Sélectionnez votre langue

النص القرآني: مقاربة إبستمية


إنسانيات عدد 95، جانفي–مارس 2022، ص. 17-35


 


لطفي هشام زرقة : Université de Tlemcen faculté des sciences humaines et sociales département des sciences sociales. 13 000 Tlemcen Algérie

Format PDF


يقصد هذا البحث إلى وصف بعض الإشكالات الإبستمولوجية التي لقيناها في تجربة بحثنا حول النص القرآني[1]. إن بين الذات المعاصرة والنص القرآني اختلافا كبيرا في الإيبيستيمي Epistémè الذي ينتمي إليه كل واحد منهما سواء في طبيعة السياق الاجتماعي أو أطر التفكير والمعرفة المرتبطة بها، إنها انزياح في الموقف ومشكل في التأويل بين نصّ وذات قارئة. قد يؤدي ذلك في حالات قصوى إلى "استحالة الولوج إلى الكون القرآني بسبب الطفرة الذهنيّة التي تعيشها الإنسانيّة منذ العصر الصّناعي (Arkoun, 1970, p. 11) ينتج عن ذلك اشتغال على هذا النص، مختلف عن ذلك الذي درج عليه العقل التراثي في المسلمات، الرؤية والمنهج، وهذا هو ما نقصد أن نستوضحه هنا من إشكالات ومفارقات لاحظتها تجربة بحثنا.

من هذا المنطلق تأتي أسئلة تحاول تجربتنا البحثية استثارتها: إشكال "الاعتقاد" و"الإيمان" كمقولات مؤسسة ومسلمات ضمنية محددة لأفق انتظار حول ما نبحث عنه في القرآن وكيف يؤسس ذلك للتوجه العام في التعاطي معه. يلزم من ذلك مساءلة ما هوية لمقولة "إعجاز القرآن": هل هو نصّ مختلف؟ ما الذي يميّزه عن غيره من النّصوص الدّينيّة الأخرى؟ هل اختلاف الطبيعة النّصّية يقتضي اختلاف المقاربة ؟ في هذا الإطار اعترضنا الدّرس اللّغويّ والسيميائيّ المعاصر وسؤال الإفادة التي قد يقدّمها في تجديد العقل اللّغويّ العربيّ وطرق اشتغاله على القرآن. ثمّ ماذا يعني أن يكون القرآن "موضوعا" Objet تقاربه النظريّة وكيف تعمل آليّة المفهمة ضمن هذه الثنائيّة؟ إنّها قضايا مرتبط بعضها ببعض و يحيل أوّلها إلى آخرها في حلقات متسلسلة يجمعها التفكير في علاقة الذّات المعاصرة بالقرآن وتصوّرها لطبيعته. إنّ قصدنا الأوّل هو إظهار جوانب إبستيمولوجيّة من الإنزياحات الإبستميّة والوعي بالتباين الموجود في الإحداثيّات التاريخيّة بين النّص وفعل القراءة.

  1. 1. المسلمات وأفق الانتظار

القرآن نص ديني بما لهذا الصنف من النصوص من خصوصية مقدسة. أُم القضايا التي تفرضها هذه الخصوصية هي سؤال مبدئي حول طبيعة هذا النص وحقيقته: هل هو نص إلهي منزل أم هو من وضع البشر في سياق تاريخي معين؟ هل اعتراه مع مرور الزمن التغيير أم حافظ على نسخته الأصليّة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هي من قبيل الخيارات الوجودية الخارجة عن حقل العلم كما هو في واقعنا المعاصر، إنها قناعة تتشكل بحسب السياقات الثقافية والدينية التي ينشأ فيها الباحث وتصطبغ بها ذاتيته. يأخذ هذا الخيار لدى الأفراد شكل الاعتقاد ولكنه من وجهة إبستيمولوجية، وهذا ما يهمنا هنا، "مسلمة" مُؤَسَّسَة ومؤسِّسة للكثير من الخيارات الأخرى، ومنتجة لهكذا منظور بحثي، أو ذاك حول طرق التفكير والمنهجيات العلمية للممارسة البحثية حول هذا "النص".

تقدّم الرّؤية الدّينيّة تصوّرا خاصّا لنصّها المؤسّس. يأتي لفظ القرآن مشتقّا من مادّة الفعل قرأ بمعنى القرء أي الضّمّ والجمع كقولك قرأت الماء في الحوض أي جمعته فيه. إلى ذلك ذهب الزّجّاج والرّاغب الأصفهاني. أمّا التعريف الاصطلاحي فيذهب مصطفى ديب البغا في كتابه "الواضح في علوم القرآن" إلى تعريف القرآن بأنّه "اللفظ العربي المعجز، الموحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم، بواسطة جبريل وهو المنقول بالتواتر، المكتوب في المصحف، المتعبد بتلاوته المبدوء بسورة الفاتحة، المختتم بسورة الناس" (البغا، 1998، ص. 15) والتعريف الأكثر تداولا وإجماعا في كتب التراث هو أنّ القرآن: "كلام الله تعالى المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- المُتعبد بتلاوته." تجدر بنا الإشارة هنا إلى التفريق بين القرآن وبين المصحف. تعرّف الموسوعة الفقهيّة المصحف بأنّه "اسم للمكتوب فيه كلام اللّه تعالى بين الدّفّتين" (الموسوعة الفقهيّة، مجموعة من الباحثين، ص. 240). يبدأ القرآن بسورة العلق وينتهي بالآية 281 من سورة البقرة، أمّا المصحف فيبدأ بسورة الفاتحة ويختم بسورة النّاس[2]. في إطار هذا التصوّر تأتي إشكاليّة "إعجاز القرآن "لتظهر أنّه" امتاز بميزة فريدة هي أنّه تنقّل منذ أربعة عشر قرنا، دون أن يتعرّض لأدنى تحريف أو ريب، وليست هذه حال العهد القديم (التوراة) ... فهو على هذا الكتاب الدّيني الوحيد الذي يتمتّع بامتياز الصّحة التي لا جدال فيها " (مالك ابن نبيّ. 1978، ص. 106).

في مقابل ذلك فإنّ القارئ غير المسلم لا يملك تلك القدرة العاطفيّة التي تبقى الطّريق الأضمن لتلقي الرّسالة" (Arkoun, 1970, p. 11). أماّ الإسلاميات التطبيقية L’Islamologie فتعّرف القرآن باعتباره "مجموعا مركبا من النّصوص المجمّعة أو المكتوبة من طرف كتّاب مختلفين وثبّث في السنوات الأخيرة من القرن السّابع في عهد الخليفة الأمويّ عبد الملك (685-705م)"(Amir-Moezzi & Dye, 2019, p. 3)  وترى في المصحف كما هو موجود اليوم[3] "خطابا عقائديا يحافظ على" وهم "قرآن أوحد، ثابت ومتماسك لا يرتبط بالتاريخ التدريجي لتشكله" (Azaiez, 2013, p. 15).

