عند المؤرّخين الجزائريين والأجانب منهم عند السّاسة والكتاب وفي خطاب الذّاكرة الجماعية، بأن "الأمير عبد القادر" هو مؤسّس الدولة الجزائرية الوطنية الحديثة، فهو الذي وضع لبناتها وإليه تستند مرجعية الدولة الوطنية المستقلّة. إذا كان الأمر كذلك، فهذا يفنّد الطرح الأول: إمّا أن نتمسّك بنشأة الدولة الجزائرية مع مبادرة الأمير وإمّا أن نؤرّخ لها قبل 1830.
- الاحتلال الإسباني لوهران: فخلال التواجد العثماني بالجزائر، استثنيت منه "وهران" التي ظلّت تحت الاحتلال الإسباني إلى وقت متأخّر من القرن الثامن عشر (1791). وعندما نؤرّخ للحدث، لا نتردّد في تسمية الأشياء بمسمّياتها لاستخلاص بأن وهران آنذاك كانت تحت احتلال أجنبي إسباني، فكيف نتحفّظ في وصف مثيله العثماني؟
- نظرة الأتراك لماضيهم بالجزائر: فإذا ما زرنا "إسطنبول" ومتحفها الوطني "Top Kapi" أو قصر السلطان العثماني، تستقبلنا خريطة معلّقة على باب مدخله ترسم لنا حدود الإمبراطورية العثمانية التاريخية لتخلّد أمجاد الماضي العثماني في تبيان نطاق الحيازات العثمانية التي مدّدتها الخريطة بالنّسبة لشمال إفريقيا إلى غاية "فاس"، الأمر الذي يجعلنا نتساءل: لماذا لا يرى الأتراك حرجا في مواجهة تاريخهم ولماذا نحن نتحفّظ في الحكم عليه؟
- الاستعمار الفرنسي المبكّر للجزائر: و الحكم على هذا الميراث التاريخي يجعلنا نلخّصه في الصيغة التالية: إن التواجد العثماني بالجزائر كان نعمة ونقمة في آن واحد، كان نعمة وقت أن ارتبط تدخّله بالجهاد البحري في وجه الصليبية الأوربية والأيبيرية، لكنه تحوّل إلى نقمة في آثاره مع تحوّل هذا الصّراع إلى عمل قرصني دولي تنحصر دوافعه في منافع تجارية، حيث أنّه وبعد مرحلة الهجوم الأول للأسطول العثماني بالجزائر التي جعلته يقف في وجه الأساطيل الأوربية غرب البحر الأبيض المتوسّط. وتليها مرحلة التراجع مع أواسط القرن الثامن عشر نظرا للتطوّر التكنولوجي البحري الأوربي، الأمر الذي جعل القوى الأوربية تستنهض قوتها وتعاود هجومها للسيطرة على البحر الأبيض وفي نفس الوقت تعبّئ نيّتها وإرادتها خلف الثّأر التاريخي من ذلك الخصم الذي طالما أذاقها مرارة الهزيمة "إنّ وجود القوّة الجزائرية لهو عار على أوربا" يكتب أحد المؤرّخين الفرنسيين. ولرفع هذا العار، يعمد بونابارت للقضاء على الجزائر في اتفاقية سريّة بينه وبين قيصر روسيا في 1807 تنذر بضم شمال إفريقيا. وأنّ حضور الضابط Boutin بالجزائر كان يندرج في إطار هذا المخطّط. ومن جهة أخرى، وفي مذكّرة عرضت على مؤتمر فيينـا من طرف الضابط Vie de Cesarini، في سبتمبر 1814، تضمّنها بالخلاصة التالية: "ثلاثة صعاليك هم إهانة اتجاه كل الملوك، هل يسلبون للأبد الألقاب، الرايات والأغنام؟ إنّ أمير مدينة الجزائر، لا يتعدّى أن يكون صعلوكا ! صعلوك رائع. لنقض عليه في اتحاد بحري"[15]. وما هجمة اللورد Exmouth في 1816 والقضاء على الجزء الأكبر من الأسطول التركي إلاّ بداية لمؤامرة واسعة استهدفت الإطاحة بكيان تركي يذكّر أوربا بماضيها الأسود. وإذا ما انفردت فرنسا بتحقيق هذه المهمة في آخر المطاف نظرا للخصوصية الفرنسية-الجزائرية، فهذا ما يفسّر لنا لماذا حكم على الجزائر كبلد أن يعرف الاحتلال والاستعمار الأوربي مبكّرا قبل غيره في إفريقيا مع بداية القرن التاسع عشر (ماعدا البلدات السنغالية الأربع فيما يتعلّق بالوجود الفرنسي). أمام هذا المصير ولأن اكتفى أتراك الجزائر في الإسراع بجمع أموالهم المكنّزة للهروب بها تاركين البلد كما دخلوه عرضة للمصير المشؤوم، فقد كتب على الأهالي الجزائريين تحمّل الثمن غاليا إلى يومنا هذا دون أن تكون لهم يد فيه، إذ لولاه لعاشوا مستقبلا مختلفا.