يظهر الاختلاف جليًّا بين رؤيتين لا تتفقان في المسلمات القاعدية لتصورها للقرآن، من خلال ذلك ينتج لنا نموذجان متباينان في طريقة تعاملها مع هذا النص، وفي القصد من ذلك، "فالمستشرق الذي يرى -مثلا- أنّه من الطبيعي أن تطرح حول القرآن نفس الأسئلة الخاصة بمسألة الصّحة والصّدقية التي سبق أن طُرحت في القرون الأخيرة في أوروبا على النصوص التوراة والإنجيل، قد يكون محقا من زاوية خلفياته ومنطلقاته التي نجد تبريرها في تطور الفكر الأوروبي ولكن أسئلته تلك لن تحظى في الثقافة العربية الإسلامية بمثل القبول والاعتبار اللذين حظيت بهما في الثقافة الأوروبية ولن يكون لها نفس الوقع ولا نفس النتائج" (الجابري، 2006، ص. 21) .

إن التسليم بهذه المقولة أو تلك يلزم منه أوّل ما يلزم قصدية تأويلية intentionnalité interprétative  معينة نحو القرآن، وتحديد أفق الانتظار المتوقع بلوغه من دراسة هذا النص: لماذا ندرس هذا النص؟ ما الذي يمكن أن يقدّمه لأسئلة حاضرنا؟ ماذا يعني ذلك؟ هل ندرسه كتراث إنساني مثلما هو الحال في الدراسات الهيلينية للإلياذة أو الأوديسا، أم يتوقع منه إنتاج رؤى لتجارب حضارية ومشاريع مجتمعية معاصرة كما تدعو  إلى ذلك التوجّهات الإسلامية؟

إن الإجابات عن هذه الأسئلة تختلف اختلافا لافتا بين من يرى في القرآن الأساس لرؤية حضارية، وبين من يدرسه كتجربة قومية انتهت منذ قرون خلت، بين من يعتبره ندّا ومحاورًا للعلم المعاصر، وبين من يرى فيه أحد مصاديق العقل الأسطوري العربي القديم. إن تصوراتنا للقرآن لغةً ونصاً وموضوعاً مدروساً لمنهجيات معينة، ينتج تبعاً للمسلمات التي صدّقنا بها. إن المبدأ الفرضي-الاستنباطي Hypothético-déductif والنظام الأكسيوماتيAxiomatique يأخذ كل دلالته هنا ويعمل في إنتاج اتجاهات بحثية متباينة بحسب تباين منطلقاتها.

  1. القرآن، اللّغة والسّيميائيّة

1.2. القرآن وسؤال فلسفة اللّغة

يأتي الإشكال الثاني في أصل التفكير في طبيعة القرآن ومكانته من مساءلة لطبيعة اللغة ذاتها وفي ماهيتها و في تعلقها بالعالم أو ما يسميه "كلود أجاج Claude Hagège" "نظام الكلمات ونظام العالم"(Hagège, 1985, p. 204) . إن أسبقية العالم الحقيقي على اللغة شرط لوجودها، وتعمل هي في محاولة محاكاة ما هو موجود ذهابا من التَمثيل الحسي إلى التعبير الرمزي. إنها محاولة جاهدة للمطابقة بين وجودين متمايزين ابستمولوجياً. إنّ ثمة تباينا جوهريا بين فعل تعقُّل موضوعات اللغة (الكلمة، الجملة، النص...) وبين فعل تعقّل موضوعات العالم الحقيقي، وذلك من وجهين: الأوّل أنّ مبدأ الاستعمال  في اللغة يقابل مبدأ النظام Système في العالم، فالدلالة تتحدد من خلال الوضع والاتفاق، وليس من خلال البحث عن نظام سابق لها يراد اكتشافه مثلما هو الحال في موضوعات العالم. الثاني أنّ منطق الوجود اللّغوي لا يقتضي كل شروط الدّقة والصّرامة التي تفرضها العلوم الدقيقة، فالكلمة قد تعوّض بغيرها، وصياغة الجملة قد يكون بهذا الشّكل أو ذاك، وترتيبها مع غيرها من الجمل قد يحتمل التّقديم والتّأخير أو الحذف والإضافة. إنّ منطق القول ليست له ذات المعايير التي تفرضها المعرفة الدقيقة في حقولها. في تراتبية العقلانيات الممكنة، لا مقارنة بين ما يراد قوله في النص وبين ما تقوله المعادلة الفيزيائية.

من خلال منظور مقارب ورغم اختلاف الرّهان المتعلق بالموضوع جاءت فلسفة لودفيغ فيدغنشتاين[4] "Ludwing Wittgenstein" لتعيد مسائلة هذا الإشكال ولتبين الارتباك الموجود في موضوع اللّغة، فعند حديثه عن اللغة الفلسفية، ورغم ما هي عليه من الصرّامة، يقول: "أنّ أغلب القضايا والأسئلة التي كتبت حول المادة الفلسفية ليست خاطئة ولكنها بدون معنى. إنّنا لا نستطيع في أي حال من الأحوال الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة ولكن فقط تبيين "اللاّمعنى" الموجود فيها. إنّ أغلب القضايا والأسئلة الفلسفية تأتي من عدم فهمنا لمنطق اللغة." (Wittgenstein, 1993, p. 51). يبقى أنّ المعرفة العلميّة الدّقيقة هي الوحيدة، في رأي فيدغنشتاين، التي وجدت لنفسها لغة منطقيّة ورياضيّة توافق موضوعها والتي تجعل التحقّق منها أمرا ممكنا.

إذا كان هذا شأن اللّغة الفلسفية، فكيف بلغة الخطاب الدّيني. إننا إذا استعرنا عيني فيدغنشتاين ونظرنا إلى طبيعة اللّغة المستعملة في القرآن (خاصة منها مستويي المفردة والجملة) فإننا سنواجه الكثير من العقبات المنطقية والأنطولوجية في فهمها. إنّ صفة "قيومية الله" على العالم مثلا تعرّف في معاجمنا التراثيّة بأنّ الله هو "القائم الحافظ لكلّ شيء، والمعطى له ما به قوامه" (الأصفهاني، 1997، ص .691) إن هذا التعريف يطرح الكثير من الصّعوبات منها مثلا عدم ظهور طبيعة القيومية إلاّ بشكل مجازي (القيام صفة ملموسة في الأصل) وصفة الحفظ قد تذهب بنا إلى مفردات  يحيل بعضها إلى بعض دون إضافة دلالية موضّحة فيها مثل "الرّعاية". إنّه ربط المفردة المعرّفة إلى غيرها من الكلمات (Glock, p. 171). أما مفردة "شيء" فتفتقد إلى الوضوح في حدودها وفي الكيفية المنطقية لتعلّق "القيام" و"الحفظ" بها. إنّ التحليل الفيدغنشتايني لهذه المقولة يصبح مستحيلا. إنّ الهدف من هذه الملاحظات توضيح طبيعة الصّعوبات والعوائق التي قد تعترضنا في هكذا إشكال. إن شروح قواميس اللغة التراثية وطرق عملها تظهر مرتبكة أمام الوعي النقدي المعاصر كما يجسده درس فلسفة اللّغة.