الجزائر العثمانية حقيقة تاريخية
على ضوء ما سلف، ما هي حقيقة الجزائر العثمانية إذا ما استبعدنا الاعتبارات الإيديولوجية وتقيّدنا فقط بالمعطيات التاريخية التي تفرض علينا قانونها سواء رضينا به أم لا، إلى أن يثبت العكس؟
لقد حكم التاريخ على المغرب الأوسط المشتت، الاستنجاد بقوّة أجنبية لمواجهة التهديد الإسباني المحدق به، وتمثلت هذه القوّة الأجنبية في عدّة قراصنة خواصّ نجحوا في تسجيل انتصارات في هذا المضمار. ولكن سرعان ما تحوّل هذا الاستنجاد إلى نوايا توسعية احتلالية اتجاه البلد، جرّاء دخول هؤلاء القراصنة تحت تبعية وولاء الإمبراطورية العثمانية. ومقابل هذا الارتباط السياسي، تم مدهم بقوّة انكشارية برّية تدعّم إرادتهم الاحتلالية لتأمين الجانب الخلفي لقاعدتهم البحرية. وأمام هذا التوجه الاحتلالي، حاول الأهالي الجزائريون مواجهته من خلال مماليكهم و إماراتهم وقياداتهم السلطوية دينية كانت أو مدنية ولكن من دون جدوى. بناء على ذلك، تقرّر مصير الجزائر النّاشئة بتحمّل الأتراك مهمة رسم معالمها الخاصة، بتحديد إقليمها - مواجهين في ذلك أطماع الكيانات المجاورة شرقا وغربا- وبإمدادها بسلطة عمومية مركزية و بإدارة تنظيمية ونظام جبائي خاص بها ورثه الاستعمار الفرنسي لاحقا. ومن خلال كل هذه اللّبنات الداخلية وكذا الوزن البحري المتوسطي بدأت الجزائر تظهر بمظهر الكيان الخاص.
ومن هذا المنظور، يصدق غالم محمد القول عندما يعتبر بأن الجزائر لم تكن مستعمرة على اعتبار أن أتراك الجزائر إلى غاية منتصف القرن الثامن عشر، لم يكن اهتمامهم موجّها إلى داخل البلاد بقدر ما انصبّ انشغالهم على البحر من خلال جهادهم البحري أوّلا، ثم عمل القرصنة التجارية ثانيا باعتباره مورد خزينتهم الأساسي. ومع تراجع بحريتهم وتناقص مداخيلها، كان عليهم تعويضه بتوجيه النّظر إلى داخل البلاد بتسليط نظام جبائي قاهر على الأهالي الجزائريين، يسخّرون لفرضه القوى الانكشارية والقبائل المخزنية. ومن ثمّ، فإن القوى التركية العسكرية كانت مسخّرة فقط لتأمين هذه الخلفية الداخلية لاستقرار النّظام القائم وضمان مداخيله، لذلك لم تعرف الجزائر احتلالا في صيغة الاستعمار الاستيطاني أو صيغ أخرى من حماية أو انتداب أو وصاية كما أتى عليها الاستعمار الأوربي لاحقا.