إنّ الدرس المعاصر لفلسفة اللّغة يفرض على الباحث في النص القرآني طرح مسألة اللّغة العربية وعلاقتها بالقرآن طرحا جديدا وجريء تحاور فيه التفكير الفلسفيّ وما يستشكله من مسائل: ما مسلمات العقلانية العربية (التراثية) وكيف اشتغلت في فهم القرآن؟ أين يتموضع القرآن ضمن إشكال الثنائية لغة /عالم؟ كيف تعمل لغة القرآن في تعبيرها عن وقائع الوجود؟

كيف يمكن الاستفادة من الدرس الفيدغتشتايني في بلورة وعي مغاير للغة القرآن؟ هل نحتاج إلى عقلانية لغوية خاصة بخصوص هذا النص الديني؟ هذه بعض الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن عند الوقوف على المفارقات التي تنتج من تفكير فلسفي في مكانة اللّغة الحاملة لهذا النّص المقدّس.

يظهر التّردد على التفسير التراثي أنه يعمل داخل وعي لغوي قد يستشكله العقل المعاصر، وعي تعتريه قصدية جمالية في تأويل النص وإنتاج المعنى ليس مراده الأول مطابقة اللّغة لموضوعات العالم وإنما الأثر المتوخى في نفسية المستمع. أضف إلى ذلك أنّ مسألة "إعجاز القرآن" كنصّ قد طرحت من قبيل تقابل هذا النّص مع إمكانات القول العربي خاصة صناعة الشّعر منها، ولم يفكّر فيها من جهة خصوصيّة علاقة النّص بموضوعات العالم الذي يعبر عنه. لقد أفرد القاضي أبو بكر ابن محمد بن طيّب الباقلاني (المتوفّي في سنة 403 ه) كتابا للموضوع سمّاه "إعجاز القرآن" أظهر فيه الفرق بين القرآن والكتب الأخرى: "أما القرآن فهو معجز بنفسه، ومكمن الإعجاز فيه أنّه بديع النّظم عجيب التّأليف، وأنّه خارج عن نظام كلام العرب، فالقرآن ليس شعرا ولا سجعا، وليس في كلام العرب مثيل له..." (الجابري، 2006، ص. 186-187). يتحرّك التفكير هنا في خصوصية القرآن من منطلق "المماثلة والتقابل" بينه وبين غيره من النّصوص وليس مساءلة لماهية بنيته.

إنّ مقولة "إعجاز القرآن" تضعنا أمام المفارقة القائلة أنّ القرآن معجز في لغته وبنائه، ولكنه في الوقت ذاته يُدْرَس بالوعي نفسه اللّغوي العربي وقواعده، سواء ما تعلق منها بدلالة الكلمات أو تلك التي نجدها في أشكال التأليف الملازمة له. إننا نظنّ "أنّ إمكانية تجاوز هذه المفارقة يكمن في مسائلة عميقة لماهية الإعجاز وكيفيته أي في خصوصية الاستعمال القرآني للّغة العربيّة. إنّ السّؤال هنا ليس فقط حول هل يستطيع الإنسان العربيّ الإتيان بمثله وإنّما كذلك لماذا لا يستطيع ذلك." (هشام، 2014، ص. 43).

في مستوى أعم من التفكير، وعند النظر إلى القرآن كنص في كليته يظهر جليا أن التفسير التراثي لم ينظر للقرآن باعتباره وحدة سردية متماسكة وإنما تصوره كوحدات جزئية. إن منطق ترتيب الآيات وموضوعاتها لم يظهر كمجال اهتمام أساس في "علوم القرآن"، فــــ"الزركشي" مثلا في كتابه "البرهان في علوم القرآن" لم يخصص لهذا المبحث إلاّ بابا من سبع عشرة صفحة بعنوان "معرفة المناسبات بين الآيات". يعبّر ذلك عن "خط مميّز للبلاغة العربية التقليدية واهتمامها المفرط بالوحدات النصية الصغيرة، الكلمة أو الجملة. إنها لم تولي اهتماما للنظام العام لمختلف الأجزاء المكونة للخطاب، الشيء الذي تدرسه البلاغة اليونانية- اللاتينية تحت عنوان ترتيب الخطاب Disposition du discours. إنّ "الجرجاني" عندما يتحدث عن النظم، فإن ذلك لا يخص إلا تركيب الجملة" (Cuypers, 2007, p. 758).

  1. 3. تطبيقات سّيميائيّة حول النّص القرآني

أيا تكن اتجاهات القراءة الفلسفية فإنّنا نجد لهذا النّوع من المسائلة صدىً في المشروع السّيميائيّ عند قصده الحثيث إلى استكشاف منطق عمل اللّغة والاجتهاد في التّقعيد لمقولاتها. شيأً فشيأً بلورت السّيميائية أطرا مفاهيمية وتقنيّة كبيرة في مدارسة موضوعاتها. في خلال ذلك تأتي دراسة ث. إزوتسو "الله والإنسان في القرآن – علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم" كإحدى التطبيقات المؤسسة في هذا المجال. يحدّد إيزوتسو الإشكال السيميائيّ العام والهدف منه قائلا: "لابدّ لعلم دلالة القرآن أن يبحث بشكل رئيسي في مسألة كيفيّة تَبَنْيُنِ عالم الوجود في منظور هذا الكتاب الكريم، وما هي مكوّنات هذا العالم وكيف تتعالق في ما بينها. وبهذا الفهم، فإنّ علم دلالة القرآن سيكون نوعا من الأنطولوجيا (مبحث الوجود)، ولكنّها أونطولوجيا عيانيّة حيّة حركيّة، لا ذلك النّوع من الأونطولوجيا النّظاميّة السّكونيّة التي يقيمها فيلسوف على أرضيّة تجريديّة من التفكير الميتافيزيقي" (إزوتسو، 2007، ص. 32-33).

يشكّل العمل من خلال هذا المشروع تغيّرا في العقل العام الذي يفكَّر من خلاله في اللّغة. يكمن هذا التّغيّر في تصوّر اللّغة من منطلق "علائقي": 1- العلاقة بين مادّة الكلمة والاشتقاقات المنبثقة منها وكيف تنتظم دلاليا 2- العلاقة بين الكلمة والكلمات المقاربة لها في الدّلالة 3-العلاقة بين الكلمة وسياقات ورودها النّصّية. من خلال ذلك يمكن تقديم بعض الملاحظات المتعلّقة بتطبيقات بعض هذه التّصورات على القرآن:

إن الرهانات الدلالية حول المفردة القرآنية قد تتردد بين عموم الدلالة المعجمية وبين خصوص الاستعمال النصي لها. لذلك نسلم بإمكانيّة وجود فرق دلالي بين ما تقدمه قواميس اللغة وبين ما يمكن استنتاجه من الاستعمال القرآني. إنّ هذا الأخير ليس مرآة لإمكانات التعبير العربي في موضوع من الموضوعات وإنّما شبكة من الاستعمالات (علاقات مع مواضيع معيّنة، تركيبات جديدة...)  تنتج من خلال إبداع نصّي معقّد .إن القصد هنا يتوجه نحو بناء المفردات باعتبارها هويات سردية مميزة لهذا النص[5].

- إنّ المادة المعجمية هي منطلق البحث الدّلالي، لكنها مادة غالباً ما تكون غير منتظمة في حقل دلالي واضح، إنها تقدم إمكانات دلالية ثرية ولكنها كثيرا ما تفتقد إلى التّناسق والانسجام، فمادة [ق و م ] مثلا لا يظهر فيها رابط دلالي واضح بين مختلف الصّيغ الصّرفية التي تتيح منها (قَومٌ، قَوامَة، قِيامَة، قَيُّوم ...) إلاّ من خلال الاشتغال عليها كحقل سيميائي معقد يعاد فيه بناء علاقات دلالية جديدة. نقصد بالحقل السيميائي هنا "نسقا مغلقا يعرّف باعتباره اجتماع وتقاطع حقل مصطلحات مع حقل مفهومي يمكن أن يعيّن بكلمة أساسيّة" (Schwischay, hiver 2001, p. 1).

- ضرورة "توحيد المفاهيم المستقلة" على حد قول "إيزوتسو Izutsu" ذلك أن "الكلمات أو المفاهيم لا توجد هكذا ببساطة في القرآن بحيث تكون كل منها معزولة عن الأخرى بل يتوافق بعضها على بعض بإحكام، وتستمد معانيها العيانية من نظام العلاقات المحكم بينها على وجه الدقة" (إزوتسو، 2007، ص. 34).

  1. 4. القرآن، النظرية والممارسة النصية

يأتي الإشكال الثالث منهجيّا للتفكير في العلاقة بين المعرفة و موضوعها أو بصفة أخصّ هنا لتبيين العلاقة بين النّص المقدّس والنّظرية. إنّ قصدنا في تناول هذا الإشكال الكلاسيكي هو ملاحظة أمران ثمّ تقديم وجهة نظر في الإشكال نتجت من تجربة بحثنا حول موضوع محدّد داخل النّص القرآني. أما أولى الملاحظات فتتمثّل في أنّ الحديث عن العلاقة بين القرآن والمعرفة المعاصرة (خاصّة الغربيّة منها) قبل أن يكون حديثا عن تفاصيل ومعايير هذه العلاقة هو حديث عن طبيعة المشروع الفكري الذي يناقش داخله هذا الإشكال.

أمّا ثاني الملاحظات فهي إتصاف المعرفة المعاصرة بالتنوع والثراء، وانتظام وقائعها بطريقة معقدة وضمن حيوية نقدية داخلية، فمن الخطأ تصورها كبناء واحد متجانس، بل بالأحرى تمثلها بمثابة خطابات وخطابات مضادة، قد تجد فيها التعارض الذي يصل أحيانا حد التناقض. ترافق القرآن في علاقته بهذه المعرفة هذه الحيوية ذاتها التي تفتح أمامه إمكانات معرفية ليست مطلقة وإنما تأتي كل واحدة منها كإمكان من بين إمكانات كثيرة ويفتح ذلك مجال علاقات النص بها ليس فقط بين نقيضي الرفض والقبول، وإنما كذلك بين إمكانات القبول المشروط لهذا المفهوم والرفض النسبي لهذه النظرية والتجريب الحذر لهذه التقنية وهكذا؛ إن عملية البحث لا تتقيد بالضرورة بخيار النظرية أو قد تنتقي منها مقولات أو مفاهيم وتستبعد أخرى بحسب طبيعة الموضوع ومتطلبات البحث[6].

في هذا الإطار التصوريّ العام ، وضد تمثّل النظرية كوحدة كلّية محيطة بالموضوع ومهيمنة عليه تأتي رؤى ناقدة تؤكد على الدور الفاعل للموضوع "وحقه في الرفض" على حد قول جون كلود باسرون J.-C. Passeron، فعند حديثه عن التحليل السوسيولوجي يقول بـــ "حق الوقائع أن تختار، من بين كل النظريات تلك التي تسهل وتعدد لغتها الفرص التقنية والاستدلالية للاعتراض عليها من خلال الملاحظة" (Passeron, 1996, p. 1). إنّ "اعتراض" الموضوع هو إخراجه من المكانة الإبستمولوجية السّلبية التي إعتادت الممارسات البحثية وضعه فيها تحت سلطة النّظرية، فالتصوّر الكلاسيكي يحكم بأولويّة العقلاني على الواقعي، فبالنسبة لغاستون باشلار Gaston Bachelard" يتجه الشّعاع الإبستمولوجي من العقلاني إلى الواقع وليس العكس". ينتقد روني توم René Thom هذا التصوّر باعتباره عمل الفعل العقلانيّ " اختصارا للوقائع في موضوع محلي بقصد تفسيرها بشكل فكري" (Hamel, 1997, p. 43).

أما وجهة نظرنا في الموضوع فتأتي كامتداد للرّؤية التي يقدّمها باسرون. إن "حق الوقائع" عند باسرون وما يقتضيه ذلك من طرق في العمل "الميداني" عند الباحثين السوسيولوجيين يقابله عند العمل على القرآن ما يمكن أن نسميه "بالممارسة النصية بوعي معاصر" إنها تجربة تصدر عن ذات واعية، وعيا معاصرا بكل ما تقتضيه هذه الكلمة من خصوصية. إنها تبدأ على مستوى التّطبيق من فعل فينومينولوجي يتمثل في "حدس مباشر وتجريبي" (Mucchielli, 2004, p. 191) للنص من خلال علاقة مكثفة معه تتمثّل في  التتبع الحثيث للقرائن النصية التي يقدمها المتن المدروس. شيأ فشيأ تبدأ بالظهور اتجاهات بحثيّة أصيلة ووفية[7] للبنية العميقة للنّص، تتحدد من خلالها طبيعة المواضيع وحدودها ووجهة نظر لمسائلتها.