لكن بالمقابل إذا لم تصل الجزائر إلى هذه الدرجة من الخضوع والسيطرة المهيمنة، فإنّها مثّلت طيلة الوجود العثماني بها قاعدة استقرار عسكرية في خدمة النفوذ العثماني. ومن هذا المنظور، يصدق تقدير مولاي بلحميسي في نعتها بمستعمرة استغلال. وأمام تعدد الأوصاف والتعريفات، يشير René Gallissot إلى الخلاصة التالية: "قبل 1830، كانت هناك "جزائريّتان"، الواحدة خارجية، موجّهة نحو البحر ولها تمثيل دولي، والأخرى داخلية، برية، تعيش منغلقة على نفسها[16]. ومن هنا يؤكد هذا الطّرح لمّا لم نخاطر باستعمال مفهوم "الدّولة الجزائرية" قبل 1830، إذ أنّ ذلك يفترض منّا إلزاميا ربطه في علاقته مع سكانها الأصليين، طبقا لما يقضي به القانون الدستوري أو العقد الاجتماعي كدلالة للحداثة التاريخية، الأمر الذي يجعل صياغة "الدولة الجزائرية" توحي بمفهوم "الأمة" وكأنّ الأمّة الجزائرية كانت قد تشكّلت قبل 1830. بينما يثير واقعها من جهته نقاشا معرفيا لتحديده[17].
خـلاصـــة
أردنـا لهذا المقال أن يكون امتدادا للإسهامات التي بادر بها كل من غالم محمّد وحسن رمعون في تقييم التأريـخ الجزائري سواء في فترته العثمانية أو المعاصرة. وقد انحصر موضوعه في إبداء وجهة نظر نقدية فيما يتعلّق بالتأريخ الجزائري لحالة الجزائر العثمانية. ولقد حاولنا استعراض بعض الحالات التأريخية المنصبّة على الفترة العثمانية، حيث جاءت تأكيدا لخلاصات حسن رمعون في دراسته المذكورة ، والتي أشارت إلى انسياق المؤرّخ الجزائري بالأمس البعيد أو القريب، بقصد أو بدونه، نحو إضفاء مشروعية للنظم القائمة وكياناتها متأثّرا بتراكماته المعرفية والذاتية الموروثة.
ونلاحظ اليوم على النطاق الجزائري - بعد مرور عقود من الاستقلال وأزمة النظم السياسية القائمة على الصعيد المغاربي- ظهور موجة في اتجاه كتابة التاريخ الوطني خارج القنوات الرسمية "لإعادة كتابة التاريخ"، تغذّيه وتطّعمه "السّير الذاتية" لمعاصري الحدث، وهي تقوم على الرأي والرأي المخالف للحقائق والمعتقدات الرّاسخة، معبرة بذلك عن إرادة المجتمع، من خلال أفراده، أحزابه وجمعياته، ساعية إلى تملّك تاريخه من الموقع الأكاديمي. نلاحظ كذلك بروز دراسات جامعية لجيل جديد من المؤرّخين الجزائريين تكشف أعمالهم عن تقيّدهم بالمنهج العلمي المطلوب ومطابقة خلاصتهم وفقا للمادة التاريخية المدروسة، مثلما هي دراسة المنور مروش المتعلقة بحالة الجزائر العثمانية والموسومة ب: "دراسات عن الجزائر في العهد العثماني"، حيث يتناول جزؤها الأول "العملة، الأسعار والمداخيل" وجزؤها الثاني "القرصنة، الأساطير والواقع". كما نجد دراسة "صالح عبّاد" الموسومة بـ "الجزائر خلال الحكم التركي 1514/1830" حيث أسهمت في تقويم وتصحيح الحقائق الموروثة. ويمثّل هذا الإسهام الجامعي الجديد من جهته تعبيرا على تسخير الجامعة والبحث العلمي في خدمة الحقيقة العلمية لا غير.
إذا كانت الظروف التاريخية قد اقتضت أن نلفّ تأريخنا الوطني باندفاع إيديولوجي ونردّ على خطاب النفي بالنفي فيما بين الحربين وبعدهما، ثمّ نواصل النهج نفسه مع نشوة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية، فإنّ أحكام التّأريخ المنصبّ على الأمد الطويل يقتضي منّا اليوم، بعد 50 سنة من ممارسته، من أن لا نتقيّد في تدوينه إلاّ بالمعايير والمنهج المعرفي العلمي خدمة لمجتمعاتنا قبل ساستنا، واستجابة لتساؤلاتها المطروحة حول ماضيها الحقيقي، حصانة لها وحتى تقدر على معاينة تاريخها كيفما كان حلوا أو مرّا بما يمكّنها من عكس صورتها على ذاتها لتتمكّن من تقدير تلك الذات بصدق، وتكون لها الطاقة الممكنة التي تلقي بها إلى المستقبل على بيّنة ودراية. وفي غياب هذا الدّور، لا يمكن أن يكون المؤرّخ، مثقّفا بنّاءا وفق الصورة التي ينتظرها منه مجتمعه، بغضّ النظر عن الأنظمة القائمة التي ستعرف الزوال المحتوم.