من وجهة نظر تقنية تعمل هذه الممارسة النصية من خلال طرق بحثية تعتمد الوصف، التصنيف، الترتيب، المقارنة، والنمذجة la Modélisation وغيرها من العمليات التي تساعد في إنتاج بنى منطقية ودلالية مستخرجة من النص. إنها تساعد الولوج إلى مستويات من المعرفة لم يكن ممكنا نيلها من دونها.

لتوضيح إشكال "القرآن، النظريّة والممارسة النّصّية" نقدّم مثالا موضّحا في دراسة لنا حول "الشرك في معتقدات الأقوام في القرآن"[8] باشرنا دراسة العقائد التي حادت عن التوحيد والتي يصفها القرآن بالباطلة والضالة، وحاولنا فهم المقولات المؤسسة لتصوراتها حول الألوهية وكيفية اشتغالها.

وفي خلال بحثنا في هذا الموضوع اعترضتنا الدراسات البنيوية في تحليلها للأساطير عموما والوثنية خصوصا، خاصة أعمال ليفي ستروس Levi Strauss ومارسال ديتيانMarcel Detienne . تعمد هذه الأخيرة إلى تحليل النص الأسطوري من خلال منهج يقصد إلى استخراج ثنائيات متعارضة تربط بينها علاقات يمكن صياغتها بطريقة شبه رياضية. هل يمكن أن يستجيب متن موضوعنا إلى منطق الثنائيات؟ في حال وجدت، هل تعمل بالضرورة بمنطق التعارض؟ ماهي طبيعة العلاقات بينها؟

عند الولوج إلى تفاصيل الإشكال المدروس، يظهر القرآن للوهلة الأولى تقابلا سرديا يمكن النظر إليه باعتباره ثنائية: "الله" /"الآلهة الأخرى"، ولكن التتبع الحثيث للقرائن النصية التي يقدمها المتن المدروس تظهر في رأينا خلاف ذلك. إن مرجع أصل التقابلات ومبدأها مقولة مركزية منها تشتق المقولات الأخرى وحولها تنتظم. إن هناك مقولة "الله- رب" تتولد عنها غيرها من مقولات الألوهية، ويؤكد ذلك عموم الصيغ الأساسية التي وردت في القرآن من قبيل  "يعبدون من دون الله..." "يشركون به... " " يدعون مع الله". إن فكرة الشرك ذاتها تقتضي ضمنيا وجود أصل واحد سابق يشرك معه غيره.

يتحول الشرك، من هذا المنظور، إلى آلية معقدة تعمل من خلال عمليات كثيرة، نفترض أنها قد تكون بالطريقة التالية:

  • يتم إنتاج ذات أو ذوات مشابهة إلى حد ما للذات الأصلية "الله- رب" ويتم ذلك من خلال عملية المماثلة.
  • تلحق هذه الذوات بالذات الأصلية من خلال إعمال فكرة الإضافة (+)، وترتب هذه الذوات في علاقتها بالذات الأصلية من خلال عمليات مثل المساواة، التعويض، الوساطة... ينتج عن ذلك جملة من الوقائع الأسطورية مثل الندية، التكافؤ، الشفاعة.
  • تتقاسم هذه الذوات مع الذات الإلهية الأولى صفات وأفعال قد تكون أحيانا جزئية وأحيانا أخرى كلية، بالمشاركة الفعلية أو بالنيابة فقط.

نحن هنا أمام بنية عقائدية تعمل من خلال عمليات منطقية ورياضية منتجة سرديا ودلاليا (مبدأ الهوية، المماثلة، الإضافة، القسمة، المساواة، الترتيب...) تظهر مختلفة عن تلك التي يقترحها التحليل البنيوي للعلاقات بين الآلهة اليونانية مثلا. يظهر هذا التصوّر مغايرا كذلك لتصوّرات الشرك في كتب العقيدة القديمة.

كان هذا مثالا موضحا لبعض ما قصدنا شرحه من هذا الإشكال. أضف إلى ذلك أنّ الممارسة البحثيّة كما نتحدّث عنها هنا ليست عمليّة عفويّة أو اعتباطية وإنّما تعتمد في جانب منها على أسس تقنية تشهد مؤخّرا تطوّرا لافتا. لقد جاءت إحدى المحاولات المعاصرة الأولى في هذا الاتجاه في ستينات القرن الماضي، حيث قام مجموعة من الباحثين الفرنسيين، بتكوين أداة بحثية حول القرآن تسمى "بالتحليل المفهومي للقرآن"، وهي عبارة عن سجل للأوراق المثقوبة بالإضافة إلى (1) شفرة (2) تعليقات. هناك 430 سجلاً، كل واحد منها هو عبارة عن مفهوم والثقوب الموجودة على ورقة كل مفهوم تحيل كل واحدة منها إلى آية من القرآن. من أمثال المفهوم مثلا الموجودات الخارقة (ما بعد الطبيعة) (D) الله (D1) القوى عموما (D2) الآلهة الأخرى (D3) الملائكة (D4) الشياطين (D5) الجن (كل من D، D1،... هي شفرات هذا المفهوم). يستعمل هذا التحليل المفهومي بطريقة تقنية منظمة ويسمح بمقاربة النص من خلال تصرف بحثي يحدد محاور عامة وأساسية لــ "فاعلين" و"موضوعات" ويبيّن التفكير فيهما من خلال عمل مختلف الأوراق المثقوبة (المعبرة عن الآيات) والربط فيما بينها.

جاءت هذه المحاولة التقنية لإرساء أسس ممارسة نصية مجددة، في وقت يشهد فيه العالم الثورة الإعلامية والحاسوبية وما رافقها من تقدم هائل. لقد فتحت هذه الثورة المجال أمام سائر العلوم لاكتشاف إمكانات بحثية متعددة، واستعملت من بين ما استعملت محركات البحث، النّمذجة وعلوم المعلومات التي تُمَكِّن من التعامل مع المعطيات بطريقة أكثر نجاعة من جهة توضيحها، وتجميعها وإظهار العلاقات الموجودة بينها تسهيلا لتحقيق الوظائف البحثية المطلوبة. ترافق ثورة النّمذجة الآلية ذهنية جديدة، وهي بمثابة قطيعة مع العقل الذي كان قبلها. إن استحضار مختلف استعمالات مفردة في القرآن يتم الآن من خلال محركات بحث بسيطة وفي وقت قياسي، سمح ذلك لبعض الباحثين كتابة معاجم لكل مفردات القرآن بمختلف استعمالاتها وكذا تحديد مواقعها[9]، الشيء الذي استحال على المفسرين فعله ولا عجب في ذلك، فالتقنية هنا مستحدثة.

تعتبر هذه المعاجم أدوات بحث مفيدة، خاصة إذا ما استعملت في مقاربات مقارنة، فمثلا كلمتي "كِتاب" و "قُرآن" حملتا في التّفسير القديم دلالات متقاربة جدّا تصل حدّ التّرادف، لكننا إذا اعتمدنا على تقنية محركات البحث وألقينا نظرة على المفردتين في المعاجم المفهرسة ووضعنا استعمالات المفردتين جنباً إلى جنب، نرى بوضوح اختلاف الاستعمال القرآني للمفردتين وعدم اشتراكهما إلاّ في بعض الأوصاف العامّة. يبقى أن هكذا معاجم تقدم استعمالات مفردة في القرآن مفصولة عن سياقات وُرودها، وتحتاج إلى عمل معقد حتى ترتبط الكلمات مع بعضها في نسق علائقي داخل السّرد القرآني.

  1. 5. التفكير في القرآن

يأتي الإشكال الرابع لتوضيح طريقة ضمنيّة في تحديد موقف من القرآن. يغلب عند التّعامل مع هذا النّص التّفكير فيه من خلال وقائع معرفية أو اجتماعية أخرى، إنّه تفكير "بالنّسبة إلى.."، أو بالتّقابل وليس بالتّعاطي مع هذا النص في ذاته. كثيرا ما يكون هذا التّقابل، تقابلا بين القرآن ونصوص أخرى سواء كان ذلك من خارج الدائرة الإسلامية (تقابل مع التوراة والإنجيل) أو من داخلها كما هو مع كتب السّنة والفقه. يأخذ هذا التّقابل في أديان أخرى منحىً زمنياً يواجَه فيه النص بالواقع المعاصر في مختلف مناحيه، خاصة تلك التي تتصل بالعلم الحديث والمعاصر والتّداعيات الفلسفية المختلفة. إنّ التّعامل مع القرآن من منطلق "بالنّسبة إلى..." قد يكون منتجاً معرفياً كما قد يمثل حاجزاً في فهم النص، ويتحدّد كذلك حسب الأسئلة والإشكالات التي قد تتولّد عن هذه التّقابلات ومدى قربها ووفائها للنص.

  1. 6. تقابلات القرآن مع نصوص أخرى

يعتبر تقابل القرآن مع التّوراة والإنجيل أوّل تقابل نجده عند عملنا عليه، باعتبارهما نصين دينيين سابقين له، حولهما تشكّلت تقاليد معرفية وأدبية كثيرة، تهتم في جانب منها بأصالة متن هذه النصوص وتحقيقها، وفي جانب آخر بمناهج التّأويل وإنتاج الدّلالة حولها. في إطار هذا المنحى الابستيمولوجي تعمل الإسلاميات التطبيقية على التّفكير في القرآن من منطلق التّجربة النّصية مع التّوراة والإنجيل باعتبارها، أولا: "نموذج" من خلاله تنتج الإشكالات الأساسية للتفكير في القرآن، التي تؤدي إلى بلورة مقاربات تاريخية نقدية تهتم بمساءلة كتابة المصحف ومحاولة البحث في تاريخه، على شاكلة عمل ثلاث باحثين أوتو برتزل، وأرتور جفري وغوتلف برغسترسر Otto Pretzl, Arthur Jeffery et Gotthelf Bergstrasser في الثلاثينيات من القرن الماضي، الذين حاولوا دراسة نصوص قديمة للتحقق من أصالة المتن القرآني ونقده. ثانياً: باعتبار القرآن امتدادًا نصياًّ وتاريخياًّ للنّصين السّابقين، وأنه تشكّل ضمن تناص مع النّص المسيحي.

أما ثاني التقابلات النصية للقرآن، تقابله مع نصوص التراث الإسلامي، تلك النصوص التي تأسست في أصلها حين اشتغال العقل الإسلامي على القرآن، والتي أصبحت مع الوقت وسيطا أساسيا بين الأجيال وبين هذا النص، يفهم من خلالها. إن مجالات الاهتمام والإشكالات التي تشكلت في البدايات الأولى (القرون الثلاثة الأولى) داخل النصوص التراثية وخاصة الفقهية منها، حددت التوجه العام وآليات القراءة الإسلامية للقرآن، وأضحى "العقل الفقهي" مهيمناً إلى حدّ كبير على طرائق التفكير في واقعة النص عموما. لقد عمل "الحكم الشّرعي" باعتباره "الخطاب المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء أو التّخيير أو الوضع" (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمّد ابن علي ابن محمّد الشّوكاني متوفى سنة 1255ه دار الكتب العلميّة بيروت) كمقولة فقهية مركزية على تحديد تصنيف معين للمواضيع ومنهجية خاصّة في الفهم والتّأويل مبنية على ثنائية "الحرام والحلال. شيئاً فشيئاً تحوّل النص الفقهي إلى "نص مركزي" منتج للمعرفة الإسلامية ومسائلها ليس فقط في الفقه وإنّما كذلك في العقيدة والتّصوّف.

أمّا في حقل الدراسات العقائدية حول مباحث "الأسماء والصّفات الإلهية"، فقد أصبح القرآن نص افتتاح واستشهاد، يفتتح كل باب ببعض الآيات، ثم تليها بعض الأحاديث، ثم يباشر الكاتب مناقشة إشكالات لغوية وفقهية، كثيرا ما لا تبتّ بصلة للمتن القرآني الوارد في هذا الباب، ويعاد توظيف الآيات كاستشهادات بقصد الاستدلال لترجيح رأي على آخر.

إنّ التّقابل بين القرآن والنص التراثي هو في الأصل فهم للقرآن "من خلال"، لكن مع الوقت تحول "النص الشّارح" إلى "نص منتج" للمعرفة، واستأثر في ذلك برهان السّؤال والإجابة. لقد أصبحت مباحث القصص والطبيعة في القرآن حقولاً فارغة غير منتجة معرفياً لأنها أصلا غير مساءَلَة، فرغم أنّ أغلب النّص القرآني حديث عن القصص ومظاهر الطبيعة، إلاّ أن تاريخ المعرفة الإسلامية يكاد يخلو من تأصيل قرآني لهذه المباحث[10].