المراجع
سعيدوني، ناصر الدين، النظام المالي للجزائر في أواخر العهد العثماني (1792/1830)، الجزائر، المؤسّسة الوطنية للكتاب، الطبعة الثالثة، 1985.
Internet : Site : www. Fondation. Org. ma/Progscient/histoire-Magh.htm.
Remaoun, Hassan, « l’intervention institutionnelle et son impact sur la pratique historiographique en Algérie, « tendances et contre-tendances », Insaniyat, revue algérienne d’anthropologie et de sciences sociales, n° 19-20, Janv. 2003 (vol VII, 1-2).
Ghalem, Mohamed, « Historiographie algérienne au 18è siècle : savoir historique et mode de légitimation politique », in « savoirs historiques au Maghreb, construction et usages », C.R.A.S.C, 2006.
Belhamissi, Moulay, Marins et marine d’Alger à l’époque Othomane (1515/1830), thèse de doctorat d’Etat, Université de Bordeaux III, Dactylographiée, Mars 1988.
Remaoun, Hassan, (ed), L’Algérie, histoire, société et culture, Alger, Casbah, éditions, 2000.
Belhamissi, Moulay, Marins et marine d’Alger à l’époque Othomane (1515/1830), thèse de doctorat d’Etat, Université de Bordeaux III, Dactylographiée, Mars 1988.
Kaddache, Mahfoud, L’Algérie des Algériens. De la préhistoire à 1954, Paris, Méditerranée, Edif. 2000.
الهوامش
[1] Internet : Site : www. Fondation. Org. ma/Progscient/histoire-Magh.htm.
[2] Remaoun, Hassan, « l’intervention institutionnelle et son impact sur la pratique historiographique en Algérie, « tendances et contre-tendances », Insaniyat, revue algérienne d’anthropologie et de sciences sociales, n° 19-20, Janv. 2003 (vol VII, 1-2).
[3] Ghalem, Mohamed, « Historiographie algérienne au 18è siècle : savoir historique et mode de légitimation politique », in « savoirs historiques au Maghreb, construction et usages », C.R.A.S.C, 2006.
[4] سعيدوني، ناصر الدين، النظام المالي للجزائر في أواخر العهد العثماني (1792/1830)، الجزائر، المؤسّسة الوطنية للكتاب، الطبعة الثالثة، 1985.
[5] المرجع المذكور، ص. 10
[6] المرجع المذكور، ص 221، 232، 237 و 239.
[7] المرجع المذكور، ص 14.
[8] المرجع المذكور، ص. 237.
[9] المرجع المذكور، ص. 238.
[10] Belhamissi, Moulay, Marins et marine d’Alger à l’époque Othomane (1515/1830), thèse de doctorat d’Etat, Université de Bordeaux III, Dactylographiée, Mars 1988.
[11] القرّاصطة: هي تسمية للإمتياز الذي منحته السلطة العثمانية القائمة لعائلة المقراني لاقتطاع خشب الغابات المحلية مقابل تعويضات (منح إقطاعات زراعية وإعفاءات جبائية).
[12] المرجع المذكور، ص.675.
[13] وزارة التربية الوطنية: كتاب "التاريخ" للسنة الأولى من التعليم الثانوي، مقرّر "الدولة الجزائرية في ظلّ الحكم العثماني"، ص. 102
[14] وهو الفصل الذي تضمّنه المؤلف الجماعي.
[15] Remaoun, Hassan (ed), L’Algérie, histoire, société et culture, Alger, Casbah, éditions, 2000, pp.32-36.
[16] Belhamissi, Moulay, op. cit., p. 699.
[17] Remaoun, Hassan, op.cit., p.40.