  1. 7. القرآن قبالة الواقع المعاصر

يتميز عصرنا بكونه "عصر العلم"، فبعد التّغيرات الفكرية العميقة التي شهدها العالم خلال القرون الأخيرة، أصبح "العلم" الواقعة المركزية التي حولها تشكلت رؤية للعالم قائمة بذاتها وانتظمت أنماط معقدة للحياة الاجتماعية. يرسم العلم المعاصر حدود مجالات التّفكير لما يعتبره مهماً ومشروعاً، وذلك الذي يعتبره خارج هذه الدائرة. في خلال ذلك وجدت الرُّؤى الدّينية نفسها أمام سؤال مفروض، أين موقعها من العلم في خضم ذلك اعترضت المشتغلين على القرآن أسئلة كثيرة حول موقعه من العلم المعاصر.

يظهر النظر في أمر التّقابل بين القرآن والعلم تشاركاً حقيقياً بينهما على مستوى المواضيع التي يتعرض لها كل منهما، وفرقاً جوهرياً على مستوى الرؤية العميقة لكل منهما، فأما التّقاطع بينهما على مستوى المواضيع، فظواهر الكون هي موضوعات العلم، وهي في ذات الوقت موضوعات جزء كبير من السرد القرآني في حديثه المتكرر عن السماوات والأرض والنّجوم ...، إنّه اشتراك حقيقي على مستوى الموضوعات رغم اختلاف المسمّيات والاصطلاحات، وما قد يسببه ذلك من انزياحات سيميائية، فالسماء في العلم ليست هي بالضّرورة السماء التي يتحدث عنها القرآن وهكذا، قد يحتاج الأمر هنا إلى عمل حول الموافقة بين ظواهر الكون في الاصطلاح الحديث ودلالات الألفاظ في القرآن لرسم حدود التّطابقات والتّباينات الدّلالية بينهما. محاولة لاستغلال هذا التّقابل لصالحه، جهد "الإعجاز العلمي في القرآن الكريم" على تأكيد التوافق بين العلم والقرآن من خلال تطويع النصوص لتطابق الاكتشافات المعرفية الحديثة، إنها محاولة مرتبكة إلى حد ما:

1) لأنها لا تندرج ضمن تأصيل لرؤية كلية وعميقة للعلاقة بينهما. 2) أن اكتشافات العلم ونظرياته دائما ما تسبق المتن القرآني ويبقى هذا الأخير غير منتج في ذاته وإنما فقط "بالنسبة إلى" أمر خارج عنه، 3) أن الإعجاز العلمي إنما يعمل بمنطق انتقائي، يبحث فيها يظهر أنه يوافق مقصده ويتحاشى تلك التّقابلات التي قد يختلف فيها العلم مع القرآن.

أما على مستوى الرؤية العامة، فثمة فارقاً جوهرياً بين القرآن والعلم، إنّ هذا الأخير لا يهتم إلاّ بما ينتمي إلى حدود كوننا المرئي، ويحاول فهمه بأدق ما تتيحه له اللّغة الرياضية والتّجارب الملموسة، ينأى في ذلك عن مباحث الماورائيات وأسئلة البدايات. إنه يحيلها إلى حقول الفلسفة والدين[11].

إن انكفاء العلم على دراسة الكون المشهود أزاح سؤال العقيدة من واجهة رهانات الواقع المعاصر وصاغه داخل منطق قيمي متمثل في حرية الاعتقاد، باعتباره مبدأ وقيمة فردية. شيئًا فشيئاً غابت مقولة "الله"، وإشكال الإيمان به من كونه مسألة أساسية في الوقت الراهن.

بخلاف ذلك، يأتي الحديث عن ظواهر الكون في القرآن ليس بغرض تبيينها في ذاتها وإنما باعتبارها مُحيلَة إلى وجود غيبي، لأنها علامة دالة عليه، يأتي هنا سؤال الماورائيات ضرورياً ومركزياً في الرؤية القرآنية، فلكل ظاهرة طبيعية نسبها الغيبي الذي يحاول السرد القرآني إظهاره في مقابل التّصورات الوثنية التي يراد انتقادها. بين القرآن والعلم المعاصر فروق جوهرية، سواءً في اللغة واصطلاحها أو في المواضيع ومنطق معالجتها، إنّه اختلاف في "الإيبستيمي Epistémé" الذي ينتمي له كل واحد منهما. لكن رغم ذلك يمكن أن يستفيد النص القرآني من هذا التقابل في إعادة تنوير وتثوير مباحث الطبيعة وفتح آفاق جديدة استحال على العقل التراثي التفكير فيها.    

خاتمة

هذه بعض الإشكالات التي استثارها بحثنا حول النص القرآني. إنّها إشكالات الحاضر بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى خاصة في تشبّع الذّات المعاصرة والممارِسة للبحث بالرؤية الكونيّة المعاصرة بمختلف براديغماتها والذّهنية العامّة التي تشتقّ منها. تأتي هذه الإشكاليات مرتبط بعضها ببعض ويحيل أولها إلى آخرها في حلقات متسلسلة، فالمعتقدات التي يسلم بها الباحث والتصورات التي ينطلق منها هي الأساس الذي نجد له أثرا في كلّ ثنايا الممارسة البحثية، أسئلتها وأجوبتها، طرقها وتقنياتها. أوّل وأهمّ ما ينتج عن ذلك سؤال فلسفي لطبيعة هذا النص في تعبيره عن العالم وللغة العربية المستعملة فيه: هل هو نص كباقي النصوص الأخرى أم هو نص استثنائي يحتاج إلى اشتغال خاص وبوعي معاصر؟ في هذا الصّدد حاولنا هنا إظهار الأهمية الإبستيمولوجيّة لإعادة مسائلة مقولة "إعجاز القرآن" من وجهة نظر فلسفة اللّغة وإمكانية الاستفادة من الدّرس السيميائيّ في تثوير الجانب التقني من البحث في "الدّلالة". إن طبيعة الإجابات هنا ينتج عنها كذلك تصور منهجي حول الطريقة التقنية التي يتم العمل بها وموقف إبيستيمولوجي من المعرفة المعاصرة. هل القرآن موضوع مثل أي موضوع؟ ما أفق الانتظار الذي ننتظره من المعرفة المنتجة حول القرآن؟  أخيرا حاولنا إظهار مبدأ ضمني يعمل إلى الدفع بالتفكير في القرآن من الخارج، إنّه “التّفكير بالنّسبة إلى" إمّا نصّ دينيّ أخر أو إلى العلم المعاصر. إنّها جدليّة قد تساعد أحيانا في استجلاء بعض جوانب هذا النّص أو ربّما حجبها.

لم نقصد في بحثنا استثارت إشكالات فلسفيّة مجرّدة حول القرآن وإنّما قضايا نابعة من ممارسة بحثيّة تطبيقيّة، واجه فيها الباحث خيارات وعوائق إبستيمولوجيّة معقّدة أراد إيضاحها و بلورتها في "وعي" منهجيّ يخدم المشتغلين على القرآن. وقد رافقتنا في ذلك قناعة راسخة في أهميّة العلاقة المباشرة والمكثّفة مع القرآن كقصديّة فينومينولوجيّة بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى. تأتي معها ضرورة المزاوجة بين التراث الإسلاميّ و بين المعرفة المعاصرة في فهم هذا النّص، فلا جدوى من إقصاء هذه المعرفة أو تلك، فلكلّ منها إسهاماتها التي لا غنى عنها و يعلو القرآن بذلك عن محاولات الإحتكار والهيمنة ورهانات السياجات المغلقة.

المراجع

Allard, M., Elzière, M., Gardin, J. C., & Hours, F. (1963). Analyse conceptuelle du Coran sur cartes perforées (1 : code ; 2 Commentaire). Paris : La Haye, Mouton & Co.

Amir-Moezzi, M-A., & Dye, G. (dirs.), (2019). Le Coran des historiens. Les éditions du cerf.

Azaiez, M. (2013). Le Coran, nouvelles approches. Paris: CNRS Éditions.

Cuypers, M. (2007). Dictionnaire du Coran. In. Amir-Moezzi, M. A.
Paris : Robert Laffont.

Glock, H.-J. (dirs.), (2011). Qu'est-ce que la philosophie analytique? Frédéric Nef. (Traducteur). Gallimard.

Hagège, C. (1985). L’homme de paroles. Contribution linguistique aux sciences humaines. Paris: Folio.

Hamel. J. (1997). précis d’épistémologie de la sociologie .
Monréal-Paris : L’harmattan.

Arkoun, M. (1970). chronologie et préface. Dans Le CORAN. traduit de l’arabe par Kasimirski. Garnier-Flammarion.

Mucchielli, A. (2004). Dictionnaire des méthodes qualitatives en sciences humaines. Paris : Armand Colin.

Passeron, J. (1996). L’espace mental de l’enquête(II). Enquête(3)

Schwischay, B. (hiver 2001, 02 Dernière mise à jour : 03-03-02). Syntaxe du français. http:www.uni-asnabrueck.de/Bschwisc/archives/htm

Wittgenstein, L. (1993). Tractatus logico-philosophicus. Paris : Gallimard.

إزوتسو توشيهيكو، (2007). الله والإنسان في القرآن – علم الدلالة الرؤية القرآنية للعالم. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

الجابري محمد عابد، (2006). مدخل إلى القرآن الكريم الجزء الأول في التعريف بالقرآن. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

الرّاغب الأصفهاني، (1997). مفردات ألفاظ القرآن. دمشق: دار القلم.

إزوتسو توشيهيكو، (2007). الله والإنسان في القرآن – علم الدلالة الرؤية القرآنية للعالم. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

لطفي زرقة هشام، (2014). قراءة في تمثّلات أسماء الله الحسنى في القرآن. أطروحة دكتوراه علوم، علم الاجتماع، جامعة تلمسان.

الجابري محمد عابد، (2006). مدخل إلى القرآن الكريم الجزء الأول في التعريف بالقرآن. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

البغا مصطفى ديب، (1998). الواضح في علوم القرآن المكتبة الشاملة الحديثة دمشق.

ابن نبيّ مالك، (1978). الظاهرة القرآنيّة ترجمة عبد الصبور شاهين. دار الفكر: دمشق.وزارة الأوقاف والشّؤون الإسلاميّة. (2012). الموسوعة الفقهيّة: الكويت.

الهوامش 

 [1]نقصد بذلك أطروحتنا للدّكتوراه الموسومة "قراءة في تمثّلات أسماء الله الحسنى في القرآن" جامعة تلمسان  سنة 2013-2014.

[2] ليس هنا مجال ذلك يمكن للقارئ الرّجوع إلى أمّهات الكتب في علوم القرآن من أمثال السيوطي في الإتقان في علوم القرآن أو الزّركشي في البرهان في علوم القرآن. قصدنا هنا فقط التمييز بين التصوّر الإسلاميّ و الرّؤية الإستشراقيّة في منطلقات التفكير في القرآن.

 [3]الحديث هنا حول طبعة القاهرة التي تم نشرها في 10 جويلية 1924 تحت إشراف محمد ابن علي الحسيني.

 [4]نتحدّث عن فيدغنشتاين "تراكتتوس" أو كما يسميه المتخصّصون "فيدغنشتاين الأوّل" أي الموافق للمراحل الأولى لتفكيره التي تغيّرت بعد ذلك. جاء اختيارنا لهذه الرّؤية الفلسفيّة لسبب بحثيّ خالص ذلك أنّ تحليلنا صادف مسار مساءلة للقرآن باعتباره لغة قبل كونه نصّا، وقادنا ذلك إلى التفكير في العلاقة بين اللّغة والعالم، فالقرآن والعالم يشتركان في وحدة المصدر كونه إلاهياّ. لقد ذهبنا في مدارسة ذلك ولم نتطرّق إلى مباحث الهرمونيوطيقا وروّادها بسبب دواعي الاتجاه العام لإشكاليّتنا حول اللّغة باعتبارها تعبيرا عن العالم.

[5] نحيل القارئ هنا إلى فصل "اسم العليم" بين التحديدات المعجميّة والاستعمالات القرآنية ص. 106- 153 من أطروحتنا للدّكتوراه "قراءة في تمثلات أسماء الله الحسنى في القرآن".

[6] في هذا الموضوع يمكن الرجوع هنا إلى أعمال جون ميشال بارتلو Jean Michel Berthelot.

[7] هي عمليّة غير مقعّدة بالكامل، فيها جانب من إعمال التفكير لإظهار جوانب مهمة من الموضوع :
ما هو أساسي، هامشى، واضح أو مبهم، متعلّق أو منعزل...

[8] يأتي هذا المثال ضمن مشروع قيد الإنجاز في إطار "مشاريع البحث التكويني الجامعي" PRFU.

[9] بين أيدينا على الأقل معجمين، الأول لمحمود فؤاد عبد الباقي (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، مطبعة نريد إسلام رقم والثاني لحسين محمد فهمي الشافعي (الدليل المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار السلام، القاهرة، 2008).

[10] لم ندرج هنا أعمال معرفية كثيرة مثل دراسات إبن خلدون وابن الهيثم وابن سينا... لأنّها ليست مستلهمة في غالبيتها من منطلق القرآن وإنّما من تعامل مباشر مع موضوعاتها المعرفيّة.

[11] نحيل القارئ هنا إلى أبحاث إيتيان كلان  Etienne Kleinالذي يقدم رؤيته حول الحدود الفاصلة في المعرفة المعاصرة بين ما ينتمي للعلم و ما لا ينتمي له.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche